المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ الخطابة وازدهارها: - تطور الأدب الحديث في مصر

[أحمد هيكل]

فهرس الكتاب

- ‌محتويات الكتاب

- ‌مقدمات

- ‌مقدمة

- ‌تمهيد:

- ‌الفصل الأول: فترة اليقظة

- ‌أهم أسباب اليقظة

- ‌أسلحة علمية للحملة الفرنسية

- ‌ أول الاتصال الفعلي بالثقافة الحديثة:

- ‌الأدب وأولى محاولات التجديد

- ‌الشعر

- ‌ النثر:

- ‌الفصل الثاني: فترة الوعي

- ‌أبرز عوامل الوعي

- ‌اشتداد الصلة بالثقافة الحديثة

- ‌ إحياء التراث العربي:

- ‌ مؤسسات سياسية ومجالات ثقافية:

- ‌ الثورة الأولى:

- ‌الأدب وحركة الإحياء

- ‌أولا: الشعر

- ‌الاتجاه التقليدي وبعض لمحات التجديد

- ‌ ظهور الاتجاه المحافظ البياني:

- ‌ثانيًا: النثر

- ‌ الكتابة الإخوانية، واتجاهها إلى التقليد:

- ‌ الكتابة الديوانية وميلها إلى الترسل:

- ‌ المقالة ونشأتها:

- ‌ الخطابة وانتعاشها:

- ‌ الرواية ونشأة اللون التعليمي:

- ‌ المسرحية وميلادها:

- ‌ كتب الأدب وتجددها:

- ‌الفصل الثالث: فترة النضال

- ‌حوافز النضال واتجاهاته:

- ‌ من جرائم الاحتلال البريطاني:

- ‌ مراحل النضال وطرائقه:

- ‌ بعض معالم النضال المشرقة:

- ‌الأدب بين المحافظة والتجديد

- ‌أولا: الشعر

- ‌سيطرة الاتجاه المحافظ البياني

- ‌ ظهور الاتجاه التجديدي الذهني:

- ‌ثانيًا: النثر

- ‌ المقالة وظهور أول طريقة فنية للنثر الحديث:

- ‌ الخطابة ونشاطها:

- ‌ القصص بين استلهام التراث، ومحاكاة أدب الغرب:

- ‌ المسرحية وأولية الأدب المسرحي:

- ‌الفصل الرابع: فترة الصراع

- ‌دوافع الصراع ومجالاته

- ‌بين الروح الوطنية والانحرافات الحزبية

- ‌ بين نشوة النصر، ومرارة النكسة:

- ‌ نمو الحياة الثقافية:

- ‌ غلبة التيار الفكري الغربي:

- ‌الأدب وغلبة الاتجاه التجديدي

- ‌مدخل

- ‌أولًا: الشعر

- ‌ تجمد الاتجاه المحافظ البياني:

- ‌ انحسار الاتجاه التجديدي الذهني:

- ‌ ظهور الاتجاه الابتداعي العاطفي:

- ‌ثانيا: النثر

- ‌مدخل

- ‌المقالة وتميز الأساليب الفنية

- ‌ الخطابة وازدهارها:

- ‌ القصص واستقرار اللون الفني:

- ‌ المسرحية وتأصيل الأدب المسرحي:

- ‌مراجع الكتاب

- ‌المراجع العربية

- ‌المراجع الأجنبية

الفصل: ‌ الخطابة وازدهارها:

2-

‌ الخطابة وازدهارها:

توفرت للخطابة في هذه الفترة عوامل عديدة دفعت بها أشواطًا في سبيل الرقي، حتى تجاوزت مرحلتي الانتعاش والنشاط إلى مرحلة التألق والازدهار، وبرغم أن أهم أنواع الخطابة في هذه الفترة كانت الأنواع السياسية، والقضائية، والدينية والاجتماعية -وهي الأنواع التي عرفت من قبل- فقد ارتقى كل نوع من تلك الأنواع رقيا ملحوظًا بما أتاحت له ظروف تلك الفترة من عوامل الرقي، ووسائل الازدهار.

أما الخطابة السياسية، فقد أتيح لها هذا الشعور الشديد بالحرية، والاعتزاز البالغ بالأوضاع الديمقراطية، مما أعقب ثورة سنة 1919، كما أتيح لها النشاط السياسي الزائد، والصراع الحزبي العنيف، مما أعقب نيل البلاد للاستقلال الشكلي، وفوزها بالدستور الشهيد، ثم فتحها للبرلمان المضطهد، وغرقها في الحزبية المتناحرة1.

وقد كانت كل هذه العوامل مما منح الخطاب السياسية مزيدًا من النشاط ومزيدًا من التجويد، حتى ازدهرت في المجالين الرسمي، وغير الرسمي كما لم تزدهر من قبل.

ففي المجال الرسمي -الذي كان يتمثل في البرلمان- كانت الخطابة السياسية وسيلة الحكومة لبسط خطتها، والإقناع بسياستها والدفاع عن موقفها، وكسب الثقة بها، كما كانت الخطابة أيضًا وسيلة المعارضة ضد الحكومة،

1 انظر: المقال رقم 1 من المقالات الممهدة لدراسة الأدب في هذا الفصل، وعنوانها "بين الروح الوطنية والاتجاهات الحزبية".

ص: 397

في تفنيد ما ترسم من خطة ونقض ما تتخذ من سياسة، وإضاعة ما تنال من ثقة1.

