الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأدب وأولى محاولات التجديد
الشعر
…
الأدب وأولى محاولات التجديد:
أما الأدب فقد ظل -في جملته- على ما كان عليه من قبل، فكان أبرز الأدباء طائفة من الشيوخ ذوي الثقافة التقليدية، وممن عاشوا على التراث الأدبي المتصل بالعهد التركي، ولم يظهر من بين أصحاب الثقافة الحديثة من يمثلون اتجاهًا مقابلًا في الأدب للاتجاه القديم، كما حدث في العلم؛ لأن التحول كان تحولًا علميًّا، لم يمس الحياة الأدبية مسًّا واضحًا، ومع ذلك فقد ظهر في كتابات قلة من ذوي الثقافة الجديدة بعض لمحات تجديدية جديرة بالتسجيل في الشعر والنثر على السواء، وهذا تفصيل القول في كل من الفنيين الأدبيين.
1-
الشعر:
كان أكثر الشعر من هذا اللون التقليدي المتخلف الرديء، الذي يسير هزاله وتهافته بألوان من المهارة اللفظية، والحيل اللغوية، والمحسنات البديعية المتكلفة، كعمل أبيات تقرأ من اليسار كما تقرأ من اليمين، أو أبيات كل كلماتها معجم الحروف، أو كل كلماتها مهمل الحروف، وكعمل أبيات أوائل حروفها تؤلف بيتًا آخر أو أبياتًا من الشعر، أو تدل على اسم معين أو تاريخ خاص، وكعمل أبيات كل كلماتها مبدوءة بحرف معين، أو كل كلماتها مفرقة الحروف، وما إلى ذلك.
ومن النماذج السائرة في هذا الاتجاه، أغلب أشعار الشيخ على الدرويش1،
1 اقرأ ترجمته في: تاريخ آداب اللغة العربية لجورجي زيدان جـ4 ص212، والآداب العربية في القرن التاسع عشر للويس شيخو جـ1 ص79، وأعيان البيان للسندوبي ص46، وأعلام من الشرق والغرب لمحمد عبد الغني حسن ص56.
فهو مثلًا يتغزل ببيتين بادئًا كل الكلمات فيها بحرف العين، فيقول:
علي على عينيك عذل عواذلي
…
عذاب، عليها عند عاشقها عذب
عذارك عذري، عجب عطفك عدتي
…
عيونك عضبي عاد عائبها عضب1
ومثل الشيخ علي الدرويش كثيرون، مثل الشيخ محمد شهاب الدين المصري2، الذي يقول في الوصف، جاعلًا كل همه أن يأتي بكل الكلمات مفرقة، مع ما أمكن من الجناس:
رَاحَ دَنٍ أدَرْتَ أَمْ ذوْبَ وَرْدِ
…
رَقَّ إذ دَارَ دُونَ آسٍ وَوَرْدِ
رُبَّ روضٍ أراك دَوْحَ أراكٍ
…
دُون أوراقِ وَرْدهِ رَاقَ وِرْدِى
إن ذَوَي زَارَهُ وازن رُوَاهُ
…
دَرُّ وَدْقٍ وَرَدَّهُ أيَّ رَدِّ3
وقد كانت بعض نماذج الشعر في تلك الفترة تخلو من الألاعيب والمحسنات، ولكنها تأتي سطحية الفكرة، مهزوزة الصورة فاترة التأثير، ومن ذلك قول الشيخ حسن قويدر4:
يا طالب النصح خذ مني محبرة
…
تلقى إليها على الرغم المقاليد
عروسة من بنات الفكر قد كسيت
…
ملاحة ولها في الخد توريد
كأنها وهي بالأمثال ناطقة
…
طير له في صميم القلب تغريد
احفظ لسانك من لغو ومن غلط
…
كل البلاء بهذا العضو مرصود
1 ديوان السيد علي الدرويش ص17.
2 اقرأ ترجمته في: الآداب العربية للويس شيخو جـ1 ص84 وما بعدها، وتاريخ آداب اللغة العربية لجورجي زيدان جـ4 ص213، وأعيان البيان السندوبي ص25، وأعلام من الشرق والغرب لمحمد عبد الغني حسن ص16.
3 ديوان السيد محمد شهاب الدين ص6.
