الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
راحميك -فذلك؛ لأنهم حذقة القانون، وهذا هو السلاح المسلول فوق رأس العدالة والحرية، وإذا لم ينصفوك -ولا أظنهم إلا منصفيك- فقد أنصفك ذلك العالم الذي يرى أنك لم ترتكب ما ارتكبته بنية الإجرام، ولكن باعتقاد أنك تخدم بلادك، وسواء وافق اعتقادك الحقيقة أم خالفها، فتلك مسألة سيحكم التاريخ فيها.
"وإن هناك حقيقة عرفها قضاتك وشهد بها الناس، وهي أنك لست مجرمًا سفاكًا للدماء، ولا فوضويًّا من مبادئه الفتك ببني جنسه، ولا متعصبًا دينيًّا؛ وإنما أنت مغرم بحب بلادك هائم بوطنك.
"فليكن مصيرك أعماق السجن أو جدران المستشفى، فإن صورتك في البعد والقرب مرسومة على قلوب أهلك وأصدقائك، وتقبل حكم قضاتك باطمئنان، واذهب إلى مقرك بأمان"1.
1 هذا الدفاع في: المصدر السابق "عن الخطابة للدكتور الحوفي ص105-106".
3-
القصص بين استلهام التراث، ومحاكاة أدب الغرب:
خطا القصص في تلك الفترة خطوات واضحة، واتجه اتجاهات مختلفة، ولكنه تدرج آخر الأمر بين طرفين متقابلين، أولهما محافظ يستلهم التراث، ويتأثر ببعض قوالبه، وآخرهما تجديدي يحاكي قصص الغرب، وينسج على منواله. وبين هذين الطرفين وجدت ألوان أخرى، تختلف قربًا وبعدًا من هذين الطرفين، باختلاف طبيعة أصحابها وثقافتهم وأهدافهم، وفيما يلي رصد لأهم تلك الاتجاهات جميعًا.
أ- الرواية الاجتماعية المقامية:
تنوعت الأعمال القصصية التي تسير في الاتجاه المحافظ، وتستلهم التراث وما فيه من ألوان قصصية، مثل "ألف ليلة" و"المقامات"، وتنوعت كذلك مادة هذه الأعمال روحها وأهدافها؛ فكانت أحيانًا خيالية
المادة شاعرية الروح، تهدف إلى التسلية مثل "ورقة الآس" لأحمد شوقي، التي تأثر في مادتها "بألف ليلة"، وفي أسلوبها "بالمقامات"1. كما كانت أحيانًا أخرى اجتماعية المادة تأملية الروح، تهدف إلى الإصلاح، مثل "ليالي سطيح" لحافظ إبراهيم، التي تأثر في مادتها بالمقالات والأحاديث الاجتماعية والسياسية، ولكنه استلهم في أسلوبها المقامات، وبعض شخصيات التراث؛ حيث استخدم شخصية "سطيح"، وهو كاهن بني ذئب في الجاهلية، ليجري على لسانه ما يريد أن يقدم من آراء وتأملات2.
على أن أهم هذه الأعمال القصصية المحافظة التي كانت تستلهم التراث، هو اللون الاجتماعي الغاية، المقامي الأسلوب، الروائي البناء، الذي يمثله "حديث عيسى بن هشام" لمحمد المويلحي3، والذي يمكن أن يسمى "الرواية الاجتماعية المقامية"، باعتبار غايته وطابع أسلوبه.
"فحديث عيسى بن هشام" يمكن اعتباره رواية أخذت طريقًا تهذيبيًّا، يهدف إلى تبصير المواطنين بطائفة من عيوبهم ليعدلوا من سلوكهم، وعلى هذا يكون هذا العمل رواية تهذيبية ذات طابع اجتماعي، ويكون
1 الفن القصصي في الأدب المصري الحديث للدكتور محمود شوكت ص54 وما بعدها.
2 المصدر السابق ص51 وما بعدها، وتطور الرواية العربية للدكتور عبد المحسن بدر ص77، وما بعدها.
3 ولد في القاهرة سنة 1858، وكان أبوه إبراهيم المويلحي يصدر مجلة مصباح الشرق التي كانت من أهم المجلات الأدبية؛ فنشأ محمد في بيئة أدب وصحافة، وقد تعلم في المدارس المدنية، كما كان يختلف إلى الأزهر، ويحضر دروس محمد عبده، وعمل في بعض دواوين الحكومة، وسافر إلى إيطاليا وفرنسا، وهناك ساعد الأفغاني ومحمد عبده في إصدار العروة الوثقى، وأتقن الفرنسية، وعاد بعد ثلاث سنوات إلى مصر، وعاون أباه في إخراج مصباح الشرق، وكان ينتشر بها حديث عيسى بن هشام على حلقات، ثم جمعها ونشرها في كتاب سنة 1906، وعين مديرًا للأوقاف سنة 1910. وتوفي سنة 1930.
اقرأ عنه في: الأدب المعاصر في مصر للدكتور شوقي ضيف ص234، وما بعدها.
بهذا تطويرًا لمحاولة علي مبارك السابقة في "علم الدين"1. ويمكن من جهة أخرى اعتباره رواية أخذت طريقًا اجتماعيًّا يرمي إلى تصوير ما في المجتمع من مفارقات، ورسم ما بين جيل المؤلف، والجيل السابق من اختلافات، وتوضيح ما بين المجتمع الشرقي، والمجتمع الغربي من تباين؛ وعلى هذا يكون هذا العمل أول رواية اجتماعية مصرية في الأدب الحديث2، برغم إفادتها من محاولة علي مبارك، وتأثرها بالمقامات.
ومهما يكن من أمر، فبالإضافة إلى الجانب الروائي في هذا العمل، قد كان له جانب آخر يشده بسبب إلى بعض الأشكال الأدبية في تراثنا العربي، وهو شكل المقامة، ويتضح ذلك من أول وهلة، حين نتذكر أن اسم الرواية الذي جعله المؤلف عنوانًا لهذا العمل، وهو "عيسى بن هشام" هو نفس الاسم الذي اتخذه بديع الزمان لرواية مقاماته، وليس ذلك هو الجانب الوحيد الذي يربط "حديث عيسى بن هشام" بالمقامات، بل هناك أيضًا استخدام السجع في لغة السرد والوصف، التي يحكيها عيسى بن هشام في عمل المويلحي، تمامًا كما كان يحكيها في عمل البديع، هذا بالإضافة إلى اشتراك العملين في تصوير بعض جوانب البيئة الاجتماعية، وألوان من قطاعاتها ومفارقاتها، ثم اشتراك العملين في عدم استمرار كل الشخصيات، واختفاء كثير منها بانتهاء الفصل الذي يتحدث عنها.
وليس معنى اشتراك "حديث عيسى بن هشام" مع المقامات في تلك الجوانب، أن هذا العمل مقامة كبيرة، أو مجموعة مقامات حاكي بها المويلحي بديع الزمان؛ فالواضح أن في "حديث عيسى بن هشام" -إلى جانب بعض نقط الشبه بالمقامة- مواطن اختلاف كبيرة، تقرب هذا العمل من الراوية، بل تجعله رواية فعلًا، قد استوحى صاحبها
1 انظر تطور الرواية العربية للدكتور عبد المحسن بدر ص67 وما بعدها، والفن القصصي في الأدب المصري الحديث للدكتور محمود شوكت ص46 وما بعدها.
2 انظر: دراسات في الرواية المصرية للدكتور علي الراعي ص7 وما بعدها.
التراث العربي، والتفت إلى بعض أشكاله، ومن أبرز مواطن الاختلاف بين المقامة و"حديث عيسى بن هشام" أن المقامة تتناول موقفًا بسيطًا نابعًا من حدث أو أحداث يسيرة، والبطل عادة رجل من الشطار، يدور حوله الحدث أو الأحداث اليسيرة، ولا تحس فيه نمو الشخصية، ولا ترى معه تطورًا لأحداث، ثم لايراد من المقامة -أساسًا- إلا تقديم حصيلة لغوية غزيرة، تتمثل في حشد المترادفات المختلفة، والألفاظ المتقعرة، التي تلف بالسجع لتخفيف وقعها وتيسير حفظها، أما "حديث عيسى بن هشام" فقصة طويلة، واضحة المعالم، لها بداية وفيها تطور ينتهي بنهاية مقنعة1، وتلك القصة بعد ذلك مليئة بالمواقف العديدة المعقدة، والأحداث الكثيرة المتطورة، والشخصيات المنوعة النامية، وفيها كذلك كثير من العناصر الفنية الروائية، كالتشويق والمفاجأة والتعقيد والحل، فيها ذلك كله برغم اشتمالها على بعض العيوب الفنية التي لا تجعلها رواية كاملة النضج، وإنما تجعلها بداية للرواية الاجتماعية الفكاهية، وإن كانت بداية على حظ غير قليل من التوفيق، ومن أبرز تلك العيوب -بالإضافة إلى ما تقدم من عيب عدم استمرار كل الشخصيات ونموها، وعيب التزام السجع في السرد والوصف -عيب فرض المؤلف ذاته، وآراءه على الشخصية في بعض المواقف، حتى تبدو الشخصية متحدثة لا بما يناسبها، ويلائم الموقف ويطور الحدث، وإنما بما يريد المؤلف أن يقدمه من رأي حول موضوع معين. ومن هنا يأتي الحوار أحيانًا أشبه بمقال2. وبالإضافة إلى هذا العيب، يوجد عيب آخر، هو عدم الترابط بين بعض الفصول بشكل فني كاف، بل انفصامها أحيانًا، بحيث تبدو أشبه بلوحات اجتماعية فكاهية3.
وإذا كان ارتباط "حديث عيسى بن هشام" بالمقامة قد أنقص من
1 دراسات في الرواية المصرية للدكتور علي الراعي ص21-22.
2 تطور الرواية العربية للدكتور عبد المحسن بدر ص76-77.
3 دراسات في الرواية المصرية ص22.
قيمته الفنية كرواية، فالواقع أن هذا الارتباط قد كان -من جانب آخر- محاولة مخلصة لربط الأدب الحديث بالتراث القديم، واتخاذ هذا التراث نقطة انطلاق إلى فنون أدبية جديدة.