وفي المجال غير الرسمي -وهو أفسح المجالات- كانت الخطابة السياسية من أقوى وسائل الأحزاب في كسب الأنصار، وهزيمة الخصوم ومحاولة الوصول إلى الأهداف، فالحزب غير الحاكم، كان يعقد الاجتماعات السياسية، ويقيم المؤتمرات الشعبية، ليعرض أخطاء الحكومة، ويبسط أهدافه في السياسة، ويسرد وعوده إذا حكم، كل هذا على ألسنة الخطباء المحاولين لكسب الجماهير بالكلمة المنطوقة الآسرة2.

وفي كثير من الأحيان كان يحاول خطباء الحزب الحاكم -أو الأحزاب الحاكمة- أن يدافعوا عن سياسة الحكومة، وأن يبرروا مسلكها، ويسندوا وضعها، كما كانوا يحاولون تضخيم أخطاء خصومهم، وتشويه مسلك معارضيهم، كل هذا في مؤتمرات واجتماعات، تصل أحيانًا إلى حد الطواف بالبلاد والتوجه بالحديث إلى الجماهير، التي إن لم تحتشد حشدتها السلطات قسرًا!!

ومن هنا ازدهرت الخطابة السياسية، وأصبحت من أهم الأسس التي يقوم عليها الساسة، ويوزن بها رجال الحكم، حتى ليكون قسط كبير من نجاحهم والتفاف الجماهير حولهم راجعًا إلى قدرتهم الخطابية.

غير أنه يلاحظ أن هذا النوع من الخطابة كان يعتمد غالبًا على تجميل الصياغة وإحسان الأداء، وقوة التلاعب بعقول الجماهير، عن طريق التأثير الحسي والتحايل اللفظي، فكان الخطباء السياسيون -في الأعم الأغلب- أحد رجلين: الأول رجل حكم، يبسط خططًا لا ينفذ منها إلا أقل من القليل،

1 انظر: مضابط مجلس النواب منذ افتتاح البرلمان في 15مارس سنة 1924 إلى سنة 1939. وانظر: أيضًا ما يورده عبد الرحمن الرافعي في كتابه في أعقاب الثورة المصرية جـ1، 2، 3.

2 اقرأ: في أعقاب الثورة المصرية لعبد الرحمن الرافعي: جـ1، 2، 3.

ص: 398

ويعطي وعودًا لا يوفي من بينها إلا بالنزر اليسير، وكل همه أن يدافع عن وضعه ووضع حكومته بالحق حينًا، وبالباطل في كثير من الأحايين، والثاني رجل معارضة، غايته أن يزحزح الحكومة القائمة، وهدفه أن يسقط الحزب الحاكم، وذلك لكي يثبت حزبه، وتتولى الحكم جماعة من فريقه، وكان ذلك كله يبعد بالخطابة السياسية كثيرًا عن دقة الصدق ونبل الهدف، ويدنيها أحيانًا من خداع البهرج وتضليل الشعوذة، ومن هنا كانت أهم أدواتها هي تلك الأدوات المتصلة بإثارة العواطف، وأبرز سماتها هي تلك السمات المرتبطة باللعب بالمشاعر، فكانت تعتمد قبل كل شيء على العبارة الرنانة، والحملة المنغومة واللفظة التي ترتبط بمعناها مشاعر الجماهير، كألفاظ الاستقلال والحرية، والدستور والديمقراطية، والبرلمان والشعب، والجهاد والاستشهاد، وما إلى ذلك.

هذا وقد كان أبرع الخطباء السياسيين في أوائل تلك الفترة، خطيبًا عرفناه في الفترة السابقة من أبرز خطباء الجمعية التشريعية، ثم أحد زعماء الثورة المصرية التي ختمت بها تلك الفترة، هذا الخطيب هو سعد زغلول، الذي وصل إلى الذروة في الخطابة السياسية -بالمفهوم الذي كانت تعنيه السياسة في ذلك الحين- فقد عرف بقدرة فائقة على التأثير وكسب المواقف عن طريق الكلمة الملقاة في الجموع1، وعرفت له وسائل فريدة في هذا الشأن، تشخص في جملتها أهم سمات الخطابة السياسية في ذلك الوقت، وقد اعتبر سعد لذلك النموذج لخطباء السياسة، حتى إن معظم الخطباء السياسيين بعده قد تأسوه، وبلغ ببعضهم الافتتان به أن قلدوه حتى فيما عيب عليه من خصائص لا تتفق والخطابة الممتازة، فقد كان سعد مثلًا يقطع الجمل إلى كلمات، أو تراكيب يقف على آخر كل منها بالحركة2، فجاء بعض الخطباء

1 انظر: سعد زغلول لعباس العقاد ص575 وما بعدها.

2 يعلل العقاد ظاهرة التقطيع عند سعد بأنه كان لا يريد أن يفوه إلا بالكلمة المعنية دون سواها، كما يعلل ظاهرة الوقوف على أواخر الكلمات بالحركة، بأن سعدًا كان منذ صغره محبًا للامتياز كارهًا للرياء، فكان في وقوفه بالحركة مظهرًا -منذ صغره- لتمكنه من قواعد الإعراب، ومعبرًا عما في طبيعته من كره للرياء، الذي يلجأ إليه البعض حين يسكن ليسلم، ويستر الجهل ويرائي بالعلم.

انظر: سعد زغلول للعقاد ص580، 583.

