الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأدب وغلبة الاتجاه التجديدي
مدخل
…
الأدب وغلبة الاتجاه التجديدي:
لقد عكس أدب تلك الفترة طابعها العام، ومثل بخاصة أهم معالمها النفسية1 والثقافية والفكرية، فهو أولًا قد سجل الشعور باستقلال الشخصية المصرية، وهو ثانيًا قد صور الإحساس بالحرية الفردية، وهو ثالثًا قد جسم روح الثورة المتطلعة إلى التغيير، وهو رابعًا قد مثل -في بعض جوانبه- هذا التطرف في الشعور بالحرية والاستقلال، والثورة عند البعض، مما وصل إلى حد الذاتية المنعزلة أو الفردية المتقوقعة أحيانًا، وبلغ درجة التمرد أو الهدم في بعض الأحايين، والأدب آخر الأمر قد صور هذا الصراع الذي سببه اصطدام التيار الفكري الغربي بالاتجاه الفكري العربي الإسلامي2، هذا الصراع الذي تعددت ميادينه، واشتعل أواره، حتى خرج كثيرًا عن الموضوعية، وتقاليد المعارك الأدبية المهذبة3.
فقد كان الشعور باستقلال الشخصية المصرية، والإحساس بالحرية الفردية، والتشبع بروح الثورة، طابع أدب أصحاب التيار الفكري الغربي، ولم يكن من الممكن أن يتركهم أصحاب الاتجاه المحافظ يروجون لدعواتهم، ويدعون لآرائهم، التي يعتبر كثير منها في نظر المحافظين خطرًا على الروح الإسلامي والفكر العربي، ومن هنا قاوموهم وتتبعوا بالرد كثيرًا من نتاجهم، وخاض الطرفان كثيرًا من المعارك الحامية، التي كان مصدرها الاختلاف الفكري بين الجانبين، وليس من شك في أن الصراع الحزبي قد لعب دورًا كبيرًا في إذكاء نار هذا الصراع الأدبي، وليس من شك أيضًا في أن الصحافة قد
1 اقرأ تلك المعالم في المقال الثاني من هذا الفصل "بين نشوة النصر ومرارة النكسة".
2 اقرأ عن هذين التيارين في المقال الرابع من هذا الفصل "غلبة التيار الفكري الغربي".
3 اقرأ نموذج من ذلك في كتاب "على السفود" لمصطفى صادق الرافعي، و"المعركة بين القديم والجديد" للمؤلف نفسه.
أشعلت هذا الصراع، وأن كثيرًا من حدة المعارك الأدبية التي أدت في تلك الفترة، كان وراءه محركات سياسية حزبية1، ودوافع صحفية نفعية، تهم أصحاب الصحف، وتغريهم بإلقاء الوقود في اللهب؛ حتى تجاوزت المعارك ميدانها بين الاتجاهين المختلفين، وانتقلت إلى أصحاب الاتجاه الفكري الغربي أنفسهم، وذلك لانقسامهم بدورهم إلى كتاب وفد، وكتاب أحرار2.
وهكذا صور أدب تلك الفترة -إلى جانب روح التحرر والثورة- ما كان من صراع انتقل من الحياة السياسية إلى الحياة الفكرية، ثم إلى الحياة الأدبية، وهكذا أيضًا كان التحرر والصراع يمثلان أهم جوانب الأدب في تلك الفترة، بحيث يمكن إدراج أهم ألوان النشاط الأدبي تحت هذين المعلمين.
ويمكن في هذا المجال أن نضرب المثل ببعض الاتجاهات، والأعمال الأدبية البارزة التي ظهرت في تلك الفترة:
لقد ظهرت دعوة إلى وجوب خلق أدب قومي يستلهم الواقع المصري، ولا يستلهم التراث العربي، وتبنى هذه الدعوة طائفة من كتاب "السياسة الأسبوعية3"، وكان على رأس هؤلاء الكتاب الدكتور محمد حسين هيكل،
1 يمكن أن نأخذ مثالًا لهذه الظاهرة ما كان من دفاع "السياسة" -صحيفة الأحرار- عن كتاب الشعر الجاهلي، لطه حسين، ثم نقد "كوكب الشرق" و "البلاغ" -صحيفتي الوفد- لهذا الكتاب. فقد نشر الغمراوي نقده، لكتاب طه حسين في البلاغ، كما نشر الرافعي نقده في "كوكب الشرق".