4 اقرأ في ترجمته: الآداب العربية للويس شيخو جـ1 ص53، وتاريخ آداب اللغة العربية لجورجي زيدان جـ4 ص232-233، وأعيان البيان للسندوبي ص17.
واحذر من الناس لا تركن إلى أحد
…
فالخل في مثل هذا العصر مفقود
بواطن الناس في ذا الدهر قد فسدت
…
فالشر طبع لهم والخير تقليد1
على أن نماذج قليلة من شعر تلك الفترة كانت أقل تكلفًا، وأكثر قربًا من روح الشعر، ومن تلك النماذج قول الشيخ حسن العطار2 راثيًا:
أحاديث دهر قد ألم فأوجعا
…
وحل بنادي جمعنا فتصدعا
لقد صال فينا البين أعظم صولة
…
فلم يخل من وقع المصيبة موضعا
وجاءت خطوب الدهر تترى فكلما
…
مضى حادث يعقبه آخر مسرعا
وحل بنا ما لم نكن في حسابه
…
من الدهر، ما أبكى العيون وأفزعا
خطوب زمان لو تمادى أقلها
…
بشامخ رضوى أو ثبيرٍ تضعضعا
وأصبح شأن الناس ما بين عائد
…
مريضًا وثانٍ للحبيب مشيعا
لقد كان روض العيش بالأمن يانعا
…
فأضحى هشيما ظله متقشعا
أيحسن ألا يبذل الشخص مهجة
…
ويبكي دمًا إن أفنت العين أدمعا
وقد سار بالأحباب في حين غفلة
…
سرير المنايا عاجلا متسرعا
وفي كل يوم روعة بعد روعة
…
فلله ما قاسى الفؤاد وروعا3
ولعل السبب في قرب بعض نماذج قليلة كهذه من روح الشعر، أن أصحابها كانوا على شيء من الصلة بالشعر القديم الجيد، فالشيخ العطار مثلًا قد جمع طائفة من أشعار ابن سهل الإشبيلي، قد نشرت على أنها ديوان هذا الشاعر
1 الآداب العربية للويس شيخو جـ1 ص49.
2 اقرأ ترجمته في: تاريخ الجبرتي جـ4 ص232، والخطط التوفيقية جـ4 ص38، ومناهج الألباب المصرية لرفاعة الطهطاوي ص376، وتاريخ آداب اللغة العربية لجورجي زيدان جـ4 ص232، وتاريخ الحركة القومية للرافعي جـ3 ص742.
3 هذه الأبيات من قصيدة واردة في الجبرتي جـ4 ص232- 233، وهي في رثاء الشيخ محمد الدسوقي.
الأندلسي الكبير1، وهذا دليل على صلة هذا الشيخ ببعض نماذج الشعر القديم الجيد.
بل إن نماذج أقل من السابقة القريبة من روح الشعر، قد ظهرت في أواخر تلك الفترة، وتضمنت أوائل سمات التجديد، وإن لم تكن من الشيوع بحيث تعد اتجاهاً، وكان أصحاب هذه النماذج هم بعض تلاميذ ذاك الجيل السابق، وكانوا ممن أضافوا إلى ثقافتهم العربية ثقافة أجنبية، فقد نظم رفاعة الطهطاوي2
1 وهو من شعراء القرن السابع الهجري عاش أكثر حياته في إشبيليه، وكان يهوديا فأسلم ثم مات غريقًا وهو في رحلة بحرية، وكان معروفًا برقة الغزل وعذوبة الشعر، كما كان من الوشاحين الكبار.
2 ولد في طهطا سنة 1216هـ 1801م، وتنقل مع والده في بعض أقاليم الصعيد، وحين توفي والده وهو صغير تولى أخواله تربيته، وبعد أن حفظ القرآن، ومبادئ علوم اللغة والدين قدم على الأزهر، ودرس على كبار العلماء فيه، وكان من أهم أساتذته الشيخ حسن العطار، الذي كان يقرب رفاعة ويؤثره بدروس وتوجيهات علمية قيمة، وبعد أن قضى رفاعه في الأزهر ثماني سنوات، عين واعظًا وإماًما لإحدى فرق الجيش المصري، وبعد نحو عام، اختير إمامًا للبعثة التعليمية الموفدة إلى فرنسا، وكان الذي زكاة لهذه المهمة أستاذه الشيخ حسن العطار، وفي فرنسا لم يقنع بمهمة الإمامية بل تعلم اللغة الفرنسية، وشارك أعضاء البعثة في الدرس، بل فاقهم في ذلك، والغالب أنه ضم إلى أعضاء البعثة منذ أبدى استعدادًا فائقًا لهذه المهمة، وقد اتجه بصفة خاصة إلى إتقان الترجمة، التي أجادها إجادة فائقة، وإلى ذلك درس التاريخ والجغرافيا والأدب، والرياضيات، والطبيعيات، والقوانين.