ص: 399

السياسيين بعده وساروا على الطريقة نفسها، وكان سعد كذلك يوشي خطبه بالسجع، وخاصة الخطب المعدة، فجاء بعض المفتونين بسعد وطريقته، ونهجوا النهج نفسه، بل بالغوا فيه كثيرًا، ونجد صورة لذلك في خطب مطصفى النحاس التي كان كثير منها أجزاء جمل -أو كلمات- مقطعة، يسيطر عليها سجع فيها كثيرمن التكلف والافتعال.

وكان من أنبه الخطباء السياسيين -بعد سعد- مكرم عبيد، الذي كان من أهم خصائص خطبه، اللجوء إلى الاقتباس من القرآن الكريم، وقد كان مكرم في ذلك ماهرًا أشد المهارة، حيث كان مسيحيًا شأنه إلا تكون له صلة بالقرآن الكريم، فاستشهاده بكتاب الإسلام الأول واقتباسه منه، يجذب إليه مشاعر الجماهير المسلمة الغفيرة، ويحملها على الإعجاب بثقافته وسماحته وأخوته!! وقد كان مكرم يتأسى هو الآخر خطى سعد في السجع، وكان يلتزم هذا السجع في بعض خطبه التزامًا، ويتفنن فيه تفننًا، حتى ليجعل بين السجعات الرئيسية سجعات فرعية، ولكن ذلك كله مع ذكاء وفن ومهارة، تبعد به كثيرًا عن المزالق التي تورط فيها بعض من قلدوا سعدًا دون أصالة.

وفي النصف الثاني من تلك الفترة، ومع نشأة جيل جديد من السياسيين، نجد طائفة من الشباب تلمع في ميدان الخطابة السياسية، ولا تلتزم طريقة سعد ولا طريقة السياسيين القدماء عمومًا، في الميل إلى إثارة العاطفة والتلاعب بالمشاعر، والجنوح إلى المحسنات التي في مقدمتها السجع؛ وإنما تميل هذه الطائفة من الشباب كثيرًا إلى مخاطبة العقول والإشارة إلى التاريخ، وخاصة تاريخ الثورات والحركات السياسية الناهضة، كما تعمد إلى بسط الحقائق السياسية والاقتصادية والاجتماعية، كل ذلك في دقة ووضوح وترسل،

ص: 400

دون إغفال لجوانب الحرارة العاطفية، والتدفق الخطابي الآسر، وكان يمثل هذا النوع أحمد حسين، وفتحي رضوان.

وإذا كانت الخطابة السياسة قد ازدهرت ازدهارًا مشوبًا بكثير من العيوب التي فرضتها روح الفترة -وهي روح الصراع السياسي-، فإن الخطابة القضائية قد ازدهرت ازدهارًا خالصًا، وارتقت رقيًا ساميًا، حتى اكتملت أهم مقوماتها ورست أقوى دعائمها، واصبحت منذ تلك الفترة من جملة التقاليد القضائية الرائعة.

وقد تضافرت عوامل مختلفة، على منح الخطابة القضائية هذا المستوى الرفيع. وكان في مقدمة هذه العوامل، استقرار تقاليد القضاء الوطني بعد استكمال مراحله وسيره نحو تمام تمصيره، ثم ظهور جيل من رجال القضاء الممتازين -بعد جيل الرواد- يجمع إلى الثقافة القانونية المستوعبة قدرة بيانية، وخطابية رائعة، وذلك لما لهم من صلة وثيقة بالتراث العربي وعيون أدبه، كذلك كان من أهم العوامل التي منحت الخطابة القضائية الازدهار، والرقي في تلك الفترة، ما كان من ممارسة رجال القضاء لعدد من القضايا الكبرى، التي خلفتها طبيعة المرحلة، بما حفلت به من معارك سياسية ووطنية1، فقد

1 مثل قضية "السردار" الذي اغتال فيها بعض الشباب الوطني المتحمس "السيرلي ستاك""سردار" الجيش المصري، وحاكم عام السودان في 19 نوفمبر سنة 1924، بينما كان عائدًا من مكتبه في وزارة الحربية إلى بيته في الزمالك، حيث أطلق عليه الرصاص من هؤلاء الشبان الذين كانوا يكمنون له في سيارة بشارع إسماعيل أباظة، مما أدى إلى وفاته في اليوم التالي 20 نوفمبر، وقد قدم المتهمون إلى المحكمة فقضت في 7 يولية سنة 1925 بالإعدام شنقًا على ثمانية هم: عبد الفتاح عنايت، وعبد الحميد عنايت، وإبراهيم موسى، ومحمود راشد، وعلي إبراهيم، وراغب حسن، وشفيق منصور، ومحمد إسماعيل، كما قضت بالحبس سنتين على تاسع هو: محمود صالح، ثم استبدل حكم الإعدام بالنسبة للأول، وجعل الأشغال الشاقة المؤبدة، ونفذ في الباقين، انظر: في أعقاب الثورة المصرية للرافعي جـ1 ص183 وما بعدها وص266.

ومثل قضية "الاغتيالات السياسية"، التي اتهم فيها جماعة من الشباب الوطني -من بينهم أحمد ماهر ومحمود فهمي النقراشي- بما كان يصاب به بعض الإنجليز من اغتيالات في أعقاب =

ص: 401

كانت هذه القضايا فرصة للقضاء المصري ليمارس عمله على مستوى رفيع، وكانت الخطابة القضائية من أهم وسائل القضاء في تلك القضايا، حيث كانت سلاح المعركة للادعاء، والدفاع على السواء.