و"حديث عيسى بن هشام"، يتلخص في أن الرواية عيسى بن هشام، قد ذهب إلى المقابر يومًا للاتعاظ والاعتبار، فشاهد قبرًا قد انشق عن رجل يخرج منه مبعوثًا إلى الحياة من جديد، وحين فزع ابن هشام من هذا الميت المبعوث، طمأنه هذا الخارج من القبر، وعرفه بنفسه، مبينًا أنه أحمد باشا المنيكلي الذي كان رئيس "الجهادية" في عهد محمد علي، ثم طلب المنيكلي من ابن هشام أن يذهب إلى منزل الباشا في القلعة ليحضر له الملابس، ولكن ابن هشام اعتذر بأنه لا يعرف بيت المنيكلي، نظرًا لكون البيوت تعرف اليوم بأرقام، وأسماء شوارع وما إلى ذلك، وانتهى الأمر بأن خلع ابن هشام بعض ملابسه على الباشا المبعوث، وصحبه من المقابر إلى قلب القاهرة، ليوصله إلى بيته في القلعة، ولكن الباشا لا يصل إلى بيته، بسبب المشاكل التي تعترضه، وتحتم عليه المبيت في قسم الشرطة، ففي طريقهما إلى بيت الباشا، تبعهما أحد الحمارين مدة، ثم ادعى على الباشا أنه استدعاه وعطله، وطالبه لذلك بأجره على هذا الوقت المضيع في خدمته، والحق أنه لم يكن قد استدعاه حقيقة، وإنما كان -فقط- قد لوح بيديه، وهو يحدث عيسى بن هشام.. وقامت مشادة بين الحمار والباشا، استدعى من أجلها الشرطي الذي قاد الجميع إلى القسم، حيث بات الباشا ليلته.
وبعد ذلك يساق الباشا إلى وكيل النيابة، ثم يقدم إلى المحكمة، فيحكم عليه بالسجن، ويضطر إلى التظلم أمام لجنة المراقبة، ويعرض الأمر على محكمة الاستئناف.
ويخلص الباشا من ورطة البوليس، والقضاء -مؤقتًا- ليقع في ورطة من نوع جديد؛ وذلك أنه يضطر إلى الاستعانة بمحام، فتظهر حاجته الشديدة إلى المال، وهنا يحاول الحصول عليه بشتى الطرق، فيبحث عمن بقي من أسرته
فلا يجد إلا حفيدًا، ولكن هذا الحفيد يرفض أن يعطيه ما يريد، فيحاول أن يتصل بأحد معارفه من رجال العهد السالف، فلا ينجح كذلك، وأخيرًا يتذكر أن له وقفًا يمكن أن ينتفع به في تلك الأزمة، ويدفعه ذلك إلى الاحتكاك بالقضاء الشرعي بعد أن احتك بالقضاء المدني.
ثم يترك المؤلف القضية لينتقل بالباشا بين قطاعات اجتماعية أخرى، ونماذج بشرية عديدة، كالطبيب، والعمدة، والمرابي، والغانية، والخليع، وغيرهم. وأخيرًا ينتقل المؤلف بالباشا في رحلة خارج مصر، ويقف كثيرًا عند مواطن الاختلاف بين المدنية الشرقية والمدنية الغربية.
وخلال كل تلك القطاعات والشخصيات، التي تعرضها الرحلة في الداخل أولًا، ثم في الخارج ثانيًا، يقدم المؤلف نقداته الاجتماعية، ويصور العيوب ويرسم المفارقات.
فهو يصور الشرطي مثلًا، مشغول عن المشادة بين الحمار والباشا، بما يجمعه من الباعة من أصناف المأكولات التي يحشو بها منديله الأحمر، وهو يصور وكيل النيابة مهملًا أصحاب القضايا، ليستقبل بعض أصحابه من الشباب الرشيق المعطر، وليتحدث معهم عن السهرات، ولعب القمار وصحبة النساء، وهو يصور القاضي ضيق الصدر متبرمًا بالمتقاضين، لا لكثرة القضايا فحسب، بل؛ لأنها ستفوت عليه وليمة قد دعي إليها عند الظهر تمامًا، وهو يصور المحامي الشرعي مدعيًا للتقوى، متظاهرًا بالصلاح، ليدخل الحيلة على المتقاضيات والمتقاضين، وليسلب من المال أكبر قسط ممكن، وقد كانت تلك القطاعات وهذه الفئات، على كثير من العيوب والانحرافات في ذلك الحين، مما سوغ للمؤلف نقدها بتلك الطريقة اللاذعة، مشاركًا فيما يخوضه كل المخلصين من الكتاب والقادة، والمفكرين من معركة النضال ضد الفساد، والتخلف والاستبداد.
ولا يفوت المؤلف منذ السطور الأولى أن يخرج نفسه من المأزق الذي كان سيوقعه فيه اختياره للبطل شخصية من الجيل الماضي، ينشق عنها القبر وتبعث من جديد، فيوضح المؤلف أن كل ما كان من التقاء عيسى بن هشام بأحمد باشا
المنيكلي، وما جرى بينهما ولهما من أحداث في مصر وخارجها، إنما كان رؤيا رآها ابن هشام في منامه.
وواضح أن ابن هشام هذا ليس في الحقيقة إلا محمد المويلحي مؤلف هذا العمل العظيم، الذي يعتبر استجابة حساسة واعية لروح العصر، من حيث الالتفات إلى التراث والاعتزاز به أولًا، ثم من حيث الإسهام بالقلم في معركة النضال، ذات الميادين العديدة التي اختار منها المؤلف في هذا العمل، ميدان الإصلاح الاجتماعي، فكان صاحب أول رواية اجتماعية في الأدب المصري الحديث.
وبعد، فهذا نموذج من "حديث عيسى بن هشام" نعيش فيه لحظات مع هذا الرائد من رواد الأدب الحديث بعامة، ورواد الفن القصصي بخاصة
…
يقول المويلحي -على لسان ابن هشام- متحدثًا عن المحامي الشرعي، حين ذهب إليه الراوي مع الباشا ليوكلاه في قضية الوقف: "
…
ووجدناه على سجادة الصلاة، وعلى يساره امرأة كانت السعلاة، فسمعناه يقول لها في تسبيحه؛ "أتستكثرين -أدر الله عليك خيره، وأبدلك زوجًا غيره- ما أخذته منك لاستنباط الحيلة في التفريق، واستخراج الحكم بالتطليق، فأبعدت عنك زوجًا تكرهينه، لتتبدلي منه زوجًا تحبينه؟ ثم إنه أحس بدخولنا من ورائه، فارتد إلى اتصال تسبيحه ودعائه، وانتفضت المرأة فتنقبت بخمارها، وتلفعت بإزارها، وخرجت وتركتنا، مع رجل يخدع الأنام بطول صلواته، ويتلو سورة الأنعام في ركعاته.
إذا رام كيدًا بالصلاة مقيمها
…
فتاركها عمدًا إلى الله أقرب
وجلسنا مدة ننتظر خلاصة من هذا الرياء، وخلاص الملكين من صحيفته السوداء، وخلاصنا من هذا الكرب والعناء، وكنا نشاهد منه في خلال ذلك نظرات مختلسات نحو الباب، كأنه هو أيضًا في انتظار وارتقاب؛ إلى أن دخل علينا غلام يصيح به: "إلى متى هذه العبادة، فقد بليت السجادة، وحاجات الناس موكولة إليك، وقضاء مصالحهم موقوف عليك، وهذا دولة
البرنس ينتظرك في القصر منذ العصر، دع مدير الأوقاف ونقيب الأشراف"، فلم يعبأ المصلي بهذا الكلام، بل جهر بالآية من سورة الأنعام:{قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ لَا شَرِيْكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ} .
.....ثم تنحنح الشيخ وسعل، وبصق وتفل، وتسعط ثم تمخط، واقترب منا ودنا، ثم قال لنا:
"المحامي"- دعونا من هذا الكلام، وقولا لنا: ما حقكم في الوقف، وما شرط الواقف، وكم يقدر ثمن العين، لنقدر قيمة الأتعاب بحسبه؟
"عيسى بن هشام"- إن لصاحبي هذا وقفًا عاقته عنه العوائق، فوضع سواه يده عليه، ونريد رفع الدعوى لرفع تلك اليد.
"المحامي"- سألتك ما قيمة العين؟
"عيسى بن هشام"- لست أدري على التحقيق، ولكنها تبلغ الألوف.
"المحامي"- لا يمكن أن تقل الأتعاب حينذاك عن المئات.
"عيسى بن هشام" لا تشتط أيها الشيخ في قيمة الأتعاب، وارفق بنا، فإننا الآن في حالة عسر وضيق.
"الغلام"- وهل ينفع في رفع الدعوى اعتذارًا بإعسار؟ ألم تعلم أن هذا "شغل" له "اشتراكات"، وللكتبة والمحضرين "تطلعات"، وأنى لكما بمثل مولانا الشيخ يضمن ربح الدعوى، وكسب القضية، بما يهون معه دفع كل ما يطلبه من قيمة أتعابه؟ وهل يوجد مثله أبدًا في سعة العلم بالحيل الشرعية، ولطف الحيلة في استمالة محامي الخصم، واستجلاب عناية القضاة؟
"عيسى بن هشام"- دونك هذه الدراهم التي معنا، فخذها الآن، ونكتب لك صكًا بما يبقى لحين كسب القضية.
"المحامي"- بعد أن استلم الدراهم يعدها -أنا أقبل منك هذا العدد
القليل الآن، ابتغاء ما ادخره الله لعباده من الأجر والثواب في خدمة المسلمين، وعليك بشاهدين للتوكيل"1.
ب- القصة التهذيبية البيانية:
وقد اتجه مصطفى لطفي المنفلوطي في أعماله القصصية وجهة خاصة، لا يستوحي فيها المقامات ولا غيرها من قوالب التراث، ولا يحاكي القصص الغربي كما سيفعل آخرون فيما بعد، وإنما يقدم نوعًا من القصص، فيه بعض عناصر قصصية، ولكنها غير مكتملة من الناحية الفنية الخالصة؛ لأن إلى جانبها عناصر أخرى أقرب إلى فن المقال أو فن الخطابة، ومن هذا المزيج القصصي المقالي الخطابي، اتخذ المنفلوطي طريقته القصصية، هادفًا إلى غاية تهذيبية، وهي تعميق الإحساس بالمثل العليا والقيم الإنسانية الكبرى، كالوفاء والشرف والشجاعة، والفضيلة وحب الخير والحق والجمال، مستخدمًا للتعبير عن طريقته والوصول إلى غايته، أسلوبًا بيانيًّا أخاذًا، يقوم على تجويد التعبير، ورعاية موسيقى الكلام، والاهتمام برسم الصور، وإثارة العاطفة؛ كل ذلك من غير التزام للسجع، ولا لغيره من المحسنات، ومن غير محاكاة للمقامات ولا غيرها من مخلفات التراث، بل مع إبداع وابتكار وأصالة، وشخصية تتضح في الأسلوب كما تتضح في طريقة القصص، وغايته جميعًا2.
وأعمال المنفلوطي القصصية من حيث مصدرها نوعان: نوع أساس فكرته وأهم أحداثه من أصل أجنبي، ونوع أساس فكرته وأحداث مخترع، أما النوع الأول، فيتمثل في روايته التي ترجمت له أحداثها، والتي معظمها
1 انظر: حديث عيسى بن هشام ص103 وما بعدها.
2 انظر: تطور الرواية العربية ص178 وما بعدها، والأدب العربي المعاصر في مصر للدكتور شوقي ضيف ص229، وما بعدها.
