الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3-
ظهور الاتجاه الابتداعي العاطفي:
بعد سنوات من مبدأ تلك الفترة، وبعد أن أصيب الاتجاه الشعري الأول بالتجمد1، ومنى الاتجاه الثاني بالانحسار2، كانت الظروف مهيأ لنشأة اتجاه شعري ثالث؛ فنشأ هذا الاتجاه ليعوض بحرارته وانطلاقه ما أصاب الحياة الشعرية من تجمد على أيدي البيانيين، ومن انحسار على أيدي الذهنيين.
وإذا كنت قد سميت الاتجاه الأول "الاتجاه المحافظ البياني" نظرًا لميله إلى المحافظة على القيم الشعرية التي خلفتها عصور الازدهار، ثم لاهتمامه بالناحية البيانية -قبل كل شيء- في التعبير الشعري3، وإذا كنت قد سميت الاتجاه الثاني "الاتجاه التجديدي الذهني"، نظرًا لاهتمامه بالتجديد في مفهوم الشعر وأسلوبه ووظيفته، ثم لإبرازه الجانب الفكري في مضمون الشعر4؛ أقول: إذا كنت سميت الاتجاهين السابقين على هذا النحو، فإنني أميل إلى تسمية هذا الاتجاه الثالث "الاتجاه الابتداعي العاطفي"، نظرا لكون الشعر السائر في هذا الاتجاه لا يتسم بالتجديد فحسب، وإنما يتجاوزه إلى الابتداع المنطلق المتحرر، ثم لكون هذا الشعر يجيش بالعاطفة
1 اقرأ تفصيل ذلك في المقال رقم 1 من المقالات الخاصة بالشعر في الفصل الرابع.
2 اقرأ تفصيل ذلك في المقال رقم 2 من المقالات الخاصة بالشعر في الفصل الرابع.
3 اقرأ تفصيل المقال عن هذا الاتجاه في الفصل الثاني -المقال رقم 2 من المقالات الخاصة بالشعر، ثم في الفصل الثالث المبحث جـ من مباحث المقال رقم 1 من مقالات الشعر.
4 اقرأ تفصيل القول عن هذا الاتجاه في الفصل الثالث -المقال رقم2 من المقالات الخاصة بالشعر.
الحارة المتدفقة، لا بالبيان المنمق، ولا بالذهن المتفلسف، وسوف تتضح تلك التسمية بصورة أكثر جلاء، حين أعرض للخصائص الفنية لهذا الاتجاه1.
أما تلك الظروف التي هيأت التربة لظهور هذا الاتجاه، وجعلت منه اتجاهًا ضروريًّا -في ذلك الحين- لسد الفراغ في الحياة الفنية، فأهمها ذلك الصراع الذي كان قد احتدم بين المحافظين البيانيين وعلى رأسهم شوقي، وبين المجددين الذهنيين وعلى رأسهم العقاد، فهذا الصراع الذي بدأ في أوائل القرن العشرين، ووصل إلى ذروته مع كتاب "الديوان" سنة 1921 2 قد كشف القناع عن محاسن كل من الاتجاهين ومساوئهما، فاتضح أجمل ما في الاتجاه البياني من روعة الأسلوب وجمال الصياغة، ورونق الموسيقى، ومائية الشعر، واتضح كذلك أجمل ما في الاتجاه الذهني من اهتمام بالصدق الفني، والتفات إلى الجانب الوجداني، واتجاه إلى التعبير عن نزعات النفس، وحقائق الكون، وأسرار الطبيعة، هذا إلى الاهتمام بالوحدة العضوية، والصورة الشعرية. كذلك برز -من خلال هذا الصراع- أقبح ما في الاتجاهين، من تأس لخطى السابقين، واتجاه إلى المناسبات، وميل إلى الخطابية عند المحافظين3، ومن برود ذهني، وجفاف شعري، وميل إلى العقلانية عند المجددين4، ومن هنا كانت الفرصة متاحة أمام جيل الشباب من الشعراء لكي يختار أحسن ما في الاتجاهين، ويتجنب أسوأ ما فيهما، وأن يمزج بين محاسن كل حين يقول شعرًا يريد له أن ينجو مما تورط فيه الجيلان السابقان من محافظين، ومجددين على السواء.
1 اقرأ الفقرة التي عنوانها "خصائصه من حيث الأسلوب، وطريقة الأداء"، والفقرة التي عنوانها "خصائصه من حيث المضمون".
2 انظر: الفصل الثالث -المقال رقم2 من مقالات الشعر، مبحث أ.
3 انظر: الفصل الثالث -المقال رقم 1 من مقالات الشعر، المبحث د.
4 انظر: الفصل الثالث -المقال رقم من مقالات الشعر، مبحث جـ.
وهكذا كان الصراع بين "الاتجاه المحافظ البياني" و"الاتجاه التجديدي الذهني"، من أهم العوامل التي هيأت لظهور "الاتجاه الابتداعي العاطفي"، وتبصيره بكثير من قيم الشعر، فأخذ ما أخذ، وطرح ما طرح، وليس من شك في أن جهود رواد "الاتجاه التجديدي" العقاد وشكري والمازني، قد كانت من أهم ما أفاد منه هذا "الاتجاه الابتداعي" الذي ليس إلا خطوة أفسح نحو التجديد1.
وهناك عامل ثان من العوامل التي هيأت لظهور هذا الاتجاه، وهو التأثر بشعر "الرومانتيكيين" الأوروبيين، وبالإنجليز منهم بصفة خاصة، فقد كان رواد هذا الاتجاه من شعراء الشباب -في ذلك الحين- مثقفين ثقافة أوروبية، ومجيدين بصفة خاصة للغة الإنجليزية، ومتعلقين بصفة أخص بشعر "الرومانتيكيين" الإنجليز2؛ فأحمد زكي أبو شادي3 الذي
1 انظر: "جماعة أبولو" لعبد العزيز الدسوقي ص27، 156 وما بعدها، 278، 315.
2 اقرأ اعتراف ناجي بتأثره هو وزملائه بالثقافة الإنجليزية في مقدمة: "أطياف الربيع" لأحمد زكي أبو شادي ص"ل"، واقرأ كذلك رائد الشعر الحديث لمحمد عبد المنعم خفاجى جـ2 ص281، واقرأ أيضًا: محمد عبد المعطي الهمشري لصالح جودت ص31، وعلي محمود طه للسيد تقي الدين السيد "مقدمة صالح جودت ص6 وص34، 35 من هذا الكتاب".
3 ولد أحمد زكي أبو شادي سنة 1892 بالقاهرة، وتلقى بها تعليمه الابتدائي والثانوي، ثم التحق بمدرسة الطب ومكث بها سنة، ثم انقطع عن الدراسة عامًا نتيجة لصدمة عاطفية، وسافر بعدها إلى إنجلترا لإتمام دراسته العالية هناك، وظل بها من سنة 1912 إلى سنة 1922، ثم عاد وقد أتم دراسة الطب، وتخصيص في علمي الأمراض الباطنية والجراثيم، وعمل بعد عودته إلى الوطن في الوظائف الحكومية بين القاهرة والإسكندرية وبورسعيد، حيث تدرج في السلم الوظيفي من طبيب "بكتريولوجي" إلى مدير معمل، إلى وكيل لكلية طب الإسكندرية سنة 1942، وفي سنة 1946 آثر الهجرة إلى أمريكا، واستقر بها حتى مات سنة 1955، وكان إلى تخصصه في الطب و"البكتريولوجي" هاويًا للنحالة والتعاون مفتونًا بالأدب والشعر بصفة خاصة، وقد كان أشرب حب الأدب من أبيه وأصدقاء أبيه، فهو ابن محمد بك أبي شادي المحامي، والصحافي صاحب جريدة "الإمام" الأسبوعية و"الظاهر" اليومية، وقد كان من أصدقائه ورواد مجلسه الأدبي: إسماعيل صبري وحافظ إبراهيم، وخليل مطران وأحمد محرم.
يعتبره عدد من الدارسين رائد هذا الاتجاه، كان قد عاش في إنجلترا نحو عشر سنوات لإتمام دراسته في الطب، وكان مفتونًا ببعض الشعراء "الرومانتيكيين" الإنجليز، وإبراهيم ناجي1، الذي يعد من أهم معالم
= ولا يمكن أن يغفل أثر خاله مصطفى نجيب الذي كان شاعرًا له جولات في ميدان الوطنية.
وقد بدأ أبو شادي نتاجه الشعري مبكرًا، حيث أصدر ديوانه الأول سنة 1910 باسم "أنداء الفجر"، ثم انقطع عن إصدار الدواوين إلى أن عاد من إنجلترا فتوالت دواوينه بغزارة، فأصدر "زينب" سنة 1924 و"مصريات" في نفس العام و"أنين ورنين" سنة 1925، و"شعر الوجدان" في السنة نفسها، و"الشفق الباكي" سنة 1927، و"مختارات وحي العام" سنة 1928 و"أشعة وظلال" سنة 1931، و"الشعلة" سنة 1932، و"أطياف الربيع" سنة 1933، و"أغاني أبي شادي" في نفس العام، و"الكائن الثاني" سنة 1934، و"الينبوع" في العام ذاته، و"شعر الريف" سنة 1935، و"فوق العباس" في العام نفسه، ثم انقطع حينًا عن قول الشعر وإصدار الدواوين، إلى أن عاد فأصدر سنة 1942 "عودة الراعي"، ثم "من الماء" سنة 1949، كل ذلك بالإضافة إلى بعض القصائد المطولة التي أصدرها منفصلة متناولًا بعض الأحداث القومية، أو المناسبات الأدبية، مثل "نكبة نافارين"، و"ذكرى شكسبير"، و"وطن الفراعنة"، وبالإضافة إلى قصصه الشعرية التي أشهرها:"عبده بك"، و"مها" وبالإضافة أيضًا إلى مسرحياته الغنائية التي اشتهر منها:"إحسان"، و"أردشير"، و"الزباء" و"الآلهة"، اقرأ عنه في: رائد الشعر الحيث لمحمد عبد المنعم خفاجى، والشعر المصري بعد شوقي لمحمد مندور الحلقة الثالثة ص25 وما بعدها، وجماعة أبولو لعبد العزيز الدسوقي ص132 وما بعدها، وفي الأدب العربي المعاصر لشوقي ضيف ص145 وما بعدها.
1 ولد إبراهيم ناجي سنة 1898 بالقاهرة، وتعلم بها حتى أتم الدراسة في كلية الطب سنة 1932، وعمل طبيبًا في مستشفيات سوهاج والمنيا والمنصورة، ثم القاهرة، وقد سافر في مهمة علمية إلى لندن، ثم عاد بعد أن دهمته سيارة هناك وعولج من كسر خطير، وعمل طبيبًا بمصلحة السكة الحديد، ثم رئيسًا للقسم الطبي بوزارة الأوقاف، وأخيرًا أحيل إلى المعاش في سن الخامسة والخمسين، فتفرغ لعيادته الخاصة بشبرا، ولم يطلب به الأجل بعد ذلك فقد وافته المنية يوم 24 مارس سنة 1953. وقد اعتمد في ثقافته الأدبية على جهوده الخاصة وهوايته الذاتية، التي تفتحت على ما كان لدى والده من مكتبة عامرة. وظهرت شاعرية ناجي مبكرة، وأذكتها حياته في المنصورة، كما أطلقتها تجربة عاطفية مريرة تفتح عليها شباب قلبه، فأكسبته عاطفية ملتهبة، وحزنًا يغلف بالدعابة، وبدأ ناجي=
هذا الاتجاه -إن لم يكن أهمها جميعًا- كان من المجيدين للغة الإنجليزية، ومن أقوياء الصلة بالشعر الإنجليزي "الرومانتيكي"، بالإضافة إلى معرفته بالفرنسية وقراءته لبعض الشعراء الفرنسيين، ومحمد عبد المعطي الهمشري1، الذي يمثل أبرز خصائص هذا الاتجاه كان أيضًا يقرأ الشعر
= بنشر شعره في الصحف في أواخر العشرينيات وهو في المنصورة، وتابع نشر شعره بعد ذلك بصورة أوضح منذ إنشاء مجلة "أبولو" سنة 1932، ونشر أول دواوينه سنة 1934 باسم "وراء الغمام"، ثم نشر سنة 1951، "ليالي القاهرة" ديوانه الثاني، وبعد وفاته نشر له ديوان ثالث باسم "الطائر الجريح" سنة 1953، قام باختياره من شعر ناجي الذي لم ينشر صديقه أحمد رامي، ثم رأت وزارة الثقافة جمع تراث ناجي الشعري، ونشره كله في ديوان جامع يضم ما نشره من شعره وما لم ينشر، فظهر هذا الديوان سنة 1961، وقد اشترك في إخراجه: محمد ناجي وأحمد رامي وصالح جودت، وقدم له مؤلف هذا الكتاب بمقدمة عن "فن ناجي".
