الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأدب بين المحافظة والتجديد
أولا: الشعر
سيطرة الاتجاه المحافظ البياني
…
الأدب بين المحافظة والتجديد:
كان الطابع الغالب على أدب تلك الفترة هو طابع المحافظة واستلهام الماضي، أو اتخاذ التراث العربي المشرق الذي خلفته عصور الازدهار نقطة انطلاق نحو أدب معاصر، وليس معنى ذلك أن التيار الفكري المتجه إلى الحضارة الغربية لم تكن له آثار أدبية تصوره، وإنما الذي يراد تقرير هو أن هذا التيار الغربي كان في تلك الفترة في طور التمهيد، والإعداد الفكري لظهور الأدب الذي يمثله1، وقد ظهر وليدًا غضا، أمام أدب محافظ قد استوى واستحصد، وملك على الناس مشاعرهم الفنية، وشكل لهم أنماطهم الأدبية، وهكذا لم تكن القوة الأدبية لهذا التيار الغربي المجدد، معادلة لقوة التيار العربي المحافظ، بل لم تكن قوة هذا التيار الغربي في ميدان الأدب معادلة لقوته هو نفسه في مجال الفكر والإصلاح الاجتماعي؛ نظرًا لكونه من الناحية الأدبية قد كان محتاجًا إلى تغييرات فكرية ونفسية واجتماعية كبيرة تمهد له، وتعد للأخذ به، وتدفع إلى السير في طريقه. ومن هنا كانت غلبة الطابع المحافظ على الأدب بفنونه المختلفة، على الوجه الذي يتضح تفصيله فيما يلي:
أولاً: الشعر:
1-
سيطرة الاتجاه المحافظ البياني:
عرفنا من حال الشعر في الفترة السابقة، أنه قد ظهر الاتجاه المحافظ البياني الذي راده البارودي، وبعث به الشعر العربي، وذلك حين رده إلى استلهام النماذج الجيدة التي خلفتها عصور الازدهار، وحين جعل النموذج البياني
1 تطور الرواية العربية للدكتور عبد المحسن بدر ص41.
المشرق قالبًا للتعبير عن أحاسيس الشاعر وتجاربه، وعن قضايا وطنه وأهم أحداث عصره1، وعرفنا كذلك أن هذا الاتجاه لم يكن وقت ظهوره على يد البارودي هو الاتجاه الشعري الوحيد، بل لم يكن الاتجاه الفني الغالب، وإنما كانت الغلبة لذلك الاتجاه التقليدي الجامد، الذي كان يمثله شعراء عديدون، تقيدهم -عادة- بقايا أغلال العصر التركي والمملوكي، وتكبل شعرهم -غالبًا- ألوان من الألاعيب اللفظية والمحسنات المتكلفة، لتستر ضحالة الموضوعات، وفقر الأفكار، وبرودة المشاعر، وتهافت الأسلوب2.
ونضيف الآن، أن هذا الاتجاه المحافظ البياني، قد أخذ يقوى عوده رويدًا رويدًا، على يد الجيل الذي خلف البارودي، حتى استحصد في هذه الفترة التي نسوق عنها الحديث، بل حتى سيطر سيطرة توشك أن تكون تامة، ومن هنا اختفى -أو كاد- ذاك الاتجاه التقليدي الجامد، وأصبح الاتجاه الذي يملأ الحياة الأدبية هو هذا الاتجاه المحافظ البياني الحي، الذي راد طريقه البارودي في الفترة السابقة، وأصبح جيل الشعراء في هذه الفترة، يسيرون في نفس اتجاهه، ويترسمون خطاه؛ فإسماعيل صبري3، وأحمد شوقي4،
1 اقرأ ما كتب عن الشعر في الفصل السابق -مبحث الشعر، المقال 2- ظهور البياني المحافظ.
2 اقرأ ما كتب عن ذلك في الفصل السابق -مبحث الشعر، المقال 1- الاتجاه التقليدي، وبعض لمحات التجديد.
3 اقرأ ترجمة موجزة له في مبحث الشعر بالفصل السابق المقال 2 "هامش".
4 ولد شوقي سنة 1869، ونشأ في بيئة أرستقراطية، وتعلم في مدارس القاهرة الابتدائية والثانوية، ثم التحق بمدرسة الحقوق، وتخرج في قسم الترجمة سنة 1887، فعين بالقصر في عهد توفيق، ثم أرسل في بعثه إلى فرنسا ليدرس الحقوق، فدخل مدرسة "مونبلييه" ودرس بها عامين، ثم انتقل إلى باريس، وظل بها عامين آخرين، حتى حصل على إجازة الحقوق، وأتيح له أن يطوف في فرنسا وأن يزور إنجلترا، ثم عاد إلى مصر فعمل رئيسًا للقسم الإفرنجي بالقصر، وكان من =
وحافظ إبراهيم1، ومحمد عبد المطلب2، وبقية شعراء هذا الجيل التالي من أمثال أحمد محرم3، وعلي الغاياتي4،
حاشية الخديوي كما كان شاعره، وحين أعلنت الحرب العالمية الأولى سنة 1914، كان الخديو عباس في تركيا، فمنعه الإنجليز من دخول مصر، وأخذوا يبعدون أنصاره أيضًا، فنفى شوقي إلى إسبانيا، حيث ظل في "برشلونة" أيام الحرب، ثم عاد بعد انتهائها، وبعد أن زار الأندلس في جنوب إسبانيا، قد بويع بإمارة الشعر سنة 1927، وظل مرموقًا حتى توفي سنة 1932.
اقرأ عنه: شوقي شاعر العصر الحديث للدكتور شوقي ضيف، وأبي شوقي لحسين شوقي، وحافظ وشوقي للدكتور طه حسين، وشعراء مصر وبيئاتهم للعقاد، والأدب العربي المعاصر في مصر للدكتور شوقي ضيف.
1 ولد حافظ في "ذهبية" بديروط، حيث كان يعمل والده، وفي سن الرابعة تقريبًا مات هذا الوالد، فانتقلت الأم بطفلها إلى القاهرة، حيث كفله خاله، وقد تعلم حافظ أولًا في الكتاب، ثم التحق بمدارس مختلفة كانت الخديوية آخرها، وحين نقل الخال إلى طنط انتقل معه حافظ، ولم يختلف هناك إلى مدرسة، بل تردد حينًا على المسجد الأحمدي، وهناك اتضح ميله إلى الشعر، وحين ظهر منه عدم الميل إلى مواصلة الدراسة قامت جفوة بينه وبين خاله، فاتجه حافظ إلى المحاماة، التي كانت لا تشترط مؤهلا في القانون حينذاك، ثم التحق بالمدرسة الحربية، وتخرج فيها سنة 1891، وعين في وزارة الحربية، ثم نقل إلى الداخلية، ثم عاد إلى الحربية ورافق الحملة التي توجهت إلى السودان بقيادة "كتشنر"، وهناك اشترك في ثورة قام بها بعض رجال الجيش، وحوكم، وأحيل إلى الاستيداع سنة 1900، ثم طلب إحالته إلى المعاش سنة 1903، فظل شبه مشرد حين عين سنة 1911 في القسم الأدبي بدار الكتب، وظل به حتى سنة 1932، حيث أحيل إلى المعاش، ثم مات في نفس العام.
اقرأ عنه في: حافظ للدكتور عبد الحميد سند الجندي، وحافظ وشوقي للدكتور طه حسين، وشعراء مصر وبيئاتهم للعقاد، والأدب العربي المعاصر في مصر للدكتور شوقي ضيف.
2 ولد بقرية من قرى جرجا سنة 1871، وتعلم في الأزهر، وعمل بعد ذلك مدرسًا، وشارك في الحركة الوطنية وتوفي سنة 1931.
اقرأ عنه في: شعراء مصر وبيئاتهم للعقاد، وفي الأعلام للزركلي جـ7 ص124.
3 ولد في إبيار من قرى الدلنجات سنة 1877، وتلقى مبادئ العلوم في البلدة وتثقف على يد بعض شيوخ الأزهر، وسكن دمنهور بعد وفاة أبيه، وعاش يتكسب بالأدب ونشره، واشتهر بميوله الوطنية والإسلامية، وتوفي سنة 1945.
اقرأ عنه: في الأعلام للزركلي جـ1 ص192.
4 ولد بدمياط سنة 1885 في أسرة متوسطة، ثم انتقل إلى القاهرة، وقد ناهز الثانية والعشرين بعد أن تعلم في مسقط رأسه، وانضم إلى الحزب الوطني، وعمل بالصحافة وحين أصدر ديوان وطنيتي حوكم واتهم بالعيب في ذات الخديوي، وبالتحريض على كراهية الحكومة، وحكم عليه بالحبس سنة حكمًا غيابيًا، إذ كان قد رحل إلى الآستانة، ثم سافر إلى سويسرا، وهناك أصدر جريدة منبر الشرق بالفرنسية، وظل في منفاه حتى سنة 1937، حيث عاد إلى مصر واستأنف إصدار جريدته بالعربية، اقرأ عنه في: مقدمة وطنيتي. وفي شعراء الوطنية لعبد الرحمن الرافعي ص305.
وغيرهم1؛ قد صاغوا شعرهم على طريقة البارودي، وساروا في فنهم على دربه: فقضوا قضاء شبه تام على الطريقة التقليدية الجامدة، وجعلوا السيطرة للاتجاه المحافظ البياني، وذلك بفضل تمكنهم من أسلوب هذا الاتجاه، وكثرة نتاجهم بطريقته، وقوة تمسكهم بتقاليده، ثم لإلحاح دواعي السير على منهجه.
وقد عرفنا أن أهم أسباب ظهور هذا الاتجاه في الفترة السابقة، كانت تتمثل في هذا النوعي الناضج عند بعض المثقفين، الأمر الذي حمل على الالتفات إلى مجد الماضي وتراث الأمس، للاتكاء عليه ومواجهة تحدي الحضارة الغربية به2، ونضيف الآن أن النضال الذي شهدته الفترة التي نسوق عنها الحديث، قد عمق الإحساس بتلك الفترة، وجعل الارتباط بالماضي العربي أقوى والاتكاء على التراث المجيد أشد، وخاصة عند هذه الجمهرة من المثقفين الذين يؤمنون بفكرة الجامعة الإسلامية، ويرتبطون تبعًا لها بالتراث الإسلامي العربي3، ومن هنا كان هذا الشغف البالغ بالاتجاه المحافظ البياني في الشعر، وكانت سيطرته، وأخذ جمهرة الشعراء الكبار به.
فجلهم من المؤمنين بفكرة الجامعة الإسلامية، ومن المرتبطين تبعًا لها بالتراث،
1 مثل مصطفى صادق الرافعي، وأحمد نسيم، وأحمد الكاشف.
2 اقرأ ما كتب عن ذلك في الفصل السابق، المقال 2- إحياء التراث العربي.
3 كان من أبرز هؤلاء: الشيخ محمد عبده، والشيخ علي يوسف، وإبراهيم ومحمد المويلحي، والمنفلوطي.
ومن المفتونين بناء على هذا بنماذج الشعر الرائعة التي خلفها هذا التراث، وهم لذلك كله يسيرون في الاتجاه الذي يعتمد أساسًا على أسلوب هذه النماذج التراثية، ويتخذها مثلًا أعلى للأسلوب الشعري.