من النوع الذي يطلق عليه اسم "رومانس"1، وقد اعاد المنفلوطي كتابتها بطريقته وأسلوبه، متصرفًا بالحذف والزيادة والتعديل، حتى جعلها عملًا جديدًا أو كالجديد، وتلك الروايات هي:"الفضيلة" التي أساسها "بول وفرجيني""لبرناردين دي سان بيير"، و"مجدولين" التي أصلها "تحت ظلال الزيزفون"، لـ"ألفونس كار"، و"الشاعر" التي مردها إلى سيرانو دي برجراك "لأدمون روستان"، و"في سبيل التاج" التي أصلها مسرحية شعرية "لفرانسوا كوبيه"، وقد قدمها المنفلوطي من جديد في شكل روائي، محولًا شعرها وحوارها إلى سرد نثري خاضع لأسلوبه البياني الخاص.
ومن هذا النوع الأول -المعتمد على أصول أجنبية- بعض تلك القصص القصيرة التي ضمنها "نظراته" و"عبراته"، وهي في الأصل روايات أجنبية، حفظ المنفلوطي فكرتها، وتصرف فيها بأسلوبه الخاص، مثل:"الذكرى" التي أصلها "آخر ملوك بني سراج""لشاتوبريان" و"الشهداء"، التي أصلها "أتالا" للكاتب الفرنسي نفسه، ومثل "الضحية" التي أصلها "غادة الكاميليا" لإسكندر دوماس الابن"2.
وأما النوع الثاني المخترع، فتمثله قصص قصا غير ناضجة قد ضمنها كتابيه "النظرات" و"العبرات" وعالج فيها مواقف اجتماعية وإنسانية عديدة، واهتم بشخصيات بائسة، كاللقطاء وضحايا الخمر والمعدمين والمظلومين، واعتمد فيها على طريقته البيانية الأخاذة، وقصد من ورائها إلى غايته الأدبية العامة، وهي التهذيب وتعميق الإحساس بالفضيلة والخير، ومحاربة بعض المفاسد والعيوب الاجتماعية، وبرغم عدم اكتمال قصص المنفلوطي القصيرة من
1 انظر: An Introduciton to Engbish novel،: kettle. pp. 31-35
2 انظر: حولية معهد الدراسات الشرقية سنة 1959 جـ1 ص145
…
هنري بريز، والفن القصصي في الأدب المصري الحديث للدكتور محمود شوكت ص80، وتطور الرواية العربية للدكتور عبد المحسن بدر ص179.
الناحية الفنية1، فإنه يعتبر صاحب المحاولات الاولى لهذا الفن في الأدب المصري الحديث.
وبرغم تصرفه في الروايات ذات الأصول الأجنبية، وبرغم طريقته غير الدقيقة في الكتابة القصصية بعامة، واعتماده على الاسترسال الإنشائي، والانفعال العاطفي الحزين، والبعد عن التحليل والتدقيق في رسم الشخصيات2؛ فإنه يعتبر دعامة من دعامات الفن القصصي في الأدب المصري؛ فهو أول من صنع جمهورًا كبيرًا للفن القصصي، وحمل القراء على اعتبار القصص، والروايات نماذج أدبية عالية، لا تقل روعة عن الشعر، وبهذا يعتبر المنفلوطي مرحلة هامة في تاريخ أدب مصر الحديث بعامة، وفي تاريخ فنها القصصي بصفته خاصة3. وهذا نموذج من قصصه القصيرة التي يمكن أن تسمى أيضًا:"المقالة القصصية" والتي تعتبر المحاولات الأولى لفن القصة القصيرة في الأدب المصري الحديث.
يقول المنفلوطي في "قصة الكأس الأولى" التي حكى فيها أنه سمع أنين جار له في هجعة الليل، فذهب يعوده ويعينه على أمره، وحين دخل إلى حجرة هذا الجار سأله عما به: "
…
فزفر زفرة كادت تسقط له ضلوعه، وأجاب: أشكو الكأس الأولى، قلت: أي كأس تريد: قال: أريد الكأس التي أودعتها مالي وعقلي وصحتي وشرفي، وهأنذا اليوم أودعها حياتي، قلت: قد كنت نصحتك وعظتك وأنذرتك بهذا المصير الذي صرت إليه، فما أجديت عليك شيئًا، قال: ما كنت تعلم حين نصحني من غوائل هذا العيش النكد أكثر مما أعلم، ولكنني كنت شربت الكأس الأولى، فخرج الأمر من يدي، كل كأس شربتها جنتها على الكأس الأولى، أما هي؛ فلم
1 انظر: الأدب العربي المعاصر في مصر للدكتور شوقي ضيف ص230.
2 انظر: الفن القصصي لشوكت ص58 وما بعدها، وفي الأدب المصري الحديث للدكتور القط ص81 وما بعدها، وتطور الرواية العربية للدكتور بدر ص180 وما بعدها.
3 المصدر الأخير ص184.
يجنها على غير ضعفي، وقصور عقلي عن إدراك خداع الأصدقاء والخلطاء، فلم تكن شهوة الشراب مركبة في الإنسان كبقية الشهوات، فيعذر في الانقياد إليها كما يعذر في الانقياد إلى غيرها من الشهوات الغريزية، فلا سلطان لها عليه إلا بعد أن يتناول الكأس الأولى، فلم يتناولها؟ يتناولها؛ لأن الخونة الكاذبين من خلانه، وعشرائه خدعوه عن نفسه في أمرها، ليستكملوا بانضمامه إليهم لذتهم التي لا تتم إلا بقراع الكئوس، وضوضاء الاجتماع، ولو علمت كيف خدعوه وزينوا له الخروج عن طبعه ومألوفه، وأية ذريعة تذرعوا بها إلى ذلك؛ لتحققت أنه أبله إلى النهاية من البلاهة، وضعيف إلى الغاية التي ليس وراءها غاية1
…
".
حـ- الرواية التعليمية التاريخية:
ظهر هذا الاتجاه الروائي التاريخي على يد جورجي زيادن2، أحد إخواننا الشوام المسيحيين المهاجرين إلى مصر، والمستوطنين لها، وقد كان جورجي زيادن إلى جانب اشتغاله بالصحافة، يميل إلى كتابة التاريخ العربي والحضارة الإسلامية، مجازيًا في ذلك هذا المثيل الثقافي العام الذي غلب على تلك الفترة، وجذبها إلى الاعتزاز بالماضي والعمل على كشف الغطاء عنه، وقد رأى جورجي زيدان أن كتب التاريخ تتجه إلى المثقفين وحدهم، إن لم تقتصر على المتخصصين في التاريخ والمشتغلين بالحضارة؛ فأراد أن يكسب للتاريخ أكبر عدد من القراء العاديين، فاختار له شكل الرواية التي تيسر
1 النظرات جـ1 ص37 وما بعدها.
2 ولد في بيروت سنة 1861، وتعلم أولًا في بعض مدارسها الابتدائية، ثم درس العلوم الإعدادية، والتحق بالقسم الطبي بالمدرسة الأمريكية، وفي أوائل السنة الثانية اضطر إلى مغادرة البلاد إلى مصر لتكميل دراسته بها، غير أنه لم يصبر على طول مدة الدراسة، فاشتغل بتثقيف نفسه، وعمل بالصحافة حينًا، ثم رافق الحملة إلى السودان سنة 1884 كمترجم. وزار بعد ذلك لندن سنة 1886. وعاد إلى مصر فأدار أعمال المقتطف، ثم استقال سنة 1888، وعكف على الكتابة
…
وتولى التدريس حينًا
…
ثم أصدر مجلة الهلال سنة 1892. وظل يكتب للهلال ويؤلف في التاريخ وغيره إلى أن توفي سنة 1914. انظر: تاريخ آداب اللغة العربية جـ4 ص283 وما بعدها.
قراءته وتجذب القراء إليه1.
وهكذا قدم سلسلة من الروايات التاريخية التي تضم في ثنايا البناء القصصي أطراف التاريخ الإسلامي في المشرق والمغرب، فقدم "فتاة غسان" لعرض الأحداث التاريخية التي صاحبت الغزوات الإسلامية الأولى، والتي شاهدت ظهور الإسلام، وانتشاره في بلاد العرب والشام والعراق، وقدم "أرمانوسة المصرية"، لعرض الأحداث التاريخية التي صاحبت فتح العرب لمصر، وكتب "عذراء قريش" و"غادة كربلاء" و"الحجاج بن يوسف" للتأريخ للوقائع التي حدثت خلال الصراع السياسي، منذ أواخر عهد عثمان إلى سيطرة العهد الأموي، وكتب "أبا مسلم الخرساني" و"العباسة" و"الأمين والمأمون" ليفصل القول في أحداث قيام الدولة العباسية، ثم في الصراع بين الرشيد والبرامكة، وأخيرًا في الصراع بين العرب والفرس.. وأخرج "فتاة القيروان" لتسجيل أحداث الفتح الإسلامي للمغرب، وأذاع "فتح الأندلس" و"عبد الرحمن الناصر"؛ ليقدم أهم أحداث الإسلام والمسلمين في الفردوس المفقود.
ولم يكتف جورجي زيدان بتقديم التاريخ الإسلامي القديم، بل كان أحيانًا يقطع التسلسل التاريخي ليقدم رواية ذات أحداث حديثة، كما فعل في رواية "الانقلاب العثماني" التي أراد أن يسجل بها سقوط السلطان عبد الحميد، وكفاح الأتراك من أجل الدستور، وهذه الرواية -بالإضافة إلى ثلاث روايات أخرى- تمثل حصة التاريخ الحديث من رواياته، أما تلك الروايات الثلاث، فهي:"استبداد المماليك" و"المملوك الشارد" و"أسير المتمهدي2". وهي تعالج أحداث عصر المماليك، ثم عصر محمد علي، ثم ثورة المهدي.
1 انظر: مقدمة الحجاج بن يوسف لجورجي زيدان. وتطور الرواية العربية 92-93.
2 انظر: الفن القصصي في الأدب المصري الحديث للدكتور محمود شوكت ص145 وما بعدها، وتطور الرواية العربية للدكتور عبد المحسن بدر ص94 وما بعدها، وتاريخ آداب اللغة العربية لجورجي زيدان جـ4 ص285.
وليس من شك في أن جورجي زيدان قد تأثر ببعض الكتاب الغربيين ممن اشتهروا بالرواية التاريخية، مثل "إسكندر دوماس الأب"، الذي كتب سلسلة من الروايات عن التاريخ الفرنسي، تصل إلى عصر لويس الحادي عشر، ومثل "والتر سكوت" الكاتب الإنجليزي الذي يعد من أبرز رواد هذا النوع من الروايات1.
