الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لهذا نستطيع أن نقرر: إنه باستثناء محاولة شوقي الناجحة -أو برغمها- قد تجمد الاتجاه الشعري المحافظ في هذه الفترة، حيث لم يضف جديدًا إلى مجاله الموضوعي، ولم يصب تجديدًا في أسلوبه الفني، وحيث وقف عند المرحلة التي وصل إليها، منذ وصل إلى قمته مع أمير الشعراء.
وقد سار في هذا الاتجاه الشعري المحافظ بعد جيل شوقي، جيل آخر تمثل في علي الجارم، ومحمد الأسمر وعزيز أباظة، وعلي الجندي ومحمود غنيم وغيرهم. ولكن بموت شوقي سنة 1932، ماتت سيادة هذا الاتجاه، وظل كل السائرين في طريقة يحاولون جاهدين أن يقربوا من قمته الشامخة، التي علاها كثير من الجليد.
2-
انحسار الاتجاه التجديدي الذهني:
إذا كانت الظاهرة الأولى من ظواهر الشعر في هذه الفترة، هي ظاهرة تجمد الاتجاه المحافظ البياني، فالظاهرة الثانية هي ظاهرة انحسار الاتجاه التجديدي الذهني1، فقد شهدت هذه الفترة انحسار هذا الاتجاه كمًّا وكيفًا، حتى أوشك أن يختفي من الحياة الأدبية، لولا جهود العقاد وإصراره وأصالته، التي حفظت لهذا الاتجاه الاستمرار، برغم ما أحاط به من معوقات.
وقد من أهم أسباب انحسار هذا الاتجاه -ومن أهم مظاهره أيضًا- توقف شكري عن إصدار دواوين جديدة، بعد أن أصدر ديوانه السابع "أزهار الخريف" سنة 1918. وقد كان هذا التوقف من جانب شكري، بسبب تأزمه النفسي، نتيجة لإحساسه بخيبة الأمل، وعدم نيله ما كان يطمح إليه من مجد أدبي لم يحققه له إصدار سبعة دواوين، ثم نتيجة لعدد من الصدمات في حياته العامة وصلاته الخاصة2،
1 اقرأ تفصيل القول عن هذا الاتجاه وظهوره، وخصائصه في الفصل الثالث، المقال رقم 2 من المقالات الخاصة بالشعر.
2 انظر: ديوان عبد الرحمن شكري تحقيق نقولا يوسف: المقدمة ص85 وما بعدها.
ربما كان من أقساها عليه إقذاع صديقه المازني في نقده، وإقرار صديقه العقاد لهذا النقد، بنشره في كتاب الديوان الذي أصدراه معًا، والذي اتهم فيه شكري بالجنون، وسمي صنم الألاعيب، ونصح بالانصراف عن التأليف ليريح أعصابه المختلة، ويريح القراء من جهوده العقيمة1!!
كذلك كان من أسباب انحسار هذا الاتجاه -ومن مظاهره أيضًا- انصراف المازني عن الشعر، منذ أصدر ديوانه الثاني سنة 1917، فقد اتجه إلى الصحافة، وآثر القصة والمقال من بين فنون الأدب، حيث لم يعد يرى الشعر كافيًا لسد حاجاته أولًا، ولا للتعبير الطليق عما يريد أن يعالج من شئون الحياة ثانيًا، وقد حول تأملاته وذهنياته الشعرية، إلى لون من السخرية الواعية، أجاد استخدامه فيما كان يكتب من مقالات اجتماعية، ومن قصص أو صور قلمية2.
وهكذا بقي العقاد وحده من زعماء الاتجاه التجديدي الذهني يواصل كتابة الشعر، ولكنه لم يجعل الشعر همه أو فنه الأدبي الأول، بل انصرف هو الآخر إلى الصحافة والكتابة السياسية أولًا، ثم إلى التأليف الأدبي والإسلامي أخيرًا، حتى اعتبر في طليعة الكتاب السياسيين في أوائل هذه الفترة، ثم اشتهر كعلم من أعلام الكتابة الأدبية والإسلامية في آخريات تلك السنوات3.
1 انظر: الديوان جـ1 ص48 وما بعدها، وجـ2 ص85 وما بعدها.
هذا وقد نشر شكري بعد فترة من توقفه عددًا من القصائد المتفرقة حين كان يلح عليه خاطرًا، أو فكرة وحين كان يتغلب طبعه الأدبي على تأزمه النفسي، فقد نشر قصيدة الطفل في الهلال في أغسطس سنة 1932، ثم نشر عدة قصائد في سنتي 1935 و 1936 بالرسالة والمقتطف، والمجلة الجديدة، ثم عاد فنشر بعض القصائد في سنة 1949.