1-
المحافظون والنضال:
أما أهم الأغراض التي عالجها أصحاب هذا الاتجاه في هذه الفترة، فهي تلك الأغراض التي بدأ علاجها البارودي بشعره من قبل، وهي تلك التي تشمل الذات وتجاربها، والوطن وقضاياه، والعالم وأهم أحداثه، غير أن شعراء هذه الفترة قد وسعوا تلك الخطوات القصار التي خطاها البارودي في طريق الوطنيات، وبعض الأحداث الكبرى الخارجة على حدود الوطن؛ فهم قد عالجوا كل قضايا مصر ومشكلاتها، وأبرز أحداث العالم الإسلامي وتطوراته، وكثيرًا من شئون العالم الخارجي وأزماته، ومن هنا خاضوا كثيرًا في السياسة المصرية والعربية والإسلامية، كما خاضوا في المسائل الاجتماعية والثقافية والفكرية والأخلاقية، هذا إلى اهتمام كبير بالماضي وأمجاده، تارة ماضي العرب والإسلام، وأخرى ماضي الفراعنة ومصر، وهم في ذلك كله معبرون عن روح هذه الفترة، مستجيبون لطابعها العام وهو طابع النضال من أجل الخلافة وتآمر الغرب عليها، والنضال من أجل بعض الدول الإسلامية وطمع الاستعمار فيها، والنضال من أجل الوطن واستبداد الاحتلال والقصر به، والنضال من أجل المجتمع المصري وما جلبه المستعمر من آفات عليه1.
وهكذا نجد الشعر المحافظ البياني قد خاض معركة النضال، وجال في كل ميادينها فأبلى أحسن البلاء، وكان جهازًا من أهم أجهزة المقاومة، وسلاحًا من أمضى أسلحة معركة النضال التي خاضتها مصر في عهد الاحتلال.
1 اقرأ تفصيل ذلك في: الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر للدكتور محمد حسين جـ1.
من أجل الجامعة الإسلامية:
والملاحظ أن الشعراء جميعًا من أصحاب هذا الاتجاه، قد مدحوا الخليفة التركي ومجدوه على تفاوت بينهم، وواضح أن الدافع الأساسي إلى ذلك، كان اعتبار الخليفة رمزًا لوحدة المسلمين، وشعارًا لفكرة الجامعة الإسلامية التي آمن بها الكثيرون في تلك الأحايين، كضمان لوحدة الشعوب في هذه المنطقة وتكتلها ضد الاستعمار الغربي وعدوانه، فقد ظهر جليًّا تآمر الدول الأوروبية على تركيا، وتطلعها إلى اقتسام الدول التي تؤلف الخلافة الإسلامية، وقد اتضح هذا في مؤتمر برلين سنة 1878، حين اجتمع لحل مشكلات تركيا في البلقان، فعمل على تمزيق ولاياتها بل ابتلاع ما أمكن منها، فاحتلت إنجلترا جزيرة قبرص، واحتلت روسيا بعض أملاك تركيا على البحر الأسود، واضطرت تركيا إلى التخلي عن رومانيا والصرب، ثم احتلت فرنسا تونس سنة 1881، واحتلت انجلترا مصر سنة 1882، ثم هاجمت إيطاليا ليبيا سنة 1911، وحُملت تركيا على التخلي عنها سنة 1912 لتفرغ للثورات المأججة ضدها في البلقان، وأكثر من ذلك قد تهجم على الإسلام والمسلمين بعض الكتاب الغربيين، وأعلن بعضهم ابتهاجه بتوغل فرنسا في قلب الإسلام بأفريقيا، ومن هؤلاء الكتاب:"هانوتو" و"رينان" و"كرومر1".
ومن هنا كانت هذه الحفاوة من جانب الشعراء بالخلافة والخليفة، لا تقديرًا لتريكا أو لذات السلطان التركي، وإنما لهذه الجامعة الإسلامية التي يعتبر الخليفة رمزًا لها2.
1 انظر: الوطنية في شعر شوقي للدكتور أحمد الحوفي ص102، والاتجاهات الوطنية جـ1 ص2، وما بعدها.
2 الاتجاهات الوطنية جـ1 ص11، وما بعدها.
يقول أحمد محرم مخاطبًا أمم الخلافة:
يا آل عثمان من ترك ومن عرب
…
وأي شعب يساوي الترك والعربا
صونوا الهلال وزيدوا مجده علمًا
…
لا مجد من بعده إن ضاع أو ذهبا1
ويقول أحمد شوقي مخاطبًا الخليفة:
أمةُ الترك والعراقُ وأهلو
…
هـ ولبنان والربى والخيامُ
عالم لم يكن لينظم لولا
…
أنك السلم وسلطة والوئام2
ويقول حافظ إبراهيم عن الخلفاء العثمانيين:
وردوا على الإسلام عهد شبابه
…
ومدوا له جاهًا يرجى ويرهب
أسود على البسفور تحمي عرينها
…
وترعى نيام الشرق، والغرب يرقب3
ويقول علي الغاياتي مخاطبًا السلطان عبد الحميد، ومشيرًا إلى نكبة الاحتلال لمصر:
رمتها الحادثات بشر قوم
…
لهم في كل مظلمة شئون
قضت في عصرهم مصر ولولا
…
رجاء فيك ما قرت عيون
فأعزز يا حمى الإسلام شعبًا
…
بعزك لا يذل ولا يهون4
ونظرًا لكون المسألة لم تكن مسألة الخليفة لشخصه، ولا الخلافة العثمانية لذاتها، وإنما كانت رعاية لوحدة الأمم الإسلامية وسلامتها من طمع الغرب العادي؛ لم يقف الشعراء عند تمجيد الخليفة والخلافة، بل مجدوا نظام الأمم الإسلامية المعتدى عليها، وحثوا على عونها وخوض المعارك إلى جانبها، ومن هنا نجد ألمع الشعراء يشهرون بالطليان في عدوانهم على ليبيا سنة 1911، ونراهم يعتبرون هذا العدوان عدوانًا على الوطن، وينادون بمؤازرة إخوانهم في ليبيا، ويدعون إلى الحرب المقدسة إلى جوارهم.
1 ديوان محرم جـ2 ص4.
2 الشوقيات جـ1 ص296.
3 حافظ جـ2ص17.
4 ديوان وطنيتي ص55.
يقول محمد عبد المطلب من قصيدة له في ذلك العدوان الطلياني:
بني أمنا أين الخميس المدرب
…
وأين العوالي والحسام المذرب
إذا اهتز في نصر الحنيف تساقطت
…
نفوس العدا في حده تتحلب
خليل مالي إن تذكرت برقة
…
بجنبي نيران الأسى تتلهب
نعم راعني من نحو برقة صائح
…
يهيب بأنصار الهلال: ألا اركبوا1
ويقول أحمد الكاشف2 في المناسبة نفسها:
المؤمنون إليك مستبقونا
…
لذمارهم وديارهم حامونا
فاحشد كتائبك التي أعددتها
…
للحق أبلج والرجاء متينًا3
ويقول حافظ كذلك في تلك الحرب مصورًا فظائع الطليان ضد العرب، ومنددًا بمباركة الباب للحملة:
كبلوهم قتلوهم مثلوا
…
بذوات الخدر طاحوا باليتامى
ذبحوا الأشياخ والزمنى ولم
…
يرحموا طفلًا ولم يبقوا غلامًا
أحرقوا الدور استحلوا كل ما
…
حرمت "لاهاي" في العهد احترامًا
بارك المطران في أعمالهم
…
فسلوه: بارك القوم علامًا؟
أبهذا جاءهم إنجيلهم
…
آمرًا يلقي على الأرض سلامًا4
ويقول شوقي أيضًا حاثًّا على التطوع بجانب جيوشًا تركبًا، ومعتبرًا كل المسلمين من أبناء الدولة العثمانية:
يا قوم عثمان والدنيا مداولة
…
تعاونوا بينكم يا قوم عثمانا
كونوا الجدار الذي يقوى الجدار به
…
فالله قد جعل الإسلام بنيانًا
هل ترحمون لعل الله يرحمكم
…
بالبيد أهلًا وبالصحراء جيرانًا
1 ديوان عبد المطلب ص25.
2 ولد بقرية القرشية سنة 1878، وكان له اشتغال بالتصوير، وميل إلى الموسيقى، كما كانت له اهتمامات سياسية، وقد اتهم بالدعوة إلى إنشاء خلافة عربية، وألزم بالبقاء في قريته، وظل كذلك حتى مات سنة 1948، اقرأ عنه في: الأعلام للزركلي جـ1 ص120-121.
3 ديوان الكاشف جـ2 ص17.
4 ديوان حافظ جـ2 ص66.
في ذمة الله -أوفى ذمة- نفر
…
على طرابلس يقضون شجعانًا1
وإذا كان بعض الشعراء قد استمد كثيرًا من تحمسه للخليفة والخلافة مما يجري في عروقه من بعض دم تركي، فإن جمهرة الشعراء قد كانوا مدفوعين إلى تمجيد الخلافة والخلفاء، ومؤازرة جنده بفكرة الجامعة الإسلامية، التي كانت هدفًا سياسيًّا نبيلًا في ذلك الحين.
علاقتهم بالحاكم:
والملاحظ كذلك أن أكثر الشعراء المحافظين قد مدحوا الخديو، ومن جاء بعده من الحاكمين، والحق أن معظم هذا المدح كان بدافع تعلق الآمال بالحاكم، ورجاء أن يعمل لخدمة الوطن، فمثلًا كانت أكثر الأمداح التي وجهت إلى عباس الثاني بسبب ما ظهر به في أول عهده من اصطناع الوطنية، ومعاداة الإنجليز، أي أن ما وجه إليه من أمداح -كان في جملته- مشاركة في النضال باعتبار هذا الحاكم قد كان في الفترة التي يمدحه فيها جل الشعراء، يمثل مؤازرة الوطنيين وخصومة الاحتلال، ولذا نرى طائفة الشعراء الوطنيين الصرحاء ينصرفون عنه بمجرد مهادنته للإنجليز، ومعاداته للمناضلين، بل إن بعض هؤلاء الشعراء لم يكتف بالانصراف عنه، وإنما تجاوز ذلك إلى نصحه، ثم إلى نقده، وأخيرًا إلى هجائه في صورة تبلغ حدًّا رائعًا من الشجاعة والجرأة والفدائية.
يقول علي الغاياتي مخاطبًا عباسًا الثاني بعد أن تنكر للمناضلين وهادن الإنجليز.
أعباس هذا آخر العهد بيننا
…
فلا تخش منا بعد ذاك عتابًا
أيرضيك فينا أن نكون أذلة
…
ننال إذا رمنا الحياة عقابًا؟
وأرضيت أعداء البلاد وأهلها
…
وأصليتنا بعد الوفاق عذابًا2
1 الشوقيات جـ1 ص303.
2 وطنيتي ص43-44.
ويقول أحد محرم معرضًا بفساد الخديو:
أضر الناس ذو تاج تولى
…
فما نفع البلاد ولا أفادا
وكان على الرعية شر راعٍ
…
وأشأم مالك في الدهر سادا
فلا هو يرتجى يومًا لنفع
…
يعز به الرعية والبلادا1
ثم ينتقل في قصيدة أخرى من التعريض إلى الهجاء الصريح، راميًا الملوك بالكذب والبعد عن الشرف، فيقول:
كذب الملوك ومن يحاول عندهم
…
شرفًا ويزعم أنهم شرفاء
الحق منتهك المحارم بينهم
…
والعدل وهم والوفاء هباء
رفعوا العروش على الدماء وإنما
…
تبقى السفينة ما أقام الماء2
وإذا كان بعض الشعراء قد استمروا على الاتصال بعباس، ومدحوه حتى بعد انقلابه على الوطنيين، ثم مدحوا من جاء بعده من حكام من أسرة محمد علي، فإن ذلك لا يطعن في شعر المحافظين جملة، ولا يغض من بسالته ونضاليته. وهؤلاء النفر من الشعراء الذين استمروا على صلة بالقصر، أو مدحوا حكامه، قد كانوا ممن خضعوا لظروف شخصية، وانحرفوا معها عن طريق التضحية والفداء، فشوقي -وهو زعيم هذا النفر من الشعراء- قد كان يرتبط بحكام القصر برباط الدم، كما كان مدينًا للقصر بتربيته وتعليمه في الخارج، وجاهه في الداخل3، وغير شوقي من هذا النفر من الشعراء قد كان منهم الطامح إلى منافسة شوقي، ونيل شيء من جاهة الذي ناله عن طريق القصر، كما كان منهم المتقي للأذى في الرزق أو المنصب أو البدن، ثم كان منهم الآمل أن يقدم هؤلاء الحكام للبلاد شيئًا من الخير باعتبارهم القابضين على السلطة في تلك السنين، وقد تكون كل هذه العوامل هي التي حملت شاعرًا كحافظ إبراهيم على أن يمدح عباسًا ومن جاء بعده، وليته ما فعل.