على أن جورجي زيدان قد خالف هذين الكاتبين في أن كلا منهما متأثر بالإحساس القومي تأثرًا جعلهما يستخدمان التاريخ في إبراز هذا الإحساس. أما جورجي زيدان، فليس وراء كتابته إحساس قومي، وإنما وراءها تعليم للتاريخ بشكل جذاب، ومن هنا جعل الفن القصصي في خدمة التاريخ على عكس الكاتبين الغربيين، وتبعًا لعدم اهتمام جورجي زيدان بالجانب القومي. كان لا يلجأ دائما إلى الفترات المشرقة التي تمثل أمجاد العرب والإسلام، وإنما كان يلجأ إلى المواقف الحساسة، التي تحوي صراعًا بين مذهبين سياسيين أو عنصرين بشريين، يتنازعان على السلطان والنفوذ.
ويدخل في هذا الباب ما يلاحظ من إنصاف جورجي زيدان للشعوب الأعجمية، واهتمامه بالأديرة والرهبان، وتصويره -أحيانًا- لبعض الشخصيات الكبيرة في تاريخنا بصورة الوصوليين الذين يحاولون الكسب والسيطرة، ولو بقتل أقرب الناس إليهم2.
وتحوي كل رواية من روايات جورجي زيدان عنصرين أساسيين، الأول عنصر تاريخي يعتمد على الحوادث والأشخاص التاريخية، والثاني عنصر خيالي يقوم على علاقة غرامية بين محبين، تقف بينهما الحوائل، حتى تقارب الأحداث التاريخية النهاية، فتنمحي تلك الحوائل، ويتم اجتماع الشمل. ففي "أرمانوسة المصرية" مثلًا يتناول العنصر التاريخي فتح العرب لمصر، ويقوم العنصر الخيالي على حب "أرمانوسة" المسيحية ابنة المقوقس
1 انظر: تطور الرواية العربية ص90-92. وانظر أيضًا.
The Cambridge history of English Literature. Vol. 12 p.2
2 تطور الرواية العربية ص90-94، والفن القصصي ص145.
"لأركاديوس" ابن قائد الروم، والحائل بين الحبيبين هو طلب الإمبراطور نفسه الزواج من "أرمانوسة"، حتى ليوشك الزفاف أن يتم بإرسال الفتاة إلى القسطنطينية، ثم تحدث المعجزة، وتحل العقدة حين تعود "بأرمانوسة" حملة عمرو بن العاص، وهو قادم إلى مصر، وتصل "أرمانوسة" مع الحملة إلى الإسكندرية معززة مكرمة، لتلتقي بحبيبها "أركاديوس"، وتتزوج به بعد نهاية الفتح1.
وتكرر العقدة القصصية على هذا الوجه في روايات جورجي زيدان، واختياره للشخصيات إما خيرة أبدًا، وإما شريرة أبدًا ليمثل بينها الصراع، وعدم اهتمامه بالتحليل للأشخاص والترابط، والنمو للأحداث، واعتماده كثيرًا على المغامرة والمفاجأة والصدفة؛ كل ذلك أضعف رواياته من الناحية الفنية2، ومع ذلك فروايات جورجي زيدان تمثل المرحلة الأولى من مراحل الرواية التاريخية، التي سوف تصل إلى مستوى النضج في فترات تالية، حيث تهدف إلى بعث الروح القومي، وتتبع الأسلوب الفني المتلافي للأخطاء التي وقع فيها جورجي زيدان، صاحب الفضل في ريادة هذا الطريق3.
وهكذا نجد جورجي زيدان قد استفاد من التراث في المادة التاريخية، ثم في بعض العناصر القصصية، التي أقام عليها الأحداث الخيالية في رواياته، وكان مصدره في المادة التاريخية كتب التاريخ، كما كان مصدره في بعض العناصر القصصية، القصص الشعبي.. كذلك استفاد الشكل الروائي من الأدب الغربي وخاصة كتابات الروائيين التاريخيين، وإن خالفهم فكان مؤرخًا في قالب رواية، وكانوا روائيين بمادة تاريخ.
وهذا نموذج من كتابة جورجي زيدان الروائية التاريخية، وهو من رواية
1 المصدر الأخير ص145-146.
2 الفن القصصي ص145-151، وتطور الرواية العربية ص97-106، وانظر: في القيم الفنية للرواية الصحيحة Aspects of the novel: Forster.
3 انظر: الفن القصصي ص151-152، وتطور الرواية العربية ص106.
"الحجاج بن يوسف"، وفيه يصور مجلس الشعراء عند سكينة بنت الحسين، ويدير الحديث حول "حسن"، أحد رجال عبد الملك بن مروان، وليلى الأخيلية الشاعرة. يقول جورجي زيدان: "فدخلت ودخل هو في أثرها، بعد أن خلع نعليه بالباب، ووضعهما في ناحية يعرفها، ثم أطل على القاعة فإذا هي واسعة، وقد فرشت أرضها بالطنافس الثمينة وحولها الوسائد المزركشة، وفي صدرها ستارة عليها صور أشجار وطيور ملونة، جلست خلفها سكينة، ونساؤها بحيث ترى ضيوفها ولا يرونها.
ورأى في القاعة جماعة قد تصدر منهم خمسة، عليهم لباس البدو، جلسوا في صدر القاعة، فقال حسن: ومن هؤلاء المتصدرون؟
قالت ليلى: هم الشعراء. ألا تعرف أحدًا منهم؟
قال: أظنني أعرف أحدهم، الجالس على الوسادة المثنية؛ فقد عرفته من ضخامة بدنه وعبوسة وجهه وغلظه. أليس هو الفرزدق؟
قالت: بلى، هو بعينه، ألا تعجب من اجتماعه هو وجرير في مجلس واحد، مع ما اشتهر بينهما من المهاجاة؟
قال: وأيهم جرير؟
قالت: هو ذاك الذي كف شعره وأدهن، ومتى تكلم سمعت لكلامه غنة يخرج بها الكلام من أنفه كأن فيه نونًا.
قال: ومن ذلك الرجل القصير الدميم، العظيم الهامة مع اجمراره؟
قالت: هو كثير عزة العاشق المشهور.
قال: أعاذ الله عزة من منظره، فإنه قبيح! ومن هو ذاك الشاب الجميل الطويل بين المنكبين الحسن البزة، وكأنه جالس القرفصاء؟
قالت: هو جميل بثينة، أحد عشاق بني عذرة، ألا تراه حزينًا؟ فإنه علق بحب بثينة، ولما اشتهر حبه لها منعه أهلها منها
…
"1.
1 انظر: الحجاج بن يوسف لجورجي زيدان ص49 وما بعدها.
د- ميلاد الرواية الفنية:
في أواخر تلك الفترة وصلت الرواية إلى نهاية الطرف الثاني، الذي يستدبر التراث ويحاكي قصص الغرب، ويمكن اعتبار ذلك رد فعل لما سبقه من محافظة اختلفت درجاتها، وبالغ بعض المتشبثين بها حتى كتبوا روايات في لغة المقامات. وقد تمثل هذا الاتجاه المتجه تمامًا إلى القصص الغربي في رواية "زينب" للدكتور محمد حسين هيكل1، الذي بدأ كتابتها وهو في باريس يدرس الاقتصاد السياسي سنة 1910، وأكملها سنة 1911، ونشرها سنة 1912، وتعتبر "زينب" أول رواية فنية في تاريخ الأدب المصري الحديث، وذلك لواقعيتها وسيرها على القواعد الفنية للرواية إلى حد كبير2.
1 ولد في كفر غنام بمركز النسبلاوين سنة 1888 لأسرة ريفية مصرية لها بعض الثراء. وتعلم في الكتاب، ثم في مدرسة الجمالية الابتدائية، ثم في الخديوية الثانوية، ثم في الحقوق وتخرج سنة 1909، وتفتحت ميوله الأدبية منذ كان في الحقوق، وكتب بعض المقالات في "الجريدة"
…
ثم سافر إلى فرنسا ليتم دراسته العليا، فالتحق بكلية الحقوق بباريس، وحصل على درجة الدكتوراه في الاقتصاد السياسي سنة 1912، وحين عاد إلى مصر اشتغل بالمحاماة في المنصورة. ومنذ سنة 1917 أخذ يلقي بعض المحاضرات في الجامعة الأهلية، وحين أنشأ حزب الأحرار سنة 1922 جريدة السياسة اختير هيكل رئيسًا لتحريرها. ومنذ سنة 1927 أصدر ملحقًا للسياسة باسم السياسة الأسبوعية. وكان خاصًا بالأدب والنقد، وفي سنة 1937 عينه محمد محمود وزيرًا للدولة، ثم جعل وزيرًا للمعارف، ثم عين سنة 1945 رئيسًا لمجلس الشيوخ، وظل كذلك حتى سنة 1950، وتفرغ بعد ذلك للكتابة التي كانت دائمًا شغله إلى جانب مناصبه حتى توفي سنة 1956. انظر: الأدب العربي المعاصر ص270 وما بعدها.
Studies on the Civilization of Islam: Gibb. pp.273-275
2 اقرأ عن زينب في: الفن القصصي في الأدب المصري الحديث ص220 وما بعدها، وفجر القصة ليحيى حقي ص38 وما بعدها. ودراسات في الرواية المصرية للدكتور الراعي ص23=
ورواية "زينب" تصور واقع الريف المصري في تقاليده القاسية وطبيعته السمحة؛ فهي تحكي قصة شاب مثقف من أبناء الطبقة المتوسطة اسمه حامد يجب ابنة عم له اسمها عزيزة، وتحاول التقاليد القاسية في الريف دون التعبير عن هذا الحب، بل تقسو التقاليد أكثر فتفرض على عزيزة زوجًا آخر يختاره أهلها، ويحرم منها حامدًا نهائيًا، ولكنه يجد بعض العزاء، والتنفيس عند فتاة ريفية من الطبقة الكادحة، اسمها "زينب" تسمح ظروفها كعاملة أن تلتقي بحامد، وتذيقه بعض متع الحب، ولكنها لا تفهم الفتى المثقف ابن الطبقة الوسطى حتى الفهم؛ فتفضل عليه إبراهيم رئيس العمال الذي تعمل تحت إشرافه في تنقية الحقل من دودة القطن، ويتم حرمان حامد من زينب، حين يزوجها أهلها، فيغارد القرية نهائيًا، أما زينب فنظرًا لكونها لم تستطع الجهر بحب إبراهيم؛ بسبب قسوة التقاليد، فإن أهلها يزوجونها لرجل آخر لا تحبه، وإن كنت تخلص له وتؤدي حقوق الزوجية بصبر وأمانة، ويبتعد إبراهيم -كما ابتعد حامد- حيث يجند للخدمة في الجيش، ويسافر إلى السودان، تاركًا منديله لزينب تذكار حب. وتنتهي الرواية بمرض زينب من أثر الجوى، وتصاب بالسل، ثم تموت.
كل هذه الأحداث التي تصور قسوة التقاليد، وتفريقها بين حامد وعزيزة، ثم بين حامد وزينب، وأخيرًا بين زينب وإبراهيم، والتي يمكن تلخيصها في "عدم الاعتراف بمشروعية الحب، وعدم التسليم بحق الإنسان في اختيار قرينة الذي يهتف به قلبه"1؛ كل هذه الأحداث تدور على
= وما بعدها، وتطور الرواية العربية للدكتور عبد المحسن بدر ص317 وما بعدها. ومجلد السنة الثانية من مجلة البيان سنة 1912.