انظر: مقدمة ديوان عبد الرحمن شكري بقلم نقولا يوسف ص10-11.
2 انظر: أدب المازني للدكتورة نعمات فؤاد ص113-114، ومحاضرات عن إبراهيم المازني للدكتور محمد مندور ص41.
3 انظر: مع العقاد لشوقي ضيف ص38-51. وانظر: العقاد دراسة وتحية=
وبرغم أن العقاد في هذه الفترة لم يجعل الشعر همه أو فنه الأول، قد ظلت دواوينه تتوالى دون انقطاع، بل لقد أخرج في عام وحد من أعوام تلك الحقبة ديوانين اثنين..
فبعد أن أخرج الجزء الأول من ديوانه الأول سنة 1916، ثم الجزاء الثاني سنة 1917، أخرج الجزء الثالث من هذا الديوان سنة 1921، ثم جمع تلك الأجزاء وضم إليها الجزء الرابع، وسمى كل ذلك:"ديوان العقاد"، ونشره سنة 1928 1.
وفي سنة 1933، أخرج العقاد ديوانين آخرين، الأول باسم "وحي الأربعين"، والثاني باسم "هدية الكروان"، ثم أخرج سنة 1937 ديوان المسمى "عابر سبيل2".
والملاحظ على شعر العقاد الذي ظهر في تلك الفترة، أنه قد سار -في جملته- على المبادئ التي ارتضاها هو وزميلاه شكري والمازني منذ الفترة السابقة، وهي المبادئ التي تقوم قبل كل شيء على عدم اعتبار الشعر المحافظ البياني مثلًا أعلى للشعر في العصر الحديث، والتي تهتم بالتجديد في موضوعات الشعر، وطريقة أدائه، وتعني في المحل الأول بنفس الشاعر وأصالته، والتي تعطي قيمة كبرى للخيط الذهني في النسيج الشعري، وتحاول محاولة جادة لتحقيق الوحدة العضوية وصدق التجربة الشعرية3، كل هذا مع توفيق أحيانًا وإخفاق في بعض الأحايين، وخاصة حين يطغى الفكر، فيفسد طبيعة الشعر4.
= ص 310 وما بعدها، لترى أن أعظم كتبه الأدبية ظهرت في الثلاثينات، وأن عبقرياته ظهرت في الأربعينات.
1 انظر: ديوان العقاد كلمة ختام ص351، والعقاد دراسة وتحية ص310، ومع العقاد لشوقي ضيف ص138-139.
2 وبعد ذلك أخرج "أعاصير مغرب" سنة 1942، ثم "بعد الأعاصير" سنة 1950.
3 انظر: تفصيل هذه المبادئ في الفصل الثالثل، المبحث جـ من مباحث المقال رقم2 من المقالات المخصصة للشعر.
4 انظر: The Name and Nature of poety. Hausman p.47
ففي الجزء الثالث من ديوان العقاد الأول، هذا الجزء الذي ظهر سنة 1921، نراه يعني بالتأملات الفكرية، والقضايا الذهنية، التي تصل أحيانًا إلى درجة التفلسف، كما نراه يبتعد عن التأثير بالقيم البيانية، ويركز اهتمامه على التأثير بالقيم الفكرية، ثم نراه يجعل صدق التجربة الشعرية، وتحقيق الوحدة العضوية في المحل الأول:
ومما يؤيد ذلك هذا النموذج الذي يتحدث فيه العقاد عن الإنسان، وحريته الفطرية، وما يكبلها به الإنسان نفسه من قيود مختلفة، وقد سمى الشاعر هذا النموذج "حانوت القيود"، وفيه يقول:
تزود منه الناس في كل حقبة
…
وحجوا إليه موكبًا بعد موكب
يصيحون فيه بالقيود كأنهم
…
سراحين في واد من الأرض مجدب
فمن قائل: عجل بقيدي فإنني
…
طليق، ومن عان كثير التقلب
إذا أخطأ الأغلال قطب وجهه
…
كئيبًا، وإن أثقلنه لم يقطب
فهذا إلى قيد من العقل ناظر
…
وما العقل إلا من عقال مؤرب
يخفض من أهوائه كل ناهض
…
ويغلب من آماله كل أغلب
ويمشي بأغلال التجارب معجبًا
…
على غبطة منه لمن لم يجرب
وهذا إلى قيد من الحب شاخص
…
وفي الحب قيد الجامح المتوثب
ينادي: أنلني القيد يا من تصوغه
…
ففي القيد من سجن الطلاقه مهربي
أدره على لبي وروحي ومهجتي
…
وطوق به كفى وجيدي ومنكبي
ورصعه بالحسن المسوم وأجله
…
بكل سعيد في المناظر طيب
عزيز علينا أن نعيش وحولنا
…
أسارى الهوى من فائز ومخيب1
وفي الجزء الرابع من ديوانه الأول، الذي صدر سنة 1928، ومعه كل الأجزاء الثلاثة السابقة؛ نرى العقاد يسير في نفس الخط التجديدي الذهني، وربما يصل فيه إلى درجة أكثر نضجًا وأتم استراء، بل قد يصل إلى حد من التأمل الفلسفي ينتهي به -في بعض التجارب- إلى فلسفة السخط
1 انظر: ديوان العقاد ص204-205.