1 ديوان محرم جـ2 ص53-56.
2 المصدر السابق جـ1 ص150-151.
3 الأدب العربي المعاصر في مصر للدكتور شوقي ضيف ص111.
موقفهم من الإنجليز:
أما فيما يتعلق بالسلطة الغاشمة الأخرى التي كانت جاثمة على صدر البلاد في تلك الفترة، وهي سلطة الاحتلال، فيلاحظ أن كبار الشعراء كانوا حيالها في عداء، واستنكار كما كانوا ضدها في نضال، غير أنهم كانوا في عدائهم واستنكارهم ونضالهم طائفتين، طائفة صريحة العداء مستمرة الاستنكار دائمة النضال، وأخرى تريد أن تكون كذلك، ولكن ظروف حياتها، وطبيعتها التي تؤثر السلامة، ولا تقوى على الفداء تحول بينها وبين ما تريد، فهي تجاهر بمعاداة الاحتلال، وتصرح باستنكاره، وتخوض معركة نضاله، ولكن حين تأمن مغبة ذلك، ولا تخاف عاقبة ما تقول، ثم هي تضمر العداء وتكتم الاستنكار وتكف عن النضال حين تتوقع شرًّا يمس المنصب، أو الرزق أو الذات بأذى، بل ربما تتورط هذه الطائفة فيما هو أقبح من ستر الخصومة للاحتلال، وكتم الاستنكار لوجوده وكف النضال لقواه؛ فتصرح أحيانًا بمهادنته والإفادة منه، أو تتردى فيما هو أشنع من ذلك، فتمدحه بعض المرات وتثني عليه.
وقد كان يمثل الطائفة الأولى علي الغاياتي وأحمد محرم، فالغاياتي دائم التنديد بالاحتلال ومخلبه الخديو، دائم الحث للوطنيين على النهوض والثورة، ومن ذلك قوله:
وعداة ملكوا الأمر ولم
…
يحفظوا للشعب في حق ذمامًا
وولاة أقسموا أن يسجدوا
…
كلما رام العدا منهم مراما
رب ماذا يصنع المصري إن
…
جاوز الصبر مدى الصبر فقاما
طال يوم الظلم في مصر ولم
…
نَدْرِ بعد اليوم للعدل مقاما1
ومنه أيضًا قوله مهاجمًا وزارة بطرس غالي الذي ولاه الاحتلال رئيسًا للوزارة:
1 وطنيتي ص41-42.
ألا مطر الله الوزارة نقمةً
…
ولا بلغت مما تروم مراما
تحاول أن تقضي علينا بإثمها
…
ولكن ستلقى دون ذاك أثاما
وزارة خداع أقامته بيننا
…
يد الحاكمين الآمين فقاما1
وأحمد محرم كثير التشهير بكبت الحريات، وضياع البلاد على يد المستعمرين ومخالبهم من الحكام غير الشرعيين، وهو لا يفتأ يدعو إلى الثورة وينادي بالكفاح من أجل الخلاص، ومن ذلك قوله:
يا أمة خاط الكرى أجفانها
…
هبي فقد أودت بك الأحلام
هبي فما يحمي المحارم راقد
…
والمرء يظلم غافلا ويضام
هبي فما يغني رقادك والعدا
…
حول الحمى مستيقظون قيام
غنموا نفائسه وثم بقية
…
ستنيلها أيديهم الأيام
عجبًا لهذا النيل كيف نعقه
…
ويدوم منه البر والإكرام2
وقوله بمناسبة صدور قانون المطبوعات:
صبوا المداد وحطموا الأقلاما
…
واطووا الصحائف وانزعوا الأفهاما
أيسوس ريب الدهر منه أمة
…
تبغي حياة المجد أم أنعاما3
أما الطائفة الثانيةن فقد كان يمثلها شوقي وحافظ، بكل أسف.. أما شوقي فقد كان موقفه يتشكل -غالبًا- بموقف القصر4، باعتباره من كبار موظفيه الذين يؤثرون المحافظة على المنصب والحرص على الجاه، بالإضافة إلى ولائه لحكام القصر الذي تربطه بهم رابطة الدم، وتشده إليهم مآثر عديدة.
ومن هنا نراه -عادة- يهاجم الاحتلال في الوقت الذي يكون فيه القصر جريئًا على الاحتلال، ثم نراه -غالبًا- يسكت على جرائم المحتلين حين يكون القصر مذعورًا منهم، أو على وفاق معهم، ولذا يهاجم شوقي الإنجليز،
1 المصدر السابق ص64.
2 ديوان محرم جـ1 ص85.
3 المصدر السابق جـ2 ص47-48.
4 الاتجاهات الوطنية جـ1 ص195.
ويندد بالاحتلال في تلك الفترة التي كان فيها عباس على وفاق مع الوطنيين، ولم يكن بعد قد هادن المحتلين، ومن أشعار شوقي في تلك الفترة، قصيدته التي يهاجم فيها رياض باشا، على خطبته المشهورة، التي مدح فيها الإنجليز، وهي القصيدة التي يقول فيها:
خطبت فكنت خطبًا لا خطيبًا
…
أضيف إلى مصائبنا الجسام
لهجت بالاحتلال وما أتاه
…
وجرحك منه لو أحسست دام
أراعك مقتل من مصر دام
…
فقمت تزيد سهماً في السهام1
ومن شعره في بعض أوقات الأمن وضمان السلامة، قصيدته في رحيل "كرومر" التي يقول فيها:
لما رحلت عن البلاد تشهدت
…
فكأنك الداء العياء رحيلا
أنذرتنا رقًّا يدوم وذلة
…
تبقى وحالًا لا ترى تحويلًا
أحسبت أن الله دونك قدرة
…
لا يملك التغيير والتبديلا2
ولكنا نرى شوقي يسكت عن حادثة دنشواي، فلا يقول شعرًا فيها إلا بعد عام من مأساتها، وذلك حين يأمن مغبة القول، أو حين يأمن القصر سوء عاقبة الحديث، أي بعد أن ذهب "كرومر" الطاغية الشديد العداء لعباس؛ وجاء "غورست" المعتمد البريطاني المهادن المتساهل، فهنا نسمع شوقي يقول ميميته التي يتحدث فيها عن ضحايا دنشواي، ويطالب بالإفراج عن مسجونيهم، وفيها يقول:
مرت عليهم في اللحود أهلةٌ
…
ومضى عليهم في القيود العام
كيف الأرامل فيك بعد رجالها
…
وبأي حال أصبح الأيتام
"نيرون" لو أدركت حكم كرومر
…
لعرفت كيف تنفذ الأحكام3
وليس من الممكن الاعتذار عن شوقي في سكوته عامًا عن الحديث عن مأساة دنشواي، مهما قيل: إنه كان لم يلهم شعرًا يومها، أو أنه كان خارج
1 الشوقيات جـ1 ص259.
2 المصدر السابق جـ1 ص209-210.
3 المصدر نفسه جـ1 ص301.
مصر وقت حدوثها1؛ فالشيء الذي لا شك فيه أن الحادثة كانت من البشاعة بحيث تثير كل من له حظ ولو ضئيل من الإحساس، فضلًا عن شاعر كبير، ويستوي في ذلك أن يكون الشاعر في مصر أو خارج مصر، بل ربما كان وجوده يومها خارج البلاد، أدعى لتأثره وهز وجدانه؛ فمن جرب البعد عن الوطن يعرف كيف تهزه مآسيه أضعاف ما تهزه وهو على أرض بلاده، وحسبنا أن نعرف أن الكاتب البريطاني "برناردشو"، قد هزته حادثة دنشواي، فكتب منددًا بجناتها، مدافعًا عن المصريين فيها، وهو أجنبي، بل هو من أبناء أمة الاحتلال الآثمة في الحادث المشئوم2.
ولنفس السبب الذي أسكت شوقي عامًا عن حادث دنشواي، نراه يسكت مدة عن رثاء مصطفى كامل؛ فلا يرثيه يوم وفاته كغيره من كبار الشعراء، ولا يرثيه بعد أيام تسمح بعمل قصيدة في رثاء صديق ومجاهد كبير، وإنما يرثيه بعد نحو أسبوعين3، ولا يعرض في رثاء لوطنية المرئى ومحاربته للاحتلال والاستبداد، وإنما يدير الحديث حول شبابه الذي ذوى، ويردد تكهنات الناس عن سبب وفاته، ويعدد من أمجاده القدرة الخطابية، والدعوة إلى الإصلاح الخلقي والعلمي، وما إلى ذلك، وفي هذا يقول:
أبكي صباك ولا أعاتب من جنى
…
هذا عليه كرامة للجاني
يتساءلون أبا السلال قضيت أم
…
بالقلب أم هل مت بالسرطان
الله يشهد أن موتك بالجحا
…
والجد والإقدام والعرفان
إن كان للأخلاق ركن قائم
…
في هذه الدنيا فأنت البانى
هل قام قبلك للمدائن فاتح
…
غاز بغير مهند وسنان
يدعو إلى العلم الشريف وعنده
…
أن العلوم دعائم العمران4
1 وطنية شوقي للدكتور أحمد الحوفي ص 169-170.
2 جاء حديث برناردشو عن دانشواي في مقدمة مسرحيته "جزيرة جون بول الأخرى" john bull s other island.
انظر: برناردشو للأستاذ أحمد زكي ص 193، وما بعدها.
3 وطنية شوقي ص 101.
4 الشوقيات جـ3 ص 157-158.
والسبب في موقف شوقي من رثاء مصطفى كامل واضح، وهو ما كان من معاداة عباس للشاب الثائر، ثم ما كان من سخط الإنجليز عليه، فلم يرد شوقي -فيما يبدو- أن يرثي مصطفى كامل رثاء وطنيا، حتى لا يجلب على نفسه سخط الخديوي، وحتى لا يثير مشكلات تمس ما بين القصر والإنجليز من وفاق، ومن هنا تردد شوقي أولًا، ثم دبج هذا الرثاء "الدبلوماسي" الذي لم يورد فيه أهم خصائص مصطفى كامل كثائر وطني، ورائد من أبرز رواد الحركة المقاومة للاحتلال.
وبناء على ولاء شوقي للقصر، حينذاك، وتشكل موقفه بطابع علاقته به، يفسر موقفه من عرابي، وهجاؤه له بثلاث قصائد بعد عودته من المنفى، حيث يقول في الأولى:
صغار في الذهاب وفي الإياب
…
أهذا كل شأنك يا عرابي
عفا عنك الأباعد والأداني
…
فمن يعفو عن الوطن المصاب1
ويقول في الثانية:
أهلًا وسهلًا بحاميها وفاديها
…
ومرحبًا وسلامًا يا عرابيها
وبالكرامة يا من راح يفضحها
…
ومقدم الخير يا من جاء يخزيها2
ويقول في الثالثة:
عرابي كيف أوفيك الملاما
…
جمعت على ملامتك الأناما
فقف بالتل واستمع العظاما
…
فإن لها كما لهمو كلامًا3
وليس من السهل الاقتناع بأن الدافع لشوقي على هذا الهجاء، كان حب مصر، وكراهية ما ترتب على حركة عرابي من احتلال4؛ لأن الدافع لو كان
1 وطنية شوقي ص215-216.