واقرأ عن قواعد الرواية الفنية في:
The Rise of the novel: Watt
Aspects of the nvel: Forster
The strueture of the novel، Muir
1 تطور الرواية العربية ص333.
مسرح الريف المصري، الذي صوره المؤلف تصويرًا شاعريًا مثاليًا أخاذًا، وهذا التصوير إذا أخذ مستقلًا كان من أروع ما كتب عن الريف من أدب، ولكنه إذا أخذ كمسرح لتلك الأحداث القاسية الحزينة، كان فيه كثير من التناقض، الذي يشبه تناقض "ديكور" المسرحية الحزينة، حين يجعل بهيجًا مشرقًا. وقد أخذ هذا على مؤلف "زينب1"، ولكن بعض النقاد يرى أن وصف الريف على هذا النحو قد جاء قصدًا، وأنه يمثل عنصرًا قائمًا بذاته في الرواية2، وكأن المؤلف قد قصد به أن يكون تعويضًا من الطبيعة عما أصاب أهل الريف من الحرمان وقسوة الظروف3.
وليس من شك في أن الدكتور محمد حسين هيكل، قد اعتمد في روايته على محاكاة ما قرأ من أدب فرنسي، وخاصة أدب الرومانسيين، وليس من شك أيضًا في أنه استوحى خياله، وعاطفته المشبوبة بسبب بعده عن مصر وحنينه إلى الوطن وريفه، الذي يمثل أصل بقعة فيه، واعتماد المؤلف على محاكاة ما قرأ في الأدب الفرنسي، يفسر ما يتخلل لوحة روايته أحيانًا من خطوط وألوان غريبة عن البيئة المصرية الريفية، مثل تصوير زينب العاملة "بواسة حضانة" على حد تعبير الأستاذ يحيى حقي، كأنها بطلة من أبطال قصة فرنسية. ومثل تصوير حامد متقدمًا إلى شيخ صوفي ليحدثه عن خطاياه؛ كأنه فتى مسيحي يتقدم للاعتراف أمام قسيس، ومثل رسم هذه الصورة الدرامية لنهاية زينب، حين تلفظ أنفاسها والدم ينزف من فمها، فتمسحه بمنديل حامد، وكأنها "غادة الكاميليا"4.
أما عاطفة المؤلف المشبوبة وحنينه الملتهب إلى مصر، فيفسر إفراطه في وصف الريف وإسهابه في تصوير محاسنه؛ لأنه كان يراه من خلال خياله،
1 المصدر السابق والصفحة نفسها، ودراسات في الرواية المصرية ص39 وما بعدها.
2 فجر القصة ص47-48.
3 انظر: زينب ص18.
4 فجر القصة ص50.
ويجمله بما تخلعه عليه عواطفه، شأنه في ذلك شأن أي شاب وطني يغترب عن بلده الحبيب1.
وهذان العيبان -عيب الخطوط والألوان الأجنبية، وعيب الإفراط في وصف الريف وتصوير محاسنه، بطريقة لا تخدم أحداث الرواية، وبيئة أبطالها- تضاف إليهما بعض العيوب الأخرى، مثل: عدم الدقة في رسم الشخصيات، وعدم إنطاقها بما يلائم مستواها، وإنما بما يلائم المؤلف نفسه، ثم عدم التسويغ المقنع لبعض الأحداث والتصرفات2، إلى غير ذلك من المآخذ التي لا تجعل من "زينب" رواية فنية كاملة النضج، وإن كانت بداية طيبة، ومبكرة للرواية الفنية في الأدب المصري الحديث.
بقي جانب يتصل بلغة هذه الرواية، وهو استخدام المؤلف فيها للعامية في الحوار كثيرًا ثم في السرد قليلًا، أما الحوار فيمكن تسويغ استخدام العامية فيه، بدافع فني هو الرغبة في تحقيق الواقعية، وإنطاق الأشخاص بلغة تلائمهم، وتحدد أبعادهم، خصوصًا وأكثرهم من الفلاحين، أما السرد فلا يبرر استخدام المؤلف للعامية فيه دفاع فني مقنع، وأغلب الظن أن الدافع الحقيقي كان عجز المؤلف في تلك المرحلة المبكرة من حياته الأدبية عن العثور على جميع الألفاظ والتراكيب الفصحى، التي تؤدي دلالات شعبية ريفية يريد أن يعبر عنها، وربما يؤكد هذا ما تورط فيه المؤلف من أخطاء نحوية تناثرت في الرواية.
ومع كل ذلك، فالدكتور محمد حسين هيكل يقف في طليعة من كتبوا الرواية الفنية، ويعتبر رائدها الأول في الأدب الحديث، ومن الطريف أنه حين نشرها أول مرة سنة 1912 استحى أن يضع عليها اسمه، بل استحى أن يسميها رواية أو قصة، وإنما كتب عليها "مناظرة وأخلاق ريفية، بقلم
1 انظر: زينب ص11 وفجر القصة ص48.
2 انظر: تطور الرواية العربية ص323-331. ودراسات في الرواية المصرية ص39-45. وفجر القصة ص49-52.
فلاح مصري"، وقد فسر ذلك بعد هذا، فبين أنه خاف على سمعته كمحام من أن يعاب عليه كتابة الروايات؛ لأن الناس في تلك الأحايين لم يكونوا ينظرون إلى الروائيين بعين الاحترام1، وربما كان من الأسباب ما ذكره الأستاذ يحيى حقي، من اشتمال الرواية على أحداث حب، لم تكن البيئة الاجتماعية تحترم أصحابه في تلك الآونة2، ولعل السبب الحقيقي، ليس خجل المؤلف من أن يعرف بكتابة الرواية؛ لأن غيره ممن كانوا أكثر تزمتًا قد عالجوا هذا الفن، وإن كان علاجهم لها بطريقة مخالفة، مثل الشيخ مصطفى لطفي المنفلوطي، ولعل السبب أيضًا ليس اشتمال الرواية على أحداث حب، فإن روايات المنفلوطي الشيخ الوقور قد اشتملت على تلك الأحداث، مما يدل على أن البيئة لم تكن تزدري الرواية الجيدة أولًا، ولا تأنف من اشتمالها على أحداث حب ثانيًا. والمعقول أن يكون سبب خجل المؤلف من تسميتها رواية، وإخفاء نفسه تحت لقب فلاح مصري، وهو إحساسه بأنه هو البطل حامد، وبأن أهم الأحداث التي في روايته واقعية، تجعلها أشبه بترجمة ذاتية، ولذا استحى المؤلف أن يقول للناس -وهو محام ناشئ-: إنه كان يحب العاملة الريفية زينب، ويمارس معها بعض مظاهر الحب الجسدية، وما إلى ذلك من أحداث، لا يليق بالمؤلف أن تنسب إليه، وهو رجل يعد نفسه للمناصب الكبرى، وينتمي إلى حزب سياسي له خصوم يتلمسون زلات رجاله3.
وهذا جزء من رواية زينب، نعيش فيه قليلًا مع أول رواية فنية مصرية، ونتبين معه أهم خصائصها، يقول هيكل في أول الفصل الأول: "في هاته الساعة من النهار، حين تبدأ الموجودات ترجع لصوابها، ويقطع الصمت المطلق الذي يحكم على الفلاحين طول الليل، أذان المؤذن، وصوت الديكة
1 انظر: زينب ص7، وفجر القصة ص43 وما بعدها.
2 فجر القصة ص43-44.
3 المصدر السابق ص44.
ويقظة الحيوانات جميعًا من راحتها، وحين تتلاشى الظلمة ويظهر الصباح رويدًا رويدًا من وراء الحجب -في هاته الساعة، كانت زينب تتمطى في مرقدها، وترسل في الجو الساكن الهادئ تنهدات القائم من نومه، وعن جانبها أختها وأخوها ما يزالان نائمين، فانسحبت هي من بينهما، وبعيون ما يزال فيها أثر النوم، نظرت لكل ما حولها، ولم يدعم نسيم الصباح تترك مكانها، بل استندت إلى الوسادة، وجاهدت أن تنظر لعلها تر ى ما في صحن الدار، فلم تجد شيئًا، وأدارت رأسها، فإذا باب الغرفة موصد، ولا صوت حولها، إلا ما يتنادى به رسل الصلاح من أطراف القرية.
"بقيت في مكانها هنيهة ساكنة لا تبدي حراكًا، ثم فردت ذراعيها من جديد، وأرسلت في الهواء تنهداتها، وتركت نفسها تذهب في أحلام يحييها النسيم، حتى أحست بالباب تفتحه أمها راجعة من أدوار "الملية"، وهنالك التفتت إلى أختها تهزها لتستيقظ، لكن الصغيرة كانت في نوم عميق فلم تنتبه، وتقلبت كأن بها ضيقًا ممن يقلقها في مضجعها
…
وأخيرًا نادتها أمها:
- يا زينب..
- نعم..
"ولم تزد على هذا الجواب كلمة، وبعد أن استيقظت أختها، التفت إلى أخيها وأيقظته وحدقت نحو الشرق، فإذا الأفق متورد، والشمس في لونها القاني، والسماء قد خلعت قميص الليل، هنالك قامت فأوقدت نارًا، و"لدنت" فوقها رغيفًا لكل منهما، ولم تنس أمها وأباها.
"دخل أبوها راجعًا من الجامع، وقد قرأ الورد وصلى الفجر، وما كان يتخطى عتبة الدار، حتى نادى "يا محمد"، وسأله إن كان قد استيقظ بعد، وإن كان قد أعد عمله.
"وجلست العائلة جميعًا حول "المشنة"، وأكل كل منهم رغيفه "بحصوة" ملح، ثم قال الرجل وابنه إلى عملهما، أما زينب، فانتظرت مع أختها أن يمر بهما إبراهيم ليذهبوا جميعًا إلى مزرعة السيد محمود لتنقية القطن، وقد كان
في أملهم جميعًا أن ينتهوا اليوم من بر الترعة الغربي، أو كما يسميه كاتب المالك "نمرة20"؛ لينتقلوا في الغد إلى نمرة 14.
"نزلتا حين رأتا إبراهيم ومن معه مقبلين، وتهادى الكل "صباح الخير"، ثم خرجوا من الحارة إلى سكة البلد، ثم منها إلى سكة الوسط، وهكذا كانوا عند نمرة 20 ساعة مرور وابور الصباح، ولم يتمهلوا أن أخذ كل منهم خطه على وجه الترتيب الذي كانوا عليه أمس.. ارتفعت الشمس حين نقوا خطين، وأرسلت بشعاعها تغمر هامة الشجرات التي ما تزال في مبتدأ حياتها، ومع ذلك يعني بها الفلاح والمالك أكثر من عنايتهما بأبنائهما، واصطفوا للوجه الثالث، بعد أن فصلهم عن الأولين مصرف، فلم ينس إبراهيم أن ينبههم إلى أن هذه الجهة "أغلت" من سابقتها، وتستحق لذلك عناية أكبر، وأنذرهم أنه سيدقق في مراقبتهم، ومن وجد وراءه شيئًا "أوراه شغله1".