وبعد نحو خمس سنوات عاد إلى مصر، فعين مترجما في مدرسة الطب ومدرسًا للترجمة بالمدرسة الفرنسية الملحقة بها، كما أسند إليه إدارة المدرسة التجهيزية التي كانت تعرف بمدرسة المارستان، ثم نقل إلى مدرسة المدفعية بطره، وعهد إليه بترجمة العلوم الهندسية والفنون الحربية، ثم أعفي من هذا العمل، وأسند إليه أمر نظارة مكتبة المدرسة التجهيزية بالقصر العيني، وكانت مكتبة كبيرة تحوي 15.000 مجلد معظمها بالفرنسية والإيطالية، كما أسند إليه رياسة فرقة الجغرافيا بهذه المدرسة، وأخيرًا نقل إلى رياسة مدرسة الألسن، التي ارتبط اسمها به، والتي صارت أشبه بكلية آداب وحقوق وتجارة معًا، وبعد نجاح باهر لمدرسة الألسن، ألغيت في عهد عباس ونقل رفاعة إلى السودان للإشراف على مدرسة ابتدائية هناك، وقد ضاق صدر رفاعه بهذا النفي كما فجع في مدرسة الألسن. =
بعض الأشعار الوطنية، كما نظم بعض الأناشيد الحماسية، كذلك نظم صالح مجدي1 -تلميذ رفاعة- طائفة من الأناشيد التي نراها في نهاية ديوانه.
وكل من الشعر الوطني وشعر الأناشيد، ذو طابع تجديدي واضح، على الأقل إذ قيس بما كان من طابع الشعر في تلك الفترة، وذلك أن الشعر الوطني، وشعر الأناشيد الحماسية، فيه حديث عن الوطن بهذا المفهوم السياسي والحاضري الجديد، وفيه كذلك تمجيد لهذا الوطن، والحث على افتدائه، وبذل كل شيء في سبيله.. ثم إن الأناشيد بخاصة فيها -إلى جانب تمجطيد الجيش- تلوين في موسيقى الشعر، من حيث تنويع الوزن وتعديد القافية، ورعاية تناسق خاص بين الأجزاء، واختيار إيقاع ملائم، يناسب الإنشاد الجماعي، أو يساير خطوات الجند ومن إليهم، وكل هذا جديد، يذكر بالفضل للرائد الطهطاوي، وتلميذه صالح مجدي.
ومن نماذج شعر رفاعة الوطني، الذي يأتي متناثرًا في قصائده قوله:
ولئن حلفت بأن مصر لجنة
…
وقطوفها للفائزين دواني
= ولما ولي سعيد خلفًا لعباس، أعيد رفاعة إلى مصر، فحاول استئناف رسالته، فعين ناظرًا ثانيًا للمدرسة الحربية، ثم رئيسًا لها فأدخل فيها كثيرًا من العلوم المدنية ليعوض بها مدرسة الألسن، حتى لقد ألحق بهما قلمًا للترجمة، جعل عليه تلميذه صالح مجدي
…
ولكن المدرسة الحربية ألغيت بعد حين على يد سعيد وعطل نشاط رفاعه الجم، وقد ظل بغير منصب حتى عهد إسماعيل، ثم عين عضوًا في قومسيون الديوان الخاص بالمدارس، كما عين عضوًا في القومسيون الخاص بالنظر في المكتبات، ثم اختير ناظرًا لقلم الترجمة، وحين أنشئت صحيفة روضة المدارس جعلت تحت نظارته، وظل في هذه المناصب حتى توفي سنة 1290هـ 1873م.
اقرأ ترجمته في: الخطط التوفيقية لعلي مبارك جـ13 ص53، ومشاهير الشرق لجورجي زيدان جـ2 ص19، وتاريخ الحركة القومية للرافعي جـ3 ص470، ورفاعه الطهطاوي للدكتور أحمد بدوي.
