المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ظهور الاتجاه التجديدي الذهني: - تطور الأدب الحديث في مصر

[أحمد هيكل]

فهرس الكتاب

- ‌محتويات الكتاب

- ‌مقدمات

- ‌مقدمة

- ‌تمهيد:

- ‌الفصل الأول: فترة اليقظة

- ‌أهم أسباب اليقظة

- ‌أسلحة علمية للحملة الفرنسية

- ‌ أول الاتصال الفعلي بالثقافة الحديثة:

- ‌الأدب وأولى محاولات التجديد

- ‌الشعر

- ‌ النثر:

- ‌الفصل الثاني: فترة الوعي

- ‌أبرز عوامل الوعي

- ‌اشتداد الصلة بالثقافة الحديثة

- ‌ إحياء التراث العربي:

- ‌ مؤسسات سياسية ومجالات ثقافية:

- ‌ الثورة الأولى:

- ‌الأدب وحركة الإحياء

- ‌أولا: الشعر

- ‌الاتجاه التقليدي وبعض لمحات التجديد

- ‌ ظهور الاتجاه المحافظ البياني:

- ‌ثانيًا: النثر

- ‌ الكتابة الإخوانية، واتجاهها إلى التقليد:

- ‌ الكتابة الديوانية وميلها إلى الترسل:

- ‌ المقالة ونشأتها:

- ‌ الخطابة وانتعاشها:

- ‌ الرواية ونشأة اللون التعليمي:

- ‌ المسرحية وميلادها:

- ‌ كتب الأدب وتجددها:

- ‌الفصل الثالث: فترة النضال

- ‌حوافز النضال واتجاهاته:

- ‌ من جرائم الاحتلال البريطاني:

- ‌ مراحل النضال وطرائقه:

- ‌ بعض معالم النضال المشرقة:

- ‌الأدب بين المحافظة والتجديد

- ‌أولا: الشعر

- ‌سيطرة الاتجاه المحافظ البياني

- ‌ ظهور الاتجاه التجديدي الذهني:

- ‌ثانيًا: النثر

- ‌ المقالة وظهور أول طريقة فنية للنثر الحديث:

- ‌ الخطابة ونشاطها:

- ‌ القصص بين استلهام التراث، ومحاكاة أدب الغرب:

- ‌ المسرحية وأولية الأدب المسرحي:

- ‌الفصل الرابع: فترة الصراع

- ‌دوافع الصراع ومجالاته

- ‌بين الروح الوطنية والانحرافات الحزبية

- ‌ بين نشوة النصر، ومرارة النكسة:

- ‌ نمو الحياة الثقافية:

- ‌ غلبة التيار الفكري الغربي:

- ‌الأدب وغلبة الاتجاه التجديدي

- ‌مدخل

- ‌أولًا: الشعر

- ‌ تجمد الاتجاه المحافظ البياني:

- ‌ انحسار الاتجاه التجديدي الذهني:

- ‌ ظهور الاتجاه الابتداعي العاطفي:

- ‌ثانيا: النثر

- ‌مدخل

- ‌المقالة وتميز الأساليب الفنية

- ‌ الخطابة وازدهارها:

- ‌ القصص واستقرار اللون الفني:

- ‌ المسرحية وتأصيل الأدب المسرحي:

- ‌مراجع الكتاب

- ‌المراجع العربية

- ‌المراجع الأجنبية

الفصل: ‌ ظهور الاتجاه التجديدي الذهني:

2-

‌ ظهور الاتجاه التجديدي الذهني:

لقد دعت الحاجة الفنية إلى ظهور لون جديد من الشعر، يحالو القيام بما عجز عنه الاتجاه المحافظ البياني، من تحقيق المثل الشعري الأعلى، الذي يلائم العصر والبيئة، ويتجنب ما تورط فيه الاتجاه المحافظ البياني من مآخذ.

وقد ولد هذا الاتجاه الجديد على يد ثلاثة من الشبان المصريين، اشتركوا في عدة سمات، فهم أولًا من ذوي الثقافة الأدبية الإنجليزية بالإضافة إلى الثقافة العربية، وهم ثانيًا من المفكرين المغلبين كثيرًا لجانب العقل، وهم ثالثًا من الشباب الثائر، المتطلع إلى آفاق عليا وقيم أفضل، وهم آخر الأمر من الطموحين الذين يرون آمالهم أكبر من إمكانيات عصرهم، وظروف معيشتهم.

أما هؤلاء الشبان الثلاثة فهم عبد الرحمن شكري1، وإبراهيم عبد القادر

1 ولد عبد الرحمن شكري ببورسعيد سنة 1886، وتعلم بها وبالإسكندرية، ثم بالقاهرة، حيث أتم دراسته الثانوية برأس التين، ثم دخل مدرسة الحقوق أولًا، ولما فصل منها لأسباب سياسية التحق بالمعلمين العليا، وتخرج سنة 1909. وأوفد في بعثة إلى انجلترا، فدرس في جامعة "شيفلد" ثلاث سنوات، ونال درجة البكالوريوس في الآداب. ثم عاد إلى مصر واشتغل في مناصب التعليم من مدرس إلى مفتش إلى ناظر، ثم اعتزل الخدمة سنة 1938، وعاد إلى بورسعيد، وظل بها إلى سنة 1952، ثم انتقل إلى الإسكندرية، وظل بها حتى مات سنة 1958 حيث دفن هناك.