2 المصدر السابق ص217-220.
3 المصدر نفسه ص220-225.
4 المصدر نفسه ص221-231.
ذلك، لرأينا الشاعر يهجو توفيقًا الذي استدعى الإنجليز، واستند على حرابهم ليحكم مصر قهرًا.
ولا يبرر سخط شوقي على عرابي، ما كان من سخط بعض كبار الوطنيين عليه، مثل مصطفى كامل1؛ فالواقع أن مصطفى كامل كان يصدر عن رأي سياسي، وفكرة، وطنية شكلت كل سياسته، فهو قد سخط على عرابي لما ترتب على حركته من شر للوطن، وفي الوقت نفسه سخط على القصر حين ترتب علىموقفه من ضر آذى الوطن، أي أنه لم يكن يصدر عن شعور شخصي، وعلاقة ذاتية كما فعل شوقي، ولذا لا يبرر موقف شوقي بموقف مصطفى كامل؛ لأن الباعث مختلف في كم الموقفين.
أما تورط شوقي أحيانًا في مدح الإنجليز تبعًا لتشكل موقفه بموقف القصر، أو سيره في طريق المصلحة الشخصية؛ فقد كان منه قصيدته بمناسبة تأجيل حفلة تتويج الملك إدوارد السابع سنة 1902، تلك القصيدة التي حاول فيها أن يستنبط عبرة الدهر في إخلاف الظنون، وإرغام القوى على المقدور، وخضوع الكبار لأصغر لمسات القضاء، حيث حال دون تتويج الملك دمل أصابه.
ولكن الشاعر لا يكتفي بذلك بل يتورط في تمجيد الملك والإنجليز حيث يقول:
إلى موكب لم تُخرج الأرض مثله
…
ولن يتهادى فوقها من يقاربه
إذا سار فيه سارت الناس خلفه
…
وشدت مغاوير الملوك ركائبه2
ومن ذلك الشعر المتورط كذلك في مدح الإنجليز قول شوقي في قصيدته اللامية التي نظمها بعد عزل عباس، وتولية حسين كامل سنة 1914، حيث يتحدث فيها عن الإنجليز على هذا النحو:
حلفاؤنا الأحرار إلا أنهم
…
أرقى الشعوب عواطفًا وميولًا
أعلى من الرومان ذكرًا في الورى
…
وأعز سلطانًا وأمنع غيلًا
لما خلا وجه البلاد لسيفهم
…
ساروا سماحًا في البلاد عدولًا3
1 المصدر السابق والصفحة نفسها.
2 الشوقيات جـ1 ص76.
3 المصدر السابق ص215.
وأخيرًا منه مقدمة قصيدته في ذكرى شكسبير سنة 1916، حيث يقول عن الإنجليز:
يا جيرة المنش حلالكم أبوتكم
…
ما لم يطوق به الأبناء آباء
ملك يطاول ملك الشمس، عزته
…
في الغرب باذخة في الشرق قعساء
تأوي الحقيقة منه والحقوق إلى
…
ركن بناه من الأخلاق بناء
أعلاه بالنظر العالي ونطقه
…
بحائط الرأي أشياخ أجلاء
وحاطه بالقنا فتيان مملكة
…
في السلم زهر رُبًا في الروع أرزاء
يستصرخون ويرجى عز نجدتهم
…
كأنهم عرب في الدهر عرباء
وكان ودهم الصافي ونصرتهم
…
للمسلمين وراعيهم كما شاءوا1
على أن ذلك ليس معناه تجريح وطنية شوقي، وإنما معناه فقط أن الرجل لم يكن في وطنيته فدائيا أو واضح الشجاعة، فكانت وطنيته تأخذ مظهرا هادئا فيه أحيانا كثير من السلبية، وفيه أحيانا أخرى بعض التقية أو النفعية.
على أن وطنية شوقي التي لا شك فيها قد تجلت حين انطلق من قيد القصر، بعد عودته من المنفى ثورة 1919، وفي هذا الشعر الرائع الذي صبه حمدًا على الاحتلال وأعداء الوطن، وناضل به من أجل تحرير مصر وخير المصريين، وقد مضت بعض نماذج هذا الشعر، ومن أروع ما تتجلى فيه وطنية شوقي، ذاك الشعر التاريخي الممتاز، الذي يصور فيه أمجاد مصر وتاريخها المشرق، من مثل قوله في المصريين القدماء، وما خلفوه من آثار:
قل لبان بني فشاد فغالى
…
لم يجز مصر في الزمان بناء
ليس في الممكنات أن تنقل الأجبال
…
شما وأن تنال السماء
زعموا أنها دعائم شيدت
…
بيد البغي ملؤها ظلماء
دمر الناس والرعية في تشييـ
…
دها والخلائق الأسراء
أين كان القضاء والعدل والحكمة
…
والرأي والنهي والذكاء
1الشوقيات جـ2 ص5.
وبنو الشمس من أعزة مصر
…
والنجوم التي بها يستضاء
إن يكن غير ما أتوه فخارٌ
…
فأنا منك يا فخار براء1
أما حافظ، فقد كانت وطنيته تُسفر وتنطلق، حين يكون بعيدًا عما يحملها التستر والتقيد، ثم هي تحتجب وتكبل حين تفرض عليه الظروف أن يحافظ على لقمة العيش وأمن السرب، فهو في السنوات الأولى من حياته الشعرية، قد كان حرًّا من قيد الوظيفة، منذ أن أحيل على المعاش من عمله في الجيش سنة 1903، إلى أن عين في دار الكتب سنة 1911، ولذا نراه في هذه السنوات الطليقة يلهب ظهر الاحتلال بأشعار وطنية كالسياط النارية، فيذيع في حادث دنشواي قصيدته المشهورة التي يقول فيها مخاطبًا الإنجليز، في مرارة وسخرية:
خفضوا جيشكم وناموا هنيئًا
…
وابتغوا صيدكم وجوبوا البلادا
وإذا أعوزتكم ذات طوق
…
بين تلك الربا فصيدوا العبادا
إنما نحن والحمام سواء
…
لم تُغادر أطواقنا الأجيادا
لا تُقيدوا من أمة بقتيل
…
صادت الشمس نفسه حين صادا
ليت شعري أتلك محكمة التفتيش عادت أم عهد نيرون عادا2
ثم يذيع قصيدة ثانية في استقبال "كرومر" يشير فيها إلى فظاعة الحادث المشئوم، فيقول عن ضحايا دنشواي:
جلدوا ولو منيتهم لتعلقوا
…
بجبال من شنقوا ولم يتهيبوا
شنقوا ولو منحوا الخيار لأهلوا
…
بلظى سياط الجالدين ورحبوا
يتحاسدون على الممات وكأسه
…
بين الشفاه وطعمه لا يعذب3
ثم يتبع تلك القصيدة بأخرى حين يفد على مصر المعتمد البريطاني الجديد "غورست"، وفي تلك القصيدة يشير إلى مأساة دنشواي أيضًا، فيقول:
قتيل الشمس أورثنا حياة
…
وأيقظ هاجع القوم الرقود
1 الشوقيات جـ1 ص2-3.
2 ديوان حافظ جـ2 ص20-21.
3 المصدر السابق ص24.
فليت كرومرًا قد دام فينا
…
يطوق بالسلاسل كل جيد
ويتحف مصر آنًا بعد آن
…
بمجلود ومقتول شهيد
لننزع هذه الأكفان عنا
…
ونبعث في العوالم من جديد1
وهو في كل تلك القصائد يندد بالاحتلال، وينشر فظائعه مرة بالسخرية، ومرة بغير السخرية.
وحين يموت مصطفى كامل، يرثيه بقصيدته المشهورة، التي يشير فيها إلى إيقاظ الفقيد للشعور الوطني، وإحيائه لآمال الوطنيين في الحرية، وكون موته راحة للاحتلال، فيقول:
أيا قبر هذا الضيف آمال أمة
…
فكبر وهلل والق ضيفك جاثيا
هنيئًا لهم فليأمنوا كل صائح
…
فقد أسكت الصوت الذي كان عاليًا
ومات الذي أحيا الشعور وساقه
…
إلى المجد فاستحيا النفوس البواليا2
ثم يتبع حافظ تلك القصيدة بأخرى في حفلة الأربعين، وفيها يندد بطاغية الاستعمار كرومر، ويشيد بجهاد الفقيد لتحطيمه، فيقول:
زين الشباب وزين طلاب العلا
…
هل أنت بالمهج العزيزة داري
ثم وامح ما خطت يمين كرومر
…
جهلا بدين الواحد القهار
ما زلت تختار المواقف وعرة
…
حتى وقفت لذلك الجبار
وهدمت سورًا قد أجاد بناءه
…
فرعون ذو الأوتاد والأنهار3
وحين تحل الذكرى السنوية لوفاة مصطفى كامل يذيع حافظ قصيدة ثالثة، يقول فيها عن المحتلين وألاعيبهم:
وللسياسة فينا كل آونة
…
لون جديد وعهد ليس يحترمُ
ماذا يريدون لا قرت عيونهم
…
إن الكنانة لا يطوى لها علم
كم أمة رغبت فيها فما رسخت
…
لها -على حولها- في أرضها قدم
ما كان ربك رب البيت تاركها
…
وهي التي بحبال منه تعتصم4
1 ديوان حافظ جـ2 ص33-34.
2 المصدر السابق ص149-150.
3 المصدر نفسه ص151-155.
4 المصدر نفسه ص162.
ثم ينتهز كل فرصة ممكنة ليشهر بالاحتلال، ويهاجم الإنجليز ومن يمالئونهم، يفعل ذلك مثلًا في قصيدة ينشئها بمناسبة الاحتفال بالعام الهجري1، وفي قصيدة أخرى بمناسبة أزمة مد امتياز قناة السويس2، كما يفعله في قصائد أخرى لا يسنى خلالها وطنه ومأساته.
كل هذا نراه من حافظ في السنوات الأولى من حياته الشعرية، حين كان حرًّا من قيد الوظيفة، طليقًا من قيود الحرص على دفع الأذى عن الذات، ولقمة العيش، أما حين تسند إليه وظيفة في دار الكتب سنة 1911، وحين يجد نفسه مضطرًّا إلى المحافظة على تلك الوظيفة، بعد ما عاش شبه مشرد يستعين برعاية الأصدقاء من الموسرين والزعماء؛ فإنه يسكت تقريبًا عن مهاجمة الاحتلال3. بل إنه قد تورط كما تورط شوقي، فأثنى على الإنجليز في بعض المناسبات التي لابست فترات خوفه على نفسه أو رزقه، ومن ذلك قصيدتاه4 في رثاء الملكة "فيكتوريا" سنة 1901، ثم في تتويج الملك "إدوارد"؛ فقد كان حافظ خلال تلك الفترة في الاستيداع، عقوبة له على اشتراكه في حركة تمرد قام بها بعض الضباط المصريين بالسودان، وفي القصيدة الأولى يقول للملكة "فيكتوريا":
أمالكة البحار ولا أبالي
…
إذا قالوا تغالي في المقال
فمثل علاك لم أر في المعالي
…
ولا تاجًا كتاجك في الجلال5
1 ديوان حافظ جـ2 ص41.
2 المصدر السابق ص59.
3 الاتجاهات الوطنية للدكتور محمد حسين جـ1 ص212. والأدب العربي المعاصر للدكتور شوقي ضيف ص103.
