المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ المقالة وظهور أول طريقة فنية للنثر الحديث: - تطور الأدب الحديث في مصر

[أحمد هيكل]

فهرس الكتاب

- ‌محتويات الكتاب

- ‌مقدمات

- ‌مقدمة

- ‌تمهيد:

- ‌الفصل الأول: فترة اليقظة

- ‌أهم أسباب اليقظة

- ‌أسلحة علمية للحملة الفرنسية

- ‌ أول الاتصال الفعلي بالثقافة الحديثة:

- ‌الأدب وأولى محاولات التجديد

- ‌الشعر

- ‌ النثر:

- ‌الفصل الثاني: فترة الوعي

- ‌أبرز عوامل الوعي

- ‌اشتداد الصلة بالثقافة الحديثة

- ‌ إحياء التراث العربي:

- ‌ مؤسسات سياسية ومجالات ثقافية:

- ‌ الثورة الأولى:

- ‌الأدب وحركة الإحياء

- ‌أولا: الشعر

- ‌الاتجاه التقليدي وبعض لمحات التجديد

- ‌ ظهور الاتجاه المحافظ البياني:

- ‌ثانيًا: النثر

- ‌ الكتابة الإخوانية، واتجاهها إلى التقليد:

- ‌ الكتابة الديوانية وميلها إلى الترسل:

- ‌ المقالة ونشأتها:

- ‌ الخطابة وانتعاشها:

- ‌ الرواية ونشأة اللون التعليمي:

- ‌ المسرحية وميلادها:

- ‌ كتب الأدب وتجددها:

- ‌الفصل الثالث: فترة النضال

- ‌حوافز النضال واتجاهاته:

- ‌ من جرائم الاحتلال البريطاني:

- ‌ مراحل النضال وطرائقه:

- ‌ بعض معالم النضال المشرقة:

- ‌الأدب بين المحافظة والتجديد

- ‌أولا: الشعر

- ‌سيطرة الاتجاه المحافظ البياني

- ‌ ظهور الاتجاه التجديدي الذهني:

- ‌ثانيًا: النثر

- ‌ المقالة وظهور أول طريقة فنية للنثر الحديث:

- ‌ الخطابة ونشاطها:

- ‌ القصص بين استلهام التراث، ومحاكاة أدب الغرب:

- ‌ المسرحية وأولية الأدب المسرحي:

- ‌الفصل الرابع: فترة الصراع

- ‌دوافع الصراع ومجالاته

- ‌بين الروح الوطنية والانحرافات الحزبية

- ‌ بين نشوة النصر، ومرارة النكسة:

- ‌ نمو الحياة الثقافية:

- ‌ غلبة التيار الفكري الغربي:

- ‌الأدب وغلبة الاتجاه التجديدي

- ‌مدخل

- ‌أولًا: الشعر

- ‌ تجمد الاتجاه المحافظ البياني:

- ‌ انحسار الاتجاه التجديدي الذهني:

- ‌ ظهور الاتجاه الابتداعي العاطفي:

- ‌ثانيا: النثر

- ‌مدخل

- ‌المقالة وتميز الأساليب الفنية

- ‌ الخطابة وازدهارها:

- ‌ القصص واستقرار اللون الفني:

- ‌ المسرحية وتأصيل الأدب المسرحي:

- ‌مراجع الكتاب

- ‌المراجع العربية

- ‌المراجع الأجنبية

الفصل: ‌ المقالة وظهور أول طريقة فنية للنثر الحديث:

الشعر البياني وعدم الكلف بغيره1 حينذاك.