اقرأ عنه في المقدمة التي صدر بها ديوانه الكامل، الأستاذ نقولا يوسف، وهو الديوان الذي جمع فيه كل شعره، وصدر سنة 1960. وفي: الأدب العربي المعاصر في مصر للدكتور شوقي ضيف ص128 وما بعدها، والشعر المصري بعد شوقي للدكتور مندور الحلقة الأولى ص66 وما بعدها.

ص: 148

المازني1، وعباس محمود العقاد2، وقد اتصل الأول والثاني بالثقافة الأدبية الإنجليزية أولًا عن طريق دراستهما الرسمية في مدرسة المعلمين العليا، ثم عمقا هذه الثقافة بالدراسة الشخصية، والعمل في الحقل الأدبي، أما العقاد؛ فقد اتصل بتلك الثقافة الإنجليزية عن طريق قراءته الشخصية، وتثقيفه الذاتي، الذي وصل به إلى القمة التي تربع عليها كواحد من أعلام الأدب المعاصر.

1 ولد المازني بالقاهرة سنة 1889، ومات أبوه وهو صغير، فنشأ نشأة قاسية صابرة، وتعلم كل مراحل التعليم بالقاهرة، وكان قد التحق بالطب بعد إتمام الدراسة الثانوية، ولكنه فزع من رؤية قاعة التشريح، وحاول أن يلتحق بالحقوق، ولكنه عجز عن المصروفات، فالتحق بالمعلمين، وتخرج سنة 1909، واشتغل بعد تخرجه بالتدريس في المدارس الثانوية، ثم درس الإنجليزية في دار العلوم، وأخيرًا تبرم بالوظيفة الحكومية، واستقال سنة 1913، وعمل حينًا في المدارس الحرة، ثم تفرغ من سنة 1917 للأدب والصحافة، إلى أن توفي سنة 1949.

اقرأ عنه في: أدب المازني للدكتورة نعمات فؤاد، ومحاضرات عن المازني للدكتور محمد مندور، والأدب العربي المعاصر في مصر للدكتور شوقي ضيف ص261 وما بعدها.

2 ولد العقاد بأسوان سنة 1889، وتلقى بها دروسه الابتدائية، ولم يكتف بالمرحلة الابتدائبية التي أتمها سنة 1903، وإنما انتفع كثيرًا بمجالس الشيخ أحمد الجداوي الذي كان من تلاميذ الأفغاني، فكان يتردد على مجالس هذا الشيخ كثيرًا مع والده، كما انتفع بالدراسة الذاتية، والاطلاع الشخصي الذي وصل به إلى منزلة الريادة بعد ذلك، وقد اشتغل في أول حياته العملية ببعض الوظائف الحكومية، كالقسم المالي بمديرية الشرقية، وكديوان الأوقاف بالقاهرة، وكمصلحة الإيرادات بقنا، وكالتدريس في بعض المدارس الأهلية بالقاهرة. ولكنه كان يؤثر الصحافة والأدب، فاتصل في أو عهده الصحفي بالدستور التي كان يصدرها فريد وجدي، ثم كتب في صحف أخرى، حتى كان الكاتب الأول لصحف الوفد وخاصة البلاغ، بعد أن انقطع للكتابة.... وبعد خلافه مع زعماء الوفد في منتصف الثلاثينات، انضم إلى معارضي الوفد، وصار ألمع كتاب هذه المعارضة، وظل ينتج في الأدب والفكر حتى توفي سنة 1964.

اقرأ عنه: العقاد دراسة وتحية بقلم طائفة من تلاميذه ومحبيه. ومع العقاد لشوقي ضيف، والأدب العربي المعاصر في مصر لشوقي ضيف، ص136 وما بعدها. والشعر المصري بعد شوقي لمندور الحلقة الأولى ص39 وما بعدها.

ص: 149

وقد كانت لهؤلاء الثلاثة قراءات في الشعر الإنجليزي، وتعرف على شعرائه، وخاصة الرومانتيكيين من أمثال "وردزورث" و"شيلي" و"بيرون" وغيرهم، كما كانت لهم قراءات في النقد، وإعجاب بالناقد الإنجليزي "هازلت" بصفة خاصة1.

وقد وجههم ذلك -بالإضافة إلى ميولهم، وثقافتهم الفكرية- إلى أن يقولوا شعرًا

مخالفًا للشعر المحافظ البياني، متسمًا بسمات مغيرة لسمات شعر المحافظين. وكانت أهم سمات هذا الشعر الذي ظهر مع هؤلاء سمتين، هما التجديدية والذهنية، أما التجديدية فتتمثل في جانبين، جانب المفهوم الحقيقي للشعر، وجانب الشكل الفني للقصيدة، والمفهوم الحقيقي للشعر عندهم هو أن الشعر تعبير عن النفس الإنسانية في فرديتها وتميزها، والشكل الفني للقصيدة هو ما يقوم على اعتبارها كائنًا حيًّا، لكل جزء من أجزائه وظيفة ومكان، كوظيفة عضو المس ومكانه2.

وأما الذهنية، فتتمثل في رعاية الجانب الفكري في النسيج الشعري، وعدم قصر هذا النسيج على خيوط من العاطفة وحدها، فالواجب عندهم أن يخاطب الشعر العقل كما يخاطب القلب، وأن يتسع مفهوم الوجدان بحيث يشمل كل ما يجده الإنسان في نفسه من شعور، ومن فكر معًا3.

ومن هنا ثار هؤلاء المجددون على طريقة المحافظين، ونعوا عليهم اتخاذهم النماذج البيانية القديمة مثلًا أعلى4، كما نعوا عليهم زجهم بالشعر في المناسبات والمحافل5، والبعد عن النفس الإنسانية6، كما عابوهم أيضًا بالاهتمام

1 انظر: شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي للعقاد ص192-194.