وقد كانت الخطابة القضائية في تلك الفترة تعتمد كثيرًا على قوة الحجة، ودقة الفهم للنصوص، وبراعة التفسير للمواد، وسعة الإلمام بالقانون، ووفرة الاطلاع على التاريخ، هذا بالإضافة إلى إحكام العبارة وجمال الصياغة، وروعة التصوير وقوة التأثير، كذلك كانت أميل إلى الترسل وأبعد عن المحسنات، بخلاف ما كانت عليه الخطابة السياسية، وخاصة عند سعد، ومن حاكموه.

وقد تألق من بين الخطباء القضائيين عدد وفير من أمثال: أحمد لطفي وصبري أبو علم وعبد الرحمن الرافعي، ومكرم عبيد، ووهيب دوس.

= ثورة 1919، وقبل استقرار الأمر للوفد سنة 1924، وقد كان تدبير تلك القضية، والقبض على المتهمين بعد قتل السردار، وذهاب وزارة سعد، ومجيء زيور الذي مكن للإنجليز كثيرًا، وقد حكم في هذه القضية سنة 1926، وبرئ أكثر المتهمين. انظر: في أعقاب الثورة المصرية للرافعي جـ1 ص260 وما بعدها.

ومثل قضية الأمير سيف الدين التي كانت في عهد محمد محمود، والتي أتهم فيها النحاس سنة 1928 باستغلال مركزه، واتفاقه -وهو محام- على نيل أتعاب باهظة لقاء رفع الحجر عن الأمير، وكان ذلك الاتفاق في فبراير سنة 1927، قبل تولي النحاس الحكم بشهور، وكان -كما يقال- يتوقع رياسة الوفد والوصول إلى السلطة. انظر: في أعقاب الثورة المصرية للرافعي جـ2 ص46، 47، 75.

ومثل قضية "البداري" التي كانت في عهد صدقي سنة 1932، والتي اتهم فيها اثنان من المواطنين بقتل مأمور مركز البداري انتقامًا منه لما ارتكبه من فظائع وحوادث تعذيب ضد بعض الأفراد، وقد وصمت محكمة النقض -برياسة عبد العزيز فهمي في هذه القضية- رجال البوليس حينذاك، بأنهم قد أتوا من الأعمال ما هو إجرام في إجرام مما يدعو المرء إلى الثورة والانتقام. انظر: في أعقاب الثورة المصرية للرافعي جـ2 ص175.

ص: 402

وأما الخطابة الدينية فقد ازدهرت ازدهارًا رائعًا، ولمع في ميدانها طائفة أسهموا في الحياة العامة بخطبهم الدينية إسهامًا عظيمًا، بل أرسوا تقاليد جديدة للخطابة الدينية، حيث جعلوها تقرب من الفكر الصحيح، وتدنو من المنطق العلمي، وتمتزج بالثقافة الواسعة، هذا إلى جانب البيان المشرق والعاطفة الجياشة، والتدفق الأخاذ والروحية الشفافة.

وقد كانت هناك أسباب عديدة أدت إلى ازدهار الخطابة الدينية في تلك الفترة، ومن أهم تلك الأسباب تقدم التعليم الديني تقدمًا ملحوظًا، بسبب إصلاح الأزهر، والاهتمام بالدراسات الدينية في عدد من المعاهد العالية غير الأزهر1. كما كان من تلك الأسباب، تقدم الحياة الأدبية عمومًا؛ واتجاه أعلامها -وخاصة في النصف الأخير من تلك الفترة- إلى الموضوعات الإسلامية، ثم اهتمام بعض الصحف بالمناسبات المتصلة بالإسلام؛ واستكتاب كبار الأقلام في هذه المناسبات، فهذا كله قد فتح للخطباء الدينيين آفاقًا جديدة، وأمدهم ببيان حي؛ ووجه أسلوبهم الخطابي، وجهة أرقى.

على أنه كان من أهم أسباب تقدم الخطابة الدينية، وازدهارها في تلك الفترة -فوق كل ما تقدم- تأليف عدد من الجمعيات الدينية؛ التي كانت لها بدايات طيبة في التوجيه الديني والتعبئة الروحية، والتي كانت الخطابة من أهم أدوات القائمين عليها في تحقيق ما يقصدون من أهداف.

وقد لمع من بين الخطباء الدينيين في تلك الفترة عدد من الشيوخ المتأدبين المستنيرين كالشيخ المراغي، والشيخ شلتوت، كما لمع عدد من القائمين على بعض الجمعيات الدينية، ووصل بعضهم إلى حد طبع كثيرين بطريقته وخصائص أسلوبه.

وكان من أهم مميزات الخطابة الدينية في تلك الفترة ابتعادها نهائيًا عن المحفوظ من المواعظ والمكرور من القوالب، ثم اتجاهها إلى ربط الدين

1 مثل: القضاء الشرعي، ودار العلوم وكلية الحقوق.

ص: 403

بالدنيا، وعدم الفصل بين الإسلام والسياسة، ثم محاولة إبداء الرأي في أكثر القضايا الوطنية والقومية، ومعظم المشكلات المعاصرة من دستورية واقتصادية وسياسية، والبحث لذلك كله عن سند من الإسلام، أو رأي في كتاب الله أو سنة رسوله، أو مأثورات السلف، هذا من ناحية الموضوعات، أما من ناحية الأسلوب، فكان -في جملته- أسلوبًا مترسلًا جيدًا، يجنح كثيرًا إلى الاقتباس من القرآن والحديث، وإلى الاستشهاد بأخبار النبي والصحابة والسلف الصالح، ويعتمد في جماله على الجزالة العربية، والجملة القرآنية، والبيان الذي عرفناه عند خطباء الإسلام في عهود الازدهار، هذا مع التدفق والجيشان والحرارة العاطفية، وخاصة عند بعض زعماء الجمعيات الدينية الذين كانت الخطابة من أبرز مقومات شخصياتهم، وأهم وسائل دعوتهم.

