الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وعلي عفيفي طالب دار العلوم1.
وبرغم أن قوى العدوان المتحالفة ضد مكاسب الشعب قد حولت الاستقلال إلى لفظ بلا معنى، وجعلت من الحرية شهيدًا تمزقه الحراب، وأحالت النضال الوطني إلى صراع حزبي، وخلقت من الدستور ملهاة يعبث بها القصر والمستوزرون، ومن البرلمان والحكومة مطمعًا يهرول نحوه هواة السلطة، ومحترفو الحكم؛ برغم ذلك كله قد التمعت في تلك الفترة إشراقات كانت ذات أثر بالغ في حياة مصر الاجتماعية والفكرية والأدبية، فقد بقيت الروح الوطنية حية نامية مناضلة، تتطلع إلى غد أكثر إشراقًا، وتبحث عن زعيم أعظم قدرة وأنفذ بصيرة، كما أصبح الناس أشد تعلقًا بالحرية التي كسبوها بدمائهم، وحاولوا جاهدين ممارستها، وتأكيدها في حياتهم، مما جعل من تلك الفترة خطوة واسعة على طريق النصر.
1 انظر: في أعقاب الثورة المصرية جـ2 ص201 وما بعدها.
2-
بين نشوة النصر، ومرارة النكسة:
كان لثورة 1919، ومشاركة كل الطوائف الشعبية فيها، ثم انتهائها ببعض المكاسب، أثر واضح في الشعور بالثقة عند أبناء الشعب، الذين حملوا عبء النضال ثم استشعروا حلاوة النصر، بعد أن ذاقوا ويلات الحرب، ومن قبلها آثام الاحتلال.
وقد تحسنت الأحوال الاقتصادية في أوائل تلك الفترة بعض الشيء، حيث استشعر الناس الاستقرار والأمن، بعد معاناة القلق والخوف، وحيث أنشئت بعض المؤسسات الاقتصادية كبنك مصر وبنك التسليف، فقد أدى بدء الالتفات إلى الصناعة مع شركات بنك مصر، إلى إتاحة الفرصة لطائفة من الأيدي العاملة، على حين أنقذ بنك التسليف كثيرين من الفلاحين، من أيدي المستغلين والمرابين1.
1 انظر: تاريخ مصر الاقتصادي والمالي في العصر الحديث للدكتور أمين مصطفى عفيفي عبد الله ص503 وما بعدها.
وقد أسهمت تلك العوامل في نمو القوى الشعبية، التي أحسست كيانها وأدركت دورها، وفرضت وجودها على القوى المتصارعة التي اضطرت إلى أن تحس هذا الكيان، وتدرك هذا الدور.
غير أن هذه القوى الشعبية لم تستطع برغم ذلك أن تتصدر، وهذا لعدم إمكانياتها المادية، ولعدم اكتمال قوتها إلى الحد الذي يتيح لها تولي القيادة. فقد كانت السيطرة لا تزال في أيدي الإقطاعيين، الذين كانوا يلقبون بأصحاب المصالح الحقيقية1، والذين كانوا يتولون الزعامة اللاسياسية، ويضمون إلى جانبهم من يتولون الزعامة الفكرية2، الأمر الذي أعطاهم مزيدًا من القوة، بل مزيدًا من السيطرة؛ فجعل منهم أكثر الحكومات والبرلمانات، وأهم السلطات التي تتصدر طبقات الشعب.
ولقد كان من أسباب بقاء الإقطاعيين مسيطرين على النفوذ والتصدر، أن ثورة 19 لم تلتفت إلى التغير الاجتماعي في حياة المصريين، أو بتعبير أدق، لم يلتفت زعماء تلك الثورة إلى أن يجعلوا منها ثورة اجتماعية واقتصادية3، ولم يتجاوزوا بها هذا المجال السياسي الضيق، والذي انتهى ببعض المكاسب التي تنازع عليها هؤلاء الزعماء، فقد ظلت الزراعة هي عماد الاقتصاد المصري، وبقيت معظم الأراضي الزراعية التي هي عماد هذا الاقتصاد، في أيدي الإقطاعيين، وقد سبب هذا الوضع كثيرًا من الأضرار الاقتصادية، والاجتماعية زيادة على الأضرار السياسية، فبالإضافة إلى سيطرة طائفة قليلة من الطوائف، وتحكمها في مصائر البلاد، كان من أهم الأضرار استغلال الاستعمار لهذا الوضع لصالحه، وذلك بالضغط على السياسة المصرية، وتوجيهها إلى حيث يشاء، فقد تبع بقاء مصر بلدًا زراعيًا، الاهتمام بالقطن كمصدر أول لثروة البلاد،
1 انظر: الجريدة عدد 23 مارس سنة 1907، وعدد 13 يونيه سنة 1907.
2 كان حزب الأمة يستكتب الدكتور محمد حسين هيكل، والدكتور طه حسين، كما كان حزب الوفد يستكب الأستاذ عباس العقاد، والأستاذ سلامة موسى.
3 انظر: الميثاق الوطني ص26-27.