هـ- ميلاد القصة القصيرة:
وإذا كانت قصص المنفلوطي -التي احتواها كتاب "العبرات"- تمثل الريادة الأولى غير الناضجة لفن القصة القصيرة2؛ فإن قصص محمد تيمور3
1 زبيب ص13 وما بعدها.
2 اقرأ المقال الذي عنوانه: "القصة التهذيبية البيانية" ص179 من هذا الكتاب.
3 ولد سنة 1892، ونشأ في بيت أبيه العالم الأديب أحمد تيمور، وتلقى علومه أولًا في مصر حتى أتم مرحلة الثانوية، ثم سافر إلى أوروبا لاستكمال دراسته العالية، فاتجه أولًا إلى برلين لدراسة الطب، ولكنها ما لبث أن تركها إلى باريس لدراسة القانون، غير أنه وجه كل همه إلى قراءة الأدب، ومشاهدة المسرح، فلم يوفق في دراسته القانونية النظامية على حين نجح في دراسته الفنية الحرة، وبعد ثلاث سنوات عاد إلى مصر في إجازة سنة 1914، وكانت الحرب العالمية الأولى قد شبت، فحالت بينه وبين العودة إلى باريس، فاتجه إلى مدرسة الزراعة العليا، ولكنه لم يواصل الدراسة بها لعدم اتفاقها مع ميوله، وانصرف إلى الحق الأدبي والفني، فاشتغل بالمسرح تأليفًا وتمثيلًا، ثم عين أمينًا للسلطان حسين، فهجر التمثيل واقتصر على التأليف، وفي هذه الفترة كتب سلسلة قصصه =
التي ضمتها مجموعة "ما تراه العيون1" تمثل الريادة الناضجة والأدنى إلى الكمال في هذا الفن، فهي خطوة تالية لخطوة المنفلوطي2، وأفسح منها وأقرب إلى المعالم الصحيحة3 التي أرساها كتاب هذا النوع الأدبي في الآداب التي سبقت إليه، وهي الآداب الغربية.
وقد كان محمد تيمور على صلة قوية بالفن القصصي الغربي، وكان
= القصيرة "ما تراه العيون"، وبعد فترة ترك العمل في القصر، وواصل العمل في المسرح والكتابة في الأدب، وحين شبت ثورة سنة 1919 أسهم فيها بجهده الفني، وكان من ذلك مسرحية العشرة الطيبة، التي تضمنت نقدًا لاذعًا لقصر السلطان فؤاد وحاشيته ووزرائه، ثم مات محمد تيمور سنة 1921، وهو في ريعان الشباب.
اقرأ عنه في: مؤلفات محمد تيمور -المقدمة التي كتبها شقيقه محمود للمجلد الأول الذي عنوانه "وميض الروح"، وفي فجر القصة ليحيى حقي ص56 وما بعدها، وفي القصة القصيرة في مصر لعباس خضر ص109 وما بعدها.
1 نشرت هذه المجموعة قصصًا مفرقة أول الأمر في "السفور" خلال حياة المؤلف ومنذ 1917، ونشرت بعد ذلك مجموعة سنة 1923 ضمن "مؤلفات محمد تيمور"، وهو الكتاب الذي أخرجه شقيقة محمود تيمور، جامعًا فيه كل مؤلفات الفقيد القصصية والمسرحية والنقدية، والشعرية في ثلاثة مجلدات، وكانت هذه القصص ضمن محتويات المجلد الأول الذي عنوانه:"وميض الروح"، ثم نشرت وحدها سنة 1927، وقد ألحقت بها لوحات قصصية باسم "خواطر"، وأخيرًا نشرت ضمن سلسلة المكتبة العربية التي تنشرها وزارة الثقافة.
2 تحوي النظرات بعض القصص القصيرة غير الناضجة إلى جانب المقالات والخواطر، وقد نشرت أولًا في المؤيد، ثم جمعت في ثلاثة أجزاء، أما العبرات فجميعها قصص قصار مؤلفة أو مترجمة، وهي تتبع طريقة المنفلوطي التي سبق عنها الحديث، وقد نشرت سنة 1915. اقرأ ما كتب بعنوان:"القصة التهذيبية البيانية" ص179 من هذا الكتاب.
3 عن أهم معالم القصة القصيرة اقرأ:
Reading the short story: H. shaw and D. Bement
واقرأ أيضًا:
short story writing: s. A. Moseley
وكذلك:
The Encyclopeadia Britannica،: Val.20
متأثرًا إلى درجة كبيرة "بموباسان" القصصي الفرنسي الشهير1، كما كان محمد تيمور كذلك على صلة بالمحاولات التي سبقت محاولته في الأدب المصري الحديث، وكان متأثرًا أيضًا بما كتبه المنفلوطي، ولذا نجد في قصصه القصيرة الأولى آثار ذلك كله؛ ففيها كثير من المعالم الفنية للقصة القصيرة كما عرفت عند كتاب الغرب، وعند "موباسان" بصفة خاصة، ويبدو ذلك في واقعيته الصادقة، واتجاهه إلى الأحداث العادية والمشكلات اليومية، واهتمامه بالأناس البسطاء، ثم نجد في قصص محمد تيمور الأولى أيضًا بعض آثار المنفلوطي، التي تبدو أحيانًا في إدارة الكاتب الحديث حول نفسه، وكأنه بطل من أبطال القصة، كما تبدو كثيرًا في خلق الأجواء العاطفية، وإثارة المشاعر الحانية نحو الفقراء والمساكين وضحايا المجتمع على وجه العموم، ثم تبدو أحيانًا أخرى في التقديم للقصة بمقدمة تصور الحالة النفسية للكاتب، والغالب على هذه الحالة أن تكون حالة ضيق، أو حزن أو قلق غير معروفة الأسباب من جانب الكاتب، وإن كانت القصة بعد ذلك تفسر هذه الأسباب، أو توحي بها على أقل تقدير.
وأولى قصص محمد تيمور، وهي قصة "في القطار" التي نشرها سنة 1917 2. والتي تمثل ميلاد القصة القصيرة الفنية في الأدب المصري الحديث3، تؤكد هذه الحقائق، كما تؤكد في الوقت نفسه سيطرة روح الفترة
1 اقرأ شفاء الروح -الفصل الأول، ففيه يقرر محمود تيمور أن شقيقه امتدح له "موباسان" غير مرة حين فتن به، واقرأ مقدمة قصة "ربي لمن خلقت هذا النعيم" لمحمد تيمور في مجموعة ما تراه العيون، ففيها يصرح بأنه يقتبس عن "موباسان".
2 نشرت في مجلة السفور التي كان يصدرها عبد الحميد حمدي من سنة 1915 إلى سنة 1924.
3 هذا ما يراه الأستاذ عباس خضر حسب استقرائه، وهو ما نطمئن إليه بالنسبة للأدب المصري على الأقل، أما بالنسبة للأدب العربي الحديث بعامة، فقد رأى الدكتور محمد يوسف نجم أن قصة العاقر لميخائيل نعيمة أسبق من محاولات محمد تيمور الأولى، ويحدد سنة 1915 تاريخًا لنشر قصة نعيمة، اقرأ: القصة القصيرة في مصر لعباس خضر ص114، والقصة في الأدب العربي الحديث للدكتور محمد يوسف نجم ص217.
على هذا النوع الأدبي منذ ميلاده؛ تلك الروح التي رأيناها توجه كل الأنواع الأدبية إلى نواحي النضال من أجل من حياة مصرية أفضل، وقد كانت القصة القصيرة كسبًا لهذا الميدان النضالي وخاصة في الميدان الاجتماعي؛ لارتباطها بالواقع بحكم طبيعتها الفنية.. وهذه قصة "في القطار".
"صباح ناصع الجبين يجلي عن القلب الحزين ظلماته، ويرد الشيخ شبابه، ونسيم عليل ينعش الأفئدة، ويسري عن النفس همومها، وفي الحديقة تتمايل الأشجار يمنة ويسرة، وكأنها ترقص لقدوم الصباح، والناس تسير في الطريق، وقد دبت في نفوسهم حرارة العمل، وأنا مكتئب النفس، أنظر من النافذة الجمال الطبيعة، وأسأل نفسي عن سر اكتئابها فلا اهتدى لشيء، وتناولت ديوان "موسيه"، وحاولت القراءة فلم أنجح، فألقيت به على الخوان، وجلست على مقعد واستسلمت للتفكير، كأنني فريسة بين مخالب الدهر.
"مكثت حينًا أفكر، ثم نهضت واقفًا، وتناولت عصاي وغادرت منزلي، وسرت وأنا لا أعلم إلي أي مكان تقودني قدماي، إلى أن وصلت إلى محطة باب الحديد، وهناك وقفت مفكرًا، ثم اهتديت للسفر ترويحًا للنفس، وابتعت تذكرة، وركبت القطار للضيعة، لأقضي فيها نهاري بأكمله.
"وجلست في إحدى عربات القطار بجوار النافذة، ولم يكن أحد سواي، وما لبثت في مكاني حتى سمعت صوت بائع الجرائد يطن في أذني: "وادي النيل، الأهرام، المقطم"، فابتعت إحداها وهممت بالقراءة، وإذا باب الغرقة قد انفتح، وخل شيخ من المعممين، أسمر اللون طويل القامة نحيف القوام كث اللحية، له عينان أقفل أجفانها الكسل، فكأنه لم يستيقظ من نومه بعد، وجلس الأستاذ غير بعيد عني، وخلع مركوبه الأحمر، قبل أن يتربع على المقعد، ثم بصق على الأرض ثلاثًا، ماسحًا شفتيه بمنديل أحمر، يصلح أن يكون غطاء لطفل صغير، ثم أخرج من جيبه مسبحة ذات مائة حبة وحبة، وجعل يردد اسم الله، والنبي والصحابة والأولياء
الصالحين، فحولت نظري عنه، فإذا بي أرى في الغرفة شابا لا أدري من أين دخل علينا، ولعل انشغالي برؤية الأستاذ منعني أن أرى الشاب ساعة دخوله.
"نظرت إلى الفتى، وتبادر إلى ذهني أنه طالب ريفي انتهى من تأدية امتحانه، وهو يعود إلى ضيعته ليقضي إجازته بين أهله وقومه، نظرت إلى الشاب كما نظر إلي، ثم أخرج من جيبه رواية من روايات مسامرات الشعب وهم بالقراءة، بعد أن حول نظره عني وعن الأستاذ، ونظرت إلى الساعة راجيًا أن يتحرك القطار قبل أن يوافينا مسافر رابع، فإذا بأفندي وضاح الطلعة حسن الهندام دخل غرفتنا، وهو يتبختر في مشيته، ويردد أنشودة طالما سمعتها من باعة الفجل والترمس، جلس الأفندي وهو يبتسم واضعًا رجلًا على رجل بعد أن أقرأنا السلام، فرددناه رد الغريب على الغريب.