وأما الخطابة الاجتماعية، فقد ازدهرت هي الأخرى، نتيجة لنمو المجتمع وازدياد مشكلاته وتعدد قضاياه، وخاصة بعد الاستقلال، وتغلب التيار الفكري الغربي، ثم نتيجة لتقدم الثقافة وإنشاء عدد غير قليل من الجمعيات، والهيئات التي تعني بشئون المجتمع وتهتم بإصلاحه، كالجمعيات المتصلة بقضايا الريف أو شئون المرأة، أو دعوات البر، وما إلى ذلك.

وقد كانت هناك قضايا كثيرة تشغل الأذهان، وتتبارى الألسن في نقاشها عن طريق الخطابة الاجتماعية، وكان في مقدمة تلك القضايا: قضية المجتمع بين المحافظة والتقليد، وقضية المرأة بين البيت والعمل، وقضية الإصلاح وأهم وسائله، والنهوض وأنجع طرائقه، وما إلى ذلك من قضايا اجتماعية.

وقد لمع في ميدان الخطابة الاجتماعية طائفة ممن اتجهوا إلى الإصلاح الاجتماعي، وكانت لهم قدرات خطابية ساعدتهم على توصيل أفكارهم إلى الآخرين، وكان في مقدمة هؤلاء الأستاذ محمد توفيق دياب، الذي كان يمثل الخطيب النموذج في ذلك الحين، حيث كانت تجتمع فيه مقومات الخطيب البارع موهوبة ومكتسبة، من لسن وحسن بيان، إلى سعة في الثقافة، واحتفال

ص: 404

كبير بالأداء، فقد كان يعني كثيرًا بالوقفة، والحركة، والإشارة وحسن التنغيم، حتى كان في بعض المواقف أشبه بممثل يؤدي دورًا، منه بخطيب يلقي حديثًا. وكان كل ذلك مناسبًا للمزاج الفني للعصر الذي كان يعجب أشد الإعجاب بتمثيل يوسف وهبي، وما فيه من صنعة وجلجلة.

على أنه في الجزء الأخير من تلك الفترة ظهرت طائفة من الخطباء الاجتماعيين يعتمدون على المنطق الهادئ أكثر من الاعتماد على البيان الجزل، ويجنحون إلى التأثير في الفكر أكثر مما يهتمون بالتأثير في الوجدان، ويفضلون لغة الأرقام وبسط الحقائق، على لغة الشعر والتحليق في الخيال، وقد كان من ألمع الخطباء الاجتماعيين الذين سلكوا هذا المسلك إبراهيم سلامة، ومظهر سعيد، اللذان قد جمعا إلى المضمون الفكري، والمنهج العلمي قدرة بيانية فائقة، وتدفقًا خطابيًّا آسرًا.

وقد أدى اتصال هذا النوع من الخطابة اتصالًا مباشرًا بشئون الناس، وأمور حياتهم اليومية، إلى جنوح بعض الخطباء الاجتماعيين إلى التعبيرات الشعبية والاستعمالات العامية، فجاءت خطبهم أقرب إلى لغة الشعب، مما يمكن أن تسمى معه "بالخطابة الشعبية"، أي التي تقال بلغة الشعب وتعكس روحه، وقد كان فارس هذا الميدان فكري أباظة.

هذا، وقد نشط في تلك الفترة لون الخطابة الحفلية، وهو ما كان يلقى في حفلات التكريم والتأبين والاستقبال والتوديع، وما إلى ذلك من مناسبات تدور حلو شخص أو أشخاص، ولا تتصل بالجماعة اتصالًا مباشرًا، وهذا اللون من الخطابة قد عرفق هو الآخر من قبل، ولكنه نشط في هذه الفترة التي يساق عنها الحديث، نتيجة للتقدم الاجتماعي، ومراعاة كثير من التقاليد والمواضعات الراقية، ثم نتيجة كذلك للصراع الذي كان طابع ذلك العصر، وكان من نتائجه ظهور زعامات ورياسات عديدة، فكان أعوان تلك الزعامات والرياسات يتلمسون الفرص تلمسًا لإظهاره الحفاوة بهذا الزعيم، أو ذاك

ص: 405

الرئيس، ومن وراء ذلك تكون الدوافع السياسية والحزبية، وتتأجج الصراعات التي كانت تحكم ذلك العصر.

وقد كان هذا اللون من الخطابة يحكمه -غالبًا- أمران رئيسيان؛ الأول طبيعة الموقف، والثاني طبيعة الشخص الذي يدور حوله الحفل، أما طبيعة الموقف فكانت تجعل من الخطبة خطبة مدح أو رثاء مثلًا، إذا كانت القول في مقام تكريم أو تأبين، وأما طبيعة الشخص الذي يدور حوله الحفل، فكانت تلون الخطبة كثيرًا بلون فنه أو طبيعة عمله، فإذا كان من أهل السياسة صبغت الخطبة -مهما كان الموقف- بلون سياسي، وإذا كان من رجال الأدب خاضت الخطبة كثيرًا أو قليلًا في أمور الأدب، كل ذلك علاوة على كونها أساسًا خطبة تكريم أو تأبين، وعلاوة أيضًا على كون قائلها من أهل السياسة والأدب، أو من غير هؤلا وهؤلاء.