وقد ألف بعض الدارسين أن يطلقوا على هذا الاتجاه اسم "شعراء الديوان"، أو "جماعة الديوان" أو "مدرسة الديوان"2، ووجهة نظره في نسبة هؤلاء الشعراء إلى الديوان مسوغة بأن هذا الكتاب الذي أصدره العقاد، والمازني سنة 1921، يحوي أهم مبادئ هؤلاء الشعراء جميعًا، ويمثل حركتهم التجديدية التي قابلوها بها الحركة المحافظة، ولعل من الأفضل ترك هذه التسمية لسببين، أولهما أن كتاب "الديوان"، قد ظهر بعد ظهور هذا الاتجاه الشعري بوقت ليس باليسير، ونسبة الاتجاه إليه توهم الارتباط الزمني بين الاتجاه والكتاب، وتوهم تأخر ظهور هذا الاتجاه عن زمنه أكثر من عشر سنين. وثاني السببين، هو أن كتاب "الديوان" قد تضمن هجومًا عنيفًا على شكري أحد أعلام هذا الاتجاه ومؤسسيه3، فمن الأفضل ألا ينسب شعر شكري إلى كتاب قد حوى هجومًا عليه وتجريحًا له، ومن الأفضل كذلك، ألا ينسب الشاعر نفسه إلى كتاب بلغ من ظلمه له أن وصفه بالجنون.

1 حافظ وشوقي ص46-47.

2 انظر: الشعر المصري بعد شوقي لمحمد مندور ص34 وما بعدها. وجماعة أبولو لعبد العزيز الدسوقي ص84 وما بعدها.

3 كان الهجوم بقلم المازني الذي اتهم شكري بالجنون، وأوصاه بترك الشعر لإراحة نفسه أولًا، وإراحة قرائه ممن شعره ثانيًا، وكان ذلك في مقالين أحدهما بالجزء الأول، والثاني بالجزء الثاني من الديوان انظر: الديوان جـ1 ص48 وما بعدها، وجـ2 ص85 ومابعدها.

ص: 165

‌ثانيًا: النثر

1-

‌ المقالة وظهور أول طريقة فنية للنثر الحديث:

لقد أثمرت تلك الجهود التي بذلها محمد عبده، وأنصاره منذ الفترة السابقة1، حتى تبلور الاتجاه الذي راده في طرقة فنية للمقالة، تعتبر

1 اقرأ ما كتب عن ذلك في مبحث النثر بالفصل السابق من هذا الكتاب.

ص: 165

الطريقة النثرية الأولى -من الناحية الزمنية- في الأدب الحديث، وقد كان مصطفى لطفي المنفلوطي1، وهو العلم البارز في تلك الطريقة، التي يمكن أن تحمل اسمه، فيقال لها:"طريقة المنفلوطي".

وطريقة المنفلوطي لها سمات أسلوبية واضحة، أهمها: البعد عن التكلف، والنأي عن التقليد، والقصد إلى الصدق، والاهتمام بحسن الصياغة، وجمال الإيقاع ورعاية الجانب العاطفي، ثم الميل إلى السهولة والترسل، وترك التعقيد والمحسنات، فيما عدا بعض السجع المطبوع، الذي يأتي بين الحين والحين للإسهام في موسيقى الصياغة2.

وقد كان المثل الأعلى لتلك الطريقة، ذلك النثر المرسل الجيد الذي خلفته عصور الازدهار العربية، لكن لم تكن كتابات المنفلوطي مع ذلك محاكاة لتلك النماذج التي يمثلها نثر تلك العصور القديمة، وإنما كانت كتابات -برغم محافظتها- فيها كثير من الإبداع والأصالة، وعليها طابع الكاتب وفيها ملامح شخصيته، والطريقة التي أوضح معالمها المنفلوطي، طريقة محافظة بيانية، أشبه بطريقة شوقي في الشعر، وقد كان المنفلوطي قمة من كتبوا بها منذ رادها محمد عبده في الفترة السابقة، كما كان شوقي قمة من نظموا بالأسلوب المحافظ