"وساد السكون في الغرفة، والتلميذ يقرأ روايته، والأستاذ يسبح وهو غائب عن الوجود، والأفندي ينظر لملابسي طورًا وللمسافرين تارة أخرى، وأنا أقرأ وادي النيل، منتظرًا أن يتحرك القطار قبل أن يوافينا زائر خامس.
"مكثنا هنيهة لا نتكلم كأنا ننتظر قدوم أحد، فانفتح باب الغرفة، ودخل شيخ يبلغ الستين، أحمر الوجه براق العينين، يدل لون بشرته على أنه شركسي الأصل، وكان ممسكًا مظلة أكل عليها الدهر وشرب، أما حافة طربوشه فكانت تصل إلى أطراف أذنيه، وجلس أمامي وهو يتفرس في وجوه رفقائه المسافرين، كأنه يسألهم: من أين هم قادمون، وإلى أين هم ذاهبون، ثم سمعنا صفير القطار ينبئ الناس بالمسير، وتحرك القطار بعد قليل، يقل من فيه إلى حيث هم قاصدون.
"سافر القطار ونحن جلوس لا ننبس ببنت شفة، كأنما على رءوسنا الطير، حتى اتقرب من محطة شبرا، فإذا بالشركي يحملق في ثم قال موجهًا كلامه إلي:
- هل من أخبار جديدة يا أفندي؟
فقلت: -وأنا ممسك الجريدة بيدي- ليس في أخبار اليوم ما يستلفت النظر، اللهم إلا خبر وزارة المعارف بتعميم التعليم، ومحاربة الأمية.
"ولم يمهلني الرجل أتم كلامي؛ لأنه اختطف الجريدة من يدي دون أن يستأذنني؛ وابتدأ بقراءة، ما يقع تحت عينيه، ولم يدهشني ما فعل؛ لأني أعلم الناس بحدة الشراكسة، وبعد قليل وصل القطار محطة شبرا، وصعد منها أحد عمد القليوبية، وهو رجل ضخم الجثة كبير الشارب أفطس الأنف، له وجه به أثار الجدري، تظهر عليه مظاهر القوة والجهل، جلس العمدة بجواري، بعد أن قرأ صورة الفاتحة وصلى على النبي
…
ثم سار القطار قاصدًا قليوب.
"مكث الشركسي قليلًا يقرأ الجريدة، ثم طواها وألقى بها على الأرض، وهو يحترق من الألم، وقال:
- يريدون تعميم التعليم، ومحاربة الأمية حتى يرتقي الفلاح إلى مصاف أسياده، وقد جهلوا أنهم يحنون جناية كبرى.
فالتقطت الجريدة من الأرض، وقلت:
- وأية جناية؟
- إنك ما زلت شابا لا تعرف العلاج الناجع لتربية الفلاح.
- وأي علاج تقصد؟ وهل من علاج أنجع من التعليم؟
فقطب الشركسي حاجبيه، وقال بلهجة الغاضب:
- هناك علاج آخر.
- وما هو؟
فصاح بملء فيه صيحة أفاق لها الأستاذ من نومه، وقال:
- السوط. إن السوط لا يكلف الحكومة شيئًا، أما التعليم فيتطلب أموالًا طائلة، ولا تنس أن الفلاح لا يذعن إلا للضرب؛ لأنه اعتاده من المهد إلى اللحد:
"وأردت أن أجيب الشركسي، ولكن العمدة -حفظه الله- كفاني
مئونة الرد، فقال للشركسي، وهو يبتسم ابتسامة صفراء:
صدقت يا بيه صدقت. ولو كنت تسكن الضياع مثلنا، لقلت أكثر من ذلك، إننا نعاني من الفلاح ما نعاني لنكبح جماحه، ونمنعه من ارتكاب الجرائم.
فنظر إليه الشركسي نظرة ارتياب، وقال:
حضرتكم تسكنون الأرياف؟
أنا مولود بها يا بيه.
ما شاء الله.
"جرى هذا الحديث والأستاذ يغط في نومه، والأفندي ذو الهندام الحسن ينظر لملابسه، ثم ينظر لنا ويضحك، أما التلميذ فكانت على وجهه سيما الاشمئزاز، ولقد هم بالكلام مرارًا فلم يمنعه إلا حياؤه وصغر سنه، ولم أطق سكوتًا على ما فاه به الشركسي، فقلت له:
- الفلاح يا بيه إنسان مثلنا، وحرام ألا يحسن الإنسان معاملة أخيه الإنسان.
فالتفت إلي العمدة كأني وجهت الكلام إليه، وقال:
أنا أعلم الناس بالفلاح؛ ولي الشرف أن أكون عمدة في بلد به ألف رجل، وإن شئت أن تقف على شئون الفلاح أجيبك، إن الفلاح يا حضرة الأفندي لا يفلح معه إلا الضرب، ولقد صدق البك فيما قال: وأشار إلى الشركسي:
- ولا ينبئك مثل خبير.
فاستشاط التلميذ غضبًا ولم يطق السكوت، فقال وهو يرتجف:
- الفلاح يا حضرة العمدة.
فقاطعه العمدة قائلًا:
- قل يا سعادة البك؛ لأني حزنت الرتبة الثانية منذ عشرين سنة.
قال التلميذ:
- الفلاح يا حضرة العمدة لا يذعن لأوامركم إلا بالضرب؛ لأنكم لم تعودوه غير ذلك، فلو كنتم أحسنتم صنيعكم معه لكنتم وجدتم فيه أخًا يتكاتف معكم ويعاونكم، ولكنكم -مع الأسف- أسأتم إليه، فعمد إلى الإضرار بكم تخلصًا من إساءتكم، وإنه ليدهشني أن تكون فلاحًا، وتنحي باللائمة على إخوانك الفلاحين.
فهز العمدة رأسه، ونظر إلى الشركسي، وقال:
- هذه نتائج التعليم.
فقال الشركسي:
- نام وقام فوجد نفسه قائم مقام.
أما الأفندي ذو الهندام الحسن، فإنه قهقه ضاحكًا وصفق بيديه، وقال للتمليذ:
- برافو يا أفندي، برافو، برافو.
ونظر إليه الشركسي، وقد انتفخت أوداجه، وتعسر عليه التنفس، وقال:
- ومن تكون أنت؟
- ابن الحظ والأنس يا أنس.
وقهقه عدة ضحكات متوالية.
"ولم يبق في قوس الشركسي منزع، فصاح وهو يبصق على الأرض طورًا، وعلى الأستاذ طورًا، وعلى حذاء العمدة تارة:
- أدبسيس فلاح.
ثم سكت وسكت الحاضرون، وأوشكت أن تهدأ العاصفة، لولا أن التفت العمدة إلى الأستاذ، وقال:
- أنت خير الحاكمين يا سيدنا، فاحكم لنا في هذه القضية.
فهز الأستاذ رأسه، وتنحح، وبصق على الأرض، وقال:
- وما هي القضية لأحكم فيها بإذن الله جل وعلا.
- هل التعليم أفيد للفلاح أم الضرب؟
فقال الأستاذ:
- بسم الله الرحمن الرحيم إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا، قال النبي عليه الصلاة والسلام:"ولا تعلموا أولاد السفلة العلم".
وعاد الأستاذ إلى خموله، وإطباق أجفانه مستسلمًا للذهول، فضحك التلميذ وهو يقول:
- حرام عليك يا أستاذ، إن بين الغني والفقير من هو على خلق عظيم، كما أن بينهم من هو في الدرك الأسفل.
فأفاق الأستاذ من غشيته، وقال:
- واحسرتاه إنكم من يوم ما تعلمتم الرطان، فسدت عليكم أخلاقكم، ونسيتم أوامر دينكم، ومنكم من تبجح وبغي واستكبر وأنكر وجود الخالق.
فصاح الشركسي والعمدة: "لك الله يا أستاذ" وقال الشركسي:
- كان الولد يخاف أن يأكل مع أبيه، والآن يشمته ويهم بصفعه.
وقال العمدة:
- كان الولد لا يرى وجه عمته، والآن يجالس امرأة أخيه.
"ووقف القطار في قليوب، فقرأت الجميع السلام وغادرتهم، وسرت في طريقي إلى الضيعة، وأنا لا أكاد أسمع دوي القطار وصفيره، وهو يعدو بين المروج الخضراء؛ لكثرة ما يصيح في أذني من صدى الحديث1".
ويلاحظ على هذه القصة أن المؤلف بدأها بمقدمة في وصف الطبيعة، وكآبة النفس برغم مناظر الطبيعة الخلابة، وفي تلك المقدمة يتضح تأثير المنفلوطي، وقد تبدو هذه المقدمة مقحمة أمام النظرة السريعة، بحيث يظن أن من الأفضل الاستغناء عنها، ولكن النظرة الفاحصة تؤكد أن هذه المقدمة تخدم بناء القصة وتؤدي وظيفة حيوية فيها؛ فهي توحي بالمشكلة من أول سطور القصة، وهي مشكلة الأزمة التي يعانيها الكاتب من جزاء الظلم الاجتماعي الجاثم على صدر الفلاح، تلك الأزمة التي لا يفرجها ما للطبيعة من جمال وفتنة، أو هي مشكلة
1 ما تراه العيون لمحمود تيمور ص5 وما بعدها.
تكدير الإنسان بظلمة لصفاء الطبيعة، وتشويهه بعداوانه لكل ما فيها من بهاء وحسن.
ولكي يقنعنا المؤلف بهذه القضية بأسلوب فني؛ أطعلنا على موقف لبعض النماذج البشرية، التي تمثل قطاعات مهمة من قطاعات المجتمع، واختار عربة القطار مسرحًا لهذا الموقف، وما يدور به من حوار وتصرفات لهذه النماذج. فهناك شيخ وشركسي وعمدة وطالب وموظف، ولكل رأيه في قضية تعليم الفلاح والاهتمام بأمره، ولكل أيضًا تصرفاته وسماته، ومن خلال ما يدور بينهم من حديث، وما يبدو من كل منهم من أفعال، وما يتسم به من سمات؛ يصل المؤلف ويصل بنا أيضًا إلى ما يريد أن يقول. فالشركسي في عنجهيته وكبريائه، وأخذه ما ليس له دون أدنى مبادئ اللياقة، إنما هو نموذج الإقطاعيين الغاصبين في تلك السنين، والشيخ في غفلته وخموله، وفي آرائه المتخلفة وأحكامه المنافقة، إنما هو نموذج بعض رجال الدين، الذين كانوا في غفلة وتخلف، ومداهنة لذوي السلطان في تلك الأحايين، والعمدة في جهله وفظاظته وعدوانيته ليس إلا في نموذج صنائع الحكام، وذيول السلطة الغاشمة في هذه العهود السود، والأفندي في سطحيته، وسلبيته ليس إلا نموذج الموظفين اللامباليين، الراضين فهو في رهافة حسه، وإيجابيته، ورفضه وشجاعته؛ إنما هو نموذج الجيل الجديد، الذي يعقد عليه الأمل لمصر الناضلة.