اقرأ عنه في: ناجي -حياته وشعره لصالح جودت، وفي: ديوان ناجي "سيرة حياة الشاعر بقلم صالح جودت"، وفي: الشعر المصري بعد شوقي الحلقة الثانية ص57، وما بعدها. وفي: الأدب العربي المعاصر في مصر ص154 وما بعدها.
1 ولد محمد عبد المعطي الهمشري سنة 1908 بمدينة السنبلاوين، وتلقى دروسه الابتدائية، ودخل كلية الآداب، ولكنه لم يتم دراسته بها، حيث اضطر إلى قطعها سنة 1934، والحصول على وظيفة في وزارة الزراعة، حيث عمل محررًا بمجلة التعاون.. وقد مات، وهو في عمر الورد، وكان موته أثر عملية جراحية سنة 1938.
وقد تفتحت مواهبه الشعرية، وهو طالب بالمدرسة الثانوية بالمنصورية، واختلط هناك بناجي، وعلي محمود طه وكانا يكبرانه، فأفاد من صحبتهما، كما زامل صالح جودت، في المنصورة، ثم القاهرة. وقد بدأ بنشر شعره في بعض الصحف وهو في المنصورة، فنشر أجزاء من قصيدته "شاطئ الأعراف"، واحتفى بها الدكتور محمد حسين هيكل محرر السياسة في ذلك الحين، ثم واصل نشر شعره في أبولو بعد إنشائها، وبعد أن انتقل إلى القاهرة طالبًا في كلية الآداب، كما نشر بعض شعره في غير "أبولو" مثل مجلة التعاون، ولكنه لم يجمع ديوانًا وينشره قبل وفاته، وبقي شعره متناثرًا في الصحف والمجلات التي كان ينشر بها.
اقرأ عنه في: محمد عبد المعطي الهمشري لصالح جودت، وفي الشعر المصري بعد شوقي لمحمد مندور الحلقة الثالثة ص6 وما بعدها.
الإنجليزي، ويتمثل بعض خصائص شعرائه "الرومانتيكيين"، وكذلك علي محمود طه المهندس1؛ فقد كان على علم بالإنجليزية والفرنسية، وله قراءات في شعرهما وبخاصة الشعر الرومانتيكي، ومثله صالح جودت2،
1 ولد علي محمود طه بالمنصورة سنة 1902، وتلقى بها تعليمه الابتدائي وبعض الثانوي، ثم التحق بمدرسة الفنون التطبيقية، وتخرج منها سنة 1924، وعين بعد ذلك في هندسة المباني بالمنصورة، ثم نقل إلى القاهرة مديرًا للمعهد الخاص بوزارة التجارة، فمديرًا لمكتب الوزير بها، ثم ألحق بسكرتارية مجلس النواب، ومنذ سنة 1938، أخذ يكثر من الرحلات الصيفية إلى أوروبا، وقد خرج من خدمة الحكومة مع وزارة الوفد سنة 1944، ثم أعيد سنة 1949 وكيلًا لدار الكتب، ولكنه توفي في نفس العام، وقد اعتمد علي محمود طه في تحصيله الأدبي على هوايته الذاتية وتثقيفه الشخصي، وكان على علم بالإنجليزية والفرنسية كما يؤكد كتابه "أرواح شاردة"، الذي درس فيه بعض الشعراء الإنجليز والفرنسيين، وترجم مختارات من آثارهم، وبدأ ينظم الشعر منذ زمن مبكر، لكنه بدأ بنشره في أواخر العشرينيات في العصور، وفي أوائل الثلاثينيات في أبولو، ثم في الرسالة. وقد أظهر أول دواوينه "الملاح التائه" سنة 1934، ثم أذاع ديوانه الثاني سنة 1940 باسم "ليالي الملاح التائه"، وفي سنة 1941 أذاع كتابه "أرواح شاردة"، وأكثره مقالات عن الأدب الإنجليزي، والفرنسي، وألحق به قصيدة في دخول الألمان باريس، وفي سنة 1942 نشر قصيدته القصصية الطويلة "أرواح وأشباح"، وفي سنة 1943 نشر مسرحيته الغنائية "أغنية الرياح الأربع"، وفي نفس العام نشر ديوانه الثالث "زهر وخمر"، وفي سنة 1945 نشر ديوانه الرابع "الشوق العائد"، وفي سنة 1947 نشر ديوانه الخامس "شرق وغرب".
اقرأ عنه في: علي محمود طه للسيد تقي الدين السيد، وفي الشعر المصري بعد شوقي لمحمد مندور الحلقة الثانية ص81 وما بعدها، وفي الأدب العربي المعاصر في مصر لشوقي ضيف ص161 وما بعدها.
2 ولد صالح جودت بالقاهرة سنة 1912، وأتم دراسته بالثانوية بالمنصورة والعالية في القاهرة، حيث تخرج في كلية التجارة سنة 1937، وقد آثر أن يعمل في الحقل الأدبي والصحفي، فعمل بالأهرام والإذاعة ودار الهلال، وهو عضو بلجنة الشعر بالمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب، وقد نال جائزة الشعر التشجيعية سنة 1962، وكان قد نشر أول دواوينه سنة 1934 باسم ديوان "صالح جودت"، ثم نشر ديوانه الثاني سنة 1957 باسم "ليالي الهرم"، ثم نشر ديوانه الثالث باسم أغنيات على النيل سنة 1962، ثم ظهر له ديوان "ألحان مصرية" سنة 1968.
اقرأ عنه في الشعر المصري بعد شوقي الحلقة الثالثة ص52.
وحسن كامل الصيرفي1، وهكذا نرى أن هؤلاء الذين يعتبرون الدعامات الأولى لهذا الاتجاه -كانوا جميعًا ممن يقرأون الشعر "الرومانتيكي" ضمن ما يقرأون من أدب أوروبي، وكان لهم ميل خاص إلى" وردز وورث" Wordsworth" و"بيرون" Byron و"شيلي" Shelly و"كيتس" Keats من "الرومانتيكيين" الإنجليز2. بل إن بعض رواد هذا "الاتجاه الابتداعي العاطفي"، كان مفتونًا ببعض هؤلاء "الرومانتيكيين" لدرجة تشبيه نفسه به، واتخاذ حياته نمطًا لحياته، فأبو شادي مثلًا، كان يرى في حياة "كيتس" صورة لحياته، وكان يتحدث عن هذا الشاعر الإنجليزي، وكأنه يتحدث عن نفسه، وكان يرى في تلك المشابهة عزاء عما يعانيه من اضطهاد وعدم تقدير، ومما قاله في ذلك عن "كيتس": "إن أساليبه ونزعاته التجديدية لم ترض جمهرة الأدباء في البداية، ولكنها استحالت فيما بعد إلى مفخرة من مفاخر
الأدب الإنجليزي، وأن شخصيته الأدبية القوية لم تهضمها البيئة ولا المطالعات، بل هو الذي هضمها.. وأن المواهب الجديدة
1 ولد حسن كامل الصيرفي في دمياط سنة 1908، ولم تشأ الظروف أن يتم دراسته، فغادر المدرسة سنة 1925، وهو في أوائل الدراسة الثانوية، ولكنه استمر في تثقيف نفسه بالقراءة، والتحق سنة 26 بوظيفة في وزارة الزراعة، حيث ظل إلى سنة 42، فانتقل إلى سكرتارية مجلس النواب، وعندما أنشأت وزارة الإرشاد صحيفة المجلة انتدب سكرتيرًا لتحريرها.
وقد بدأ بنشر شعره في أواخر العشرينات بمجلة العصور، ثم نشر في أبولو حيث أنشئت سنة 1932، وأخرج أول دواوينه سنة 1934 باسم الألحان الضائعة، ثم نشر ديوانه الثاني سنة 1948 باسم "الشروق"، وله دواوين مخطوطة لم تنشر هي:"قطرات الندى" و"دموع وأزهار" و"رجع الصدى" و"حول النور".
اقرأ عنه في: الشعر المصري بعد شوقي لمحمد مندور، الحلقة الثانية ص111 وما بعدها.
2 انظر: علي محمود طه للسيد تقي الدين "المقدمة التي كتبها صالح جودت" ص6، وانظر: محمد عبد المعطي الهمشري لصالح جودت ص31، ورائد الشعر الحديث لمحمد عبد المنعم خفاجى جـ2 ص281، ومجلة البعثة الكويتية عدد إبريل سنة 1954.
قد لا يعترف بها اعترافًا منصفًا إلا بعد زوال صاحبها، وعلى الأخص إذا كان من الشباب؛ لأن الناس غالبًا عبيد ما تعودوه"1.
وهناك عامل ثالث من العوامل التي هيأت لظهور هذا الاتجاه، وهو التأثر بأدب المهجر2، وقد كان هذا العامل كبير الأثر بصفة خاصة عند الشعراء المحبين لهذا "الاتجاه العاطفي"، ولكنهم لا يجيدون، لغة أجنبية ولا يستطيعون الإفادة من الشعر "الرومانتيكي" في لغته الأصلية.
1 انظر: الينبوع لأحمد زكي أبو شادي "المقدمة" صفحات: ج، ط، ي.
2 بدأت هجرة إخواننا الشاميين إلى أمريكا نحو منتصف القرن الماضي، ونشطت تلك الهجرة بعد سنة 1860، وبخاصة بعد ما يسمى بمذبحة الستين، التي كانت فتنة طائفية بين المسلمين والمسيحيين في لبنان، ووصلت الهجرة إلى مداها في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل العشرين، وكانت أهم أسباب الهجرة: الاضطرابات والمعارك الدامية بين المسلمين والمسيحيين، ثم سوء معاملة بعض الحكام الأترك لأبناء الشام، ثم الفقر والقهر، والتطلع إلى الحرية والكسب، وأخيرًا روح المغامرة، والتنقل التي تكمن في إخواننا اللبنانيين سلائل الفينقيين.
وإذا كانت الهجرة قد بدأت نحو منتصف القرن الماضي، فإن الأدب المهجري لم يظهر إلا في أوائل القرن الحالي، وقد كانت ريادة أدباء المهجر لأمين الريحاني، وجبران خليل جبران، ثم تبعهما نسيب عريضه وعبد المسيج الحداد، ثم ميخائيل نعيمه وإيليا أبو ماضي، وقد التقى الجميع أخيرًا في "الرابطة القلمية" التي أنشئت في نيويورك سنة 1920، وكانت مجلة السائح لسان حال هذه الرابطة، والمنبر الذي يذيع أصوات أعضائها من أدباء المهجر الشمالي، وكان قد أنشأها عبد المسيح حداد منذ سنة 1912، كما أنشأ نسيب عريضة "الفنون" سنة 1913، وأخيرًا أنشأ إيليا أبو ماضي "السمير" سنة 1923.