والرفض، والإقرار "بلا جدوى شيء في هذا الوجود"، ففي ذلك الجزء من ديوان العقاد، نراه -مثلًا- يقول في قطعة بعنوان "سيان":
يا شمس ما ضرك لو لم تشرقي؟
…
يا روض ما ضرك أو لم تعبق؟
يا قلب ما ضرك لو لم تخفق؟!
…
سيان في هذا الوجود الأحمق
من كان مخلوقًا ومن لم يخلق1!!
وإنما قلت: "إن شعر العقاد في تلك الفترة قد سار -في جملته-" على المبادئ التي ارتضاها هو وزميلاه من قبل، ولم أقل: قد سار كله على تلك المبادئ؛ لأن العقاد كان في بعض هذا الشعر يفعل فعل الشعراء المحافظين، من حيث النظم في المناسبات والسياسات والإخوانيات، التي تصل أحيانًا إلى حد التفاهة. وليس من شك أن روح الفترة التي عرفنا أنها كانت فترة صراع سياسي، قد أثرت على العقاد، فحادت به -بعض الشيء- عن الطريق الذي رسمه هو وصاحباه من قبل، وليس من شك أيضًا في أن ارتباط الشاعر ببعض الهيئات، وصلته ببعض الأصدقاء، قد كان من العوامل التي ورطته في بعض شعر المناسبات والإخوانيات، إلى جانب ما ورطته فيه صراعات الفترة من شعر السياسيات.
فمثلًا نرى العقاد في الجزأين الثالث والرابع من ديوانه الأول، قد أورد قصائد تخالف ما أخذ به نفسه هو وصاحباه من قبل، وتماثل ما أخذه على خصومه، حين هاجم رثائهم، وأمداحهم وتهانيهم، وما إلى ذلك من شعر المناسبات. فنحن نطالع له في الجزء الثالث قصيدة رثاء السلطان حسين2، وأخرى في رثاء محمد
فريد3، وثالثة في رثاء الطلبة الذين ذهبوا ضحية حادث قطار في إيطاليا4.
كما نطالع له في الجزء الرابع قصيدة في سعد زغلول بمناسبة عودته من
1 انظر: ديوان العقاد ص298.
2 انظر: ديوان العقاد ص218-219.
3 انظر: ديوان العقاد ص228-231.
4 انظر: ديوان العقاد ص231-233.
منفاه سنة 1923 1. ثم نطالع بعد تلك القصيدة مباشرة قصيدة أخرى في ذكرى مرور أربعين يومًا على وفاة سعد2.. كما نطالع بعد ذلك في أواخر الديوان قصيدة ثالثة3 في سعد أيضًا قالها العقاد بمناسبة زيارة الزعيم الوفدي لمدينة أسوان سنة 1923.