وهكذا كانت الخطبة الحفلية تأخذ طابعًا خاصًّا تمتزج فيه -غالبًا- عدة خصائص من أنواع مختلفة من الخطابة، وإن كان يغلب عليها طابع الموقف قبل كل شيء، هذا الموقف الذي يفرضه موضوع الحفل.

وكان خطباء المحافل هم خطباء السياسة والقضاء والاجتماع، بالإضافة إلى رجال الأدب الذين كانوا يسهمون في كل هذه الأمور، أو في أكثرها بأوفى نصيب.

ومن أمثلة الخطابة السياسية تلك الخطبة التي قالها سعد زغلول في حفل أعضاء مجلس الشيوخ، الذي أقامه له هؤلاء الأعضاء بعد انتخابهم لأول مرة سنة 1924، والتي يقول فيها:

"أيها السادة شيوخنا الكرام: أشكر حضراتكم على هذه الحفلة المملوءة وقارًا، وعلى هذا التركيم الجامع لأسباب البهجة والسرور، وأشعر في نفسي بخجل شديد عندما أتصور أن شخصي الضعيف هو موضوع هذا الاحتفال الشائق، وأنه المعنى بمدح خطبائكم والمقصود من ثنائكم، اعتقادًا مني أني دون ما تصفون، ولا شك أنكم تغرفون لي من بحار فضلكم، وأنكم

ص: 406

إنما تنظرون إلي بالنظرة العاطفة، لا بالنظرة الكاشفة، جزاكم الله أحسن الجزاء، وأقدرني على أن أستحق هذا الثناء.

"وبعد فإني أهنئكم من كل قلبي بالثقة التي اكتسبتموها من البلاد.. لأن تؤلفوا مجلس الشيوخ في أول برلمان في بلادنا على الطراز الحديث، وأعد نفسي سعيدة بأني أول وزير مصري لحكومة دستورية، تستمد قوتها من إرادة الشعب، وتستند في بقائها على ثقة نوابه

"ستصبح هذه المبادئ بعد يوم واحد نافذة المفعول فينا، ويصبح أمر الكل للكل، ويشعر كل مصري أن حياته وحريته وشرفه وماله وولده، كل ذلك، تحت حماية القانون، وأن على القانون حارسًا قويًا أمينًا هو البرلمان، وأن البرلمان تحت حراسة أمة يقظة، والكل في ذمة الله وعنايته.

"بعد يوم واحد تجد الوزارة نفسها مسئولة أما نواب البلاد، وأن عليها أن تبرر أعمالها العامة أمامكم، كما تبررها أمام ضمائرها الخاصة، وتشعر من جهة أخرى بخفة ثقل المسئولية الملقاة عليها؛ لوجود قوة بجانبها تقاسمها هذه المسئولية، كما تشاطرها النظر في إدارة أمور البلاد.

"بعد يوم واحد يحل احترام الحكومة محل الخوف منها، ويشتد القرب منها بعد البعد عنها؛ إذ يستيقن الكل أنها ليست إلا قسمًا من الأمة تخصص لخدمتها العامة، حسب القانون والمبادئ الديمقراطية، وأن لكل واحد حصته فيها مباشرة أو بالواسطة، فيبذل الكل جهودهم في معاونتها على القيام بمهمتها الخطيرة.

"وأكبر هذه المهمات شأنًا، وأخطرها قدرًا وأشغلها لعقلي ولبي، هي مهمة الاستقلال التام لمصر والسودان.. يتلو هذه المهمة مهمة القيام بالإصلاحات الداخلية، وحل ما عقده الماضي من المشكلات، وتذليل ما أقامته السياسات من العقبات في طريقنا، وما هذا بالهنات الهينات.

ص: 407

"

فعلى الذين يحملهم فرط الحب للبلاد على تعجلنا أن يتريثوا بنا ويتمهلوا؛ لأن طبيعة الأشياء تأبى الطفرة، ولكل شيء وقته ووسائله، وعليهم أن يعتقدوا كل الاعتقاد أن هناك عقولا مشغولة بهذه المهام، وعزائم معقودة على معالجتها، وأن التأخير فيها ليس قصورًا أو تقصيرًا، ولكنه جرى مع الطبيعة على حكمها. وليتأكدوا أننا نزداد كل يوم قوة في الإرادة، ومضاء في العزم، وثباتًا في الخطة، وغيره على الصالح العام، فليصبروا، إن الله مع الصابرين، وليثقوا بنا، إننا لا نقصد إلا خيرهم، ولا نفتر طرقة عن خدمتهم، ولا نترك فرصة تمر حتى ننتهزها لبلوغ المراد، حقق الله أملنا، ووفقنا جميعًا إلى الرشاد1".

ومن أمثلة الخطابة الاجتماعية تلك الخطبة التي قالها توفيق دياب بعنوان: "الشباب المصري خيوط الحاضر ونسيج المستقبل"، والتي منها قوله:

"

لا رجاء في أمة إلا أن يكون لها إيمان، ولا في شباب أمة إلا أن يكونوا مؤمنين.

"وليس المهم كيف تؤمن، وإنما المهم أن تؤمن، نعم، ولكن تؤمن بماذا؟ تؤمن بشيء أنت دونه وتريد أن تسمو إليه، تؤمن بقوة تستعين بها على ضعفك، تؤمن بباعث عظيم من بواعث الأمل وبواعث العمل، تؤمن بمثل من الأمثلة العليا تريده لنفسك فردًا ولأمتك جماعة، تؤمن بمثل عال من الشجاعة يصونك من التذلل والخور، تؤمن بمثال عال من الكرامة يصونك عن كل مهين وخسيس.