هذا في المهجر، أما في المهجر الجنوبي فقد تأخر النتاج، والنشاط الأدبي بعض الوقت، فتكونت أولًا في سان باولو جميعة قبل الحرب الأولى، ثم تشكلت جمعية ثانية سنة 1922، وأخيرًا تكونت "العصبة الأندلسية" سنة 1933 بالبرازيل، وكان صحيفتها التي تحمل هذا الاسم أهم منابر المهجر الجنوبي، الذي كان عمده: الشاعر القروي رشيد سليم الخوري، وحليم الخوري شقيقه، ثم فوزي المعلوف، وشقيق المعلوف، ورياض المعلوف، وإلياس فرحات، وقد كان من أهم صحف المهجر الجنوبي العربية كذلك "الشرق" لموسى كريم، التي كانت تصدر من سنة 1927
…
ومعظم أدب المهجر يتسم بالرومانسية، ويتجه إلى العاطفية والابتداع، ويميل إلى الحنين والتأمل والحيرة، وتمجيد الأرض وإن كان أدب الشمال يغالي في تجديده حتى ليبعد أحيانًا عن أوضاع العربية كما أن حظ أدب الشمال من النثر أعظم من حظ أدب الجنوب، الذي يوشك أن يقتصر على الشعر.
"اقرأ: أدبنا وأدباؤنا في المهاجر الأمريكية لجورج صيدح، وشعراء المهجر لمحمد عبد الغني حسن، وشعراء الرابطة القلمية لنادر السراج".
ومعروف أن أدب المهجر المبكر الممثل في نتاج جبران خليل جبران، يغلب عليه الطابع الرومانسي، برغم أن معظمه نثر، ومعروف أيضًا أن أهم شعراء المهجر قد التقوا في دعوتهم التجديدية، بدعوة المجددين المصريين التي رادها العقاد وشكري والمازني1، غير أن شعر هؤلاء المهجريين كان أكثر من شعر المجددين انطلاقًا وتحررًا، كما كان أقل ذهنية وأغزر عاطفية، أو بعبارة أخرى، كان أشبه بشعر "الرومانتيكيين" الغربيين، ثم إن أدب المهجر نثرًا وشعرًا كان قد بدأ يذاع في مصر خلال كتب هؤلاء المهجريين، ودواوينهم وقصائدهم، التي كانت تنشر في بعض المجلات الأدبية حينذاك، مثل الهلال والمقتطف2، ومن هنا كان هذا الشعر
1 اقرأ: المقدمة التى كتبها العقاد لكاتب الغربال لميخائيل نعيمه، واقرأ: ثناء ميخائيل نعيمه على كتاب الديوان للعقاد والمازني، فى الغربال صـ 175-177، ففي ذلك يتضح اللقاء بين المجددين المصريين والمهجريين، فيما عدا تمسك المصريين بسلامة الأداء اللغوي، الذين كان يترخص فيه المهجريون.
2 كان نتاج جبران من أقدم ما عرف من أدب المهجريين، فقد بدأ نتاجه يذاع منذ سنة 1905، ومن أهم كتبه النثرية الجياشة بالرومانسية "عرائس المروج" و "الأجنحة المتكسرة" و"دمعة وابتسامة" و" الأرواح المتمردة"، وأشهر أعماله الشعرية "المواكب"، ويلي جبران ميخائيل نعيمه، الذى بدأ نتاجه الشعري يذاع بالعربية منذ سنة 1917، ثم إيليا أبو ماضي، الذي كان قد نشر ديوانه الأول بالأسكندرية سنة 1911، باسم"ديوان إيليا ضاهر أبو ماضى"، وواصل إخراج دواوينه بعد ذلك في المهجر، حيث بدأ بالجزء الثانى من ديوانه 1919، ثم أخرج الجداول سنة 1927، والحمائل سنة 1946، ومن نفس الجيل تقريباً رشيد أيوب الذى أصدر ديوانه "الأيوبيات" سنة 1917، ثم ديوانه الثاني "أغاني الدرويش" سنة 1928، ثم "هي الدنيا" سنة 1939.
وكذلك الشاعر القروي "رشيد سليم الخوري" الذي أخرج "الرشيديات" سنة 1917، ثم "القرويات" سنة 1922، وأخيراً ظهر ديوانه الكبير سنة 1953.
اقرأ: عن هؤلاء الأعلام: في أدبنا وأدباؤنا فى المهاجر الأمريكية لجورج صيدح صـ 266 وما بعدها، ص242 وما بعدها، وص 253 وما بعدها، وص 288 وما بعدها، وص 323 وما بعدها.
أحد العوامل التي هيأت لظهور هذا "الاتجاه الابتداعي العاطفي"، وكان أكثر المستفيدين من الشعر المهجري، هؤلاء الشعراء الابتداعيين العاطفيين الذين لم يتح لهم -حينذا- الاتصال المباشر بالشعر "الرومانتيكي" الغربي.
وربما كان الشعر المترجم الذي كان ينشره العقاد وشكري والمازني وغيرهم، عاملًا مشابهًا لهذا العامل، من حيث التأثير على طائفة من شعراء الشباب الذين تطلعوا إلى الابتداع، وفاضوا بالعاطفة، وآثروا هذا الاتجاه الشعري الثالث، دون اتصال مباشر بروافد ثقافية أجنبية، بل اعتمدوا -إلى درجة كبيرة- على الشعر المترجم عن "الرومانتيكيين"، كما اعتمدوا على شعر المهجر المشبه بدوره لشعر هؤلاء "الرومانتيكيين".
بقي عامل رابع من أهم العوامل التي شاركت في إظهار هذا الاتجاه بطابعه الابتداعي المنطلق، ونزعته الفردية الثائرة، ثم بسمته العاطفي الحزين، ونظرته الدامعة الساخطة، وهذا العامل ليس عاملًا فنيًا أو ثقافيًا كالعوامل السابقة، وإنما هو عامل اجتماعي، فقد سيطر على تلك الفترة التي يساق عنها الحديث، شعور جارف باستقلال الشخصية المصرية، وإحساس غامر بالحرية الفردية، وتشبع مستغرق بروح الثورة، وذلك لما تقدم من عوامل، كان في مقدمتها روح ثورة سنة 1919، ومشاركة كل القوى الوطنية فيها، ثم فوزها بإنهاء حماية بريطانيا، وإعلان الاستقلال، وصدور الدستور، وفتح البرلمان، وتأكيد ضمان الحريات1، وإلى هذا العامل الأول يرد ما كان عند أصحاب هذا الاتجاه من شعور بالشخصية، وإحساس بالفردية وتشبع بروح الثورة
…
ثم شهدت تلك السنوات التي
1 اقرأ المقال رقم 2 من المقالات الممهدة لدراسة الأدب في هذا الفصل.
ظهر فيها هذا الاتجاه ظلام الحياة الاجتماعية في مصر، بسبب فساد السياسة، وتأزم الاقتصاد، واضطهاد الحرية، مما كان نتيجة مباشرة لتعدد العدوان على الدستور، وتكرر إغلاق البرلمان، وتآمر قوى الشر على كل ما حققه الشعب من مكاسب بثورة سنة 1919، وكانت الملكية الباغية، والاستعمار الطاغي، والإقطاع المستغل، أهم أطراف هذا التآمر، الذي وصل إلى ذروته في عهد إسماعيل صدقي سنة 1930، على نحو ما اتضح في التمهيد لهذا الفصل1.. وإلى هذا العامل الثاني يرد ما كان من ضيق طائفة من الشباب الشاعر الحساس بالحياة، وتبرمه بالعيش، وشعوره بخيبة الأمل، فقد دفعته تلك الظروف الأخيرة إلى أن ينطوي ويهرب، ويبحث عن العزاء في الحب حينًا، وفي رحاب الطبيعة حينًا آخر، كما أغرته بأن يتشبث بالأحلام ويتعلق بالخيالات، ويهيم بالرؤى، ليلوذ بعالم أكثر شفافية، وأعظم رحابة وأفسح صدرًا، وهكذا هيأت ظروف الحياة الاجتماعية التربة في مصر لينمو بها هذا الاتجاه الذي فيه كثير من الخصائص الرومانسية2، وتآزرت تلك الظروف مع عوامل ثقافية وفنية أخرى، فكان هذا الاتجاه بجانبيه: الابتداعي المطلق، والعاطفي الجياش.
هذاوقد ألِف بعض الباحثين أن يحددوا تاريخ ظهور هذا الاتجاه بظهور مجلة "أبولو "سنة 1932، وتكوين جمعيتها في العام نفسه، باعتبار أن أهم شعراء هذا الاتجاه كانوا من بين جماعة "أبولو"، أو ممن ينشرون
1 اقرأ المقال رقم 1 من المقالات الممهدة لدراسة الأدب في هذا الفصل بعنوان "بين الروح الوطنية والانحرافات الحزبية".
واقرأ كذلك المقال رقم 2 وعنوانه "بين نشوة النصر ومرارة النكسة".
2 انظر: الشعر المصري بعد شوقي لمحمد مندور الحلقة الثانية ص4.
وانظر: جماعة أبولو لعبد العزيز الدسوقي ص271، وما بعدها.
شعرهم على صفحات مجلتها، وينالون تشجيع مؤسسها الدكتور أبي شادي1. كذلك درج بعض الباحثين على تسمية هذا الاتجاه باسم "جماعة أبولو"2 باعتباره قد انبثق من خلال تلك الجماعة التي أسسها أبو شادي، وبالغ البعض فسمى الاتجاه "مدرسة أبولو"3.
والحق أن هذا الاتجاه قد ظهر قبل ظهور مجلة "أبولو"، وتأسيس جمعيتها بسنين، حيث كان رواد هذا الاتجاه ينشرون شعرهم -قبل ظهور تلك المجلة في صحف ذاك العهد، التي كانت تعني بالأدب، كالسياسة الأسبوعية والبلاغ الأسبوعي، وكالمصور والهلال، والمقتطف وغيرها4، ثم إن مجلة "أبولو" -برغم أن صاحبها كان من أوائل رواد هذا الاتجاه- لم تكن وقفًا على اللون الشعري الذي يتسم بالابتداعية والعاطفية، بل كانت تفسح صفحاتها لكل الاتجاهات، حتى لأشدها محافظة وأكثرها تعلقًا بالقديم، فكانت تنشر لشوقي والرافعي، ومحرم، كما كانت تنشر
1 انظر: الشعر المصري بعد شوقي للدكتور محمد مندور الحلقة الأولى ص90 وما بعدها، والحلقة الثانية ص3 وما بعدها.
2 انظر: جماعة أبولو لعبد العزيز الدسوقي ص372.
3 انظر: أحاديث أبي شادي وناجي والشابي عن هذا الاتجاه، فكلها تسمية باسم مدرسة، واقرأ مثلًا مجلة أدبي سنة 1936 ص357، حيث يتحدث أبو شادي عن أبولو كمدرسة، وانظر:"أطياف الربيع" لأبي شادي -المقدمة التي كتبها ناجي، وفيها يتحدث عن أبولو ويسميها مدرسة. وانظر: الينبوع لأبي شادي -المقدمة التي كتبها الشابي حيث يتحدث كذلك عن الاتجاه، ويسميه مدرسة.