ويلاحظ كذلك أن القصة قد أثارت العطف على الفلاحين، كما حركت السخرية من الإقطاعيين، وهي في الوقت نفسه قد نبهت إلى غفلة بعض رجال الدين وخطورة تخلفهم، وأشارت بأصبع الاتهام إلى رجال الإدارة في ذلك الحين، وما كانوا يرتكبون من جرائم القسوة والقهر مع أبناء الشعب الكادحين في الأرض الطيبة.
ويلاحظ بعد ذلك كله، أن القصة في جملتها قد جاءت باللغة الفصحى البسيطة، الخالية من التقعر ومن التنميق الأسلوبي معًا، وقد تخللها بعض ألفاظ
وتعبيرات من غير الفصحى، ألجأت إليها ضرورة رسم بعض الشخصيات بأبعادها، أو إنطاقها بما يلائمها؛ مثل:"أدبسيس" التي قالها الشركسي في رده على التلميذ. ومثل: "برافو" التي قالها الموظف في تعليقه على التمليذ أيضًا. والأولى من مكملات شخصية الشركسي، والثانية توحي بتعلق الموظف ببعض المظاهر الغربية، مما يؤكد سطحيته وتفاهته؛ وكانت هذه إحدى خصائص محمد تيمور اللغوية، حيث يستعمل أحيانًا اللفظية العامية أو الأمية حين لا تسعف الفصحى.
ومعظم القصص الأخرى التي تضمها مجموعة "ما تراه العيون"1 تتفق مع هذه القصة في الخطوط الفنية العامة، وإن خالفتها في بعض التفاصيل، فهي قد سيطرت عليها روح النضال من أجل مجتمع مصري أفضل، ومن هنا نراها تعالج موضوعات اجتماعية مستنبطة من الحياة اليومية، وتصور شخوصًا من الناس العاديين، وخاصة من المظلومين طبقيًّا والمنكوبين اجتماعيًّا. كما نرى هذه القصص في جملتها تهتم برسم الشخصيات، وتقديم المضمون من خلال حوار الأبطال وتصرفاتهم، وما تؤول إليه الأحداث الدائرة بينهم، نرى ذلك في قصة "عطفة المنزل رقم22"، التي تحكي حكاية رجل مستهتر في سلوكه، مضيق على زوجته؛ يعربد ما شاء له شيطانه، على حين يحبس زوجته بين جدران البيت، وهو في ذلك مطمئن إلى أن عرضه مصون، وخاصة أنه ترك زوجته في حراسة أمه، وأمه كما يقول لصاحبه:"من النساء اللواتي لا تفلح معهن شدة ولا رجاء"، وكان هذا الصاحب رفيقًا للزوج في نزواته، ولكنه كان أعزب، وتكذب ظنون الزوج حين يفتح هذا الرفيق الأعزب عينيه مرة على إحدى ضحاياه، فإذا هي زوجة صديقة المطمئن وهمًا إلى أنه أحكم على زوجته الأبواب، وجعلها في حراسة أمه اليقظة1!!
ونرى ذلك أيضًا في قصة "صفارة العيد" التي تتحدث عن يتيم في يوم عيد، وهو يصارع الحرمان، ويتطلع في لهفة إلى شيء من اللهو، وبعض من
1 اقرأ القصة في: ما تراه العيون ص17 وما بعدها.
السعادة كبقية الصبية في ذلك اليوم، ويدخل في معارك مع بعض الصبية المحظوظين السعداء، وبرغم أنه ينتظر عليهم، يظل عاجزًا عن الانتصار على فقرة وحرمانه، وتعاسته1.
ومحمد تيمور يميل أحيانًا في بعض قصصه إلى تحليل الميول، والكشف عن الطبائع، ولمس أغوار النفوس، وأوضح مثال لذلك قصة "كان طفلًا فصار شابًا"، وهي قصة يصور فيها تطور عاطفة مربية إزاء ربيب نشأته، ويبرز كيف تطورت هذه العاطفة من حب أم لطفل، إلى عشق امرأة لفتى2.
ولم تكن مجموعة "ما تراه العيون" مؤلفة كلها؛ بل كان بعضها مقتبسًا، وقد صرح بذلك المؤلف في أمانة، فقصة "ربي لمن خلقت هذا النعيم" قد اقتبس فكرتها من قصة لـ"موباسان" هي "ضوء القمر"، وقد قدم محمد تيمور لتلك القصة حين نشرها بمقدمة صرح فيها بأنه بدل أشخاصها، وزمانها ومكانها وموضوعها، ومصر كل شيء فيها، حتى لم يبق من الأصل إلا روح الكاتب3.
وهذه القصة -تحكى بعد التبديل- حكاية رجل غني أراد أن يزوج ابنته بشاب من طبقته، لكنها رفضت، وأصرت على الرفض، برغم ضغوط الأب وحزن الأم، ولاذت بالصمت، ولم تبح بسبب رفضها لهذا الزواج المأمول في نظر الأبوين، وقد أرق الأب ذات ليلة، فخرج إلى حديقة المنزل، وراعة منظر القمر وهو يكسو بأشعته الفضية أشجار الحديقة، فثار في نفسه هذا السؤال "ربي لمن خلقت هذا النعم؟ "، وما انتهى من تساؤله حتى لمح في الحديقة شبحين: فتاة حسناء وفتى وسيمًا، وكان الفتى يقول لفتاة:"أنا مرغم على تركك يا حبيبتي، وإني أقسم لك أني سأبقى على عهد حبي الطاهر الشريف، إلى أن يضم عظامي القبر"، وتبين الرجل أن الفتاة ابنته، وأن الفتى
1 انظر: ما تراه العيون ص47 وما بعدها.
2 اقرأ القصة في: ما تراه العيون ص67 وما بعدها.
3 اقرأ القصة في: ما تراه العيون ص57.
هو حبيبها الذي رفضت زواج المصلحة من أجله، فثار في نفس الوالد هذا الجواب:"ربي إنك خلقت هذا النعيم للمحبين"1.
هذا وقد اتجه محمد تيمور أيضًا إلى كتابة المقالات والخواطر القصصية، التي رأينا أصولها من قبل عند المنفلوطي، ولكن محمد تيمور خطا بها هي الأخرى خطوة أفسح، حتى وصل في بعضها إلى ما يمكن أن يسمى "اللوحة القصصية"؛ وذلك لما فيها من تجسيم رائع لمفارقة، أو رسم جيد لشخصية، أو تسجيل حي لحدث، أو تحريك درامي لخاطرة، كل ذلك مع البعد عن الخطابية المجلجلة، والوعظ المتكلف، والأسلوب المنمق. وأكثر هذه اللوحات تدور حول مقارنات بين الغنى والفقر، والقوة والضعف، والتقدم والتخلف، وما إلى ذلك من تناقضات تمتلئ بها الحياة التي تزدحم بالمفارقات، ولولا أن المؤلف كان يجعل أساس هذه اللوحات أحداثًا عرضت له أو اتصلت به، ولولا أنه يعلق عليها بما يريد أن يقدم من عبرة، أو نقد أو فكرة إصلاح لكانت هذه اللوحات أقاصيص من الطراز الجيد2.
ومن نماذج تلك اللوحات3: لوحة "لبن بقهوة ولبن بالتراب" التي يقول فيها:
"صباح اليوم، بعد أن صحوت من نومي ولبست ملابسي، أتتني الخادمة بالفطور لآكل ثم أخرج: ألقيت نظري على الطعام، فوجدته مختلف الألوان، من جبن وزيتون وبيض ولبن وقهوة، وكانت لي شهية للأكل فأكلت من الجبن والزيتون والبيض حتى شبعت؛ ثم نظرت للبن
1 اقرأ القصة في: ما تراه العيون ص7 وما بعدها.
2 انظر: عباس خضر -القصة القصيرة في مصر منذ نشأتها حتى سنة 1930 ص124، ويحيى حقي: فجر القصة ص61.
3 جمعت هذه اللوحات تحت عنوان: "خواطر" ونشرت ضمن المجلد الأول من مؤلفات محمد تيمور، وهو المجلد الذي عنوانه:"وميض الروح". ثم نشرت ملحقة بمجموعة قصص "ما تراه العيون".
والقهوة وقلت لنفسي: "إني أشرب اللبن مع القهوة صباح كل يوم، وقد شبعت من غيره اليوم، وليس في مقدوري أن أضيف إلى ما في معدتي من اللبن شيئًا". وقمت لأرتدي ملابسي، وإذا بي أرى كلبي يبصبص لي بذنبه، فأفرغت ما كان في فنجاني من اللبن في وعاء الكلب، وتركته والوعاء.
"ركبت ركاب رمل حتى الإسكندرية، وقضيت بعض حوائجي، ثم أردت الرجوع، فانتظرت في المحطة قليلًا مترقبًا القطار الذي يقلني حتى المحطة التي أسكن فيها، وإذا بي أرى رجلًا يبلغ الخمسين يسيرًا وراءه طفل -ما شككت في أنه ولده- يحمل معه قدرًا مملوءًا بسائل لا أعرفه، وحاولا ركوب قطار كان قد غادر المحطة، وابتعد عنها قليلًا، وإذا بالولد يهوي على الأرض، والأب يهوي فوقه، ولحسن حظهما لم يصابا بسوء، ولكن القدر قد انكسر وسال ما فيه على الأرض، وكان لبنًا ناصع البياض، فنظر إليه الرجل نظرة ملؤها الأسف، وكادت الدموع تسيل من عينيه، ثم سار في طريقه مع ابنه، وكأنه تفاءل شرًّا مما حدث فعاد من حيث أتى، لم ألبث في طريقي قليلًا حتى رأيت طفلين من أطفال شوارع الإسكندرية يتسابقان لمكان الحادثة، وكانا لابسين من الملابس ما لا يحجب من جسديهما إلا القليل، عاريي الرأس، حافيي الأقدام، تتراكم على جبهتيهما وملابسهما القاذورات والأوساخ، تسابقا لمكان الحادثة، ولما وصلا إليه ركعا على الأرض ولبثا يلحسان اللبن، وكان لبنًا بالتراب لا بالقهوة.
بالله أترفض نفسي في هذا الصباح فنجان لبن بقهوة، وترضى نفسًا هذين الفقيرين لبنًا ممزوجًا بالتراب؟! "1.
وهكذا نرى أن أواخر هذه الفترة قد شهدت ميلاد القصة القصيرة كما شهدت ميلاد الرواية الفنية2. وقد جاءت هذه، ثم تلك، على
1 ما تراه العيون "الطبعة الثانية سنة 1927" ص127.
2 كان ميلادها على يد الدكتور محمد حسين هيكل حين نشر سنة 1912.