واقرأ بعض الأصول النقدية التي عرف بها هازلت، والتي شاعت بعد ذلك عند هؤلاء الشعراء المصريين: Lectrres on English Poets: William Hazlitt، PP. 1-18.

2 شعراء مصر وبيئاتهم ص7.

3 ديوان بعد الأعاصير ص45، والشعر المصري بعد شوقي الحلقة الأولى ص41.

4 شعراء مصر وبيئاتهم ص52، وخلاصة اليومية للعقاد ص105 وما بعدها.

5 اقرأ مقالًا للعقاد في صحيفة عكاظ عدد 9 مارس سنة 1914.

6 خلاصة اليومية ص105 وما بعدها، وشعراء مصر ص7.

ص: 150

بقشور الأشياء وظواهرها1، وعدم اتضاح الشخصية وتميزها2، وأخيرًا عابوهم بعدم رعاية الوحدة العضوية في القصيدة3.

ونتيجة لطموح هؤلاء الشبان وكبر آمالهم، وعدم مواتاة إمكانيات عصرهم بالنسبة إليهم، أو نتيجة لشعورهم بعدم القدرة على تحقيق آمالهم الفنية، وشق طريقهم أمام هذا الطود الشامخ، الذي يمثله الاتجاه المحافظ البياني، ويتربع عليه الشاعر الكبير شوقي؛ قد أحس هؤلاء الشعراء الشبان بكثير من المرارة والظلم4، فشابت حركتهم ثورة، وأخذت أحيانًا شكل تدمير، فلم يكتف هؤلاء الثائرون بإذاعة شعرهم الجديد، الذي يمثل مذهبهم التجديدي، وطابعهم الذهني، وإنما قدموا لشعرهم وصاحبوه، وأتبعوه بمقالات وكتابات تهدم الاتجاه القديم، وتجرح أعلامه وخصوصًا شوقي وحافظ5، وتصل في هذا وذاك إلى درجة كبيرة من المبالغة، وهذا مظهر من مظاهر المرارة والإحساس بالظلم. وهناك مظر آخر لتلك المرارة، وهو كثرة الشكوى، وانعكاس طابع الأسى عمومًا على كثير من نماذج الشعر لهؤلاء الشباب6.

أ- زيادة هذا الاتجاه:

يذهب بعض الدارسين إلى أن الشاعر خليل مطران، هو الأب الشرعي لهذا الاتجاه7. ويعللون هذا الرأي بأن الشاعر مطران، قد بدأ يكتب عن

1 الشعر المصري بعد شوقي الحلقة الأولى ص6.

2 شعراء مصر وبيئاتهم ص156، 167-168.

3 المصدر السابق ص7، والشعر المصري بعد شوقي الحلقة الأولى ص15.

4 الشعرالمصري بعد شوقي الحلقة الأولى ص4-5.

5 المصدر السابق ص4.

6 اقرأ بعد الأعاصير ص45.

7 انظر: مطران لإسماعيل أدهم ص33-34، وجماعة أبولو لعبد العزيز الدسوقي ص95.

ص: 151

خطوط هذا الاتجاه الشعري الجديد منذ سنة 1900، حين كتب في المجلة المصرية مبشرًا به، لافتًا الأنظار إليه، بمثل قوله:"إن اللغة غير التصور والرأي، وإن خطة العرب في الشعر لا يجب حتمًا أن تكون خطتنا، بل لهم عصرهم ولنا عصرنا، ولهم آدابهم وأخلاقهم وحاجاتهم وعلومهم، ولنا آدابنا وأخلاقنا وحاجاتنا وعلومنا، ولهذا وجب أن يكون شعرنا مماثلًا لتصورنا وشعورنا، لا لتصورهم وشعورهم، وإن كان مفرغًا في قوالبهم، محتذيًا مذاهبهم اللفظية1".

ثم أذاع ديوانه سنة 1908، مصدرًا بمقدمة تمثل الخطوط العريضة للمبادئ الأساسية لهذا الاتجاه، ومحتويًا على كثير من النماذج التي تعتبر تطبيقًا ناجحًا له. وفي هذه المقدمة يقول مطران:"هذا شعر ليس ناظمه بعبده، ولا تحمله ضرورات الوزن، أو القافية على غير قصده، يقال فيه المعنى الصحيح باللفظ الفصيح، ولا ينظر قائله إلى جمال البيت المفرد، ولو أنكره جاره، وشاتم أخاه، ودابر المطلع، وقاطع المقطع، وخاتم الختام، بل ينظر إلى جمال البيت في ذاته، وفي موضعه، وإلى جملة القصيدة في تركيبها وترتيبها، وفي تناسق معانيها ومواقفها2".

ويضيف أصحاب هذا الرأي أن العمل الشعري الأول لهذا الاتجاه، قد ظهر سنة 1909، وهو الديوان الأول لشكري، ثم تبعه الديوان الأول للمازني سنة 1913، وأخيرًا ظهر الديوان الأول للعقاد سنة 1916، وقد يزيد أصحاب هذا الرأي أن العمل النقدي الأول الذي يحوي مبادئ هؤلاء في تجديد الشعر، إنما هو كتاب الديوان، الذي أصدره العقاد والمازني سنة 1921، وهذا معناه عند أصحاب هذا الرأي أن هؤلاء الشعراء المجددين المصريين الثلاثة، قد أظهروا آثارهم التجديدية بعد كتابات مطران التي تعتبر الريادة الأولى لهذا الاتجاه3.