2 يمكن أن نأخذ مثالًا لذلك ما كان من حديث طه حسين عن وجود الوحدة في القصيدة العربية القديمة، واستشهاده بقصيدة لبيد التي مطلعها "عفت الديار"، فليس ذلك إلا ردًا على العقاد الذي كان ينفي تحقق الوحدة في الشعر التقليدي، ويطالب بتحققها في الشعر الحديث.
"نشر طه حسين رأيه ذاك في حديث الأربعاء جـ1 ص30 وما بعدها".
كذلك يمكن أن نأخذ مثلًا لذلك ما كان من نقد طه حسين للعقاد والمازني، وأخذه عليهما الاهتمام بالشاعر أكثر من شعره، على حين يتخذ هو الشاعر وسيلة لفهم الشعر.
"نشر طه حسين رأيه ذاك في "من حديث الشعر والنثر ص268".
3 انظر: الاتجاهات الوطنية جـ2 ص137 وما بعدها.
الذي تحمس لتلك القضية في كتابه "في أوقات الفراغ"، ثم عاد إليها بعد ذلك في كتابه "ثورة الأدب"، فإذا تأملنا تلك الدعوة، وجدناها تمثيلًا للإحساس باستقلال الشخصية المصرية، وقد تطرفت تلك الدعوة حينًا، فوصلت إلى الدعوة الفرعونية، والمناداة باستلهام الأدب للماضي المصري القديم، باعتبار أن الروح المصري الحديث ليس إلا امتدادًا للروح الفرعوني، برغم تتابع العصور، وتوالي الديانات وتمازج الأجناس.. وقد تبنى تلك الدعوة كذلك بعض كتاب "السياسة"، وتحمس لها بصفة خاصة الدكتور محمد حسين هيكل1، وكان وراءها أيضًا هذا الشعور باستقلال الشخصية المصرية.
بل إن هذا الشعور باستقلال الشخصية المصرية، وعدم ارتباطها بالماضي العربي والتراث الإسلامي، قد جمح بالبعض فدعا إلى اصطناع اللغة العامية المصرية، وإحلالها في المجال الفكري والأدبي محل العربية الفصحى، وقد ردد تلك الدعوة طائفة من المتطرفين، من أشهرهم سلامة موسى، وقد سبقه إلى تلك الدعوة بعض العلماء والخبراء الغربيين، الذين لا ترتفع دعوتهم عن مستوى الشبهات2.
وواضح أن الإحساس بالحرية الفردية، والتشبع بروح الثورة كانا يرفدان الشعور باستقلال الشخصية المصرية، عند كل أصحاب هذه الدعوات من كتاب تلك الفترة.
1 انظر: الاتجاهات الوطنية جـ2 ص136 وما بعدها.
2 عرض سلامة موسى لتلك الدعوة سنة 1926 فيما نشره بمجلة "الهلال" عدد يولية من ذاك العام، كذلك عرض لها في كتابات أخرى بعد ذلك، وبخاصة في كتاب "البلاغة العصرية"، كما أزرى على اللغة العربية والعرب في كتاب "اليوم والغد".
وكان قد سبقه إلى ذلك طائفة من الكتاب، وخبراء الاستعمار الأجانب منذ سنوات التمهيد للاحتلال سنة 1880.
"اقرأ تفصيل ذلك كله في: "تاريخ الدعوة إلى العامية" للدكتورة نفوسة زكريا، واقرأ عرضًا للموضوع نفسه في مقال للأستاذ محمود شاكر بمجلة الرسالة العدد 105 الصادر في يناير سنة 1965".
كذلك ظهرت دعوة إلى عدم إجلال التراث العربي، أو التسليم بكل ما جاء منه، ووجوب إخضاعه للمنهج العلمي، وإن شوهه ذلك المنهج، وقد تمثلت تلك الدعوة في عملين أدبيين للدكتور طه حسين، هما "حديث الأربعاء" و"الشعر الجاهلي"، أما "حديث الأربعاء"، فقد نشره المؤلف أولًا على هيئة مقالات ظهر معظمها في السياسة ما بين سنتي 1922 و1924، ثم ظهر كتابًا سنة 1925، وقد تناول طه حسين في هذا الكتاب -ضمن ما تناول- طائفة من الشعراء أصحاب الاتجاه المحدث، من أمثال أبي نواس، ومن سلك مسلكه، وبين كيف أن هؤلاء الشعراء يصورون عصرهم العباسي، عصر لهو ومجون وشك وزندقة، ووجه الأنظار إلى وجوب الاعتماد في صور أمثال تلك العصور العربية، لا على ما جاء في كتب التاريخ، وأخبار الخلفاء فحسب، بل على ما ورد في دواوين الشعر وكتب الأدب، وأخبار الشعراء والأدباء كذلك؛ حتى ولو أدى ذلك إلى تجريد عصر مما خلع عليه من جلال، أو حرمان خليفة مما وهبه التاريخ من تقدير1.