4 من أمثلة ذلك قصيدة للصيرفي بعنوان "مدى الحياة" منشورة في "العصور" العدد العاشر، يونية سنة 1928، وقصيدة أخرى له بعنوان "حبي" منشورة بالعدد السادس والعشرين أكتوبر 1929. وقصيدة لعلي محمود طه بعنوان "الطريد" منشورة في العدد الثلاثين، فبراير سنة 1930، ومن أمثلة ذلك أيضًا قصيدة "صخرة الملتقى" لإبراهيم ناجي، وهي منشورة في السياسة الأسبوعية سنة 1929، وأجزاء من "شاطئ الأعراف" لمحمد عبد المعطي الهمشري، وقد نشرت في السياسة كذلك سنة 1929، ثم قصيدة أخرى للهمشري نشرت في البلاغ سنة 1929 بعنوان "العيون الزرقاء"، انظر: محمد عبد المعطي الهمشري لصالح جودت ص48.
لناجي وعلي محمود طه والهمشري1، بل لقد وصل عدم التزامها بمذهب معين إلى حد أن جعلت أول رئيس لمجلس إدارتها زعيم المحافظين أحمد شوقي، على حين ضم المجلس شعراء من اتجاهات مختلفة بعضهم محافظ، وبعضهم مبتدع2.
ومن هنا لا أميل إلى جعل تاريخ ظهور هذا الاتجاه، هو مجلة "أبولو"، كما لا أميل إلى تسمية هذا الاتجاه باسم "جماعة أبولو"؛ لأن هذا الاتجاه قد ظهر قبل المجلة أولًا، ثم؛ لأن المجلة لم تكن وقفًا عليه ثانيًا.
ويمكن اعتبار سنة 1927 تاريخ ظهور هذا الاتجاه3، ففي هذا العام أخرج الدكتور أحمد زكي أبو شادي ديوان "الشفق الباكي"4 الذي يمثل-
1 وقد كتب في العدد الأول من الشعراء المحافظين: حسن القاياتي، وأحمد الزين، ومحمدالأسمر، وأحمد محرم، وصادق عنبر. انظر: أبولو العدد الأول سبتمبر سنة 1932، وانظر جماعة أبولو لعبد العزيز الدسوقي ص345-371، ففيه عرض للأسماء والموضوعات التي احتوتها المجلة.
2 اقرأ أسماء أعضاء مجلس الإدارة في العدد الثاني من أبولو، أكتوبر سنة 1932، وفي العدد الثالث نوفمبر سنة 1932، وقد كانوا: أحمد شوقي رئيسًا، وخليل مطران وأحمد محرم نائبي الرئيس، وأحمد زكي أبو شادي سكرتيرًا، ثم الدكتور إبراهيم ناجي، والدكتور علي العناني، وكامل الكيلاني، ومحمود عماد ومحمود صادق، وأحمد الشايب وسيد إبراهيم وعلي محمود طه، ومحمود أبو الوفا وحسن القاياتي وحسن كامل الصيرفي أعضاء، ثم اعتذر محمود عماد عن العضوية، فاختير الدكتور أحمد ضيف مكانه في أول اجتماع للمجلس، وبعد الاجتماع الأول بأربعة أيام توفي شوقي، فاجتمع المجلس اجتماعه الثاني وانتخب مطران رئيسًا، والدكتور علي العناني وكيلًا، وانتخب كذلك إسماعيل صبري الدهشان عضوًا بالمكان الذي خلا، انظر:"أبولو" عدد أكتوبر سنة 1932 وعدد نوفمبر سنة 1932.
3 انظر: "جماعة أبولو" لعبد العزيز الدسوقي ص274-286.
4 كتب على الديوان أنه صدر سنة 1926، ولكن في نهايته تنبيه إلى أنه تأخر حتى صدر سنة 1927، وقد ضم بعض شعر المؤلف حتى يوليو من هذا العام كقصيدتيه في رثاء، وتأبين الدكتور يعقوب صروف صاحب المقتطف "انظر: ص1336".
إلى حد كثير -كثيرًا من خصائص هذا الاتجاه، وفي نحو هذا التاريخ كان علي محمود طه وإبراهيم ناجي، ومحمد عبد المعطي الهمشري، وصالح جودت وحسن كامل الصيرفي؛ ينتجون طلائع شعرهم السائر في هذا الاتجاه، ويحاول بعضهم نشره في صحف ذلك العهد1.
على أن بعض هؤلاء الشعراء قد سبق هذا التاريخ الذي حدد نقطة ابتداء لظهور هذا الاتجاه، ونشر بعض شعره مبكرًا، كأبي شادي الذي أخرج ديوانه الأول سنة 1911 باسم "أنداء الفجر"، وكعلي محمود طه الذي نشرت له قصيدة في السفور سنة 1918 2، غير أن هذا الشعر المبكر لا يحمل طابع ذلك الاتجاه الابتداعي العاطفي، وإن نسب إلى شعراء صاروا فيما بعد من كبار الابتداعيين العاطفيين، فديوان أبي شادي الأول، وما تبعه من دواوين قبل "الشفق الباكي"، شعر مليء بالتقليدية والمحاكاة لشوقي، وغير شوقي من الشعراء المحافظين، وإن ضم بعض لمحات من التجديد أو الابتداع، وقصيدة علي محمود طه يغلب أنها ككل ماله من شعر مبكر، إن اتسم بعضه بالعاطفة الحزينة، وبعض لمحات الابتداع، فهو لا يمثل خصائص هذا الاتجاه "الابتداع العاطفي" ذات السمات المعينة في الموضوعات والأسلوب، والقيم الشعورية والفنية المختلفة، التي لم تتهيأ الظروف لإبرازها قبل سنة 1927.
ولذا يحسن صرف النظر عن هذا التاريخ المبكر لنتاج بعض شعراء هذا الاتجاه السابق لسنة 1927، كما يحسن صرف النظر عن التاريخ المتأخر الذي حدده البعض بظهور مجلة "أبولو"، وجمعيتها سنة 1932.
وإذا كانت سنة 1927 قد شهدت ميلاد هذا الاتجاه في شكل روافد
1 انظر: العصور العدد العاشر "يوليو سنة 1928، والسادس أكتوبر سنة 1929، والثلاثين "فبراير سنة 1930"، وانظر: كذلك السياسة الأسبوعية سنة 1929، والبلاغ الأسبوعي سنة 1929، ففي تلك الصحف قصائد لعلي محمود طه والصيرفي والهمشري وناجي.
2 انظر: علي محمود طه للسيد تقي الدين ص36.
صغيرة لا تكاد تلفت الأنظار، فإن سنة 1932 قد شهدت تجميع هذه الروافد في شكل تيار قوي واضح، قد أخذ مجراه في الحياة الأدبية من خلال مجلة "أبولو"، فقد كانت هذه المجلة فرصة لهؤلاء الشبان الابتداعيين العاطفيين لكي ينموا ويتضاعفوا ويشتدوا، ثم كانت سنة 1934 بمثابة موسم الفيضان لهذا التيار الجديد، حيث ظهرت في هذا العام الدواوين الأولى لمعظم شعرائه الرواد، فقد ظهر لعلي محمود طه "الملاح التائه"، وظهر لإبراهيم ناجي، "من وراء الغمام"، وظهر لحسن كامل الصيرفي "الألحان الضائعة"، وظهر لصالح جودت ديوانه الأول الذي سماه باسمه، وكان ظهور هذه الدواوين الأولى في عام واحد أشبه بمظاهرة فنية تعلن استواء هذا الوليد الذي رأى النور سنة 1927، ثم راح يدرج في رحاب "أبولو" سنة 1932، ثم اكتمل فتيًّا سنة 1934، فلفت أنظار النقاد الكبار من أمثال العقاد وطه حسين، فكتبوا عنه لأول مرة، وإن كانت كتابات العقاد، وطه حسين -في ذلك الحين- ليست في صالح هذا الاتجاه الجديد، لظروف كان أكثرها بعيدًا عن النقد والشعر كما سنرى فيما بعد1.
وإذا كنت لم أمل إلى تسمية هذا الاتجاه باسم "أبولو" لما أوضحت من أسباب، وآثرت تسميته باسم يحدد ابتداء طابعه الفني كما صنعت مع الاتجاهات السابقة، فإنني لا أميل كذلك إلى إطلاق اصطلاح "مدرسة" على هذا الاتجاه، وذلك؛ لأن المدرسة الأدبية تقوم أساسًا على دعائم فلسفية معينة، وتكون لها قيم فنية محددة؛ وذلك ما لا نجده -بدقة- في هذا الاتجاه الشعري؛ فهو لا يقوم على دعائم فلسفية تجعل لأصحابه فلسفة خاصة تغاير فلسفة الآخرين، وهو لا يلتزم قيمًا فنية صارمة تعزل شعراءه.
1 قسًا كل من العقاد وطه حسين في نقد بعض ما ظهر من دواوين، فكتب العقاد عن ديوان ناجي، وكتب طه حسين عن ديوان علي محمود طه، ثم عن ديوان ناجي، وكانت كل الكتابات عنيفة ومجرحة، ومشوبة باعتبارات سياسية وشخصية سوف تنضح في آخر هذا الفصل، وهي اعتبارات ليست غريبة على الطابع العام للفترة، وهو طابع الصراع الذي لعبت الحزبية فيه أهم الأدوار.
تمامًا عن قيم غيرهم من محافظين ومجددين، وإنما هو يختار أحسن ما رأى في الاتجاهات السابقة، ويفيد من الآداب الغربية، ويمزج بين هذه وتلك، ويضيف إليها كثيرًا من الخلق والإبداع، مما يشكل له مجموعة من الخصائص الفنية المشتركة التي تجعل منه اتجاهًا مميزًا بين اتجاهات الشعر، لكنها لا تصل به إلى مستوى المدرسة الفنية ذات الأسس الفلسفية المحددة، والقيم الفنية الفريدة.
على أن من بين أعلام هذا الاتجاه أنفسهم من نفي تقيد هذا الاتجاه بمذهب معين؛ فأحمد زكي أبو شادي يرى أن رفاقه من أصحاب هذا الاتجاه آمنوا بالرمزية والسريالية، والرومانسية والواقعية وغيرها، على درجات شتى، وإن ندر بينهم من اقتصر في شعره على مذهب وأحد من هذه المذاهب1، وقد سمى الاتجاه
مع ذلك مدرسة، وليس من شك في أن مثل هذه التسمية -بعد ما قرره هو نفسه- فيها كثير من التجوز.
وتلك الخصائص الفنية المشتركة التي يتسم بها هذا الاتجاه، منها ما يتصل بالموضوعات الشعرية وطبيعة التجارب، ومنها ما يتصل بالأسلوب الفني وطريقة الآداء، ومنها ما يرتبط بالألفاظ والمعجم الشعري، ومنها ما يرجع إلى الأوزان، والقالب الموسيقي.
أ- خصائصه المتصلة بالموضوعات، وطبيعة التجارب:
أما خصائص هذا الاتجاه المتصلة بالموضوعات، وطبيعة التجارب الشعرية، ففي مقدمتها الاهتمام بموضوع الحب والمرأة، وقد كان شعراء هذا الاتجاه يتخذون من الحب ملاذًا يفرون إليه من عذاب الحياة، وعزاء يعوضون به ظلم الدهر، ومرقي يسمون عليه فوق العالم الأرضي، ومن ذلك قول ناجي:
هوى كالسحر صيرني
…
أرى بقريحة الشهب
وطهرني وبصرني
…
ومزق مغلق الحجب
1 انظر: رائد الشعر الحديث لمحمد عبد المنعم خفاجي جـ1 ص236.