1 المجلة المصرية سنة 1900 العدد الثالث ص85.

2 ديوان مطران -المقدمة.

3 انظر: مطران لإسماعيل أدهم ص33- 34، وتطور الشعر الحديث في مصر للدكتور ماهر حسن ص175، وما بعدها.

ص: 152

ولكن العقاد ينكر تأثره هو أو أحد رفاقه بمطران، ويؤكد أنه كان هو وزميلاه يتعرفون على ألوان التجديد في الشعر بقراءاتهم المباشرة في الأدب الإنجليزي، وعدم احتياجهم، لأن يتأثروا بالتجديد نقلًا عن مطران، الناقل بدوره عن الفرنسية، بل يبالغ العقاد فيرى أن مطران قد تأثر بهؤلاء الشعراء الثلاثة، ويستدل على ذلك باتجاه مطران أخيرًا إلى الأدب الإنجليزي، وترجمته لبعض أعمال شكسبير1.

والواقع أن العقاد وصاحبيه، لم يظلوا غافلين عن التجديد حتى ظهر ديوان مطران سنة 1908، ولم يكن كتاب "الديوان" الذي ظهر سنة 1921 هو بداية المعركة بينهم وبين المحافظين؛ فالحق أن كتاباتهم التجديدية قد بدأت بكتابات العقاد في صحيفة الدستور منذ سنة 1907، حيث نشر بها وبغيرها آراء نقدية تجديدية عن "التشبيه الشعري"، و"الشعر والألفاظ"، و"الكاتب والشاعر" وغير ذلك2، والحق أيضًا أن معركتهم مع المحافظين قد بدأت بنقدات العقاد لحافظ وشوقي، التي بدأها منذ سنة 1909، مثل نقده لحافظ إبراهيم، ونعيه عليه خلطه للأغراض في قصيدة واحدة، وقوله عند سنة 1909 ما خلاصته، أنه أخذ قطعة من الحرير، وقطعة من المخمل وقطعة من الكتان، وكل منها صالح وحده لصنع كساء فاخر في نسجه ولونه، ولكنها إذا جمعت على كساء واحد، فتلك مرقعة الدراويش3.

ومثل نقده لشوقي، واتهامه له بالغول والتقليد وعدم الصدق، وقوله عنه سنة 1910ما نصه:

"ليت شعري ماذا كان يعني شوقي بك بقوله على قبر بطرس غالي باشا:

القوم حولك يا ابن غالي خشع

يقضون حقًّا واجبًا وذماما

يتسابقون إلى ثراك كأنه

ناديك في عهد الحياة زحاما

1 شعراء مصر وبيئاتهم ص200.

2 نشر العقاد هذه الآراء بعد ذلك في كتابه خلاصة اليومية الذي ظهر سنة 1912.

3 أفيون الشعوب للعقاد ص152.

ص: 153

يبكون موثلهم وكهف رجائهم

والأريحي المفضل المقداما

أكان يريد أن يقول: إن زائري قبر الراحل، وفيهم ساداته الأمراء والوزراء والعظماء والعلماء، وفيهم نائب مولاه الأمير، ووكلاء الدول وأكابر السراة والوجهاء؛ أكان يريد أن يقول: إن هؤلاء كلهم ممن كانوا يقصدون من نادى ابن غالي موئلا وكهف رجاء، يستعطون من أريحة ساكنة الجواد، ويستدرون من أفضاله؟ أم أراد أن يقول كما قال الناس في هذا المعنى، فأخطأ التقليد؟ أم كان لا يريد أن يقول شيئًا؟ أم تراه يحسب أنهم ملكوا عليه حتى دموع عينيه، وأنه نائحة المعيَّة، أعد ليرثي كل من يموت من خدامها بلا مقابل؟! 1".

وقد اتضحت المعركة بظهور دواوين شكري، والمازني والعقاد، وكتاباتهم في تأييد مذهبهم، ونقد المذهب المقابل، ومن أهم ما كان من تلك الكتابات المتقدمة زمنًا، المقدِّمة التي كتبها العقاد للجزء الثاني من ديوان شكري سنة 1913، والمقدمة التي كتبها في نفس العام للجزء الأول من ديوان المازني، والتي يقول فيها: "لقد تبوأ منابر الأدب فتية لا عهد لهم بالجيل الماضي، ونقلتهم التربية والمطالعة أجيالًا بعد جيلهم، فهم يشعرون بشعور الشرقي، ويتمثلون العالم كما يتمثله الغربي، وهذا مزاج أول ما يظهر من ثمراته، أن نزعت الأقلام إلى الاستقلال ورفع غشاوة الرياء، والتحرر من القيود الصناعية، هذا من جهة الأغراض، أما من جهة الروح والهوى، فلا يعسر على البصير أن يلمح القطوب للحياة في أسر الشاعر العصري الحديث.. وحسب الأدب في العصر الحديث من روح الاستقلال في شعرائه، أنهم رفعوه من مراغة الامتهان التي عفرت جبينه زمنًا، فلن نجد اليوم شاعرًا حديثًا يهنئ بالمولود، وما نفض يديه من تراب الميت، ولن نراه يطري من هو أول ذامية في خلوته،

1 خلاصة اليومية للعقاد ص21-22، والكتاب منشور سنة 1912، ولكنه يجمع مقالات نشر قبل ذلك، وقد كان اغتيال بطرس غالي سنة 1910.

ص: 154

ويقذع في هجو من يكبره في سريرته، ولا واقفًا على المرافئ يودع الذاهب ويستقبل الآيب1".

