الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العادات وتتحول الأخلاق، وليس بين غاية النقص والكمال، إلا أن ينادي على الناس باتباع آرائهم، تلك ظنونهم التي تحدثهم بها معارفهم المكتسبة من الكتب والمطالعات، وإنهم وإن كانوا أصابوا طرفًا من الفضل من جهة استقامة الفكر في حد ذاته، وارتفاع الهمة وانبعاث الغيرة، لكنهم أخطأوا خطأ عظيمًا، من حيث إنهم لم يقارنوا بين ما حصلوه، وبين طبيعة الأمة التي يريدون إرشادها. ولم يختبر قابلية الأذهان، واستعدادات الطبائع للانقياد إلى نصائحهم، واقتفاء آثارها"1.
1 أدب المقالة الصحفية، للدكتور عبد اللطيف حمزة جـ2 ص83، وما بعدها.
4-
الخطابة وانتعاشها:
أما هذا اللون من ألوان النثر، فقد كان من أهم وسائل تنمية الوعي وإنضاجه، كما كان من أهم وسائل التعبير عن الدعوات الإصلاحية في السياسة والاجتماع، ثم كان قبل ذلك كله من أبرز الفنون الأدبية التي تأثرت بالوعي، وبحركة الإصلاح في شتى نواحيه.
فالخطابة قد وجدت دواعيها، وكثرت ميادينها في تلك الفترة، بعد أن كانت في عهود التخلف قد انحصرت -أو كادت- في الميدان الديني، وفي أضيق مجالاته، وهو خطبة الجمعة وما ماثلها من خطب العيدين، على أن تلك الخطابة الدينية المحصورة في هذا النطاق ضيق، كانت قد تجمدت -غالبًا-، وأصبح أغلب الخطباء يقرءون الخطبة من كتب معدة في عصور سابقة، وكثيرًا ما لا يتناسب موضوع الخطبة، ولا أسلوبها مع الموقف أو حال المستمعين، فلما كانت فترة الوعي وجدت دواع مختلفة أفسحت الطريق أمام الخطابة لتأخذ طريقها إلى أفق رحب مضيء.
ففي ميدان السياسة، وجد -إلى جانب الجمعيات السياسية التي كانت مدارس الخطابة1- "مجلس شورى النواب" الذي نما فيه الوعي بعد فترة
1 انظر: Studies on the of Islam Gibb. p 253.
من إنشائه، وأصبح بعد نحو عشر سنوات مجالًا للخطابة السياسية، التي تعارض الحكومة وتنتقد تصرفات المسئولين، وتندد بالخديو نفسه، وتشن حملات شديدة على التدخل الأجنبي، والحكم الاستبدادي، وتطالب بألوان من الإصلاح في السياسة والحكم والاقتصاد.. كذلك وجدت الحركة العرابية، فكانت مجالًا من أهم المجالات لإنعاش الخطابة السياسة ومدها بأخصب زاد. وكانت أحداث سنة 1881 بخاصة، وقودًا غذى الخطابة السياسية في مجال الثورة العرابية، وأمدها بفيض من الحياة؛ فحادث قصر النيل وما صاحبه وأعقبه من مؤتمرات واجتماعات، وحادث عابدين وما مهد له وقيل فيه، ثم يوم سفر عبد العال حلمي وقواته إلى دمياط، وسفر عرابي وجنده إلى رأس الوادي، ثم ما كان بعد ذلك من حشد الشعب للوقوف في وجه العدوان الإنجليزي، والتآمر الخديوي، كل ذلك كانت الخطابة إحدى وسائله -بل أهم وسائله- في الإقناع والتحميس والتجميع والعمل.. وهكذا كانت الخطابة السياسية منتعشة في تلك الفترة من جديد، بعد أن ظلت قرونًا ذابلة، أو خامدة لا تكاد يحس لها وجود أو تدرك له حياة.