وما نراه في الجزأين الثالث والرابع من ديوان العقاد الأول، نراه فيما صدر له بعد ذلك من دواوين، فنراه في "هدية الكروان"، قد جعل معظم الديوان لموضوعات تسير في خطه الشعري الحقيقي، بل قد جعل قسمًا كاملًا من الديوان لمناجاة طائرة الكروان، وعرض كثير من القضايا العاطفية والفكرية من خلال هذه النجوى، ومن ذلك قصيدة "اليوم الموعود" التي يقول فيها:
لي جنة يا يوم أجمع في يدي
…
ما شئته من زهرها المتبسم
وأذوق من ثمراتها ما أشتهي
…
لا تحتمي مني ولا أنا أحتمي
لم آس بين كرومها وظلالها
…
إلا على ثمر هناك محرم
فكأنها هي جنة في طيها
…
ركن تسلل من جحيم جهنم
أبدًا يذكرني النعيم بقربها
…
حرمان مرؤود وعزة معدم
وأبيت في الفردوس أنعم بالمنى
…
وكأنني من حسرة لم أنعم4
ولكننا نرى في الديوان نفسه أن الشاعر قد أورد بعض التهاني والتقريظات5، بل نراه ينظم قصيدة في وصف البيرة على لسان طفل، فيقول كلامًا دون مستوى العقاد، واتجاهه بمسافات ومسافات، وحسبنا أن نقرأ مطلع هذه القصيدة الذي يقول فيه:
1 انظر: ديوان العقاد ص277-280.
2 انظر: ديوان العقاد ص281-292.
3 انظر: ديوان العقاد ص247.
4 انظر: "هدية الكروان" ص48.
5 من ذلك تهنئة لمكرم عبيد حين أجرى عملية جراحية، وتهنئة لحافظ جلال بمناسبة خطبته، ومنه تقريض لبعض الأدباء.
البيلا البيلا البيلا
…
ما أحلى سلب البيلا1
وفي "وحي الأربعين" نرى العقاد -إلى جانب ما له من "تأملات في الحياة"، و"خواطر في شئون الناس" و"قصص وأماثيل" و"وصف وتصوير"، و"غزل ومناجاة" -نراه إلى جانب كل ذلك قد عقد بابًا باسم "قوميات واجتماعيات"، أورد فيه قصيدة ألقيت في حفل جمعية من جمعيات الإحسان، وأخرى قيلت بمناسبة عيد الاستقلال السوري، ومطلع هذه القصيدة يذكرنا بطريقة المحافظين الخطابية وجلجلتها البيانية، فهو يقول فيه:
ربع الشآم أعامر أم خالي
…
اليوم عيدك عيد الاستقلال2
كما نرى الشاعر إلى جانب كل ذلك قد عقد بابًا باسم "متفرقات"، وضمنه قصيدة في مشروع القرش، كما ضمنه أبياتًا في إهداء كتاب، وقصيدتين في رثاء الكاتب محمد السباعي، والشاعر حافظ إبراهيم.
بل نجد الشاعر في هذا الديوان، يقدم للقراء ما يشبه الاعتذار، عن اكتفائه بما قدم فقط من شعر قليل متصل بالمناسبات المصرية، وعن عدم إيراده لكل ما قد قال في تلك المناسبات من شعر، وفي ذلك يقول:
"اكتفينا بما نقدم في هذا الباب، ولم ننشر فيه كل القصائد التي نظمت في المناسبات المصرية، رعاية لعهد الائتلاف"3.
وفي ديوان "عابر سبيل" نجد العقاد يسير في اتجاهين متضادين، أو -على الأقل- متباعدين أشد التباعد، فنحن نجده أولًا يبلغ حد المبالغة في رعاية مذهبه الشعري، الذي يرى أن موضوع الشعر هو كل ما يقع على الحس ويثير الوجدان، حتى ولو كان أبسط الأشياء، ومن هنا يجعل القسم الأول من هذا الديوان نماذج تطبيقه لهذه النظرية، فيتحدث عن جملة أشياء
1 انظر: هدية الكروان ص139.
2 انظر: وحي الأربعين ص146.
3 انظر: وحي الأربعين ص152.