ومن تلك الكتابات كذلك، المقالات النقدية التي كتبها المازني في صحيفة عكاظ سنة 1913، ناقدًا لحافظ إبراهيم، ومقارنًا بينه وبين عبد الرحمن شكري، وقائلًا في ذلك: "

وبعد فإن حافظًا إذا قيس إلى شكري لكان كالبركة الآجنة، إلى جانب البحر العميق الزاخر، وحسب القارئ أن يتأمل ديوانيهما ليعلم ما بينهما من البعد، وليعرف كيف يقعد الخيال بحافظ، ويسمو بشكري في سماء الفكر، وكيف يجني التقليد على رجل، ويغلق في وجهه أبواب التصرف والتفنن؛ فإن حافظًا قد حذا في شعره حذو العرب، وقلدهم في أغراضهم، وفرط عنايتهم بإصلاح اللفظ، وإن فسد المعنى2".

ومن تلك الكابات المتقدمة أيضًا، كتابات العقاد في صحيفة عكاظ سنة 1914 بعنوان "شعر الندابون"، ومما جاء في تلك الكتابات قوله:"إن للشعراء الندابين شعرهم وللعصر شعره، وعليهم أن يقروا في قبورهم، ويتزملوا بأكفانهم، حتى إذا تهدم جدار أو اصطدم قطار أو وقع طيار، هنالك يثوّب الداعي بهم3".

على أن من أهم الكتابات الموضحة لمعالم هذا الاتجاه، ما جاء في مقدمة شكري لديوانه الخامس الصادر سنة 1916، والتي يقول فيها: "

ويمتاز الشاعر العبقري بالشره العقلي، الذي يجعله راغبًا في أن يفكر كل فكر، ويحس كل إحساس.. ولقد فسد ذوق المتأخرين في الحكم على الشعر، حتى صار الشعر عبثًا لا طائل تحته؛ فإذا تغزلوا، جعلوا حبيبهم مصنوعًا من قمر وغصن، وتل وعين من عيون البقر، ولؤلؤ وبرد.. وأجل المعاني

1 ديوان المازني -المقدمة ص13-14 "طبعة المجلس الأعلى".

2 صحيفة عكاظ عدد السابع والعشرين من يوليو سنة 1913.

3 صحيفة عكاظ عدد التاسع من مارس سنة 1914.

ص: 155

الشعرية ما قيل في تحليل عواطف النفس، ووصف حركاتها

والشعر ما أشعرك وجعلك تحس عواطف النفس إحساسًا شديدًا، لا ما كان لغزًا أو خيالًا من خيالات معاقري الحشيش. فالمعاني الشعرية، هي خواطر المرء وآراؤه وتجاربه، وأحوال نفسه وعبارات عواطفه

إن قيمة البيت في الصلة بين معناه، وبين موضوع القصيدة.. ومثل الشاعر الذي لا يعني بإعطاء وحدة القصيدة حقها، مثل النقاش الذي يجعل نصيب كل أجزاء الصورة التي ينقشها من الضوء نصيبًا واحدً1".

وليس يبعد بعد ذلك أن يكون مطران بما كتبه مبكرًا في المجلة المصرية سنة 1900، قد كان من عوامل التنبيه، التي حمست هؤلاء الشبان على ارتياد آفاق جديدة في الشعر ونقده، وإن كان من البعيد جدا أن يصل هذا التنبيه المحتمل إلى مستوى الأستاذيه أو الريادة؛ وذلك لما عرفنا من تمكن هؤلاء الشبان من أداة الاتصال بالينابيع الشعرية الجديدة في مصادرها الأصلية، ثم لما نعرف من انطوائية مطران ووضعه الحساس، كواحد من مهاجري الشام المسيحيين؛ الأمر الذي يصعب معه أن يكون إمامًا، أو رائدًا لمثل هؤلاء الشبان الثائرين الطامحين الغيورين.

هذا، وكما يعتبر شوقيس قمة الاتجاه المحافظ البياني، يعتبر العقاد قمة هذا الاتجاه التجديدي الذهني، فهو الذي حمل لواءه، في وفرة النتاج واستمراره، وتنوع جوانبه، وهو الذي ظل يكافح عن تقاليده أكثر من خمسين عامًا دون أن يلين أو يفتر، وهو الذي خلف تلاميذ يعتبرون امتداد هذا الاتجاه بعد عمده الثلاثة الأول2.

ب- موضوعات هذا الاتجاه:

ظهر هذا الاتجاه التجديدي الذهبي، كرد فعل للاتجاه المحافظ البياني.

ولذا كان فيه عند أول ظهوره، شيء من المبالغة التي تصاحب عادة ردود

1 ديوان شكري ص360-367 "الديوان الكامل الذي صدر سنة 1960".

2 من أمثال: عبد الرحمن صدقي، ومحمود عماد، وطاهر الجبلاوي.

ص: 156

الأفعال، ففي مجال الموضوعات، نجد أعلامه يبتعدون كثيرًا عن المجال الخارجي، النائي عن نفس الشاعر ووجدانه، فلا يقولون في المناسبات، ولا في السياسات ولا في الإصلاحيات، وإنما يهتمون كل الاهتمام بالعالم النفسي للشاعر، وما يتصل بهذا العالم من تأملات فكرية، ونظرات فلسفية، تهتم بحقائق الكون، وتفتش عن أسرار الوجود، وواضح أن ذلك كان رد فعل لتطرف المحافظين، وإسرافهم في الخوض بالشعر في شتى المناسبات، والمجاملات من مدح ورثاء وتهنئة، وما إلى ذلك.