سموت كأنني أمضي
…
إلى رب يناديني
فلا قلبي من الأرض
…
ولا جسدي من الطين
سموت ودق إحساسي
…
وجزت عوالم البشر
نسيت ضغائن الناس
…
غفرت إساءة القد1
ومن ذلك أيضًا قول أبي شادي:
أمانًا أيها الحب
…
سلامًا أيها الآسي
أتيت إليك مشتفيًا
…
فرارًا من أذى الناس
حنانك أيها الداعي
…
فأنت مليك أنفاسي
فررت وحولي الدنيا
…
تحارب كل إحساسي2
وكان بعض الشعراء يكلف بالمرأة روحًا ووجدًا وعذابًا، وبعضهم يهيم بها جسدًا ومتعة ونعيمًا، ومن النوع الأول إبراهيم ناجي والهمشري، ومن النوع الثاني علي محمود طه، وصالح جودت، يقول ناجي واصفًا لصاحبته بعض ما يعاني من وحدة وجوى، وخداع وهم وخيبة أمل:
كم مرة يا حبيبي
…
والليل يغشى البرايا
أهيم وحدي وما في الظـ
…
ـلام شاك سوايا
أصير الدمع لحنًا
…
وأجعل الشعر نايا
يشدو ويشدو حزينًا
…
مرددًا شكوايا
مستعطفًا من طوينا
…
على هواه الطوايا
حتى يلوح خيال
…
عرفته في صبايا
يدنو إلي وتدنو
…
من ثغره شفتايا
إذا بحلمي تلاشى
…
واستيقظت عينابا
ورحت أصغي وأصغي
…
لم ألفِ إلا صدايا3
1 انظر: ديوان ناجي "قصيدة صلاة الحثب" ص263.
2 انظر: أطياف الربيع لأحمد زكي أبي شادي ص29 "قصيدة الفنان".
3 انظر: ديوان ناجي ص348 "قصيدة الناي المحترق".
ويقول صالح جودت معبرًا لصاحبته عن الظمأ الذي يعانيه، واللهفة إلى الري الذي يطمع فيه:
أجل ظمآن يا ليلى
…
وماء الحب في نهرك
خذيني في ذراعيك
…
وضميني إلى صدرك
دعيني أشرب النور الذي
…
ينساب في شعرك
وروى لهفة الظمآ
…
ن بالقبلة من ثغرك
هبيني ليلة أثمل
…
يا ليلاي من خمرك1
ومع هذا كان شعراء هذا الاتجاه يجلون المرأة ويكبرونها، وكانوا يغفرون زلاتها ويلتمسون الأعذار لآثامها، حتى ولو كانت ممن فرضت عليهن الظروف القاسية أن يحيين حياة الليل، أو يخضن خوضًا في الوحل.
فهذا علي محمود طه يقول عن مغنية دخل مخدعها ذات مساء:
فمضت في عتابها: كيف لم ند
…
ر بما برحت بك الأتراح
إن أسأنا إليه فاليوم نجزيك
…
بما ذقته رضى وسماح
ولك الليلة التي جمعتنا
…
فاغتنمها حتى يلوح الصباح
قلت: حسبي من الربيع شذاه
…
ولعيني زهره اللماح
نحن طير الخيال والحسن روض
…
كلنا فيه بلبل صداح
بليت في هواه منا قلوب
…
وأصابت خلودها الأرواح2
وهذا إبراهيم ناجي يقول لراقصة رآها في مرقص ذات ليلة، ثم جمعهما لقاء في الليلة التالية:
لا تكتمي في الصدر أسرارا
…
وتحدثي كيف الأسى شاء
أنا لا أرى إثمًا ولا عارا
…
لكن أرى امرأة وبأساء
1 انظر: ديوان صالح جودت ص80.
2 انظر: الملاح التائه لعلي محمود طه ص41-42 "قضية مخدع مغنية".
أفديك باكية وجازعة
…
قد لفها في ثوبه الغسق
ودعتها شمسًا مودعة
…
ذهبت وعندي الجرح والشفق
تمضي وتجهل كيف أكبرها
…
إذ تختفي في حالك الظلم
روحًا إذا أثمت يطهرها
…
ناران؛ نار الصبر والألم1
بل هذا صالح جودت يصف تجربة له مع بغي، هزته مأساتها فأنسته كل ما لجسدها من مفاتن، وكل ما يمكن أن يثير من رغبات، وراح يدافع عنها وينتصف لها، ويحمل المجتمع الظالم كل ما يتناثر حولها من آثام:
وقفت بالباب في ثوب رقيق
…
تفتح الباب لقطاع الطريق
ثم قالت: مرحبًا يا مرحبًا
…
بأخي اللذات أهلا بالعشيق
قلت: لا أبغي متاعًا ليس لي
…
جنبيه، ما أنا إلا صديق
خبريني يا ابنتي أنت التي
…
لقيت في خدرها ألفي عشيق
هل وجدت الرفق فيهم ساعة
…
هل وجدت الطاهر القلب الرفيق
يا إلهي، كيف أعددت لها
…
بعد دنياها عذابًا؟ هل تطيق؟!
أشقى الدهر يشقى بعده
…
وهو بالرحمة في الأخرى خليق!! 2
وأخيرًا هذا محمود حسن إسماعيل3 يقول على لسان واحدة من بائعات
1 انظر: ديوان ناجي ص270-281 "قصيدة قلب راقصة".
2 انظر: ديوان صالح جودت ص 18-23.
3 ولد ببلدة النخيلة بمحافظة أسيوط، واتجه فى دراسته وجهة عربية إسلامية، حتى تخرج في دار العلوم سنة 1936، وقد نبغ في الشعر نبوغًا مبكرًا، حتى أصدر ديوانه الأول "أغاني الكوخ"، وهو طالب سنة 1935. ثم تتابعت دواوينه:"هكذا أغني"، و"أين المفر"، و"نار وأصفاد" و"قاب قوسين"، و"لا بد"، و"التائهون"، و"صلاة ورفض".. وقد تدرج في الوظائف الحكومية، من محرر بالمجمع اللغوى إلى أن أصبح المستشار الثقافي لهيئة الإذاعة، ونال جائزة الدولة فى الشعر سنة 1965. اقرأ عن فنه الشعري: المقال الذي كتبه المؤلف بمجلة الشعر، يونيه 1965 واقرأ عنه أيضًا في: الشعر المصري بعد شوقي للدكتور محمد مندور -الحلقة الثالثة ص 100.
الهوى، محملًا إثمها للدنيا القاسية الظالمة، وللبشر الآثمين المخادعين:
واهًا على دنياي ما صنعت
…
بالحسن في كنف الصبا الفاني
فتكت بعصمته ولو عدلت
…
فتكت بقلب الآثم الجاني
سرق الأثيم قداستي ومضى
…
ومضيت أندب حظي الكابي
حيرى أروم القبر لي عوضًا
…
عن خسة الدنيا وأوصابي
ويقال في حكم الورى سقطت
…
ونعم، ولكن من خداعكم
لولا أذى الإنسان ما حملت
…
إثم الهوى عذراء بيتكم1
ومن أهم الموضوعات التي عني بها شعراء هذا الاتجاه أيضًا، موضوع الطبيعة، فكلهم قد أحب الطبيعة وعشقها، بل منهم من حاول أن يمتزج بها، ويذوب فيها، وقد كانت الطبيعة عندهم كذلك مهربًا يلوذون بصفائه من كدر الحياة، ويغسلون في طهره ما يصيبهم من رجس العيش، ويجدون في رحابته متنفسًا لما يعانون من ضيق وتأزم، كل هذا بما يخلعونه عليها من خيال مجنح، هو الذي يجعل لحديثهم عن الطبيعة قيمة ابتداعية2، يقول أبو شادي عن الطبيعة:
يا طريق الحزين عرج على الغر
…
س وسر بينه بروحي وحسي
يا صميم الحقول س ربي وخذني
…
من وجود وهبته كل يأس
في جوار المياه تجري فتروي
…
قبل ري الغراس قلبي ونفسي
في جوار النبات يخفق من خفقي،
…
ويفضي بهمسه مثل همسي
يا طريق الحزين ما عالم النا
…
س لمثلي، فليس مثلي بإنسي
أنا بعض من الوجود الذي يأ
…
بى وجودًا على فساد ورجس3
1 انظر: أغاني الكوخ لمحمود حسن إسماعيل ص67-71 قصيدة "دمعة بغي".
2 انظر: Romanticism: Laseelles Abercrombie p. 50
3 انظر: عودة الراعي لأحمد زكي أبي شادي ص283 "قصيدة في الطريق الحزين".
ويقول ناجي مخاطبًا البحر من قصيدة له بعنوان: "خواطر الغروب":
قلت للبحر إذا وقفت مساء
…
كم أطلت الوقوف والإصغاء
وجعلت النسيم زادًا لروحي
…
وشربت الظلال والأضواء
أنت عات ونحن حرب الليالي
…
مزقنا وصيرتنا هباء
وعجيب إليك يممت وجهي
…
إذا مللت الحياة والأحياء
أبتغي عندك التأسي ما تملك
…
ردًّا وما تجيب نداء1
ويقول محمود حسن إسماعيل قصيدته "الناي الأخضر راسمًا صورة حية من المرح والنشوة، التي تملأ وجدانه ببعض مظاهر الطبيعة البسيطة، وكأنه يستعيض بها عما حرم من مرح، ونشوة في دنيا الناس:
زمارتي في الحقول قد صدحت
…
فكدت من فرحي أطير بها
الجدي في مرتعي يراقصها
…
والنحل في ربوتي يجاوبها
والضوء من نشوة بنغمتها
…
قد مال في ردأة يلاعبها
رنا لها من جفون سوسنة
…
فكاد من سكرة يخاطبها
نفخت في نايها فطربني
…
وراح في عزلتي يداعبها
سكران من بهجة الربيع بلا
…
خمر به رقرقت سواكبها2
ويقول الصيرفي مناجيًا "شجرة عارية"، يمتزج بها، ويبثها أحزانه، ويقارن بين حظها وحظه:
أنا أنت لكن خبريني
…
أترى أعود إلى ربيعي
ترويك أمطار الشتا
…
ء إذا ارتويت من الدموع
أنا أنت منفرد يحيط
…
بي السكان بلا سمير
لكن تحيط بك الطيور
…
ر كعهدك الماضي الزهير
1 انظر: ديوان ناجي ص41 "قصيدة خواطر الغروب".
2 انظر: أغاني الكوخ لمحمود حسن إسماعيل ص120-121 قصيدة "الناي الأخضر"، الذي أراد به عود البرسيم.
وتحط فوقك تطلب الذكرى
…
وتهجرني طيوري
ولسوف يرتد الربيع
…
فخبريني عن ربيع1
ويقول الصيرفي أيضًا عن "جدول"، واصفًا هدوءه ثم ثورته، مشيرًا بذلك إلى حالته النفسية، حتى كأنه هو الجدول نفسه، وليس ذلك إلا لإحساسه بالاتحاد به، والفناء فيه:
يسير وفي ضفتيه الجمال
…
كلحن على شفتي غانيه
منابعه من جنان الحياة
…
على تلعات الهوى الساميه
تفانيت فيه كأغنية
…
مضى في الأثير صداها الجميل
وذبت على ضفتيه كما
…
تذوب الرغائب في المستحيل
وفي ليلة كاكتئاب الخريف
…
جرى جدولي كالدم النازف
تهب الأعاصير في وحشة
…
على صدره الخافق الواجف
هدوؤك يا جدولي أين ولي
…
وهمسك يا جدولي أين راح
أعد للضفاف ترانيمها
…
ورجع لها أغنيات المراح2
ومن أبرز الموضوعات والتجارب الشعرية التي عالجها شعراء هذا الاتجاه: الحنين إلى مواطن الذكريات، والهروب إليها في لهفة حزينة وتعطش مُر، وذلك فرارًا من الحاضر المؤلم والواقع النفر.. ومواطن الذكريات عندهم كثيرًا ما تكون مرابع للطبيعة، أو مدارج للحب، أو مسارح قد لعب الحب عليها أدواره بين أحضان الطبيعة.