1 اقرأ ترجمته في مقدمة ديوانه المطبوع، وهي بقلم ابنه محمد، والخطط التوفيقية جـ8 ص22، والآداب العربية للويس شيخو جـ2 ص18، وتاريخ آداب اللغة العربية لجورجي زيدان جـ4 ص194.
والنيل كوثرها الشهي شرابه
…
لأبر كل البر في أيماني1
ومما يصلح شاهدًا على ريادة الرفاعة لفن الأناشيد الحماسية قوله:
يا أيها الجنود
…
والقادة الأسود
إن أمكم حسود
…
يعود هامي المدمع
فكم لكم حروب
…
بنصركم تؤوب
لم تثنكم خطوب
…
ولا اقتحام معمع
وكم شهدتم من وغى
…
وكم هزمتم من بغى
فمن تعدى وطغى
…
على حماكم يصرع2
ومما يلفت النظر ويحمل على الإعجاب، ما نراه في بعض هذا اللون من شعر رفاعة من تلوين في موسيقى الشعر، وخروج على رتابة النغم خروجًا لم يألفه الشعر العربي، لا في عصر الشاعر ولا فيما قبله من عصور، ولا نكاد نجد له شبيهًا إلا عند الأندلسيين الوشاحيين المجيدين، وبمثل هذا اللون من الشعر، يعتبر رفاعة من رواد التجديد في موسيقى الشعر الحديث، ومن شواهد ذلك قوله:
يا حزبنا قم بنا نسود
…
فنحن في حربنا أسود
عند اللقا بأسنا شديد
…
هام عدانا لنا حصيد
حامي حمى مصرنا سعيد
…
في عصره مجدنا يعود
بجنده المجند
…
وسيفه المهند
1 ورد هذان البيتان ضمن قصيدة لرفاعه في: تخليص الإبريز في تلخيص باريز ص191.
2 هذا النشيد وارد في مواقع الأفلاك رفاعه الطهطاوي ص10.
ونصره المؤيد
…
وعزه المشيد
في عصره مجدنا يعود1
فالشاعر فضلًا عن تلوينه للقوافي في هذا النشيد، قد استخدم بحرين، إذ استخدم مخلع البسيط في الأشطر الطوال، واستخدم مجزوء الرجز في الأشطر القصار، وهذا ما لم يجرؤ عليه إلا أئمة التجديد من الوشاحين أنفسهم.
وأغلب الظن أن رفاعه -رائد هذا الشعر الوطني، ورائد فن النشيد بصفة خاصة- قد تأثر بما قرأ وسمع من شعره فرنسي، وربما تأثر في هذا الباب بالذات، بنشيد المارسيلييز -نشيد الثورة الفرنسية المعروف- الذي ترجمه رفاعة ضمن ما ترجم من آثار الفكر الفرنسي2، وأغلب الظن كذلك أن رفاعة كان على معرفة ببعض نماذج الموشحات التي من خصائصها تنوع الأوزان والقوافي. وقد استطاع رفاعة بذكاء أن يطوع هذا القالب الغنائي الأندلسي لمضمونات وطنية وحماسية، فكانت بواكير الأناشيد في الأدب الحديث.
وخلاصة القول في شعر تلك الفترة إذن، أن الطابع العام كان الطابع التقليدي المتخلف الرديء، الذي منه نماذج تعمد إلى الألاعيب والمحسنات، كأكثر نماذج الشيخ الدرويش، والشيخ الشهاب، ومنه نماذج تنجو من الألاعيب والمحسنات، ولكن تتورط في السطحية والاهتزاز والفتور، وبالإضافة إلى هذا الطابع العام كانت توجد نماذج قليلة أقرب إلى روح الشعر، كبعض نماذج الشيخ العطار، ثم كانت توجد نماذج أقل، تحمل بواكير التجديد، كوطنيات الطهطاوي وأناشيده، وكأناشيد تلميذه صاحل مجدي، فهذه الفترة على طابعها التقليدي المتخلف الرديء، قد حوت في آخرها بذور التجديد الشعري الذي سيتضح في الفترة التالية:
1 انظر: رفاعة الطهطاوي للدكتور أحمد بدوي ص122.
2 حول ما ترجمه رفاعة متصلًا بالأدب، اقرأ: رفاعة الطهطاوي للدكتور أحمد بدوي ص182، وما بعدها.