1 ولد بمنفلوط سنة 1876، وتدرج في تعليمه من الكتاب إلى الأزهر، وحضر دروس الشيخ محمد عبده، ثم ترك الأزهر بعد عشر سنوات، وذلك لغلبة الميول الأدبية عليه، واتجه إلى كتب الأدب ودواوين الشعر، وكتابات محمد عبده وكبار المفكرين وترجماتهم، وقد اتجه إلى الكتابة في الصحف، فكان من كتاب المؤيد البارزين، ثم عينه سعد زغلول محررًا عربيًا في وزارة المعارف، ثم انتقل مع سعد إلى وزارة العدل، ثم فصل بعد خروج سعد من الوزارة، وظل يكتب في الصحف، إلى أن عينه سعد من جديد في وظيفة تحريرية في مجلس الشيوخ بعد أن أعد البرلمان سنة 1923، وظل في هذا العمل حتى توفي سنة 1924.

اقرأ عنه في: الأدب العربي المعاصر في مصر للدكتور شوقي ضيف ص227، المحافظة والتجديد في النثر العربي المعاصر لأنور الجندي، والمنفلوطي حياته وأدبه لمحمد أبو الأنوار "رسالة ماجستير"، واقرأ عنه أيضًا في: Studies on the civiaztion of Islam: Gibb. p. 258

2 اقرأ مقدمة النظرات، والأدب العربي المعاصر في مصر ص230، وما بعدها.

ص: 166

البياني، منذ اتجه إليه البارودي في الفترة السابقة أيضًا، كذلك كانت تلك الطريقة النثرية تسهم في النضال بكل ميادينه السياسية، والاجتماعية والإصلاحية، تمامًا كما كان الشعر المحافظ يفعل.

وأهم ما يمثل تلك الطريقة مقالات المنفلوطي، التي كان ينشرها في المؤيد1، والتي جمعها بعد ذلك في ثلاثة مجلدات باسم "النظرات"، وهي مقالات في الأدب والأخلاق والاجتماع، تتسم بهذه الخصائص الأسلوبية التي أشير إليها من قبل، والتي من أهمها: رعاية جمال الأسلوب دون اعتماد على المحسنات، باستثناء القليل من السجع المطبوع، ثم الاهتمام بتحريك العاطفة، وهزها بمختلف الوسائل.

وقد سيطرت تلك الطريقة، وغلبت نزعتها على الكتابة خلال تلك الفترة وبعدها بسنوات، حتى لقد طبعت النظرات إلى الآن ست عشرة مرة2، نظرًا لأسلوبها الذي يجذب القراء، وخاصة الشادين في الأدب، والناشئة في صناعة القلم، فبقيت حية مقروءة على حين اختفت معظم الكتابات التي كانت تهاجم صاحبها، وذلك؛ لأنها كانت أكثر تمثيلًا لروح العصر3.

ومع هذا لم تكن "طريقة المنفلوطي" هي المثل الأعلى لكتابة المقالة، فقد عيب عليها: الاهتمام البالغ بالأسلوب، وفقر الجانب الفكري، والمبالغة في اصطناع الأسى وإثارة العاطفة، ثم عدم الدقة في الاستعمال اللغوي أحيانًا، والميل إلى حشد الألفاظ المترادفة، والعبارات المكملة، والكلمات المؤكدة، دون حاجة إلى ذلك يقتضيها الموقف، أو تحتاجها الفكرة4.

1 كان يصدر المؤيد الشيخ علي يوسف، وقد بدأ المنفلوطي كتابته لنظرات سنة 1908، ونشر أول جزء منها في مجلد سنة 1909. انظر: المحافظة والتجديد في النثر العربي المعاصر لأنور الجندي ص243.

2 هكذا كانت طبعة النسخة التي بين يدي، ولعل طبعات أخرى قد تمت بعدها.

3 انظر: Studies on the Civlization of Islam: Gibb p.263

4 الديوان جـ2 ص7 وما بعدها، والأدب العربي المعاصر في مصر ص233.