ومن هنا يتحدث العقاد عن المعرفة، ويقرر أن نهايتها كالذرى الثلجية، يجمد عندها الوجود؛ حيث تتعرى الحقائق، وتختفي من الحياة حرارة الشوق إلى المجهول

وفي ذلك يقول من قصيدة "القمة الباردة".

إذا ما ارتقيت رفيع الذرى

فإياك والقمة البارده

هنالك لا الشمس دوارة

ولا الأرض ناقصة زائده

ولا الحادثات وأطوارها

مجددة الخلق أو بائده

ويا بؤس فإن يرى ما بدا

من الكون بالنظرة الخالدة

فذلك رب بلا قدرة

وحي له جثة هامده

إلى الغور، أما ثلوج الذرى

فلا خير فيها ولا فائده1

ويتحدث كذلك عن الحياة، ويوضح أن فيها استمرارًا يذوب معه الأمس في اليوم، ويبقى الأب في الابن. وفي ذلك يقول من قصيدة "أمنا الأرض":

أسائل أمنَّا الأرضا

سؤال الطفل للأم

فتخبرني بما أفضى

إلى إدراكه علمي

1 ديوان العقاد ص206.

ص: 157

جزاها الله من أم

إذا ما أنجبت تئد

تغذي الجسم بالجسم

وتأكل لحم ما تلد

أقاموا أمس وانصرفوا

فليس لفلهم شمل

فأين نفوس من سلفوا

وأين يكون من يتلو

فقالت: في ملامحكم

يبين الجد والخلف

فجرسوا في جوانحكم

فثم يجوس من سلفوا

وأين عظام من نبها

ن الماضين في السير

فقالت: قد صنعت بها

لكم حلوى من الثمر1

كذلك يتحدث المازني عن قضية الجبر، وتحكمه في مصائر البشر، وفرضه للخير والشر على الناس، فيقول من قصيدة له:"على لسان الأقدار":

بأيدينا قلوبكم

لنا فيها ألاعيب

وفينا الخير موجود

ومنا الشر مجلوب

ولا عن صرفنا معدى

ولا في الأرض محجوب

نصرف أمر دنياكم

بما فيه الأعاجيب2

كما يتحدث عن مأساة الإنسان، وغروره برغم عجزه، وسخطه برغم ملازمة الظلم له، وفي ذلك يقول من قصيدة بعنوان "الإنسان والغرور":

أقم وادعًا واصبر على الضيم والأذى

فإنك إنسان وجدك آدم

وهبك على الدنيا سخطت وظلمها

أتملك دفع الظلم، والظلم لازم

بني آدم للغرور رمى بكم

مراميه، حتى غدا وهو حاكم

1 ديوان العقاد ص148.

2 ديوان المازني ص150 "طبعة المجلس الأعلى لرعاية الفنون".

ص: 158

تظنون أن الأرض قد بسطت لكم

ومن أجلكم تجري الغمام الروائم

وأن النجوم الزهر علقن زينة

تقر بها الألحاظ وهي هوائم

فما لكم لا تنظمون نثيرها

فيصبح منها حليكم والتمائم؟! 1

ثم يتحدث شكري عن فكرة البعث، وما يكتنفه من فزع وهول، ويتخذ من ذلك وسيلة لتصوير إحساسه بثقل الحياة وعبء العيش، حتى ليتمنى الموت الأبدي، ويكره البعث الذي يعود به إلى الحياة من جديد؛ وذلك لما يتصور في العودة إلى الحياة من تكرار لما فيها من آثام العيش، وسخافات الناس.. وفي ذلك يقول شكري من قصيدته "حلم بالبعث" التي اتخذ لها صورة الحكاية التي تقع أحداثها في حلم:

رأيت في النوم أني رهن مُظْلمة

من المقابر ميتا حوله رِمَمُ

ناء عن الناس، لا صوت فيزعجني

ولا طموح ولا حُلم ولا كلم

مطهر من عيوب العيش قاطبة

فليس يطرقني هم ولا ألم

ولست أشقى لأمر لست أعرفه

ولست أسعى لعيش شأنه العدم

فلا بكاء ولا ضحك ولا أمل

ولا ضمير ولا بأس ولا ندم

والموت أطهر من خبث الحياة وإن

راعت مظاهره الأجداث والظلم

مازلت في اللحد ميتًا ليس يلحقني

نبح العدو وبي عن نبحه صمم

مرت علي قرون لست أحفظها

عدا كأن مر بي الآباد والقدم

حتى بعثت على نفخ الملائك في

أبواقهم وتنادت تلكم الرمم

وقام حولي من الأموات زعنفة

هوجاء كالسيل جمٌّ لُجُّه عرم

فذاك يبحث عن عين له فقدت

وتلك تعوزها الأصداغ واللمم

وذاك يمشي على رجل بلا قدم

وذاك غضبان لا ساق ولا قدم

ورب غاضب رأس ليس صاحبه

وصاحب الرأس يبكيه ويختصم

ويبحثون عن المرآة تخبرهم

عن قبح مما تترك الأجداث والعدم

جاءت ملائكة باللحم تعرضه

ليلبس اللحم من أضلاعنا الوَضَم

1 المصدر السابق ص 157.