أما كتاب "في الشعر الجاهلي"، فقد ظهر سنة 1926، بعد أن ألقى الدكتور طه حسين مادته محاضرات على طلبة كلية الآداب في السنة السابقة، وهذا الكتاب يشك في نسبة معظم الشعر الجاهلي إلى الشعراء الجاهليين، ويرى أنه من صنع شعراء إسلاميين، وضعوه بعد العصر الجاهلي لأغراض مختلفة، منها السياسي
والقبلي والديني، ثم نسبوه إلى الجاهليين، وهذا يخالف ما عليه التقاليد العربية من أن هذا الشعر من صنع شعراء جاهليين معينين، قالوه في الجاهلية، ورواه عنهم الرواة، وحفظ عن طريق الرواية التي حفظ بها التراث العربي الجاهلي كله، حتى دوِّن في عصر التدوين.
وإذا تأملنا تلك النظرة التي نظر بها الدكتور طه حسين إلى التاريخ العربي أولًا، وإلى الشعر الجاهلي ثانيًا، وجدنا أن وراءها شعورًا باستقلال الشخصية المصرية، يحمل على عدم الارتباط بالتاريخ والتراث العربيين، ارتباطًا يحمل
1 انظر: حديث الأربعاء لطه حسين جـ2.
على إجلالهما أو التسليم بما اشتملا عليه، أو استقر حولهما من قضايا.
وليس يخفى ما وراء نظرة الدكتور طه حسين كذلك من إحساس قوي بالحرية الفردية، وتشبع هائل بالروح الثورية، مما جعله يخرج على الناس بهذه الآراء التي زلزلت أفكارهم وأثارت مشاعرهم، وجرت عليه كثيرًا من الخصومات والخصوم، حتى تجاوز الأمر الوسط العلمي والأدبي، وعرضت القضية في البرلمان، وأوشكت أن تطوح بالمؤلف خارج الجامعة، لولا أن هدد رئيس الوزارة حينذاك بالاستقالة، فسكنت العاصفة إلى حين، واكتفى بمصادرة الكتاب، الذي أدخل عليه صاحبه بعد التعديلات التي لم تمس فكرته الأساسية، ونشره بعد ذلك باسم "في الأدب الجاهلي"1.
كذلك ظهر كتاب "الديوان" للعقاد والمازني في جزأين، ظهر أولهما سنة 1920، وثانيهما سنة 1921، وقد نادى فيه المؤلفان بأسس جديدة للأدب ونقده، كما ناديا أساسًا بعدم محاكاة القدماء، وبالأصالة، وبرفض اتخاذ الأنماط الأدبية القديمة مثلًا للأدب المصري الحديث، وقد ركزا على تحطيم من تمثل فيهم الارتباط بالتراث، ومحاكاة الأدب القديم، وهما شوقي في الشعر، والمنفلوطي في النثر، هذا بالإضافة إلى هجمات أخرى على بعض الشعراء
1 كانت الخلافات الحزبية من محركات هذه الزوبعة، فقد كانت الأغلبية البرلمانية وفدية حينذاك، وكان رئيس مجلس النواب هو سعد، ولذا انتقلت القضية إلى مجلس النواب لينال من طه حسين الموالي للأحرار الدستوريين. ولكن رئيس الوزراء حينذاك كان عبد الخالق ثروت، وكانت عواطفه مع الأحرار الدستوريين، وكان طه حسين قد جعل إهداء كتابه إليه، ومن هنا دافع عنه رئيس الوزراء على حين هاجمه رئيس مجلس النواب، ونظرًا لتهديد رئيس الوزراء بالاستقالة، قد انتقلت القضية من مجلس النواب إلى النيابة، التي صادرت الكتاب، اقرأ تفصايل هذه القضية في كتاب "فصول ممتعة" لمحمد سيد كيلاني، واقرأ عدد الهلال الصادر أول فبراير سنة 1966 الخاص بطه حسين ص15، 159 وما بعدها. وانظر: كتاب الاتجاهات الوطنية جـ2 ص386 وما بعدها وكتاب: "المعركة بين القديم والجديد" ص158-165، و"حياة الرافعي" لسعيد العريان ص154-160.