ص: 167

وبرغم ذلك وغيره مما أخذ على المنفلوطي وأسلوبه، قد كانت المقالات التي خلفها هذا الكاتب أول نماذج فنية للمقالة، يمكن أن تقرأ وتستعاد، فتمتع وتعجب، ويمكن لهذا أن تعتبر -بحق- قطعًا من الأدب، لا مجرد كتابات في الأدب، أو الأخلاق أو الاجتماع ككتابات كثيرين غيره.

وهذا نموذج من النظرات، عنوانه:"أيها المحزون" يقول فيه المنفلوطي:

"إن كنت تعلم أنك قد أخذت على الدهر عهدًا أن يكون لك كما تريد في جميع شئونك وأطوارك، وألا يعطيك ولا يمنعك إلا كما تحب وتشتهي، فجدير بك أن تطلق لنفسك في سبيل الحزن عنانها كلما فاتك مأرب، أو استعصى عليك مطالب، وإن كنت تعلم أخلاق الأيام في أخذها وردها، وعطائها ومنحها،، وأنها لا تنام عن منحة تمنحها، حتى تكر عليها راجعة فتستردها، وأن هذه سنتها وتلك خلتها في جميع أبناء آدم، سواء في ذلك ساكن القصر وساكن الكوخ، ومن يطأ بنعله هام الجوزاء، ومن ينام على بساط الغبراء؛ فخفض من حزنك، وكفكف من دمعك، فما أنت أول غرض أصابه سهم الزمان، وما مصابك بأول بدعة طريفة في جريدة المصائب والأحزان".

"أنت حزين؛ لأن نجمًا زاهرًا من الأمل كان يتراءى لك في سماء حياتك، فيملأ عينيك نورًا، وقلبك سرورًا، وما هي إلا كرة الطرف أن افتقدته فما وجدته. ولو أنك أجملت في أملك، لما غلوت في حزنك، ولو أنك أنعمت نظرك فيما تراءى لك، لرأيت برقًا خاطفًا، ما تظنه نجمًا زاهرًا، وهناك لا يبهرك طلوعه، فلا يفجعك أفوله".

"أسعد الناس في هذه الحياة، من إذا وافته النعمة تنكر لها، ونظر إليها نظر المستريب بها، وترقب في كل ساعة زوالها وفناءها، فإن بقيت في يده فذاك، وغلا فقد أعد لفراقها عدته من قبل".

"لولا السرور في ساعة الميلاد، ما كان البكاء في ساعة الموت، ولولا

ص: 168

الوثوق بدوام الغنى، ما كان الجزع من الفقر، ولولا فرحة التلاق، ما كانت ترحة الفراق1".

على أن طريقة المنفلوطي -أو الاتجاه المحافظ البياني- في النثر، لم تكن الطريقة الوحيدة لكتابة المقالة في تلك الفترة؛ فالحق أن تلك الطريقة كانت الطريقة الوسط، التي تأتي بين اتجاهين آخرين، لم يكونا من الوضوح والقوة حينذاك، بحيث يعتبران طريقتين مميزتين أخريين. أما أحد هذين الاتجاهين، فقد كان أكثر تشبثًا بالتراث، وأقوى تعلقًا ببعض مخلفاته، حيث اصطنع السجع على طريقة أسلوب المقامات، وكانت كتابات أصحاب هذا الاتجاه، مقالات في موضوعات أشبه بموضوعات طريقة المنفلوطي، فبعضها أدبي، وبعضها أخلاقي، وبعضها اجتماعي، ومع ذلك لم يتخذ أسلوبًا فيه كثير من طابع الكتابة التنليدية التي عرفت في الفترة السابقة2، والتي كانت تتناول في أكثر الأحايين موضوعات ليس لها صفة العموم، وأغلب الظن أن امتداد تأثير هؤلاء السجاعين الشكليين من جانب، والتشبث الشديد بالتراث، وبفن المقامات من جانب آخر؛ ثم محاولة بعض الشعراء كتابة نثر فيه بعض خصائص الشعر من جانب ثالث؛ كل هذا قد أوجد هذا الاتجاه في كتابة المقالة المسجوعة، رغم انطلاق لغة المقالة وتحررها، وميلها إلى طبيعة الفن النثري الحي.