ص: 159

رقدت مستشعرًا نومًا لأوهمهم

أني عن البعث بي نوم وبي صمم

فأعجلوني، وقالوا: قم فلا كسل

ينجي من البعث، إن الله محتكم

قد مت ما مت في خير وفي دعة

وقد بعثت، فماذا ينفع الندم

استغفر الله من لغو ومن عبث

ومن جناية ما يأتي به الكلم1

على أن الشعراء التجديديين الذهنيين لم يحصروا أنفسهم في الموضوعات التجريدية، كالمعرفة والحياة والجبر، والغرور والبعث؛ وإنما طرقوا كثيرًا من الموضوعات الحسية، ولكن على طريقتهم؛ تلك الطريقة التي يغلب أن تتخذ من البصر طريقًا إلى البصيرة، ومن الحس سبيلًا إلى المعنى، ومن المحدود معبرًا إلى ما لا يحد، فهم يتناولون الموضوع الحسي لا ليصفوه من الخارج، متحدثين عن حجمه ولونه، ذاكرين ما يشبهه من الأشياء أو ما لا يشبهه؛ وإنما يتناولون المحسوس لينتقلوا منه إلى نفوسهم، ويصوروا ما يثيره فيها هذا المحسوس العابر من خوالد المعاني2، ولنأخذ مثلًا لذلك قول العقاد عن "العقاب الهرم":

يهم ويعيبه النهوض فيجثم

ويعزم إلا ريشه ليس يعزم

لقد رنق الصرصور، وهو على الثرى

مكب، وقد صاح القطار وهو أبكم

يلملم حدباء القدامى كأنها

أضالع في أرماسها تتهشم

ويثقله حمل الجناحين بعد ما

أقلاه، وهو الكاسر المتقحم

جناحين لو طارا لنصت فدومت

شماريخ رضوى واستقل يلملم

ويغمض أحيانًا، فهل أبصر الردى

يحط عليه أم بماضيه يحلم؟؟

لعينيك يا شيخ الطيور مهابة

يفر بغاث الطير عنها ويهزم

وما عجزت عنك الغداة وإنما

لكل شباب هيبة حين يهرم3

فالعقاد في هذا الأبيات يرسم صورة العقاب الهرم، من خلال نفسه وما

1 ديوان شكري ص241.

2 انظر: العقاد -دراسة وتحية، مقال الدكتور زكي نجيب محمود عن العقاد الشاعر ص37 وما بعدها.

3 ديوان العقاد ص30.

ص: 160

أثار فيها مشهد هذا العقاب من أحاسيس، وهو بهذا الرسم الملون بلون نفس الشاعر، أو النابع من داخله ينقل القارئ من الصور الجزئية العابرة للعقاب الهرم، إلى الصورة الكلية الخالدة، لكل مجلد تليد تمسه عوادي الأيام، فتصيب منه الجانب المادي، أما الجانب المعنوي فيه، فيبقى برغم العوادي وبرغم الأيام، حاملًا على الإجلال باعثًا للمهابة1.

حـ- أسلوب هذا الاتجاه:

وفي مجال الأسلوب نجد هؤلاء الشعراء التجديديين يبتعدون غالبًا عن اتخاذ النماذج القديمة مثلًا أعلى؛ فلا يتمثلون معانيها، ولا يترسمون صورها، ولا يحاكون بناءها، وإنما يرتبطون بها فقط في حدود استخدام اللغة العربية في تراكيب قويمة، ولكن للتعبير عن معانيهم هم، ولتصوير صور من تأليفهم هم، ثم لتأليف بناء شعري من تصميمهم هم. يفعلون ذلك وإن سبب شيئًا من عدم رونق الصياغة، أو جر إلى البعد -بعض الشيء- عن إشراق البيان.

كما نجد هؤلاء التجديديين أيضًا يحاولون جاهدين أن يستنبطوا الحقائق، وينفذوا من الأمور إلى الجوهر، غير مكتفين بالظواهر، ولا واقفين عند المحسوسات، يفعلون ذلك وإن أدى في بعض الأحيان إلى شيء من البرود في الشعر، أو أفضى إلى شيء من الجفاف في القصيد.

وأخيرًا نجدهم يحاولون تحقيق الوحدة في القصيدة، وجعلها بناء حيًّا بحيث لا تتعدد أغراضها، ولا تتنافر أجزاؤها، وإنما تتناول تجربة واضحة، وتصلح لأن يوضع لها عنوان يشير إلى مضمونها، على أن تتآزر أجزاؤها، ويؤدي كل منها وظيفة حية في مكانه.

1 العقاد -دراسة وتحية ص37 وما بعدها.

ص: 161

د- العاطفة في هذا الاتجاه:

وفي مجال العاطفة، يلاحظ على شعر هذا الاتجاه التجديدي الذهني أن العاطفة قد تأتي وراء الذهن، على أن تلك العاطفة حين تنضح تكون من لون مفعم بأحاسيس الأسى، مليء بمشارع المرارة، جياش بالحزن والضيق الذي يبلغ أحيانًا حد اليأس، وليس من شك في أن قراءات رواد هذا الاتجاه في الأدب الرومانتيكي الإنجليزي، قد كان لها أثر في شيوع هذه العاطفة في شعرهم، ولكن طبيعة هؤلاء الرواد أولًا، وظروف حياتهم ثانيًا، كان لها أعظم الأثر في هذا الشأن، فإحساسهم المفرط بما يكتنف الحياة من مظالم وشرور وآثام، ومعاناتهم الواعية للمتاعب، والعقبات التي سدت الطرق إلى ما كانوا يرون أنفسهم جديرين به من مجد، ومقاساتهم الشديدة لألوان من الاضطهاد التي وصلت أحيانًا إلى درجة المحاربة في الرزق، كل ذلك كان المصدر الأول لهذه العواطف المفعمة بالأسى، المليئة بالمرارة، الجياشة بالحزن والضيق الذي يبلغ أحيانًا حد اليأس.