وفي ميدان الاجتماع وجد عدد من الجمعيات الخيرية والاجتماعية التي اتخذت الخطابة وسيلة لبث أفكار الإصلاح، والدعوة إلى حياة أفضل، في الثقافة، والتعليم، والاقتصاد، وما إلى ذلك. وهكذا كانت الخطابة الاجتماعية -هي الآخر- إحدى وسائل الاستمالة والإقناع والعمل على الإصلاح الاجتماعي في شتى مظاهره، ومن هنا انتعشت الخطابة الاجتماعية، بل وجدت أشبه بالجديدة في الأدب المصري، الذي عرفها مع هذه المظاهر الحضارية، التي لم تكن من موضوعات الخطابة إلا في العصر الحديث.
وطبيعي ألا تكون الخطابة بألوانها المختلفة ذات أسلوب واحد في تلك الفترة، وإن كانت كل الألوان تخلصت -إلى حد كبير- من الجمود والتفاهة، وعدم مراعاة الحال، التي كانت تسيطر على الخطابة الدينية المتخلفة في العصر التركي وما تلاه.. وطبيعي أن تختلف أساليب الخطابة باختلاف ألوانها، فالخطابة السياسية تعمد كثيرًا إلى الإثارة ومخاطبة المشاعر، وتتزين بألوان
من المؤثرات العاطفية كالشعر الحماسي، والقصص الديني ونحو ذلك مما يشد مشاعر الجماهير، ثم تتحلى ببعض المحسنات كالسجع والتقسيم الذي يبعث في الكلام موسيقى، ويزيد به التأثير.. أما الخطابة الاجتماعية، فتعمد أكثر إلى مخاطبة العقل واستخدام المنطق، وقد تتعرض لذكر الأرقام والحقائق المحسوسة، في لغة أشبه بلغة العلم، ومع ذلك لا تترك فرصة يمكن فيها التأثير، وجذب القلوب حتى تنتهزها بأسلوب عاطفي، قد يعتمد على الخيال، ويتحلى ببعض المحسنات
…
وهذا نموذج من خطب عبد الله النديم، خطيب الثورة العرابية1، والنموذج من خطبة هذا الثائر، في مظاهرة توديع أحد زعماء الثورة -عبد العال حلمي-المبعد بقواته إلى دمياط، بعد الحركة العسكرية في عابدين والمطالبة بمطالب الشعب
…
وكانت المظاهرة في محطة العاصة قبيل تحرك القطار بالقائد وجنوده.. وفي هذه الخطبة يقول النديم:
"حماة البلاد وفرسانها.. من قرأ التاريخ، وعلم ما توالى على مصر من الحوادث والنوازل، عرف مقدار ما وصلتم إليه من الشرف، وما كتب لكم في صفحات التاريخ من الحسنات؛ فقد ارتقيتم ذروة ما سبقكم إليها سابق، ولا يلحقكم في إدراكها لاحق، ألا وهي حماية البلاد، وحفظ العباد وكف يد الاستبداد عنهما. فلكم الذكر الجيمل، والمجد المخلد، يباهي بكم الحاضر من أهلنا، ويفاخر بمآثركم الآتي من أبنائنا، فقد حيي الوطن حياة طيبة بعد أن بلغت التراقي، فإن الأمة جسد والجند روحه، ولا يحاة للجسد بلا روح، وهذا وطنكم العزيز أصبح يناديكم ويناجيكم، ويقول:
1 عن عبد الله النديم وترجمته اقرأ: الآداب العربية للويس شيخو جـ2 ص99، وتاريخ آداب اللغة العربية لجورجي زيدان جـ1 ص220، والثورة العرابية لعبد الرحمن الرافعي ص531، وزعماء الإصالح في العصر الحديث لأحمد أمين ص204، وأدب المقالة الصحفية للدكتور عبد اللطيف حمزة جـ2 ص114، واقرأ تقديرًا كبيرًا لدوره في: Studies on the Civilization of Islam، Gibb. p.253