يقول الهمشري في "النارنجة الذابلة"، جامعًا حولها أعذب ذكريات صباه، وأجمل أيام حداثته، بكل ما فيها من نقاء وطهر وصفاء.
1 انظر: الألحان الضائعة لحسن كامل الصيرفي ص53 قصيدة "الشجرة العارية".
2 انظر: "مجلة أبولو المجد الثاني ص112".
كانت لنا عند السياج شجيرة
…
ألف الغناء بظلها الزرزور
طفق الربيع يزورها مستخفيًا
…
ويفيض منها في الحديقة نور
حتى إذا حل الصباح تنفست
…
فيها الزهور وزقزق العصفور
وسرى إلى أرض الحديقة كلها
…
نبأ الربيع وركبه المسحور
كانت لنا يا ليتها دامت لنا
…
أو دام يهتف فوقها الزرزور
قد كنت أجلس صوبها في شرفتي
…
أو كنت أجلس تحتها في ظلتي
أو كنت أرقب في الضحى زرزورها
…
متهللًا يغشى نوافذ غرفتي
طورًا ينقر في الزجاج وتارة
…
يسمو يزرزر في وكار سقيفتي
فإذا رآني طار في أغنية
…
بيضاء واستوفى غصون شجيرتي
كانت لنا يا ليتها دامت لنا
…
أو دام يهتف فوقها الزرزور1
وكثيرًا ما يكون هذا الهروب إلى مواطن الذكريات يصاب بخيبة الأمل، ويصطدم بالواقع المرير الذي يضاعف الحرة، ويزيد مما يحس به الشاعر من مرارة، يقول ناجي في دار أحبابه، مجسمًا فجيعته حين عاد إليها، وهي مهد أعذب ذكرياته، فوجدها قد تغيرت وحال فيها كل شيء:
هذه الكعبة كنا طائفيها
…
والمصلين صباحًا ومساء
كم سجدنا وعبدنا الحسن فيها
…
كيف بالله رجعنا غرباء
دار أحلامي وحبي لقيتنا
…
في جمود مثلما تلقى الجديد
أنكرتنا وهي كانت إن رأتنا
…
يضحك النور إلينا من بعيد
رفرف القلب بجنبي كالذبيح
…
وأنا أهتف يا قلبي اتئد
فيجيب الدمع والماضي الجريح
…
لم عندنا؟ ليت أنا لم نعد
1 انظر: الروائع لشعراء الجيل جـ1 ص12.
أين ناديك وأين السمر
…
أين أهلوك بساطًا وندامى
كما أرسلت عيني تنظر
…
وثب الدمع إلى عيني، وغاما1
ويقول الهمشري في قريته، وكان قد أمل أن يكون في العودة إليها مهربًا لروحه المعذب، وملاذًا لقلبه الجريح، ولكنه اكتشف أنه انتقل إليها بأعباء نفسه، وعذاب روحه وجراحات قلبه، وبكل ما حملته الدنيا من أوجاع؛ فانعكس كل هذا على جمال القرية فجعلها شائهة، واختلط بصفو الطبيعة فيها فكدرها، وكنت خيبة الأمل، واصطدام الذكريات الحلوة بالواقع المرير:
رجعت إليك اليوم من بعد غربتي
…
وفي النفس آلام تفيض ثوائر
أتيت لألقى في ظلالك راحة
…
فيهدأ قلبي وهو لهفان حائر
ولكن بلا جدوى أتيت فلم أجد
…
سوى قفرة أشباحها تتكاثر
وقد نسجت أيدي الشتاء سياجها
…
عليها، وأسوار الظلام تحاصر2
ومن أبرز الموضوعات والتجارب الشعرية التي اهتم بها شعراء هذا الاتجاه أيضًا، موضوع الشكوى، فهم كثيرًا ما يفضون بأحزانهم ويصورون آلامهم، التي تكون أحيانًا واضحة الاسباب مبررة، وأحيانًا أخرى غامضة غائمة مجهولة المصدر، حتى لنرى الواحد منهم، وكأنه يحزن لمجرد الحزن ويشكو لمجرد الشكوى، أو كأنه يجد في الحزن متعه، أو في الألم لذة، كما يجد في الشكاية تعبيرًا عن متعة الحزن ولذة الألم، ولعل ذلك لاعتقادهم -ككل الرومانتيكيين- أن الألم يطهر النفس والحزن يسمو بالروح، أو لاعتقادهم أن الألم من سمات الحساسين والحزن من صفات الواعين الشاعرين3
…
يقول
1 انظر: ديوان ناجي ص39، "قصيدة العودة"، وانظر: الشعر المصري بعد شوقي الحلقة الثانية ص59 وما بعدها.
2 الروائع جـ1 ص28.
3 انظر: الرومانتيكية للدكتور محمد غنيمي هلال ص26 وما بعدها، والشعر المصري بعد شوقي للدكتور محمد مندور الحلقة الثالثة ص4.
علي محمود طه متحدثًا عن شقائه وأرقه وفزعه وحيرته، ومرجعًا كل مآسيه إلى أن الأرض مهد الشر منذ الأزل:
شقي أجنته الدياجي السوادف
…
سليب رقاد أرقته المخاوف
ترامى به ليل كأن سواده
…
به الأرض غرقى والنجوم كواسف
هي الأرض مهد الشر من قبل خلقنا
…
ومن قبل أن دبت عليها الزواحف
غذتها الضحايا بالجسوم فأخصبت
…
وأترعها سيل من الدم جارف
ولي قصة يشُجي القلوب حديثها
…
ويعجز عن تصويرها اليوم واصف
ألا إنّ لي قلبًا طعينًا تحوطه
…
عصائب تنزو من دمي ولفائف1
ويقول الهمشري، متحدثًا عن وحدته وعذابه، وضياع أمله ومرارة يأسه، ويتعلل أخيرًا بخلود الشعر ومجد الفن:
جلست على الصخر الوحيد وحيدا
…
وأرسلت طرفي في الفضا شريدا
وكفكفت دمعًا لا يكفكف غربه
…
وواسيت قلبًا في الضلوع عميدا
أرى صفحة الآمال قد ضاق أفقها
…
ولاح على اليأس البعيد مديدا
لقد عشت في دنيا الخيال معذبا
…
فيا ليت شعري هل أموت سعيدا
لقد كنت في الدنيا جمالا يزينها
…
بما شاده شعري على هذه الدنيا
خلقت لروحي سحرها لا لغيرها
…
ومن أجلها أقضي ومن أجلها أحيا
إذا ذبل النارنج عاش عبيره
…
وكان له في الوهم من نفحه محيا
ويخلد بعد البدر في الفكر رونق
…
يغذي خيال الشعر والحب والوحيا2
ويقول ناجي شاكيًا ما يعاني في وحدته من هواتف الذكريات الحزينة، وأشباح الأماني الخائبة:
يا وحدتي جئت كي أنسى وهأنذا
…
ما زلت أسمع أصداء وأصواتا
مهما تصاممت عنها فهي هاتفة
…
يا أيها الهارب المسكين هيهاتا
1 انظر: "الملاح التائه" لعلي محمود طه ص176-179 "قصيدة الطريد".
2 انظر: الروائع جـ1 ص26-27 "قصيدة تأملات".
جرت على الأماني من مجاهلها
…
وجمعت ذكر قد كن أشتاتا
ما أسخف الوحدة الكبرى وأضيعها
…
إذا الهواتف قد أرجعن ما فاتا
بعثن ما كان مطويًّا بمرقده
…
ولم يزلن إلى أن هب ما ماتا
تلفت القلب مطعونا بوحدته
…
وأين وحدته باتت كما باتا
حتى إذا لم يجد ريًا ولا شبعا
…
أفضى إلى الأمل المطعون فاقتاتا1
وكان بعض شعراء هذا الاتجاه تصل به الشكوى أحيانًا إلى حد رفض الحياة وتمنى الموت، ومن ذلك قول محمود حسن إسماعيل بعد أن أطال الشكوى في قصيدته "مقبرة الحي":
يا شاكي الهم لأيامه
…
لقد شكوت البغي للباغيه
أقصر عن الشكوى إليها فما
…
ديناك إلا حية غاويه
إهابها يغري وفي نابها
…
لمن تمس الوخزة القاضيه
دهر له في بطشه لذة
…
كالوحش يفري مهجة الثاغيه
غبن من الأيام لا رحمة
…
تحيي ولا صبر على العاديه
ولا فناء عاجل أشتهي
…
في ورده الراحة مما بيه2
ومن الموضوعات التي اهتم بها بعض شعراء هذا الاتجاه -بعد الحب والطبيعة والحنين والشكوى- موضوع تصوير البؤس، وإبراز بعض الجوانب المظلمة في المجتمع، فقد عني بعض الشعراء بتصوير تعاسة الريف وشقاء الفلاح، كما عنوا بإبراز مأساة بعض ضحايا المجتمع كالمشرد والبغي، وكان أكثر الاهتمام في هذال الشعر الاجتماعي موجهًا إلى الريف، وما يعاني من تخلف وفقر، وإلى الفلاح وما يقاسي من ظلم وقهر حتى لقد كتب أبو شادي عديدًا من القصائد في الريف والفلاح3، بل كتب محمود حسن إسماعيل
1 انظر: ديوان ناجي ص102 "قصيدة أصوات الوحدة".
2 انظر: مجلة أبولو المجلد الثاني ص593 "قصيدة مقبرة الحي".
3 جمع محمد عبد الغفور قصائد أبي شادي التي من هذا القبيل في ديوان باسم "الريف في شعر أبي شادي". وفيه قصائد، مثل: عابد الريف، الفلاح، راعي الغنم، حياة الريف، الفلاحون، كوخ الريف، آلام الريف.
ديوانًا كاملا سماه "أغاني الكوخ1، وجعل محوره القرية وساكنها، وقصد -فيما قصد- تعميق الإحساس بالريف ومأساته، وبالفلاح والظلم الاجتماعي الواقع عليه.. يقول أبو شادي عن الفلاح الذي سماه "أميرنا الصعلوك"، محملًا المجتمع إثم تخلفه، بل مجاهرًا بأن المجتمع سيظل مجرمًا حتى ينصف الفلاح المظلوم:
هو ذلك الفلاح يا قومي الذي
…
يحيا حياة سوائم ورغام
وهو الذي لولاه ما ارتفعت لنا
…
رأس ولا كنا من الأقوام
إنا جميعًا مجرمون إزاءه
…
حتى يخلص من هوى الإجرام
حتى ينال حقوقه في عيشة
…
خلصت من الأدران والأسقام2
ويقول محمود حسن إسماعيل، جاعلًا من بكاء الساقية رمزًا لبكاء نفسه، ومن الثور المغمض العين، الذي يدور والنير على كتفيه والسوط يلهب ظهره، رمزًا لهذا الفلاح الكادح المعذب، الذي أغمض الجهل عيونه، وأثقل الذل كاهله، والهب العذاب ظهره، تمامًا كهذا الثور الذي تنوح عليه الساقية، أو تنوح عليه نفس الشاعر:
لها عيون دائمات البكا
…
بمدمع كالسيل في رفده
دؤوبة الشكوى على راسف
…
في الذل مفجوع على جده
دارت به البلوى فما راعه
…
إلا عماء غال من رشده
أعمى رماه البين في دارة
…
لم يدر نحس الخطو من سعده
شدت حبال الذل في رأسه
…
وفت صرف الرق في كبده
منادح الضجة في أذنه
…
وملعب السوط على جلده
والسائق الإبله لا ينثني
…
عن ضربه العاني وعن كيده
يتلو على آذانه سورة
…
من قسوة السيد على عبده3
وبالإضافة إلى هذا الموضوع من موضوعات الشعر لم يكن شائعًا
1 كان هذا أول ديوان للشاعر. وقد صدر سنة 1934.