4 الأولى في ديوان حافظ جـ2 ص16 وما بعدها، والثانية في ديوانه جـ1 ص18، وما بعدها.
5 انظر: ديوان حافظ جـ2 ص137.
وفي القصيدة الثانية يقول حافظ الملك "إدوارد":
"إدوارد" دمت ودام الملك في رغد
…
ودام جندك في الآفاق منتصرا
هم يذكرونك إن عدوا عدولهم
…
ونحن نذكر إن عدوًا لنا عمرا
كأنما أنت تجري في طريقته
…
عدلًا وحلمًا وإيقاعًا بمن أشرا1
ومن شعر حافظ، المتورط في مدح الإنجليز، قوله في قصيدة للسلطان حسين كامل، حين ولى سنة 1914:
ووال القوم إنهم كرام
…
ميامين النقيبة أين خلوا
لهم ملك على التايمز أضحت
…
وليس لهم إذا فتشت مثل2
ومن شعره المتورط كذلك في مدح الإنجليز، قصيدته في مقدم "مكمهون" التي يقول فيها سنة 1915:
أنت أطباء الشعو
…
ب وأنبل الأقوام غايه
أنى حللتم في البلا
…
د لكم من الإصلاح آيه3
وطبيعي أننا لا نريد أن نشكك في وطنية حافظ، ونضاله من أجل الوطن، وإنما نريد فقط أن نقرر أن الرجل لم يكن صريح الوطنية دائمًا، ولم يكن واضع العداء للإنجليز في كل الحالات؛ فقد كان سلوكه في هذا السبيل يتشكل بظروفه ووضعه، مما اضطره إلى أن يداري حينًا، ويتقي حينًا، ويتورط فيما هو أقبح من المدارة والتقية في بعض الأحايين، ولذا كان مما يثير التساؤل أن نرى الإنجليز يتركونه آمنًا في مصر، على حين ينفون شوقيًا بضع سنين4، أيام الحرب العالمية الأولى، ولذا أيضًا رأينا حافظًا يعود إلى مهاجمة الإنجليز والاحتلال حين فك من إسار الوظيفة وترك دار الكتب، كما رأيناه لا يجرؤ
1 المصدر السابق جـ1 ص20.
2 المصدر نفسه جـ1 ص67-71.
3 ديوان حافظ جـ2 ص82.
4 أثار هذا التساؤل A.J> Abery Hafiz and Shauqui.
على نشر ما قال من شعر في ثورة19 إلا في منشورات سرية، ثم عاد فنشره في الصحف بعد سنوات حين أمن مغبة هذا النشر1.
ومهما يكن من أمر، فالذي لا شك فيه، أنه مثل شوقي؛ حيث لا يمكن أن يعتبر واحد منهما شاعر الوطنية الفرد، أو شاعرها الأول، وإنما هناك شعراء أقل من شوقي وحافظ حظًّا من الشهرة، كانوا في ميدان الوطنية أشد استبسالًا وأقوى نضالًا، وأكثر مصارحة وأعظم شجاعة. هذا، وإن كان شوقي أعظم شعراء عصره فنًّا، وحافظ أكثرهم تصويرًا لآلام الشعب.
في الإصلاح السياسي:
هذا فيما يتعلق بالنواحي السياسية في ميادينها الكبرى، المتصلة بالخلافة والقصر والإنجليز، على أن هناك ميادين سياسية أخرى، قد جال فيها هؤلاء الشعراء المحافظون وناضلوا، وهي ميادين الإصلاح السياسي، والمطالبة بالدستور والشورى وحرية الشعب وما إلى ذلك، وقد كان هؤلاء الشعراء يتحينون كل الفرص للإسهام بشعرهم في تلك الميادين، مطالبين بالإصلاح في كل الجوانب.
يقول علي الغاياتي لشوقي، حين نشر في المؤيد سنة 1908، أن الدستور لا يستطيع عباس أن يصدره إلا برضى الإنجليز:
يا شاعر النيل العظيم أما ترى
…
للنيل إلا أسوأ الحالات
ما كنت أحسب أن مثلك وهو في
…
شعراء مصر صاحب الآيات
يجني على الشعب الكريم جناية
…
ويود أن يبقى مع الأموات
أو أنت تروي عن سواك حديثه
…
كيما نرى الدستور ليس بآت2
ويقول حافظ من قصيدته في الاحتفال بالعام الهجري سنة 1909 "1327":
ويا طالبي الدستور لا تسكتوا ولا
…
تبيتوا على يأس ولا تتضجروا
1 ديوان حافظ جـ2 ص87.
2 وطنيتي ص58.
فما ضاع حق لم ينم عنه أهله
…
ولا ناله في العالمين مقصر1
ويقول شوقي عن الشورى والمساواة في همزيته النبوية:
داء الجماعة من أرسطاليس لم
…
يوصف له حتى أتيت دواء
فرسمت بعدك للعباد حكومة
…
لا سوقة فيها ولا أمراء
الله فوق الخلق فيها وحده
…
والناس تحت لوائها أكفاء
والدين يسر والخلافة بيعة
…
والأمر شورى والحقوق قضاء2
من أجل المجتمع:
فإذا تركنا ميادين السياسة، وانتقلنا إلى الميادين الأخرى، وجدنا الشعر قد خاض كل معاركها النضالية وأبلى أحسن البلاء، فأسهم في قضايا وحدة المجتمع وإنهاضه وتحريره، وشارك في قضايا التعليم ونشره وتمصيره، كما ساند غير هذه، وتلك من قضايا مصر في ذلك الحين3، فيوم أطلت الفتنة برأسها كالأفعى، تحاول أن تفرق وحدة الأمة حين قتل بطرس غالي، واتخذ الاحتلال وأذنابه من قتل مسيحي بيد مسلم منفذًا لبث سموم التفرقة بين المصريين؛ حينذاك انبرى الشعراء يعملون على تنقية الجو من السموم، ويناضلون من أجل جمع الشمل ووحدة الصف، وفي ذلك يقول علي الغاياتي:
وما أمة القرآن في مصر أمة
…
ترى أمة الإنجيل أبغض جيلًا
فإنّا وأنتم إخوة في بلادنا
…
أقمنا على دين السلام طويلًا4
ويقول إسماعيل صبري:
دين عيسى فيكم ودين أخيه
…
أحمدٍ، يأمراننا بالإخاء
مصر أنتم ونحن، إلا إذا قا
…
مت بتفريقنا دواعي الشقاء5
1 ديوان حافظ جـ2 ص42.
2 الشوقيات جـ1 ص26.
3 الاتجاهات الوطنية جـ1 ص223، وما بعدها.
4 وطنيتي ص113.
5 ديوان إسماعيل صبري ص180.
ويقول شوقي:
نُعلي تعاليم المسيح لأجلهم
…
ويوقرون لأجلنا الإسلاما
الدين للديان جل جلاله
…
لو شاء ربك وحد الأقواما1
ويقول أحمد محرم:
تعالوا إلينا إنما نحن إخوة
…
وإني رأيت الأخذ بالرفق أحزما
تفرقنا الأديان والله واحد
…
وكل بني الدنيا إلى آدم انتمى2
ويقول حافظ:
قد ضمنا ألم الحياة وكلنا
…
يشكو فنحن على السواء وأنتم
إنى ضمين المسلمين جميعهم
…
أن يخلصوا لكم إذا أخلصتم3
وحين دعا المصلحون إلى إنشاء جامعة مصرية لتصنع للبلاد رواد الفكر، تحمس الشعراء لهذه الدعوى، وآزروها، وناضلوا مع المناضلين في سبيلها، يقول حافظ في إحدى قصائده أثناء الحض على إنشاء الجامعة سنة 1907، وهو يتهكم باهتمام الإنجليز بالمدارس الأولية فحسب:
ذر الكتاتيب منشيها بلا عدد
…
ذر الرماد بعين الحاذق الأرب
فأنشأوا ألف كتاب وقد علموا
…
أن الكواكب لا تغني عن الشهب
فما لكم أيها الأقوام جامعة
…
إلا بجامعة موصولة السبب4
وحين يحمل الاستعمار -وبعض المخدوعين في دعواه- على اللغة العربية، يخوض الشعراء معركة الدفاع عنها والنضال في سبيل سيادتها، وفي ذلك يقول حافظ تائيته المشهورة، التي منها على لسان العربية:
1 الشوقيات جـ3 ص144.
واقرأ إشادة بدور شوقي في هذا التوفيق في: Ahmed Ahawki Prince des Poetes; A. El- Gomayel. p. 21.
2 ديوان محرم جـ2 ص89-94.
3 ديوان حافظ جـ1 ص291.
4 المصدر السابق ص265-267.
وسعِْتُ كتاب الله لفظًا وغاية
…
وما ضقت عن آي به وعظات
فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة
…
وتنسيق أسماء لمخترعات1
وحين دعا قاسم أمين دعوته المشهورة إلى تحرير المرأة، شارك الشعراء في تلك المعركة ما بين مؤيد ومتحفظ ورافض، وهم جميعًا مع ذلك كله مشاركون في قضية حية مناضلون في سبيل ما يعتقدون أنه الخير.
يقول شوقي في رثاء قاسم أمين:
ماذا رأيت من الحجاب وعسره
…
فدعوتنا لترفق ويسار
رأي بدا لك لم تجده مخالفًا
…
ما في الكتاب وسنة المختار
إنَّ الحجاب سماحة ويسارة
…
لولا وحوش في الرجال ضوار2
ويقول محرم:
أغرك يا أسماء ما ظن قاسم
…
أقيمي وراء الخدر فالمرء واهم
تضيقين ذرعًا بالحجاب وما به
…
سوى ما جنت تلك الرؤى والمزاعم
سلام على الإسلام في الشرق كله
…
إذا ما استبيحت في الخدور الكرائم3
ويمضي الشعراء مشاركين في كل حركات الإصلاح مناضلين في كل ميادينه الأخلاقية والاجتماعية والثقافية، بل إن بعضهم يبالغ في ذلك حتى ليشارك بشعره في تسجيل أكثر ما يتصل بالمجتمع من أحداث؛ من حريق كبير يفزع المواطنين ببعض البلاد4، إلى ملجأ للأطفال ينشأ في إحدى العواصم5، ما دامت المشاركة بالشعر إسهامًا في قضية اجتماعية إنسانية تمس المواطنين، والحق أن حافظًا كان بطل هذا الميدان، فكم له من شعر أنشده في حفلات أقيمت لجمع التبرعات للمنكوبين، أو في افتتاح مؤسسة للمشردين، وكم له من
1 المصدر نفسه جـ1 ص253.
2 الشوقيات جـ3 ص78.
3 ديوان محرم جـ2 ص63-65.
4 ديوان حافظ جـ1 ص250، وما بعدها.
5 المصدر السابق ص283.