"أما أنا فواحد من الذين يؤمنون بالقوة العظمى التي تجمع الصفات الحسنى في اسم الله، وإيماني به إيمان الضعيف بالقوي، ولكن حين أستمد منه القوة أحس كأني ارتفعت فوق المناعم والمتاعب، وفوق الفقر والغنى،

1 اقرأ هذه الخطبة في: آثار الزعيم سعد زغلول، جمع وترتيب إبراهيم الجزيري جـ1 ص91-93.

ص: 408

وفوق الإخفاق والنجاح، بل فوق الموت والحياة؛ لأني ارتكنت إلى العمد الباقي.

"

ليس مؤمنًا بالله من لا يؤمن بالوطن، أليست مصر كبرى أنعمه عليكم؟ أجري فيها كوثره، وأسبغ عليها رزقه، وكساها من جماله، وجعل لها السبق في الأولين ليلحق بها المتخلفون، وامتحنها في الحاضرين بمنحة التخلف لتنهض فتلحق السابقين؟.. إن من جحد نعمته، وعق كنانته، واتخذها سخرية ولعبًا، فهو بربه من الساخرين"1.

ومن أمثلة الخطابة الحفلية الخالصة -التي راعت الموقف فحسب- خطبة مكرم عبيد في حفل تأبين سعد زغلول، والتي يقول فيها:

"إذن فقد مات سعد، وهذه الحفلة الحافلة هي حفلة الزعيم في موته، أي وربي وحفلته الأولى! وهذه الجموع الحاشدة قد جاءت لتسمعه خطيبًا محدثًا. لا وربي، بل حديثًا يُرى! وهذه العيون اللوامع قد ألهبها بريق ناظريه، لا وربي، بل حرقة الذكرى! وهذا السكون، وهذا الخشوع، وهذا الجلال، إن هي إلا مظاهر العزة والعظمة للعزيز العظيم فينا، لا وربي، بل ضريبة الموت فرض على كل مصري أن يؤديها مرة بعد أخرى! فقد مات من كان حيًا في كل قلب وأصبحت حياته شيئًا يُتلى! وقد سكن من كان ناطقًا في كل لسان، وأصبح الكلام فيه دمعًا يُزْجَى.

"لقد دارت دورة الشؤم، فشاءت أن أرثي سعدًا باكيًا نائحًا، وقد اعتاد لساني ألا يذكره إلا شاديًا صادحًا، فسامحونا إذا ألح بنا الألم فضاقت عنه مآقينا، فقد حرمنا حعتى سلوة البكاء عليه في منيته، وحتى نظرة الوداع إلى جثته، وحتى خطوة التشييع في رحلته2، وقد كان والله يحنو على أشخاصنا في محنته، ويبكي على أمراضنا في رحمته، ولا يبغي بنا بديلًا في غربته3.

1 اقرأ نص هذه الخطبة في جريدة الجهاد عدد 10 فبراير سنة 1934.

2 يشير الخطيب إلى أنه كان خراج البلاد وقت موت سعد ودفنه.

3 يشير الخطيب إلى ما كان من زمالته لسعد حين نفي إلى سيشل سنة 1921.

ص: 409

"إذن وقعت الواقعة التي طالما هادنا عليها القدر، وانتزع الموت في لحظة من ضنت به الأجيال متعاقبة، وتعبت في صنعه وصوغه العظائم والعبر، فكان لها عونًا على الدهر، وكان هو المدخر، إذن فقد نفذ السهم وحم القدر، ذلك الذي كنا إلى الأمس ننادي به، إذا انطلق السهم إليه ارتد وانكسر، وإذا التطم الموج بصخرة عج وانحسر، وإذا امتدت إليه يد الحوادث ارتد القدر، عجبًا هل تطاول القبر إلى مكان فوق هامات البشر؟ أم أن تلك العظمة الشامخة لما لم تجد علوًّا ترتفع إليه قد تواضعت، فتدانت حتى ذلك المستقر؟ سبحانك رب، بل أردت فقدرت، فمنك الوجود، وإليك المفر"1.

ومن نماذج الخطب التي لُونت بلون المقول فيه، فأخذت طابعًا موضوعيًا خطبة طه حسين في حفل تكريم العقاد الذي كان قد أقيم له سنة 1934 بمناسبة نظمه "النشيد القومي"2، وهي الخطبة التي باعي فيها طه حسين العقاد بإمارة الشعر، وفيها يقول:

".... نحن حين ندرس الشعر مضطرون إلى أن ندع ميولنا، وأهواءنا، وعواطفنا، وإلى أن نحكم عقولنا وذوقنا وحده، ونحن إذن من هذه الناحية بخلاء بالمدح، بخلاء بالثناء، لا نقدم المدح إلا بمقدار، ولا نثني إلا بشيء كثير من الاحتياط؛ لأننا نزعم أننا أمناء على الفن، وأن النقد يضطرنا إلى أن نتجنب الغلو والإسراف، ومع هذا فإني أريد أن أكون منصفًا مسرفًا في الإنصاف إن صح هذا التعبير، وأريد أن لا أتحرج في المدح أو الثناء،

1 اقرأ نص هذه الخطبة في: عبرات الشرق على الزعيم سعد زغلول، جمعة البحيري ص278.

2 كان هذا الاحتفال في مسرح حديقة الأزبكية مساء الجمعة 27/ 4/ 1934، وكان برئاسة رئيس الوفد، وكان طه حسين في تلك الفترة يكتب في صحف الوفد نتيجة للوفاق الذي كان بين الأحرار والوفد، والتكتل لمقاومة صدقي، انظر: العقاد -دراسة وتحية- ص227.