ومن أبرز ما يمثل هذا الاتجاه من اتجاهات الكتابة، كتاب "أسواق الذهب"3 للشاعر أحمد شوقي، وكتاب "صهاريج اللؤلؤ" للسيد توفيق

1 النظرات للمنفلوطي جـ1 ص61.

2 أقر مبحث النثر في الفصل السابق مقال1 -الكتابة الإخوانية، واتجاهها إلى التقليد.

3 ظهر سنة 1916، انظر المحافظة والتجديد في النثر العربي المعاصر لأنور الجندي ص243، ونشأة النثر الحديث، وتطوره لعمر الدسوقي جـ1 ص127.

ص: 169

البكري1، إذا استثنينا منه قصائده المستقلة، فكل من الكتابين يحوي مقالات في موضوعات مختلفة، وإن غلب عليها طابع التأملات، والانطباعات والوصف، وما إلى ذلك من الموضوعات القريبة من ميدان الشعر، وكل مقالة تعتمد أساسًا في أسلوبها على السجع، وحشد المترادفات، وإيراد الإشارات التاريخية، وبث الحكم والأمثال، ويزيد "صهاريج اللؤلؤ" على ذلك، تضمين المقالات بعض ما يناسب المقام من الشعر، إما للمؤلف، وإما من التراث. كما يزيد "صهاريج اللؤلؤ" أيضًا اشتماله على بعض قصائد شعرية للمؤلف لا تتخلل النثر، وإنما ترد مستقلة.

وليس من شك في أن هذا الاتجاه -برغم جودة بعض نماذجه- كان صحوة الموت بالنسبة للنثر البديعي المتكلف، الذي لفظ آخر أنفاسه بعد سيطرة الاتجاه المرسل، وتطور طرقه وتنوعها، منذ الفترة التالية.

وهذا نموذج من "أسواق الذهب" لشوقي، يقول فيه تحت عنوان المال: "يا مال الدنيا أنت، والناس حيث كنت، سحرت القرون، وسخرت من قارون، وسعرت النار يا نيرون. تعود الحقد أن يحالفك، وكتب على الشر أن يخالطك ويؤالفك، الفتنة إن حركتها اتقدت، وإن تركتها رقدت، والحرب وهي الحرب، تبعثها ذات لهب، منك الرياح ومنك الحطب، تزري بالكرام، وتغري بالحرام، وتضري بالإجرام، فقدانك العر والضر، ونكد الدنيا على الحر، حالك وحال الناس عجب، تملكهم من المهد، ويقولون: أصبنا وملكنا، وترثهم عند اللحد، ويقولون، ورثنا وتركنا، من عاش قوموه بما ملك، ومن هلك، تساءلوا: كم ترك؟ المحروم من أوثقك، والضائع من أطلقك، وهما فقيران، من جمعك ومن فرقك، كثير هم، وقليلك غم، ومع التوسط الخوف والطمع، والحرص والجشع؛ حذر النفاد، ورغبة في الازدياد. الملك سوقة إذا نزل إليك، والسوقة ملك إذا علا عليك.

1 اقرأ عنه في: الأعلام الزركلي جـ6 ص291، وفي الأدب الحديث لعمر الدسوقي جـ2 ص421 وما بعدها، وقد ظهر صهاريج اللؤلؤ قبل سنة 1912، التي نقل فيها المؤلف إلى لبنان للعلاج.