ومما يمثل هذا الطابع من شعر المازني قوله في قصيدة يعبر بها عن مأساة الضيق بالحياة وعدم احتمالها، نتيجة لفرط الإحساس، وخيبة الآمال، وتحدي الأحداث المستمر:

لبست رداء الدهر عشرين حجة

وثنتين، يا شوقي إلى خلع ذا البرد

عزوفًا عن الدنيا، ومن لم يجد بها

مرادًا لآمال تعلل بالزهد

تراغمني الأحداث حتى كأنني

وجدت على كره من الحدثان

فلا هي تصمي القلب مني إذا رمت

ولا ترعوي يومًا عن الشنآن

أبيت كأن القلب كهف مهدم

برأس منيف فيه للريح ملعب

أواني في بحر الحوادث صخرة

تناطحها الأمواج وهي تقلب

ص: 162

سأقضي حياتي ثائر النفس هائجًا

ومن أين لي عن ذاك هدى ومذهب

على قدر إحساس الرجال شقاؤهم

وللسعد جو بالبلادة مشرب1

ومما يمثل هذا الطابع من شعر العقاد، قوله في قصيدة يصور فيها تجربة الظمأ الروحي، والسأم النفسي، والحيرة العقلية، واليقضة الشعورية، والعجز المعذب عن نيل السعادة أو السلو عنها:

ظمآن ظمآن لا صوب الغمام ولا

عذب المدامخ ولا الأنداء ترويني

حيران حيران لا نجم السماء ولا

معالم الأرض في الغماء تهديني

يقظان يقظان لا طيب الرقاد يدا

ويني، ولا سمر السمار يلهيني

غصان غصان لا الأوجاع تبليني

ولا الكوارث والأشجان تبكيني

شعري دموعي وما بالشعر من عوض

عن الدموع نفاها جفن محزون

يا سوء ما أبقت الدنيا لمغتبط

على المدامع أجفان المساكين

هم أطلقوا الحزن فارتاحت جوانحهم

وما استرحت بحزن في مدفون

أسوان أسوان لا طب الأساة ولا

سحر الرقاة من اللأواء يشفيني

سأمان سأمان لا صفو الحياة ولا

عجائب القدر المكنون تعنيني

أصاحب الدهر لا قلب فيسعدني

على الزمان ولا خل فيأسوني

يديك فامح ضنى يا موت كبدي

فلست تمحوه إلا حين تمحوني2

وكثير من شعر شكري يمثل هذا الطابع الذي رأيناه بوضوح في "حلم بالبعث".

وليس كل شعر أصحاب هذا الاتجاه آخذًا هذا المنحى الباكي، وليس كله مفعمًا بالعاطفة على هذا النحو؛ فلهم كثير من الشعر في مناح أخرى، تصل أحيانًا إلى حد السخرية والإضحاك، كما لهم كثير من الشعر لا تكاد تحس فيه إلا برودة الذهن وجفاف العقل، ولكن طابع النفس الإنسانية وقلقها وعدم

1 ديوان المازني ص42-44.

2 ديوان العقاد جـ2 ص154.

ص: 163

رضاها، وطابع الفكر الممزوج بالعاطفة، أو العاطفة التي يساندها الفكر، وهو الطابع الغالب على شعر هؤلاء الشعراء.

هـ- التجديديون بين النظرية والتطبيق:

وبعد، فهل وفت كل نماذجهم بمبادئ مذهبهم؟ أو جاءت كل أشعارهم ممثلة لدعوتهم؟ الحق أننا لا نرى التطابق الكامل بين مذهبهم النظري، وكل نماذجهم التطبيقية، وخاصة بعد امتداد الزمن بهم، وبعدهم رويدًا رويدًا عن التحمس لتجديداتهم، أو عن فترة رد الفعل الذي صاحب حركتهم، فقد رأينا العقاد ثملًا -وهو أقواهم شكيمة، وأشدهم تحمسًا لهذا المذهب- يعود فيمدح، ويشارك بشعره في بعض المناسبات، ويضطر إلى الاعتذار عن ذلك بأن المدح الصادق لا يعاب على الشاعر1، بل إننا رأينا العقاد وبعض رفاقه يعارضون بعض نماذج الشعر القديم، ومن أمثلة ذلك معارضتهم لنونية ابن الرومي، كما رأينا كثيرًا من نماذجهم لا تتحقق فيها الوحدة على الوجه الذين طالبوا به في كتاباتهم.

ومع ذلك قد أحدث اتجاههم تأثيرًا كبيرًا في حياة الشعر الحديث، وخلق تيارًا ثانيًا إلى جانب التيار الأول، قد يتشرك مع في بعض السمات، ولكنه يخالفه في كثير من الأسس، وهو بعد ذلك يمثل حلقة هامة في سلسلة تطور الشعر العربي الحديث، برغم أن الاتجاه المحافظ ظل مسيطرًا، وغالبًا على الشعراء وجمهور الشعر جميعًا، وربما كانت تلك الغلبة لما كان يساند كبيري الشعر المحافظ من اعتبارات خارجة عن طبيعة الفن، ككون شوقي شاعر القصر، والقادر على تحريك الأقلام وكسب الأنصار، وكون حافظ شاعر الزعماء السياسيين، والحائز على عطف طبقات الشعب، وربما كان لغلبة الطاقة الشعرية والقدرة البيانية عند واحد كشوقي، أثر في شيوع حب

1 ديوان بعد الأعاصير -المقدمة، وشعراء مصر وبيئاتهم ص18.

ص: 164