مما يقع في طريق عابر السبيل، وتقع عليه عينه كل يوم، "كالبيت" و"أصداء الشارع" و"عسكري المرور" و"الفنادق"، و"القطار العابر" و"المصرف" و"المتسول" و"جهات الدكاكين"، وهو خلال حديثه عن هذه الأشياء -التي لا تلفت الشعراء عادة- يستبطن الأسرار التي تحتويها، ويكشف المعاني الإنسانية التي تعكسها، ويستخرج العبر الكونية التي وراءها، فهو يعمل ذهنه وفكره بل فلسفته في أشياء قد تبدو أبعد ما تكون عن الذهن، والفكر والفلسفة، ومن أمثلة ذلك قوله عن "الفنادق" مثلًا:
حسب الفنادق أن تذكرنا
…
مر الفناء بكل من يحيا
تبدو الوجوه لعين عابرها
…
وتغيب عنه كأنها رؤيا
في كل توديع وتفرقة
…
شيء من التوديع للدنيا1
ومن أروع أمثلة هذا الباب في "عابر سبيل"، قول العقاد في "وجهات الدكاكين":
إن الدكاكين التي عرضت
…
تلك المطارف تعرض النوبا
تحكي الفواجع كلهن لنا
…
صدقًا، ولا تحكي لنا كذبا
هذا الستار، فنح جانبه
…
تجد القضاء يهيئ اللعبا
انظر إلى النساج منحنيًا
…
يطوي بياض نهاره دأبا
وانظر إلى السمسار مقتصدًا
…
أو طامعًا في الربح مغتصبا
وانظر إلى التجار، ما عرفوا
…
غير النضار وعده تعبا
وانظر إلى الشارين قد سمحوا
…
بالمال يقطر من دم صببا
وانظر تر الحسناء لابسة
…
لا تلتمس غير الهوى أربا
لو تعرف الحسناء ما صنعت
…
شقت جيوب ردائها رهبا
هذا زمان العرض فانتظروا
…
عرضًا يرينا الويل والحربا
بهر النفوس بكل ظاهرة
…
وطوى جمال النفس محتجبا
فالويل للعين التي امتلأت
…
والويل للقلب الذي نضبا2
1 انظر: عابر سبيل ص37.
2 انظر: عابر سبيل ص25.
ثم نحن نجد الشاعر بعد هذه المبالغة في الذهنية، والتفلسف والابتعاد عن الموضوعات المعروفة إلى موضوعات هي أبعد ما تكون عن مجالات الشعراء؛ تجده يسير في اتجاه مضاد، أو على الأقل في اتجاه شديد البعد عن هذا الاتجاه. فهو نفس الديوان يعقد بابًا "للقوميات" يتحدث فيه عن "ذكرى الجهاد"، وعن "عيد بنك مصر"، كما يتحدث عن "ذكرى سيد درويش"، وعن نقل "جثمان سعد زغلول"، وعن "بعض المتطوعين في مشروع القرش"، وعن "بعض العهود السياسية"، وعن "دار العمال"
…
ثم يعقد بابًا آخر "للمتفرقات" يورد فيه قصائد في تكريم أحد البشوات بمناسبة حفل قد أقامه أبناء أسوان لهذا الباشا، ثم يورد كذلك قصيدة في تهنئة عروسين، وأخرى في طبيب عيون، كما يورد في هذا الباب قصيدة في الملك غازي ملك العراق، وقد نظمها لتكون أغنية كما يقول الديوان، وفيها يقول على طريقة المحافظين:
غازي قلوب الشعب بالكرم
…
والفضل والتوفيق والحسنى1
وهكذا نرى الاتجاه التجديدي الذهني قد انحسر في تلك الفترة، فهو بعد أن كان يندفع بقوة ثلاثة من الشعراء الرواد، الذين كانوا يجعلون الشعر فنهم الأول، أصبح يسير هادئًا بجهد شاعر واحد من هؤلاء الثلاثة، جعل من الشعر -في الغالب- مجالا للتعبير عن لحظات التوهج الذهني، وصرف جل طاقته إلى الكتابة السياسية والاجتماعية أولًا، والأدبية والإسلامية آخرًا، ثم هو بعد أن كان يأخذ نفسه بقيم شعرية صارمة، تباعد بينه وبين تقاليد الشعراء المحافظين، قد ترخص -بعض الشيء- في هذه القيم، حتى اقترب في بعض شعره من هؤلاء الشعراء، فمدح ورثى وهنأ وقرظ، وتورط في كثير من شعر المناسبات، التي كان يحارب التورط فيها هو وزميلاه من قبل.
ولكن برغم انحسار الاتجاه التجديدي الذهني في هذه الفترة، قد ظل يمثل -بنماذجه الجيدة- خطًّا مميزًا في مسيرة الشعر العربي الحديث، واستطاع ما تم على يد عملاقه العقاد، من نتاج شعري أولًا، ومن كتابات نقدية ثانيًا، أن يبقى -بعد رواده الأول- ممثلًا في نتاج نفر ممن تتلمذوا على العقاد وشعره، كمحمود عماد، وعبد الرحمن صدقي، وعلي أحمد باكثير. كما استطاع أن يسهم أعظم الإسهام فيما ظهر بعده من اتجاهات تجديدية أخرى، كان أهمها الاتجاه الذي هو موضوع الحديث التالي:
1 انظر: عابر سبيل ص141.