والكتاب الآخرين، من أمثال شكري والرافعي.
وليس يخفى ما وراء هذا العمل من شعور باستقلال الشخصية المصرية،وبالحرية الفردية، وبروح الثورة جميعًا.
كذلك ظهر اتجاه شعري يغني ذات الشاعر وأحاسيسه، ويفيض بعاطفته الذاتية لا بعواطف قومه، ويهجر أساليب أسلافه إلى إبداعات فنه، وهو إلى ذلك يهيم بالخيالات المجنحة والمجالات الحالمة، ويهرب من متاعب الحياة وبرودة الواقع، إلى أحضان الطبيعة ودفء الحب.
وإذا تأملنا دوافع هذا الاتجاه الشعري1 في تلك الفترة، وجدنا من أهمها الشعور باستقلال الشخصية المصرية، والإحساس بالحرية الفردية، والتشبع بروح الثورة، هذا بالإضافة إلى كثير من الأسى والمرارة واليأس، وغير ذلك من مشاعر خانقة قد خلفتها خيبة الأمل، وسببها الشعور بالنكسة؛ هذا الشعور الذي جرف طائفة من المواطنين، وتمثل في مسلك هؤلاء الشعراء المرهفين، بعد سنوات من بدء تلك الفترة، حين ظهر العدوان على الحرية والعبث بمكاسب الشعب، والتآمر على انتصارات ثورة 1919.
وفي مقال هذه المظاهر التي تصور الشعور باستقلال الشخصية المصرية، والإحساس بالحرية الفردية والتشبع بالروح الثورية، والتي مثلتها أعمال أدباء ممن يسيرون في الاتجاه الفكري الغربي، وجدت مظاهر عديدة تصور وجهة نظر المحافظين أصحاب الاتجاه الفكري العربي، وتصور في نفس الوقت هذا الصراع الذي نشأ من اصطدام الاتجاهين الفكريين، والذي يعتبر الجانب الثاني من جانبي صورة الأدب في تلك الفترة.
فقد ظهرت كتابات ترد على الدعوة إلى أدب قومي أو أدب فرعوني، كما ظهرت كتابات تدحض الدعوة إلى العامية، وغيرها من الدعوات التي تدور
1 هو الاتجاه الذي يسمى "مدرسة أبوللو". انظر: تفصيل هذا الاتجاه في "جماعة أبوللو، وأثرها في الشعر الحديث" لعبد العزيز الدسوقي، و"الشعر بد شوقي" الحلقة الثانية للدكتور محمد مندور واقرأ ما كتب عنه في هذا الفصل في مبحث الشعر تحت عنوان "3- ظهور الاتجاه الابتداعي العاطفي".
كلها حول فكرة الانفصال عن التراث، والماضي العربي الإسلامي، وكانت هذه الكتابات -في جملتها- بأقلام أصحاب الاتجاه العربي الإسلامي، من أمثال محمد رشيد رضا، وشكيب أرسلان، ومصطفى صادق الرافعي1.
كذلك كثرت المقالات وتعددت الكتب التي ترد على آراء طه حسين في كتابيه "حديث الأربعاء" و"في الشعر الجاهلي"، وقد حظي كتابه "في الشعر الجاهلي" بصفة خاصة، بعدة كتب ألفها أصحابها في الرد عليه، وأهم هذه الكتب:"تحت رآية القرآن" للرافعي، و"نقد كتاب الشعر الجاهلي" لمحمد فريد وجدي، و"نقض كتاب في الشعر الجاهلي" للخضر حسين، و"النقد التحليلي لكتاب في الأدب الجاهلي" للدكتور محمد الغمراوي.
كذلك قوبل اتجاه "الديوان" في الأدب والنقد، باتجاه مضاد، مثلًّه كتاب "على السفود" الذي أخرجه مصطفى صادق الرافعي سنة 1930، بعد أن نشره مقالات في مجلة العصور، بين سنتي 1929و 1930. وقد صور هذا الكتاب بعض آراء المحافظين في الأدب والنقد، وجعلها في مواجهة آراء أصحاب الاتجاه الغربي، التي مثَّل بعضها "الديون"، ولكن "على السفود" صور قبل كل شيء حدة الصراع الأدبي، وضراوته التي بلغت ذروتها في ذلك الحين، فقد هاجم الرافعي في كتابه العقاد، وأدبه هجومًا نأى كثيرًا عن الموضوعية، وبعد عن أسس النقد، وقرب جدًّا من السباب الخالص.