ص: 170

أرخصت الجمال، ونقصت الكمال، وخطبت لهجن الرجال ربات الحجال، صويحباتك هن المفضلات، وغيرهن المتروكات المعطلات. العريان من ليس له منك سترة، والمستضعف من ليس له منك قدرة، فسبحان من قهر بك الخلق، وقهرك برجال الخلق"1.

وهذا نموذج من "صهاريج اللؤلؤ" للبكري، يقول فيها تحت عنوان "العزلة" متحدثًا عن عوامل هجرة للحياة الاجتماعية الحضرية، وما فيها من مفاسد: "

وأما الأخلاء، والصحب والسجراء2، فحسبك من رجل غون في كل أمر لم ترده، ونصير في كل مطلب لم تقصده، فإن عرض لك بعض الحاج، فالعلوي يسترفد الحجاج. ماء يتلون بلون الإناء، ونيلوفر يدور مع الشمس في الإصباح والإمساء، إن جددت فإليك، أو شقيت فعليك، مدحٌ مع المادح، وقدح مع القادح.

والقوم من يلق خيرًا قائلون له

ما يشتهي، ولأم المخطئ الهبل

أجسام متدانية، وقلوب متنائية، وإنكان خبر سوء فحماد الراوية.

حدث عن البحر ولا حرج، مئذنة في ظاهر مستقيم وباطن معوج.

له لطف قول دونه كل رقية

ولكنه في فعله حية تسعى

وأما أبناء السامة3، فإن أحدهم غادة ينقصها الحجاب، ينظر في المرأة ولا ينظر في كتاب، إنما هو لباس على غير ناس، كما تضع الباعة مبهرج الثياب على الأخشاب.

وهل ينفع الوشي السحيب مضللا

وإن ذكوت في القوم قيمته خزي

رماد تخلف عن نار، وحوض شرب أوله، ولم يبق منه غير أكدار. آباء وأحساب، وحال كشجر السلجم4 أحسن ما فيه ما كان تحت التراب "ترى

1 أسواق الذهب ص67.

2 جمع سجير، وهو الخليل الوفي.

3 الذهب والفضة.

4 نبات.

ص: 171

الفتيان كالنخل، وما يدريك ما الدخل" إلى رطانة بالعجمية بين الأعراب "أبرد من استعمال النحو في الحساب"، "لو كان ذا حلية لتحول"، "وهل عند رسم دارس من معول".

وقح تواصوا بترك البر بينهم

نقول: ذا شرهم بل ذاك بل هذا

ميسر يلعب، ومال يسلب. وخدن يخدع، وكلب يتبع، وعطر ينفح، وفرس يضبح.

أبا جعفر ليس فضل الفتى

إذا راح في فضل عجابه

ولا في فراهة برذونه

ولا في نظافة أثوابه

دنيا موجودة، ونفس مفقودة. وعقل أسير، وهو أمير. "اليوم خمر، وغدًا أمر". فبيناه غني يتملك، إذ هو فقير يتصعلك. قوت، كيلا تموت. ومن إيوان كسرى إلى بيت العنكبوت

"1.

وأما الاتجاه الآخر، فقد كان كرد فعل للاتجاهين السابقين، فهو لم يكن شديد الكلف بتجويد الصياغة، ورعاية جانب البيان، كما لم يكن -من باب أولى- متكلفًا للسجع مصطنعًا لغة المقامات، وذلك؛ لأن السائرين في هذا الاتجاه، لم يكونوا من المتعلقين بالتراث، ولا من المؤمنين بفكرة الجامعة الإسلامية التي تشد إليه، وإنما كانوا من المولين وجوههم شطر الغرب، ومن المؤمنين بالحضارة الأوروبية أشد الإيمان، ومن هنا لم يشغلوا أنفسهم بتجويد الأسلوب تجويدًا بيانيًا كما فعل المنفلوطي، كما لم يرهقوا أقلامهم بتحميلها أعباء البديع كما فعل البكري، وإنما اهتموا أعظم الاهتمام بالجانب الفكري، فمالوا إلى الموضوعية، واصطناع المنطق، وجنحوا إلى الوضوح والدقة، والترسل الكامل. هذا إلى تحميل الكلام شحنة من الثقافة والفكر الغربي، وخير من يمثل هذا الاتجاه في تلك الفترة أحمد لطفي السيد2، ومن أمثلة مقالاته ما كتبه تحت عنوان:

1 صهاريج اللؤلؤ ص142 وما بعدها.