2 انظر: الشفق الباكي لأحمد زكي أبي شادي ص832.
3 انظر: أغاني الكوخ لمحمود حسن إسماعيل قصيدة القيثارة الحزينة ص44-47.
بين كل شعراء هذا الاتجاه، قد كان كذلك يعالج في جو "رومانسي" غالبًا، وبطريقة رمزية أحيانًا، وكان الجو الرومانسي يختلط بحب الشاعر للطبيعة وإيثاره لحياة الريف، ويوشك أن يشيع الرضا عن تلك الحياة، ولا يدعو إلى الثورة عليها بالقدر الواجب، كما كانت الملامح الرمزية تحجب المضمون، وتبتعد بالهدف، وتكاد تفقد الشعر جانبه الاجتماعي الرائع، وكل ذلك كان نتيجة لغلبة الطابع "الرومانسي" على شعراء هذا الاتجاه، وميلهم إلى استخدام بعض الوسائل الرمزية كما سنرى، ثم كانت نتيجة أيضًا لعدم اكتمال الوعي بوظيفة الشعر والأدب عمومًا، وكونه يجب أن يكون هادفًا -قبل كل شيء- إلى تطوير الحياة والارتفاع بها إلى مستوى أفضل.
ومن الموضوعات التي التفت إليها بعض شعراء هذا الاتجاه -بعد كل ما مضى- موضوع التأمل، وهذا التأمل كان يتجه إلى حقائق الكون بلمحة الصوفي حينًا، كما كان يرمقها بعين المتفلسف حينًا آخر، ولكن كل التأملات كان يغلب عليها، الجيشان العاطفي -المتسق مع طبيعة هذا الاتجاه- لا الطابع الذهني الذي كان يطغى على شعر أمثال شكري والعقاد والمازني، ممن سمي اتجاههم -لذلك- "بالاتجاه التجديدي الذهني".
ومن الحقائق التي كان يتأملها بعض شعراء هذا الاتجاه "الابتداعي العاطفي" بجيشان عاطفة: حقائق الله والناس، والخير والشر، والخلود والفناء، والحياة والموت وما إلى ذلك، ومن نماذج هذا الشعر التأملي، قول الصيرفي من قصيدة بعنوان "الحيارى" مناجيًا الله عز وجل، ومعبرًا عن حيرة الإنسان إزاء سره:
قد سبحنا بالفكر عندك يا رب
…
فتاهت أرواحنا في سمائك
وشدونا ما قد شدونا ولكن
…
ضاع هذا جميعه في فضائك
وعرفنا من الخيال معانيه
…
وغابت عنا معاني جلائك
وسمعناك في الضمائر توحي
…
ما يهز القلوب من إيحائك
فجهلناه واستمعنا إلى ما
…
يملأ الجو من صفير هوائك
ورأيناك في الظلام مضيئًا
…
فمشينا به حيارى ضيائك
ورأيناك في الجمال ولكن
…
لم تقدر لنا حياة الملائك
أنت قدرت أن نعيش حيارى
…
والحيارى هنا ضحايا قضائك1
ومن نماذج هذ الشعر التأملي أيضًا قول إبراهيم ناجي من قصيدة بعنوان "الحياة"، مبينًا كيف يضل الإنسان إذا تأملها، حتى ليستوي جهله وعلمه؛ لأن حقيقته أنه صغير مغرور:
جلست يومًا حين حل المساء
…
وقد مضى يومي بلا مؤنس
أريح أقداما وهت من عياء
…
وأرقب العالم من مجلسي
أرقبه يا كد هذا الرقيب
…
في طيب الكون وفي باطله
وما يبالي ذا الخضم العجيب
…
بناظر يرقب في ساحله
سيَّان ما أجهل أو أعلم
…
من غامض الليل ولغز النهار
سيستمر المسرح الأعظم
…
روايةً ظالت وأين الستار
عييت بالدنيا وأسرارها
…
وما احتيالي في صموت الرمال
أنشد في رائع أنوارها
…
رشدًا فما أغنم إلا الضلال
يا رب غفرانك إنا صغار
…
ندب في الأرض دبيب الغرور
نسحب في الدنيا ذيول الصغار
…
والشيب تأديب لنا والقبور2
ومن نماذج هذا الشعر التأملي كذلك، قول صالح جودت من قصيدة بعنوان "أكذوبة الموت"، يتحدث فيها عن خلود الروح، ويصل من ذلك إلى استمرار حياة الإنسان برغم انتقاله ممن هذه الدنيا:
1 الألحان الضائعة لحسن كامل الصيرفي ص29 "قصيدة الحيارى".
2 انظر: ديوان ناجي ص185-187 "قصيدة الحياة".
قد حرت في الموت وفي أمره
…
وما زواه الله من سره
وكلما سألت عنه امرأ
…
أجابني: والله لم أدره
والروح إما حل في غيره
…
أو آثر الإخلاد في بئره
فلم يقول الناس مات امرؤ
…
إن هاجر الدنيا إلى قبره
أليس في القرر حياة امرئ
…
تطول بالمرء إلى حشره
فكيف قالوا: إنه ميت
…
من يوم أن غيب عن دهره
وليس بعد رحلته سوى
…
جديد عيش دب في إثره1
وأخيرًا من هذا الشعر التأملي، هذه القصيدة الجريئة التي تعالج تجربة الشك، وتجعل الموت هو العصا التي ترفع في وجه العباد، فتحملهم على الإيمان، وفيها يحكي صالح جودت قصة راهب تمرد على حياة العبادة، بل كفر بالله والآخرة وراح يغري الكاهن برأيه، حتى خدعه واستماله، وقبيل أن يتركا الدير إلى الدنيا ومتعها، هبط ملك الموت ليقبض روح الراهب، فلم يكن منه إلا الإسراع إلى التوبة، والاعتراف بالله واليوم الآخر.. يقول صالح جودت من تلك القصيدة على لسان الراهب:
خلني يا كاهن الدير إلى
…
نضرة الأيام أجتاز القفار
أنت أفنيت شبابي راحلا
…
لم أميز فيه ليلا من نهار
أجلال في صلاتي نحه
…
أو وقار؟ ما لمثلى والوقار
أإلى النار إذا عفت التقى
…
إنها أهون من طول اصطبار
ثم يمضي الشاعر متحدثًا على لسان الراهب باسطًا أسباب شكه، ومصرحًا بجوانب تمرده، إلى أن يقول على لسانه، حين هبط عليه ملك الموت فتاب وأناب:
يا ملاك الموت
…
آمنت بسلطان الإله
أيها الكاهن قدني
…
لمحاريب الصلاه
1 انظر: ديوان صالح جودت ص82-86.
فإله الكون يدعوني إلى غير الحياه
خلني أفني الهنيات البقايا في هواه
يا ملاك الموت إن قابلت رب العالمين
قل له قد جاءك الراهب مصدوع اليمين
لابسًا في موقف الذل مسوح النادمين
فلقد علمته بالموت ما معنى اليقين1
ومثل هذا اللون من الشعر التأملي المثير للشكوك، والمسبب للانفعالات غير الحميدة، مؤاخذ من معظم النقاد، وإن كان بعضهم يرى أن من حق الأديب أن يعبر عن أي انفعال، ويقول هذا البعض: إن على الباحثين عن الانفعالات المسعدة أن يتلمسوها في الأخلاقيات والدينيات2.
هذا، وقد كان شعراء هذا الاتجاه يبتعدون -في فترة ظهوره- عن الشعر السياسي، وعن شعر المناسبات بصفة عامة، وذلك باستثناء أحمد زكي أبي شادي، الذي كان يهتم بالموضوعات السياسية والوطنية والقومية منذ وقت مبكر، حتى لقد أظهر ديوانًا كاملًا باسم "مصريات"، وحتى حشد في ديوانه الشفق الباكي قصائد عن:"اضطهاد الرأي العام" و"مصر للحضارة" و"عصبة النيل" و"المؤتمر الوطني"، و"الطيار المصري" و"بيت الأمة" و"الزعيم" وعن "الكرامة القومية" و"دار بن لقمان" و"كارثة دمشق"، وعن الأمير عبد الكريم الخطابي الذي سماه "الأسير".
لكن بعد سنوات من ظهور هذا الاتجاه، أخذ شعراؤه يدنون قليلًا من الموضوعات السياسية والوطنية والقومية، بل أخذوا يخوضون بشعرهم بعض المناسبات التي كانت من أهم مجالات الشعراء المحافظين.
فنجد لإبراهيم ناجي بعض القصائد الوطنية في "مصر" و"يوم الشباب"
1 انظر: ديوان صالح جودت قصيدة "الراهب المتمرد" ص113-139.
2 Poetry and Contemplation: G.R. Hamilton. p.152.
و"الشهيد الجراحي" الذي سقط برصاص الإنجليز سنة 1935، كما نجد له قصائد في مدح أنطون الجميل، ودسوقي أباظة، وعزيز أباظة وعبد الحميد عبد الحق، وإبراهيم عبد الهادي، والدكتور علي إبراهيم، والدكتور زكي مبارك، والفنان سامي الشوا1، وأخيرًا نجد له قصائد في المناسبات التي كانت تتلمسها "جماعة أدباء العروبة"، وبعض هذه القصائد يصل إلى حد الفكاهة والحديث عن بعض الأمور التافهة2.
ونجد لعلي محمود طه بعض القصائد الوطنية والقومية، كقصائد:"على النيل"، و"مصر" و"عودة المحارب"، وكقصائد "يوم فلسطين" و"شهيد ميسلون" و"بطل الريف" و"الأمير المجاهد3، كما نجد له قصائد في بعض المناسبات العربية والمحلية، كقصيدته في تحية زعماء العروبة بمناسبة اجتماعهم في القاهرة سنة 1944؛ لتكوين الجامعة العربية، وكقصيدته في رثاء جبرائيل تقلا صاحب الأهرام4.
1 اقرأ قصائد المناسبات في ديوان ناجي ص49، 62، 64، 81، 83، 104، 130، 131، 133، 157، 162، 167، 170، 179، 193، 206، 239، 252، 264، 272، 283، 284، 296، 303.
2 كانت جماعة أدباء العروبة جماعة أدبية معظمها من الشعراء، وكان يرأسها الأستاذ الدسوقي أباظه، الذي كان يحب الشعر والشعراء، وكانت هذه الجماعة تقيم مهرجانات شعرية في القاهرة والأقاليم، وتتلمس لتلك المهرجانات المناسبات الرسمية، وغير الرسمية، وكانت بعض لقاءات هذه الجماعة في دار الدسوقي أباظه، وكان للشعراء في هذه اللقاءات أشعار تخرج كثيرًا عن معدن الشعر الحق، ورسالته الكريمة. انظر: ديوان ناجي ص206.
3 هذه القصائد في ديوان "شرق وغرب" الصادر سنة 1947.
4 هاتان القصيدتان في ديوان "الشوق العائد" الصادر سنة 1944.
وكان له في ديوان الأول "الملاح التائه" قصائد مثل: "الأجنحة المحترقة"، وهي في طيارين مصريين احترقت طائرتهما في سماء فرنسا، ومثل "إلى سيد درويش" و"الملك البطل"، وهي في الملك العراق فيصل الأول. ومثل "قبر شاعر"، وهي في الشاعر المهجري فوزي المعلوف، ومثل "حافظ إبراهيم" و"شوقي" و"عدلي يكن".