قصائد في الحث على تخفيف مصاب المصابين، ومسح دموع الباكين، ومن شعره في هذا الباب قصيدته في حريق ميت غمر سنة 1902، التي يقول فيها:
سائلوا الليل عنهم والنهارا
…
كيف باتت نساؤهم والعذارى
كيف أمسى رضيعهم فقد الأم
…
وكيف اصطلى مع القوم نارا
كيف طاح العجوز تحت جدار
…
يتداعى وأسقف تتجارى
رب إن القضاء أنحى عليهم
…
فاكشف الكرب واحجب الأقدارا
ومر الناس أن تكف أذاها
…
ومر الغيث أن يسيل انهمارا1
ومنه قوله في حفل جمعية رعاية الطفل سنة 1913:
هذا صبي هائم
…
تحت الظلام هيام حائر
أبلى الشقاء جديده
…
وتقلمت منه الأظافر
فانظر إلى أسماله
…
لم يبق منها ما يظاهر
هو لا يريد فراقها
…
خوف القوارس والهواجر
إني أعد ضلوعه
…
من تحتها والليل عاكر2
"ب" المحافظون بين الإسلاميات والذاتيات والمناسبات:
وهكذا نرى -من الناحية الموضوعية- أن هؤلاء الشعراء المحافظين قد توسعوا كثيرًا في هذا الباب الذي فتحه البارودي، وعالجه من قبله صالح مجدي، وهو باب القضايا الوطنية والإصلاحية، بل إن بعض الشعراء المحافظين أوشكوا أن يجعلوه جل شعرهم، على أنهم في الوقت نفسه لم يسنوا ميادين أخرى من ميادين القول، أهمها ميادين الأمجاد الإسلامية، والتجارب الذاتية، والمناسبات المحلية والعالمية، فقد قالوا في هذه الجوانب على تفاوت بينهم، فهم مختلفون في حظهم من هذا الشعر غير النضالي، وفي اللون الذي يغلب على شعر كل منهم حين يبعد عن ميدان النضال، فشوقي مثلًا يدير كثيرًا منه حول الحب، والخمر
1 ديوان حافظ جـ1 ص250.
2 المصدر السابق جـ1 ص292-293.
والطبيعة، وما إلى ذلك مما تسمح به ظروفه المرفهة الناعمة، وحافظ يجيد في الشكوى من الدهر وتصوير قسوة الحياة، ونحو ذلك مما يتسق وطبيعة عيشته القاسية المجهدة، ومحرم يتألق في تسجيل الأمجاد الإسلامية، على حين يبرع الكاشف في رسم الصور الاجتماعية والأخلاقية.. يقول شوقي في حفل راقص أقيم بقصر عابدين، متحدثًا عن الخمر والنساء واللهو:
طال عليها القدم
…
فهي وجود عدم
قد وئدت في الصبا
…
وانبعثت في الهرم
بي رشأ ناعم
…
ما عرف العمر هم
تسأل أترابها
…
مومئة بالعنم
أي فتى ذلكن
…
العربي والعلم
يشربها ساهرًا
…
ليلته لم ينم
قلن تجاهلته
…
ذاك رب القلم1
ويقول حافظ من قصيدة له، يتحدث فيها عن بؤسه وسوء حظه، وتمنيه للموت:
سعيت إلى أن كدت أنتعل الدما
…
وعدت وما أعقبت إلا التندما
فهبي رياح الموت نكبًا وأطفئي
…
سراج حياتي قبل أن يتحطما
فما عصمتني من زماني فضائلي
…
ولكن رأيت الموت للحر أعصما2
ويقول الكاشف في الفلاح المصري:
إذا استبقيت في الدنيا حبيبًا
…
فخير أحبتي فلاح مصرا
كريم يملأ الدنيا ثراء
…
ولا يلقى سوى الإجحاف أجرا
فقير ما أراه شكا افتقارا
…
ولو يجزى على تعب لأثرى
فمحراث يشق الأرض عندي
…
ويخرج من ثراها الخصب تبرا
كسيف في يد الجندي لاقى
…
به جيشًا وحصنًا مشمخرا3
1 الشوقيات جـ2 ص111-112.
2 ديوان حافظ جـ2 ص114-115.
3 ديوان الكاشف جـ1 ص104.
ويقول في الفلاحة حاملة الجرة:
حاملة الجرة تمشي بها
…
منيرة الطلعة وسط الزحام
كراية حمراء معقودة
…
لقائد سار بجيش لهام
لولا اعتدال العنق من تحتها
…
وهزة العطف بها والقوام
أرقتها من ثقلها مشفقًا
…
ولو شكا أهلك حر الأوام
يا مي ما أغناك عن جرة
…
لو شئت كانت في عيون الأنام
وأنت لو حملتها عمدة
…
لنال تشريفًا وأعلى مقام
عساك تبغين بها رأفة
…
يا مي إرواء صوادي الغرام1
وإلى جانب الشعر الوطني الإسلامي والاجتماعي والذاتي، يكثر عند الشعراء المحافظين شعر المناسبات والمجاملات، فهم قد مدحوا، ورثوا، وهنأوا، وقرظوا، وعاتبوا، وداعبوا، وهجوا، وذلك على تفاوت بينهم بطبيعة الحال.
كما أنهم أسهموا بشعرهم في تسجيل بعض الأحداث العالمية الكبرى كزلزال مدمر2، أو حرب ضروس3، ونحو ذلك. كل هذا مع بقاء الملاحظة التي سبق تسجيلها في أول هذا الحديث، وهي أن طابع النضال في جميع مجالاته، كان طابعًا بارزًا في شعر هؤلاء المحافظين، فهم قد كانوا بحق مستجيبين للطابع العام لتلك الفترة، وهو طابع النضال، فقد ناضلوا من أجل الجامعة الإسلامية لمواجهة أطماع الغرب في ذلك الحين، وناضلوا من أجل الوطن وتخليصه من سيطرة القصر وقيود الاحتلال، كما ناضلوا من أجل رقى المجتمع، وإنهاضه مما فرض عليه من تخلف، وهم قد أبلوا -في جملتهم- أحسن البلاء، حين استخدموا الشعر سلاحًا في معركة النضال.
1 المصدر السابق ص131.
2 ديوان حافظ جـ1 ص215.
3 الشوقيات جـ1 ص30-48.
"جـ" عمود الشعر دعامة المحافظين:
والحق أن الشعراء المحافظين قد انتقلوا بالشعر تمامًا من طور الجمود، والمحاكاة الذي تقوقع فيه خلال عهود التخلف، إلى طور التصرف والابتكار، الذي بدأ يتلمسه مع محاولات الباوردي، فلم يعد مع هؤلاء الشعراء المحافظين مجال لهذا الشعر الركيك المتهافت، الذي كان كرفات بلا روح، في أكفان مطرزة بالمحسنات اللفظية والألاعيب اللغوية، بل إن الشعر قد وصل مع هؤلاء المحافظين إلى أسمى الدرجات من حيث جلال الصياغة، وروعة البيان، كما عبر بنجاح عن تجارب الشعراء الذاتية، وقضايا وطنهم الحية، وسجل بعض أحداث عالمهم الكبيرة، وأبرز ما يسجل له بالثناء، إسهامه في معركة النضال، التي تعددت ميادينها ما بين سياسة واجتماعية وثقافية، مما يدل على استجابة الشعراء لروح العصر، ووعيهم لمشكلاته وإدراكهم لدور الفن في خدمة الحياة، ولدور الشعر بخاصة في مراحل النضال.
ولكن الحق أيضًا أن هؤلاء الشعراء المحافظين قد وقفوا بالفن الشعري عند مرحلة اتخاذ النماذج القديمة الجيدة مثلًا أعلى. فهم -إلى معارضتهم العديدة لشعراء أقدمين- قد حافظوا إلى حد كبير، على التقاليد الشعرية المتصلة بمنهج القصيدة، وأسلوب الشعر ومعانيه وصوره، وبهذا وقفوا عند تلك المرحلة التي وصل إليها البارودي، والتي كانت مرحلة ضرورية في طريق تطور الشعر العربي، هذا وإن كانوا قد أوضحوا معالم طريقة البارودي، وزادوها صقلًا وتطويعًا لمطالب العصر، ولكن مع الاحتفاظ بروح الطريقة، والسير على هداها.
ومن هنا يمكن أن يقلل: إن هؤلاء الشعراء المحافظين كانوا -إلى درجة كبيرة- يتمسكون بعمود الشعر العربي، أي بتلك المجموعة من التقاليد الفنية، التي كان يسير عليها الشعراء الكبار الأقدمون، والتي حاول
النقاد العرب استنباطها، والتعريف بها فيما بعد1.
فأحيانًا نرى شعراءنا المحافظين يسيرون في نفس الطريق الذي سار فيه الشعراء الأقدمون من حيث بناء القصيدة، وتأليف عناصرها؛ فهم مثلًا يبدءون القصيدة الحديثة بالغزل التقليدي كما بدأ سابقوهم، حتى ولو كان موضوع القصيدة أبعد الموضوعات عن الحب وتهالكه، وعن النساء ووصفهن، ثم يخلصون من ذلك إلى الغرض المقصود، فهذا هو حافظ يقول في مطلع قصيدة يمدح بها البارودي سنة 1900:
تعمدت قتلي في الهوى وتعمدا
…
فما أثمت عيني ولا لحظة اعتدى
كلانا له عذر فعذري شبيبتي
…
وعذرك أني هجت سيفي مجردا
هوينا فما هنا كما هان غيرنا
…
ولكننا زدنا مع الحب سؤددا2
ثم يمضي واصفًا محبوبته ساردًا مغامراته في لقائها، إلى أن ينتقل آخر الأمر إلى التخلص من الغزل إلى المدح، كما يفعل القدماء فيقول:
فمالت لتغريني ومالأها الهوى
…
فحدثت نفسي والضمير ترددًا
أهم كما همت فأذكر أنني
…
فتاك، فيدعوني هواك إلى الهدى
كذلك لم أذكرك والخطب يلتقي
…
به الخطب إلا كان ذكرك مسعدًا3
وهذا هو عبد المطلب ينشد قصيدة في حفل لجمعية المواساة سنة 1914، فيبدأ القصيدة بقوله:
وعدت يا طيف بالمزار
…
أيظفر الجفنُ بالقرار
وهل يطيب الكرى لجفن
…
يبيت في ذمة الدراري4
1 مما قيل عن عمود الشعر قول المرزوق عن الشعراء الذين حققوه في شعرهم: "إنهم كانوا يحاولون شرف المعنى وصحته، وجزالة اللفظ واستقامته، والإصابة في الوصف، ومن اجتماع هذه الأساليب الثلاثة، كثرت سوائر الأمثال، وشوارد الأبيات، والمقارنة في التشبيه، والتحام أجزاء النظم والتآمها، على تخير من لذيذ الوزن، ومناسبة المستعار منه للمستعار له، ومشاكلة اللفظ للمعنى وشدة اقتضائهما القافية، حتى لا منافرة بينهما. فهذه سبعة أبواب هي عمود الشعر، ولكل باب معيار"، انظر: شرح المرزوقي لديوان الحماسة جـ1 ص9.
2 ديوان حافظ جـ1 ص7.
3 المصدر السابق ص9-10.
4 ديوان عبد المطلب ص90.
ثم يتخلص من الغزل إلى الغرض المقصود من القصيدة، وهو الدعوة إلى البر والحث على المواساة، فيقول:
خل الهوى والصبا ودعني
…
من التصابي والادكار
فإن لي بالهموم شُغلا
…
عن ذكر ليلى وعن نوار
وراحمتا للكريم يشكو
…
نوائب العيش أم يداري1
بل هذا هو شوقي يقول في مطلع قصيدة سياسية خالصة، حول مشروع "ملنر"، والوفد الذي جاء يعرض ذاك المشروع على المصريين:
إثن عنان القلب واسلم به
…
من ربرب الرمل ومن سربه
ومن تثني الغيد عن بانة
…
مرتجة الأرداف عن كثبه
ظباؤه المنكسرات الظبا
…
يغلبن ذا اللب على لبه2
ثم يمضي في هذا الغزل إلى أن يتخلص بقوله عن نفسه، وقلبه:
شاب وفي أضلعه صاحب
…
خلو من الشيب ومن خطبه
ما خف إلا للهوى والعلا
…
أو لجلال الوفد في ركبه3
وربما كان أكثر من ذلك كله دلالة على تمسك بعض هؤلاء الشعراء المحافظين بهذه الظاهرة من ظواهر عمود الشعر، أن واحدًا من هؤلاء الشعراء قد قدم بالغزل التقليدي لقصيدة قالها في أجنبي، كان قد زار مصر، أما الشاعر فهو أحمد نسيم4، وأما الأجنبي فهو "الدوق أوف كنوت"، وأما القصيدة فهي التي يقول الشاعر في مطلعها، وكأنه يتحدث عن بدوي أو أحد شيوخ القبائل في الجاهلية:
هل الحب إلا مهجة الصب تدنف
…
أو الشوق إلا لوعة وتلهف
أفق قبل حب ليس يخبو ضرامه
…
غداة رحيل والمدامع ذرف
1 المصدر السابق ص90-91.