2 ولد بقريق برقين من أعمال السنبلاوين سنة 1872، وتعلم في كتاب القرية، ثم =

ص: 172

"غرض الأمة هو الاستقلال"، حيث يقول:"استقلال الأمة في الحياة الاجتماعية، كالخبز في الحياة الفردية، لا غنى عنه؛ لأنه لا وجود إلا به، وكل وجود غير الاستقلال مرض يجب التداوي منه، وضعف يجب إزالته، بل عار يجب نفيه.. استقلال الأمة عمن عداها، أو حريتها السياسية حق لها بالفطرة، لا ينبغي لها أن تتسامح فيه، أو أن تني في العمل للحصول عليه، بل ليس لها حق التنازل عنه لغيرها، لا بكله ولا بجزئه؛ لأن الحرية لا تقبل القسمة، ولا تقبل التنازل، فكل تنازل من الأمة عن حريتها -كلها أو بعضها- باطل بطلانًا أصليًّا، لا تلحقه الصحة بأي حال من الأحوال، فلا جرم مع هذا المبدأ المسلم به عند علماء السياسة أن قلت: إنه يجب على الأمة أن توجه كل قواها -بغير استثناء- للحصول على وجودها، أي الحصول على الاستقلال1..".

هذا، وقد كانت تلك الاتجاهات الأسلوبية الثلاثة، تتقاسم أقلام الناثرين

في مدرسة المنصورة الابتدائية، ثم في مدرسة الخديوية بالقاهرة، وانتهى من المرحلة الثانوية سنة 1889. ثم التحق بالحقوق. وخلال دراسته في الحقوق تردد على الأزهر مع أستاذه الشيخ حسونه النواوي؛ ليقرأ له دروس الفقه التي كان يلقيها في الصباح الباكر، وأتم دراسة الحقوق سنة 1894، وعين في النيابة. وفي سنة 1897 سافر إلى سويسرا، "والتقى فيها بقاسم أمين، ومحمد عبده، وسعد زغلول"، واختلف إلى ما كان يلقي من محاضرات في جامعة جنيف

ثم انتظم بعد عودته إلى مصر في سلك النيابة حتى سنة 1905، فاستقال وعمل بالمحاماة، ثم أخرج الجريدة سنة 1907، وشارك في الكفاح من أجل الجامعة التي افتتحت سنة 1908

ثم عين مديرًا لدار الكتب خلال الحرب الأولى، ثم اختير مديرًا للجامعة بعد أن صارت حكومية سنة 1925، وفي سنة 1928 ترك الجامعة إلى وزارة المعارف، ثم ترك الوزارة، وعاد إلى الجامعة، ثم استقال بمناسبة أزمة طه حسين في عهد صدقي، ثم عاد بعد استقالة وزارة صدقي سنة 1935، وظل في الجامعة إلى سنة 1941، فعين عضوًا بالشيوخ، وشارك في بعض الوزارات، ثم اختير رئيسًا للمجمع اللغوي، وظل كذلك إلى أن توفي سنة 1963، اقرأ عنه في: الأدب العربي المعاصر في مصر لشوقي ضيف ص251، وفي المحافظة والتجديد في النثر العربي المعاصر لأنور الجندي، وفي أدب المقالة الصحفية لعبد اللطيف حمزة جـ6 ص42، وما بعدها.

1 انظر: الأدب العربي المعاصر في مصر ص257-258.

ص: 173