ص: 410

ولكني على كل حال أعلن إليكم راضيًا سعيدًا، أني مضطر أن أثني على العقاد الشارع من غير تحفظ أو احتياط.

"لنا نحن النقاد مع العقاد مواقف، يا لها من مواقف، نختصم فيها حول المعنى اختصامًا مرهقًا عنيفًا، ونختصم معه في اللفظ اختصامًا نضيق نحن به ويضيق به الناس، ولكننا حين نختم معه في معنى أو لفظ، أو حين نشتط عليه في النقد، لا نزيد على أن نعترف له أن الشاعر الفذ، ولولا أنه الشاعر الفذ لما خاصمناه.

"أما أنا أيها السادة فسعيد بهذه الفرصة التي أتيحت لي، ومكنتني من أن أعلن رأيي في صراحة، وأن أقول -وقد يكره هذا مني كثير من الناس- مكنتني من أن أقول، بالرغم من الذين سخطوا والذين سيسخطون: أني لا أومن في هذا العصر الحديث بشاعر عربي كما أومن بالعقاد، أنا أعرف حق المعرفة وأقدر كما ينبغي نتيجة هذه المقالة التي أعلنها سعيدًا مغتبطًا، أعلم هذا حق العلم، وأعلنه مقتنعًا به محتملًا تبعاته، وقد تعودت احتمال التبعات الأدبية.

"تسألونني لماذا أومن بالعقاد في الشعر الحديث، وأومن به وحده؟ وجوابي يسير جدًا، لماذا؟ لأنني أجد عند العقاد مالًا أجده عنده غيره من الشعراء، وإن شئتم فإنني لا أجد عند العقاد ما أجده عند غيره من الشعراء؛ لأني حين أسمع شعر العقاد، أو حين أخلو إلى شعر العقاد، فإنما أسمع نفسي أو أخلو إلى نفسي، إنما أرى صورة قلبي، وصورة قلب الجيل الذي نعيش فيه، وحين أسمع لشعر العقاد، إنما أسمع الحياة المصرية الحديثة، وأتبين المستقبل الرائع للأدب العربي الحديث، إنما أرى شيئًا لا أراه عند غيره من الشعراء، تستطيعون أن تنظروا في أي ديوان من دواوين العقاد، لا أطلب منكم أن تقرأوا شعر العقاد الآن، إنما انظروا في الفهرست وحده، فسترون من هذه النظرة اليسيرة في هذه الصفحات القليلة، أن العقاد شيء آخر، وأن شعر العقاد شيء آخر،

ص: 411

وأنه أرسل ليتحدث إلى نفوسكم أحاديث لم يتحدث بها أحد من قبل.

"ثم لماذا أيضًا؟ لماذا أكبر العقاد، وأومن به وحده دون غيره من الشعراء في هذا العصر؟ لأن العقاد -أيها السادة- يصور لي هذا المثل الأعلى في الشعر الذي أحببته، وتمنيت وجاهدت في أن يحبه الشباب، هذا المثل الأعلى الذي يجمع بين جمال العربي القديم، وبين أمل المصري الحديث، هذا المثل الذي ليس محافظًا مسرفًا في المحافظة، وليس مجددًا مسرفًا في التجديد، إنما هو مزاج مقتصد منهما، هو حلقة اتصال، هو صلة خصبة بين مجدنا القديم، وما نطمع فيه من مجدنا الحديث.

"

كنا أيها السادة نشفق على الشعر العربي، وكنا نخاف عليه أن يرتحل سلطانه عن مصر، وكنا نتحدث حين مات الشاعران العظيمان شوقي وحافظ، كنا نتحدث عن علم الشعر العربي المصري أين يكون ومن يرفعه للشعراء والأدباء يستظلون به؟ كنا نسأل هذا السؤال، وكنت أنا أسأل هذا السؤال، لماذا؟ لأني كنت أرى شعر العقاد، على علو مكانته وجلال خطره شعرًا خاصًّا مقصورًا على المثقفين والمترفين في الأدب، وكنت أسأل: هل آن للشعر القديم المحافظ المسرف في المحافظة أن يستقر وأن يحتفظ بمجده، وهل آن للشعر الجديد الذي يصور مجد العرب، وأمل المصريين أن ينشط ويقوى؟ انتظرت فلم أجد للمقلدين حركة أو نشاطًا، فإذا المدرسة القديمة قد ماتت بموت شوقي وحافظ، وإذا المدرسة الجديدة قد أخذت تؤدي حقها، وتنهض بواجبها، فترضي المصريين والعرب جميعًا، وإذا الشعر الجديد يفرض نفسه على العرب فرضًا، وإذا الشعور المصري والقلب المصري، والعواطف المصرية أصبحت لا ترضى أن تصور كما كان يصورها حافظ وشوقي، إنما تريد وتأبى إلا أن تصور تصويرًا جديدًا، هذا التصوير الذي حمل الملايين على إكبار العقاد كما قال أحد الخطباء، إذن لا بأس على الشعر العربي والأدب العربي، وعلى مكانته مصر في الشعر والأدب.

"ضعوا لواء في الشعر في يد العقاد، وقولوا للأدباء والشعراء: أسرعوا واستظلوا بهذا اللواء، فقد رفعه لكم صاحبه"1.

1 اقرأ نص الخطبة في جريدة الجهاد عدد 29/ 4 / 1934.

ص: 412