ومن الحق أن نقرر أنه منذ سنة 1932، قد بدأت الحدة التي شهدتها السنوات الأولى من هذه الفترة تخف، فلم نعد نرى مظاهر الشعور الحاد باستقلال الشخصية المصرية، هذا الشعور الذي حمل أحيانًا على الدعوة إلى الانفصال عن الماضي العربي والتراث الإسلامي، ولم نعد نرى مظاهر الإحساس المفرط بالحرية الفردية، هذا الإحساس الذي دفع أحيانًا إلى الجرأة على التراث والسخرية ببعض المقدسات، كذلك لم نعد نرى مظاهر التشبع
1 اقرأ أمثلة لتلك الكتابات في: "المعركة بين القديم والجديد" للرافعي. وانظر: أيضًا مقال الدكتور علي العناني في الهلال، أول نوفمبر سنة 1932.
المبالغ بروح الثورة، الذي ورط البعض في التخبط، ووصل بهم أحيانًا إلى الهدم. كذلك لم نعد نرى مظاهر الصراع العنيف، الذي أذكته الحزبية والصحافة، ووصل ببعض الأدباء إلى المهاترات والشتائم، ومجانبة ما تمليه روح الأدب في سماحتها ومثاليتها.
فمنذ سنة 1932، قد بدأت تهدأ تلك الفورة التي خلفتها ثورة 1919، كما راح يتلاشى هذا الاستخفاف الذي صنعته الحرب العالمية الأولى، كذلك تجلى فشل تجارب القومية الضيقة، والفرعونية المنبتة، والعامية العاجزة، والتغريب المضلل، وانكشف الغرب للمبالغين في التعلق به، عن استعمار جشع، وهنا بدأت موجة التحرر تتعقل، فلا تنفصل عن الماضي العريق انفصالًا، بل تلتفت إليه بين الحين والحين، لتنتقي أروع ما فيه، بل لترتبط به شيئًا من الارتباط، يمد النهضة ببعض القوة ويجعل اليوم المتحفز، مستندًا إلى أمس ركين1.
كذلك بدأ الصراع يتحول إلى جدل فكري، وأدب خصب، بعد أن كان معارك كلامية جارحة، تتطاير خلالها الشتائم من غير حساب.
وهنا، ومع هذا التحرر وتعقله، وتحول الصراع واعتداله، ظهرت كتابات طه حسين، وهيكل عن محمد صلى الله عليه وسلم، فقد بدأ طه حسين ينشر "على هامش السيرة" في "مجلة الرسالة" سنة 33، ثم أخرجه كتابًا بعد ذلك، وكان هيكل قد بدأ يكتب "حياة محمد"، ويذيع ما يكتب في "السياسة الأسبوعية" منذ سنة 32 حتى استوى كتابه العظيم الذي أخرجه سنة 35. بل إنه أتبع ذلك الكتاب بكتابه الإسلامي الثاني "في منزل الوحي" الذي
1 عبر الدكتور محمد حسين هيكل عن هذا التحول إلى الاعتدال والتبصر، أوضح تعبير في مقدمة كتابه:"في منزل الوحي"، كما أشار إلى ما كان من حيرة وتخبط قبل ذلك، في تعليقه على كتاب "وجهة الإسلام" الذي أخرجه "جيب"، وقد نشر هذا التعليق في ملحق السياسة الأدبي عدد 14 أكتوبر سنة 1932. "انظر: لاتجاهات الوطنية: جـ2 ص149، 159".
أخرجه سنة 1936، والذي كتبه بعد أن زار الأراضي الحجازية المقدسة، وفي هذا الكتاب الثاني أعلن الدكتور محمد حسين هيكل توبته عن التطرف في الاتجاه إلى الغرب، واستدبار الشرق، وأكد أن المذهب الذي اهتدى إليه أخيرًا بعد تجارب عديدة، هو وجوب ربط الحضارة المصرية الحديثة بالحضارة العربية القديمة، ولزوم استلهام الفكر والأدب المعاصرين للفكر والأدب الإسلاميين؛ لأن التراث الروحي للعروبة والإسلام، هو أنسب ما يمكن أن تستلهم الروح المصرية التي لم تنفصل قط عن ماضيها في العروبة والإسلام1.