2 الشوقيات جـ1 ص64.
3 الشوقيات جـ1 ص65.
4 ولد بالقاهرة سنة 1878، وتعلم بها، ثم عمل بدار الكتب، وتوفي سنة 1938.
اقرأ عنه في: الأعلام للزركلي جـ1 ص25، وفي: شعراء الوطنية لعبد الرحمن الرافعي ص213.
إلى أن يتخلص إلى المدح بقوله:
وما هاجني إلا الجمال مع الصبا
…
ودل الغواني والغزل المشنف
على أنه لا مرتجى غير قادم
…
عليه من العلياء برد مفوف1
وأحيانًا أخرى نرى الشعراء المحافظين يصفون الأطلال، ويتحدثون عن الرسوم والديار، كما يفعل القدماء، ومن أمثلة ذلك قول الكاشف:
ديار أحبائي عليك سلاميا
…
بعهدك أدعو لو سمعت دعائيًا
وهل تسمع الدار المعطلة التي
…
غدا رحبها من أهلها اليوم خاليًا
وصارت عفاءً غير ربع يلوح لي
…
بأيدي البلى يستقبل الريح خاويًا
ويلقى الغوادي شاكيًا بأس وقعها
…
وقد يشتكي الربع الضعيف الغواديا
ولكنن في أن تلبي لطامع
…
عساني أدري أين ساروا عسانيا2
ومن ذلك أيضًا قول محرم:
أهذي ديار للقوم غيرها الدهر
…
فعوجوا عليها نبكها أيها السفر
محا آيها مر العصور وكرها
…
إذا مر عصر كر من بعده عصر
نسائلها: أين استقل قطينها
…
وهل تنطق الدار المعطلة القفر3
بل منه كذلك قول شوقي:
أنادي الرسم لو ملك الجوابا
…
وأفديه بدمعي لو أثابا
نثرت الدمع في الدمن البوالي
…
كنظمي في كواعبها الشبابا
وقفت بها كما شاءت وشاءوا
…
وقوفًا علم الصبر الذهابا
ومن شكر المناجم محسنات
…
إذا التبر انجلى شكر الترابا4
ومرات نرى الشعراء المحافظين، يتوجهون بالخطاب في القصيدة إلى الصاحبين، تمامًا كما كان يفعل الشعراء الأقدمون، منذ استن لهم هذه السنة
1 ديوان نسيم جـ1 ص128-129.
2 ديوان الكاشف جـ1 ص88.
3 ديوان محرم جـ1 ص73.
4 الشوقيات جـ1 ص54.
امرؤ القيس، حين قال "قفا نبك"، فهذا هو حافظ إبراهيم يقول من قصيدة له في تهنئة الإمام محمد عبده بالإياب من الجزائر:
بكرا صاحبي قبل الإياب
…
وقفا بي بعين شمس قفا بي1
ويقول أيضًا من قصيدة له في رثاء عثمان أباظة:
ردّا كئوسكما عن شبه مفؤود
…
فليس ذلك يوم الراح والعود2
ويقول شوقي في قصيدة له في إسماعيل:
يا خليلي لا تذما لي الموت
…
فإني من لا يرى العيش حمدا3
ومرات أخرى نرى الشعراء المحافظين يتحدثون، وكأنهم يعيشون في القرون الإسلامية الأولى، بل يرجعون إلى العصر الجاهلي، ويحيون في الصحراء بين الخيام والنخيل، ومع العيس والآرام، فهم يتحدثون عن أماكن فيذكرون وادي الغضا ونحوه، ويصفون حبيبة يعشقونها فيتصورون الظبا والمها، وهم يسافرون فيذكرون الركائب والرحال والجمال، ويتشوقون فيذكرون البرق الذي يلتمع من حيث يقيم الأحباب، ويدعون بأن يجود الغيث أماكن من إليهم يحنون. وعلى الجملة هم بخيالهم، وتصورهم يعيشون في ذاك العالم العربي القديم، الذي عاش فيه آباؤهم الأقدمون، وهم لا يزالون يتخذون من هذا العالم القديم عالمًا مثاليًّا أسطوريًّا، ينقلون عنه ويقتبسون منه، ويعبرون به عن العالم الجديد الذي فيه يعيشون، وقد يحس بعضهم أنه يُرمى بالتخلف والتقليد، فيترك الحديث عن وصف الناقة مثلًا حين يفتتح قصيدة له بحديث رحلة توصله إلى الغرض من القصيدة، فيتحدث بدلًا من الناقة عن السفينة، كما فعل شوقي في قصيدته الهمزية، التي يقول في مطلعها:
هممت الفلك واحتواها الماء
…
وحداها بمن تقل الرجاء4
1 ديوان حافظ جـ1 ص23.
2 المصدر السابق جـ2 ص23.
3 الشوقيات جـ1 ص123.
4 الشوقيات جـ1 ص1.
أو يتحدث عن الطيارة باعتبارها آخر ما عرف من وسائل المواصلات، كما فعل عبد المطلب في قصيدته في مدح الإمام علي، حيث يقول:
أجدك ما النياق وما سراها
…
نخوض بها المهامه والأكاما
وما قطر البخار إذا استقلت
…
بها النيران تضطرم اضطراما
فهب لي ذات أجنحة لعليِّ
…
بها ألقى على السحب الإماما1
ولكن الشاعر المحافظ يظل مع ذلك محافظًا، سائرًا على طريقة القدماء، آخذًا بتقاليدهم، متمسكًا بعمود شعرهم؛ لأنه لم يغير المنهج ولم يبدل الخطة، من حيث وصف الرحلة مثلًا، والتمهيد بوصف أو ذكر ما يركب، للدخول في الموضوع الأساسي2.
وهكذا كان الطابع الغالب على الجو الشعري الذي يتنفس فيه الشعراء المحافظون، ويتنفس فيه معهم قراؤهم ومستمعوهم؛ هو الجو العربي القديم، الذي يصل أحيانًا إلى أن يكون جوًّا بدويًّا صحراويًّا.
وقد سبق تبرير ذلك المسلك للبارودي بأمرين، الأول هو روح الفترة التي كانت مشدودة الوجدان إلى التراث بكل ما فيه، وكل ما يصوره من ماض رائع، وتاريخ عربي إسلامي مشرق، والثاني هو طبيعة المرحلة الشعرية التي كان يحققها البارودي، وهي مرحلة الإحياء، التي كان لا بد منها لكي يعود الشعر إلى الأصالة والجمال، بعد الزيف والقبح، حتى ولو كانت الأصالة فيها روح التراث، ولو كان الجمال ذا سمات عريقة مضت عليها قرون، ولكنها خلدت على تلك القرون، فلم يكن من المستطاع أن يخلق البارودي، أو غيره شعرًا جديدًا من العدم، وكان من الضروري أن يقوم هو أو غيره، بصرف الأنظار عن الشعر الركيك المتخلف، وتوجيهها إلى شعر آخر حي نابض جميل، ولم يكن غير الشعر الجيد القديم، شعر التراث3.
1 ديوان عبد المطلب ص230.
2 شعراء مصر وبيئاتهم للعقاد ص49-52.
3 شعراء مصر وبيئاتهم ص121، وما بعدها، ومقدمة الدكتور محمد حسين هيكل لديوان البارودي ص11-14.
والواقع أن الشعراء المحافظين الذين جاءوا بعد البارودي عمقوا تجربته، وأكدوا محاولته ووسعوا خطوته، وجودوا الأسلوب الفني الذي أخذ به.
ولكن الواقع أيضًا أنهم وقفوا عند ذلك، ولم يسيروا بالشعر الحديث مرحلة جديدة، فهل نبرر مسلكهم كما بررنا مسلك البارودي؟ الجواب بالنفي، وذلك أن الزمن كان قد سار بهم، فابتعدوا عن أن يظلوا متصورين للعالم العربي القديم -حتى بما فيه من بداوة- كعالم مثالي أسطوري، ينقلون عنه ويغترفون منه، ويعبرون به عن عالمنا الجديد، كما أن الثقافة الفنية والأدبية قد أتيحت لبعضهم مثل شوقي، بما كان يتحتم معه أن يرى مناهج للشعر الحديث أكثر تلاؤمًا من المناهج القديمة، التي كانت لعصور غير عصورنا، ولحياة غير حياتنا. أو بتعبير آخر كان على مثل شوقي أن يدرك أن المثل الأعلى للشعر في العصر الحديث، يجب أن يكون غير المثل الأعلى الذي كان للشعراء العرب الذين عاشوا منذ أكثر من عشرة قرون1.
فحيث إن مرحلة الإحياء كانت قد تحققت بفضل البارودي، وابتعد الزمن بالشعراء المحافظين بعده عن أن يظلوا عند اتخاذ الماضي مثلًا أعلى للحاضر، وحيث قد أتيح لبعضهم من الفرص الثقافية ما كان يتحتم معه أن يدرك مثلًا أعلى للشعراء أكثر ملاءمة لروح العصر؛ فإن من العسير أن يدافع عن الشعراء المحافظين، ويبرر وقوفهم بالشعر عند مرحلة البارودي.
ولعل ذلك يؤيده قول الدكتور طه حسين في هؤلاء الشعراء المحافظين الذين جاءوا عبد البارودي: "وعندنا شعراء، ولكنهم لم يجددوا شيئًا، ولم يبتكروا ولم يستحدثوا، وإنما اكتسبوا شخصيتهم من القديم، واستعاروا مجدهم الفني من القدماء، فليس لهم إلا فضل واحد هو فضل الإحياء، وما زال ينقصهم فضل آخر، هو فضل الإنشاء والابتكار2".
كذلك صور المنفلوطي تلك الظاهرة بشيء من المبالغة التي لا تُخفي كل
1 حافظ وشوقي للدكتور طه حسين ص19 وما بعدها.
2 المصدر ص9.
الحق، فقال:"شعراء مصر في هذا العصر ليسوا شعراء هذا البلد ولا هذا الزمن، وإنما هم جماعة من تجار العاديات، لا يزالون يصورون لنا في هذه العصور تماثيل كاذبة لآداب الجاهلية الأولى"1.
وقد يقال: إن هؤلاء الشعراء كان يستخدمون أسماء الأماكن العربية، ونحوها استخدامًا رمزيًا لإثارة الوجدان، أو لخلق جو معين، كما يستخدم الشاعر العربي الحديث كلمة مثل "أبولو" أو "الأولمب" أو "منرفا" ونحو ذلك، ولكن يرد على هذا القول بأن استخدام الشعراء المحافظين لمشاهد العالم العربي القديم، لم يقف عند هذه اللمحات التي تدخل في باب الرمز، وإنما تعداه إلى تأسي الأقدمين في منهج القصيدة، ومعارضتها أحيانًا، واستخدام نفس المعاني والصور.