وتبع ذلك اعتبار بريطانيا لنفسها المستورد الوحيد لهذا القطن، وتبع ذلك الاعتبار تحكمها في ثمنه، أي تحكمها في مصدر الثورة المصرية الأول، ومن هنا كان التخلف الاقتصادي الذي بلغ حد الأزمة في عهد صدقي "من سنة 30 إلى 34"، تلك الأزمة التي عانى منها الشعب كثيرًا من العسر والضيق والتأزم1.
لكن برغم عدم تصدر القوى الشعبية، وبقاء الصدارة لطبقة الإقطاعيين، قد كان لنمو القوى الشعبية أثر واضح في حياة تلك الفترة، وبخاصة من الناحية الأدبية، وسوف نرى في مجال الأدب، كيف عنيت فنون بهذه الطبقة، فاستلهمت جوانب من حياتها، وصورت بعض شخصياتها، وعالجت كثيرًا من مشكلاتها.
هذا ولقد كان من أهم مظاهر الحياة الاجتماعية في تلك الفترة، استقرار تجربة تحرر المرأة، ومشاركتها في كثير من المجالات السياسية، والكفرية والاجتماعية. فبعد أن كان قاسم أمين في الفترة السابقة ينادي للمرأة بالسفور، ويرى الكثير من المعارضة بل المعاداة، نرى المرأة في هذه الفترة قد خرجت إلى كل مجالات الحياة، وشاركت الرجل في تلك المجالات مشاركة توشك أن تكون تامة. وكانت ثورة 19 قد ساعدت على هذه الدفعة، حيث شجعت المرأة على الإسهام في الحياة السياسية، حين خرجت أول مظاهرة نسوية سنة 1919 تطالب بالاستقلال، وتحقيق مطالب البلاد2، ثم تبع ذلك تأليف لجنة مركزية للسيدات الوفديات سنة 22، شاركت في حركة المقاطعة التي نظمها الوفد ضد الإنجليز، على أثر اعتقال سعد للمرة الثانية3، ثم دخلت المرأة الجامعة وواصلت مشاركتها في الحياة العلمية4، كذلك ألفت الجمعيات
1 انظر: في أعقاب الثورة المصرية لعبد الرحمن الرافعي جـ2 ص163، وما بعدها.
2 انظر: ثورة سنة 1919 لعبد الرحمن الرافعي جـ1 ص137-140.
3 انظر: حوليات مصر السياسية لأحمد شفيق -المقدمة جـ2 ص365-367.
4 دخلت المرأة الجامعة لأول مرة سنة 1929 "انظر تقويم جامعة القاهرة الصادر سنة 1957 ص386".
النسوية، ومضت تسهم بشكل واضح في الحياة الاجتماعية.
فإذا جاوزنا الجوانب الاقتصادية والاجتماعية لتلك الفترة، إلى تلمس الجوانب النفسية، أو التعرف على "سيكلوجية" المجتمع حينذاك، رأينا أن النفسية الاجتماعية كانت -في أوائل ذلك العهد- مزيجًا من الشعور باستقلال الشخصية المصرية؛ والإحساس بالحرية الفردية، ثم من روح الثورة والرغبة في التغيير، وقد وصل الشعور بالاستقلال والحرية عند البعض إلى حد الغرور الذاتي أو الفردية الجامحة1، كما بلغ الإحساس بروح الثورة والرغبة في التغيير عند بعض آخر، إلى درجة التمرد أو التخبط، أو الهدم في بعض الأحايين2.
أما بعد سنوات من ذلك العهد، وبالأخص بعد اتضاح انحراف الزعامات، وافتضاح حيل الاستعمار، وانكشاف تآمر القصر؛ وبعد تحول الاستقلال إلى حماية مقنعة، والدستور إلى خديعة يتلهى بها المستوزرون؛ وبعد التنكيل بكثير من المواطنين، والضغط على الحريات والانتكاس بمكاسب الشعب -بعد أن كان ذلك، قد تحول البعض إلى الشعور بالمرارة والإحساس بخيبة الأمل، مما أدى بطائفة إلى الانطواء على النفس، أو العكوف على الذات، أو الانعزال عن قضايا المجتمع3، على أن نفرًا من هؤلاء كان يستسلم في انطوائه، وعزلته إلى الحزن واجترار الشكاية والألم4، على حين كان يستعيض نفر آخر بألوان من المسكنات أو الملهيات؛ فيعيش على فلسفة استمتاعية، تلهي ذاته، وتزيد الهوة بينه وبين قضايا
1 كان من مظاهر هذا الشعور عند البعض، الدعوة إلى الانفصال عن آسيا وأفريقيا، بل الانفصال عن الماضي الإسلامي، كما نرى في بعض كتابات سلامة موسى حينذاك.
2 كان من آثار هذا الإحساس عند البعض، الدعوة إلى التغريب حينًا، وإلى الفرعونية حينًا، وإلى العامية حينًا آخر، كما نرى في بعض ما كتب حينذاك بأقلام هيكل عن الفرعونية، وطه حسين عن التغريب، وسلامة موسى عن العامية.
3 وقد عبر عن هذا الشعر الابتداعيون الذي انضم كثير منهم إلى جماعة "أبوللو".
4 من أمثال الشاعر الهمشري المتوفى في ديسمبر سنة 1938.