وكانت سنة 1933، قد شهدت ميلاد "مجلة الرسالة" التي يمثل صاحبها الاتجاه الفكري المحافظ، في شكله الناضج الواعي المثقف، الذي تسلح بثقافة الغرب، ولكن لم يجعلها تغلب في وجدانه روح العروبة والإسلام، وقد استكتب صاحب الرسالة في مجلته زعماء الاتجاه الفكري الغربي، بعد أن خفت حدتهم، فأذاعوا عن طريق الرسالة كتابات تعتبر مرحلة التحول والاعتدال في حياتهم الأدبية والفكرية، كما تعتبر مرحلة التحول والاعتدال في الأدب المصري الحديث أيضًا2.
فمنذ هذا الوقت لم نجد دعوات أدبية مندفعة كالتي عرفت أيام "السياسة"، كما لم نجد خصومات كالتي شهدناها أيام "السفود"، وقد كانت معارك أدبيةٌ تحتدم بين الحين والحين، وعلى صفحات "الرسالة" بالذات، كالمعارك التي كان يخوضها الدكتور زكي مبارك كثيرًا، ولكن تكل المعارك التي حدتها كانت أقرب الموضوعية، وأدنى إلى روح المنطق، وأبعد ما تكون عن السباب، والتجريح الذي عرف في المعارك القديمة.
هذا، وقد كان من أهم نتائج التحرر والصراع، اللذين مثلا جانبي الأدب في تلك الفترة، اتضاح الأساليب الأدبية، وتميزها تميز شخصيات
1 انظر: في منزل الوحي للدكتور هيكل "المقدمة".
2 حسبنا أن نعرف أن طه حسين كتب أول ما كتب في الرسالة "على هامش السيرة"، بعد أن كتب سنة 1926 "في الشعر الجاهلي"، الذي تضمن ما أخذ عليه مما يمس العقيدة، كنظرته إلى قصة إبراهيم وإسماعيل، وعدم الاعتراف بها علميًا، ولو جاء بها التوراة والإنجيل.
الأدباء؛ فنتيجة للشعور باستقلال الشخصية والإحساس بالحرية، قد حاول كل أن يؤكد ذاته ويميز أسلوبه، ويذيع طريقته، وقد ساعد الصراع على تحقيق تلك الغاية، بدفعه لكل كاتب أن يكون المتفوق والمميز والمفضل، وهكذا تكاملت في هذه الفترة -ولأول مرة- أساليب طه حسين والعقاد والزيات والرافعي، وغيرهم من أعلام الكتاب1.
وأخيرًا كان من أهم نتائج الشعور باستقلال الشخصية وبالحرية الفردية، ظهور في فن التراجم الذاتية، تلك التي يؤرخ فيها الأديب لحياته ويكتب عن نفسه، على نحو ما فعل طه حسين في "الأيام" التي بدأ ينشرها مقالات في مجلة الهلال سنة 1926، ثم أخرجها في كتاب بعد ذلك2.
وهكذا يمكن أن يقال: إن الطريق الشائك الذي سلكه أدب تلك الفترة، والذي تردد فيه بين الثورية والمحافظة، قد وصل به آخر الأمر إلى معالم محددة، وأول هذه المعالم، أن الأدب قد غلب عليه الاتجاه التجديدي، الذي تزعمه أصحاب التيار الفكري الغربي، وأصبح الاتجاه المحافظ في هذه الفترة في المحل الثاني، بعد أن كانت له الغلبة في الفترة السابقة، كذلك صار مؤيدو هذا الاتجاه المحافظ يبذلون أقصى الجهد لمساندة فريقهم، والاحتفاظ بوجودهم، ويحاولون جاهدين، أن يطوروا أنفسهم ويعدلوا طريقتهم، لكن ذلك لم يمنح أدبهم الصدارة، بعد أن أكد غلبة الاتجاه التجديدي، أعلامٌ مقتدرون، مثل هيكل والعقاد وطه حسين.
كذلك كان من أهم المعالم التي انتهت إليها مسيرة الأدب في تلك الفترة، استكمال أهم ملامح شخصيته، واستيفاء بقية فنونه، وسوف نرى تفصيل كل ذلك -إن شاء الله- فيما يلي من فصول.
1 سوف توضح خصائص كل أسلوب حين يكون الحديث عن النثر في تلك الفترة إن شاء الله في المقال "1- المقالة وتميز الأساليب الفنية".
2 ظهر الجزء الأول من الأيام سنة 1927، وظهر الجزء الثاني بعد ذلك.