"د" تأثيرات حسنة، وأخرى سيئة للاتجاه المحافظ:
وإذا كان المحافظون قد أسهموا بشعرهم في النضال الذي خاضته البلاد حينذاك في كل الميادين، وحققوا انتصارًا للشعر بذلك، لم يحققه البارودي نفسه، وإذا كانوا قد جودوا التبعير الشعري، ووصلوا به إلى الغاية من حلاوة الموسيقى، وروعة البيان وإشراق الصياغة؛ فإن هاتين الحسنتين كانت لهما سيئتان تقابلهما، ويقتضي الإنصاف تسجيلهما، الأولى هي أن كثرة خوض الشعر للمعارك جره إلى كثير من المناسبات، والمواقف المحفلية، حتى أصبح شعر المناسبات والمجاملات ظاهرة توشك أن تطغى على بقية الظواهر الشعرية الفنية الأخرى، وقد صور الدكتور طه حسين هذه الظاهرة في أسلوب ساخر لا يخلو من المبالغة، ولكنه لا يبعد كثيرًا عن الحق، فقال: "وأصبح الشعر بفضل الشعراء وكسلهم العقلي فنًّا عرضيًّا، لا يحفل به إلا للهو والزينة والزخرف، فإذا أراد بنك مصر أن يفتتح بناءه الجديد، طلب إلى شوقي قصيدة، فنظم له شوقي هذه القصيدة، وإذا أرادت دار العلوم أن تحتفل بعيدها الخمسيني كما
1 اقرأ مقدمة ديوان الكاشف التي كتبها المنفلوطي جـ2 ص ل.
يقولون، طلبت إلى شوقي والجارم، وعبد المطلب أن ينظموا لها قصائد، فنظموا لها القصائد، وإذا مات عظيم وأريد الاحتفال بتأبينه، أو نبه نابه وأريد الاحتفال بتكريمه، طلب إلى الشعراء أن ينظموا الشعر في المدح والرثاء، فنظموه كما ينظمه القدماء؛ فانحط الشعر، حتى أصبح كهذه الكراسي الجميلة المزخرفة التي تتخذ في الحفلات والمآتم، وأصبحنا لا نتصور حفلة بغير قصيدة لشوقي أو حافظ، كما أننا لا نتصور عيدًا، أو مأتمًا بغير مغن، أو مرتل للقرآن1.
وقد جرت هذه الظاهرة السيئة -ظاهرة المناسبات والمحافل- إلى عدة ظواهر سيئة تفرعت عنها، من أهمها عدم تعبير الشعر في كثير من الأحيان عن تجارب صادقة، ومن أهمها أيضًا تشكل أسلوب الشعر، بما يلائم المحافل ومجامع الجماهير، ومواقف خطابهم، ومن هنا كثر عند الشعراء المحافظين التعبير المباشر الذي يجعل الشعر أحيانًا قريبًا من النثر، فيفسد عليه كثيرًا من قيمة الفنية؛ لأن ما أمكن أن يقال نثرًا، فمن الأفضل ألا يقال شعرًا2، كذلك كثر عند هؤلاء الشعراء، الأسلوب الخطابي، وما يستلزمه من صيغ النداء، وأفعال الطلب وما إلى ذلك، حتى أصبح ذلك كله مظهرًا من مظاهر افتتاح القصائد عند بعضهم، وتستطيع أن تحصى في شعر شوقي مثلًا، عددًا كبيرًا من هذه الافتتاحات الخطابية، من مثل قوله:"قم ناج جلق"3، ثم "قم حي هذه النيرات"4، "قم في فم الدنيا"5، "قم ناد أنقرة"6. أو مثل قوله:"قف ناد أهرام الجلال"7، "قف بالممالك وانظر دولة المال"8،
1 حافظ وشوقي لطه حسين ص149-150.
2 انظر: T.S Eliot" points of view.p.52.
3 الشوقيات جـ2 ص122.
4 المصدر السابق جـ1 ص102.
5 الشوقيات جـ1 ص175.
6 المصدر السابق ص198.
7 المصدر نفسه ص129.
8 المصدر نفسه ص229.
"قف على كنز بباريس ثمين1"، "آذار أقبل قف بنا يا صاح"2.
أما السيئة الثانية، التي تقابل حسنة تجويد الصياغة، فهي أن كثرة العناية بالصياغة والإفراط في الجانب البياني، جعل امثل الأعلى في الأداء الشعري مثلًا متعلقًا بالشكل، مهتمًا باللفظ، غير مكترث بالمضمون أو معني بالمعنى.
ومن هنا أوشك الشعر أن يتحول إلى صياغات جميلة، وأساليب آسرة. وموسيقى تملأ الآذان، وقد جرت هذه الظاهرة السيئة كذلك إلى عدة ظواهر سيئة أخرى تفرعت عنها أيضًا، من أبرزها إهمال جوانب فنية كثيرة تأتي وراء جمال الصياغة، وأسر الأسلوب وروعة الموسيقى، ومن أهم هذه الجوانب جانب الأفكار الدقيقة، والتجارب النفسية العميقة، واتضاح شخصية الشاعر وطبيعته، ولون نظرته إلى الحياة والكون، ورسمه للطبيعة والناس، وإضافاته الخلاقة إلى كل ما يتحدث عنه.
وهكذا أصبح كل الشعراء المحافظين سواء، يقولون تقريبًا نفس الأفكار، ويرسمون نفس الصور، ويوشكون أن يحسوا نفس الأحاسيس، حتى لا يستطاع تمييز واحد عن الآخر، أو معرفة بعضهم من بعض، اللهم إلا بما يكون من جودة صناعة أسلوبية يتفوق بها واحد أحيانًا عن واحد آخر، وذلك؛ لأن هدفهم جميعًا واحد، هو الصياغة البيانية المشرقة كما أن مثلهم واحد، وهو النماذج الرائعة خلفها التراث، فبقدر موهبة الشاعر منهم، وقدرته على إجادة الصياغة البيانية المشرقة، وبقدر قربه من نماذج التراث أو تفوقه عليها، كان حظه من التفوق والامتياز، وفي ذلك يقول العقاد في حديثه عن شوقي كإمام لهذا الاتجاه المحافظ البياني:"في أحمد شوقي ارتفع شعر الصنعة إلى ذروته العليا، وهبط شعر الشخصية إلى حيث لا تبين لمحة من الملامح، ولا قسمة من القسمات التي يتميز بها إنسان عن سائر الناس3"، ويقول كذلك عن هذا الشعر المحافظ البياني، الذي سماه شعر الصنعة، مقابلًا بينه وبين شعر
1 المصدر نفسه ص312.
2 الشوقيات جـ2 ص23.
3 شعراء مصر وبيئاتهم ص156.
الشخصية: "ومنه ما هو قريب إلى الطبيعة، ولكنه منقول من القسط الشائع بين الناس، وليس فيه دليل على شخصية القائل، ولا على طبعه؛ لأنه أشبه شيء بالوجوه المستعارة، التي فيها كل ما في وجوه الناس، وليس فيها وجه إنسان1". ويقول مرة أخرى عن شوقي إمام هذا الاتجاه: "فإذا عرفت شوقيًا في شعره، فإنما تعرفه بعلامة صناعته، وأسلوب تركيبه، كما تعرف المصنع من علامته المرسومة على السلعة المعروضة، ولكنك لا تعرفه بتلك المزية النفسية التي تنطوي وراء الكلام، وتنبثق من أعماق الحياة2". ثم يقول أخيرًا مسميًا هذا الشعر المحافظ البياني باسم آخر غير اسم "شعر الصنعة"، وهو اسم "شعر النماذج":"ولقد وجد شعر النماذج في شوقي رسوله المبين، بل خاتم رسله أجمعين، فأبطاله من الممدوحين، والمرئيين طراز في مراتب المجد، التي يرتضيها السمت والهيبة، وفضائل الأخلاق في قصائده، هي الفضائل التي اصطلح عليها العرف، وتتابعت بها معايير الحمد والثناء، وعواطف الإنسان هي العواطف التي رسمها لنا تقاليد الزمن في أحوال المحبين والطامحين، أو آداب الآباء والبنين، وآيته فيما عرض له من ذلك كله، تلك القدرة البارعة في تجويد الصناعة التي لا تفوقها قدرة في عصره، ونكاد نقول في عصور الأقدمين والمحدثين3".
وبديهي أن هذا الحديث عن شوقي، وكلفه بالصياغة لا يخصه وحده، وإنما ينسحب على كل الشعراء من أبناء اتجاهه مثل حافظ، ومحرم والغاياتي والكاشف ونسيم، وعبد المطلب.
وفي ظاهرة عدم تمايز الشعراء المحافظين -نتيجة لكلفهم بالصياغة أولا، ثم لاتخاذهم القديم مثلًا أعلى ثانيًا- يقول الدكتور طه حسين، منكرًا عليهم حتى التمايز بالألفاظ والأساليب، وغير مكتف بما أنكره العقاد من عدم
1 المصدر السابق والصفحة نفسها.
2 شعراء مصر وبيئاتهم ص161.
3 اقرأ: مهرجان شوقي "مجموعة الأبحاث والدراسات التي نشرها المجلس الأعلى لرعاية الفنون" ص8.
التمايز بالشخصية والطابع النفسي: "وإن الشعراء بعيدون كل البعد عن أن يصلوا إلى ما وصل إليه الكتاب من التمايز بألفاظهم، وأساليبهم، وآرائهم وشخصياتهم، وأن يستقلوا عن القدماء من فحول الشعراء
…
حتى أصبح من أيسر الأمور على الناقد إذا قرأ قصيدة لشوقي، أو لحافظ أو غيرهما، أن يرد القصيدة إلى أصلها القديم الذي أخذت منه، أو أن يرد كل جزء من أجزاء هذه القصيدة إلى أصله الذي أخذ منه1".
فكما جرت حسنة إسهام الشعر في النضال إلى غلبة شعر المناسبات والمحافل، الذي جر بدوره إلى عدم الاهتمام بصدق التجربة، ثم إلى الخطابية والمباشرة في التعبير؛ كذلك جرت حسنة الكلف بتجويد الصياغة، إلى عدم العناية بالأفكار الدقيقة، والتجارب النفسية العميقة، وإلى عدم اتضاح شخصية الشاعر وطبعه، ولون نظرته إلى الحياة والكون، ورسمه للطبيعة والناس.. وهناك ظاهرة سيئة أخرى جاءت أيضًا نتيجة لعدم رعاية الجانب المعنوي في الشعر، وتلك الظاهرة هي عدم رعاية الوحدة العضوية، بحيث جاءت أغلب قصائد الشعراء المحافظين مشتملة على عدد من الأغراض أولًا، ثم جاء الغرض الواحد غير مترابط المعاني، ولا مرتبها ترتيبًا بنائيًا متآزرًا ثانيًا.
وهكذا أصبح الشعر المحافظ البياني ليس المثل الفني الأعلى، رغم ما له من حسنات روعة للصياغة، والإسهام في النضال، والقضاء الكامل على بقايا الاتجاه التقليدي المتخلف، وملء الحياة الأدبية بالشعر المشرق الحي، وأصبحت الحاجة ماسة إلى شعر آخر يخطو إلى مرحلة جديدة غير مرحلة البعث التي رادها البارودي، ويتجنب عيوب الشعر المحافظ البياني، التي في مقدمتها: الالتفات إلى القديم، ومحاكاته بالتمثل، والاستيحاء أو المعارضة، ثم الإكثار من القول في المناسبات والمجاملات، مما يجعل أكثر النتاج الشعري متناولًا لخارج نفس الشاعر ووجدانه، غير صادر عن تجاربه وأحاسيسه، ثم الاهتمام البالغ بجانب الصياغة، وعدم رعاية جانب المعنى، وما يطلبه من فكر صائب ووجدان صادق، وأخيرًا عدم رعاية الوحدة العضوية، نتيجة للاهتمام بجوانب بلاغية جزئية، والكلف بجمال البيت المفرد، وعدم النظر إلى القصيدة كبناء فني.
1 حافظ وشوقي للدكتور طه حسين ص137-138.