ونجد كذلك لمحمود حسن إسماعيل قصائد عديدة في مناسبات وطنية، وقومية مختلفة، كما نراه يمدح ويرثي، حتى ليمثل المدح والرثاء قسمًا بارزًا من بعض دواوينه1.
وبرغم كل ذلك، قد ظل شعراء هذا الاتجاه أقل من غيرهم من الشعراء اهتمامًا بالشعر الوطني والقومي، وبشعر المناسبات على وجه العموم، وبقيت الموضوعات الغالبة على شعرهم هي تلك الموضوعات المتصلة بالحب والطبيعة والحنين والشكوى والتأمل، وما إلى ذلك مما سلف عنه الحديث، وقد كانوا يتفاوتون -بطبيعة الحال- في التعلق ببعض هذه الموضوعات أكثر من بعضها الآخر؛ فناجيى يكثر من شعر الحب المعذب المحروم، وعلي طه يكثر من شعر الحب المانح المعطاء، والهمشري يكثر من شعر الطبيعة والحنين، والصيرفي يكثر من شعر الشكوى والتأمل، ومحمود حسن إسماعيل يكثر من شعر الطبيعة والريف، وهكذا.
ب- خصائصه من حيث الأسلوب وطريقة الأداء:
وأما خصائص هذا الاتجاه من حيث الأسلوب وطريقة الأداء، فأساسها الطلاقة البيانية، والحرية التعبيرية2، بحيث تستعمل اللغة استعمالاً جديدًا أو شبه جديد، وفي استخدام الألفاظ ودلالتها، ووضع الصفات من موصوفاتها، ثم في التوسع الكبير في المجازات، والابتكار المبدع في الصور، وأخيرًا في تفضيل معجم شعري خاص، مؤثر من الكلمات ما كان ذا موسيقى معينة، ومن التعابير ما كان ذا إيحاءات خاصة.
وهذه الجوانب المتصلة بالأسلوب وطريقة الأداء، هي أهم ما يتضح فيه عنصر الابتداع، الذي هو أحد ركني هذا الاتجاه.
1 انظر: ديوان هكذا أغنى على سبيل المثال.
2 انظر: ما قاله أبو شادي عن مدرسة أبولو، والتحرر الفني والطلاقة البيانية في مجلة أدبي سنة 1936 ص357.
وما قاله ناجي عن مدرسة أبولو، وطلاقه الفن في ديوان أطياف الربيع لأبي شادي ص "ن".
أما تلك الخصائص القائمة على هذا الأساس، فأولاها التوسع في نقل الألفاظ من مجالات استعمالها القريبة المألوفة، إلى مجالات أخرى بعيدة مبتكرة، لا عن طريق المجاز القديم المعتمد على العلاقات التي ذكرها البلاغيون، وإنما عن طريق مجاز جديد معتمد على تراسل الحواس، بحيث يستعمل للشيء المسموع ما أصله للشيء الملموس، أو المرئي أو المشموم، ويستخدم للشيء المشموم ما من شأنه أن يستخدم للشيء المرئي، أو الملموس أوالمسموع، وهكذا. ومن هنا يتحدثون عن نعومة النغم، أو بياض اللحن، أو تعطر الأغنية، كما يتحدثون عن العطر القمري، أو الأريج الناعم، أو العبير المنغوم، ومن ذلك قول الهمشري مخاطبًا "النارنجة الذابلة":
خنقت جفوني ذكرياتٌ حلوة
…
من عطرك القمري والنغم الوضي
فانساب منك على كليل مشاعري
…
ينبوع لحن في الخيال مفضض
وهفت عليك الروح من وادي الأسى
…
لتعب من خمر الأريج الأبيض1
فالشاعر في البيت الأول يستعمل للعطر -وهو مشموم- صفة القمرية المفيدة للإشراق، وشأنها أن تستعمل للمنظور، كما يستعمل للنغم- وهو مسموع- صفة الوضاءة، وشأنها أن تستعمل كذلك للمنظور.
وهو في البيت الثاني يستعمل كلمة ينبوع مع اللحن، وشأنها أن تستعمل مع الماء ونحوه، ثم يجعل هذا اللحن مفضضًا، كما تجعل الأشياء التي تدرك بالعين لا بالأذن.
ثم هو في البيت الثالث يعطي الأريج -وهو من المشمومات- صفة البياض التي من شأنها أن تكون للمرئيات.
ومثل هذا الاستعمال كثير عند شعراء هذا الاتجاه، وبخاصة عند الهمشري الذي كان أكثرهم إيغالا فيه.
ومصدر هذه الخاصة التعبيرية عندهم؛ التأثر بالشعراء الرمزيين، الذين كانت هذه الخاصة من أبرز سمات أسلوبهم، والذين اتصل رواد هذا الاتجاه
1 انظر: الروائع ص13.
بشعرهم، وعرفوا تلك الخاصة عندهم فنقلوها بمهارة إلى اتجاههم، فقد كان إبراهيم ناجي مثلًا على صلة بشعر "بودلير" الشاعر الرمزي الفرنسي، وقد ترجم له "أزهار الشر"، كذلك كان علي محمود طه على صلة بشعر "بودلير" وقد ذكره هو والشاعر الفرنسي الرمزي "فرلين" في كتابه "أرواح شاردة"1.
و"بودلير" هو القائل: "إن العطور والألوان والأصوات تتجاوب2" أي أن لونًا خاصًّا قد يحدث في النفس أثرًا مشابها للأثر الذي يحدثه صوت معين أو عطر بذاته، وبهذا يكون بين الحواس تجاوب وتراسل، بحيث تتلقى حاسة معطى حاسة أخرى3، وبناء عليه إذا أحس شاعر أن نغمًا معينًا يحدث في نفسه أثرًا مشابهًا لما تحدثه الوضاءة، فلا بأس عليه إذا قال عن هذا النغم: إنه نغم وضيء. وإذا أحس للحن معين تأثيرًا أشبه بتأثير ملمس الحرير، فلا ضير عليه إذا قال عن هذا اللحن: إنه لحن ناعم. وكل ذلك بناء على وحدة الأثر النفسي للشيء المستعمل له اللفظ منقولًا، والشيء الذي كان يستعمل له في الأصل، وليس بناء على الجامع الكلي الذي يشترك فيه المشبه والمشبه به في البلاغة التقليدية، ولا بناء على أية علاقة أخرى من تلك العلاقات التي يذكرها البلاغيون في باب المجاز4.
ويفسر الشاعر الهمشري الأساس الفني للتعبير الرمزي في مثل "السكون المشمس"، بقوله: "إننا عندما نجلس في بستان ساكن رأد الضحى، ترسم في عقولنا صور متفاوتة لهذه الساعة التي مرت بنا، فإذا استعرضنا صورة ملازمة
1 انظر: أرواح شادة لعلي محمود طه ص30.
2 قال ذلك في قصيدة مشهورة له أسمها "العلاقات" Corrspondance. وانظر: الشعر المصري بعد شوقي لمحمد مندور الحلقة 3 ص22، وانظر: الرمزية والأدب العربي الحديث لأنطون كرم غطاس ص44، 92.
3 انظر: الرمزية ص45.
4 انظر: الشعر المصري بعد شوقي لمحمد مندور الحلقة 3 ص21-23.
لهذا السكون، وهي الشمس، فلم لا يكون السكون مشمسًا1؟ ". وكأن الهمشري يضع أساسًا ثانيًا لظاهرة تراسل الحواس، إلى جانب الأساس الأول الذي هو وحدة الأثر النفسي، أما هذا الأساس الثاني، فهو الملازمة الخارجية بين الشيء الذي يستعمل له اللفظ بعد نقله، والشيء الذي كان يستعمل له اللفظ قبل النقل.
وقد أثارت هذه الخاصة التعبيرية ثائرة كثير من المحافظين، فأكثروا من اتهام مستخدميها بالهذيان والخلط، والخروج على العرف اللغوي، والحق أن هذا الاستخدام ليس لا ضربًا من المجاز، ولكن مع شيء من التوسع؛ فإذا كان أساس المجاز هو علاقة بين شيئين كالمشابهة في الاستعارة مثلاً، فإن أساس هذا اللون من الاستعمال، هو وحدة الأثر النفسي، أو الملازمة الخارجية بين شيئين. وهذا الاستعمال -كالمجاز التقليدي- سبيل من سبل توسيع اللغة، وإثرائها ومرونتها وحيوية تعبيرها وتجددها، وهو -من الناحية الفنية- وسيلة إلى نقل الحالة النفسية بدقة أكثر ورهافة أشد، حيث يكون اللفظ المنقول أدق تعبيرًا، وأرهف أداء في حالة نفسية معينة، لارتباطه بموقف يتلازم فيه شيئان، أو لوحدة الأثر النفسي بين الشيء المنقول له اللفظ، والشيء المنقول منه2.
والخاصة الثانية من خصائص هذا الاتجاه في الأسلوب وطريقة الأداء، هي التجسيم، أي تحويل المعنويات من مجالها التجريدي إلى مجال آخر حسي، ثم بث الحاية فيها أحيانًا، وجعلها كائنات حية تنبض وتتحرك، برغم ما في عملية التجسيم وحدها من صعوبة أدركها النقاد3.
يقول ناجي في معاودة ذكريات حب قديم:
1 انظر: مجلة أبولو المجلد الأول عدد يونيه سنة 1932.
2 انظر: الشعر المصري بعد شوقي لمحمد مندور الحلقة 3ص20-23.
3 انظر: A. Premir of literary Criticism: Hollingwroth.p.22
ذوت الصبابة وانطوت
…
وفرغت من آلامها
عادت إلي الذكريات
…
بحشدها وزحامها1
فالصبابة -وهي تجريدية- يجعلها الشاعر تذوي كالنبات، وتنطوي كالبساط. والذكريات -وهي من المجردات- تعود بتجسيم الشاعر في احتشاد وازدحام، كأنها أشياء مجسمة، أو كائنات حية، وليست معاني مجردة.
ويقول ناجي أيضًا في الغد، وما يزحمه من ظنون وهواجس:
إنّ غدًا هوة لناظرها
…
تكاد فيها الظنون ترتعد
أطلُّ في عمقها أسائلها
…
أفيك أخفى خياله الأبد؟ 2
فالغد -وهو من المجردات- يجسمه الشاعر في صورة هوة، والظنون -وهي من المعاني التجريدية أيضًا- يجسمها الشاعر، بل يهبها الحياة ويجعلها ترتعد، والأبد -وهو تجريدي كذلك- يجسمه الشاعر حتى ليجعل له خيالا يختبئ في هوة الغد.
والخاصة الثالثة من الخصائص الأسلوبية لهذا الاتجاه وطريقته في الأداء، هي التشخيص، أي منح الحياة الإنسانية لما ليس بإنسان، حتى ليتصور شعراء هذا الاتجاه ما ليس إنسانا، وكأنه إنسان يحس إحساسه، ويفكر تفكيره ويفعل أفعاله.. ومن ذلك قول الهمشري:
فنسيم المساء يسرق عطرًا
…
من رياض سحيقة في الخيال
صور المغرب الذكي رباها
…
فهي تحكي مدينة الأحلام
ووراء السياج زهرة فل
…
غازلتها أشعة في المساء
إنّ هذي الأزهار تحلم في الليل
…
وعطر النارنج خلف السياج
1 انظر: ديوان ناجي ص282 "قصيدة رسالة محترقة".
2 انظر: ديوان ناجي ص153 "قصيدة الغريب".
والندى والظلال تنعس في الما
…
ء وهذا الشعاع خلف الغمام1
فالشاعر يجعل النسيم لصًّا ظريفًا، يسرق العطر من رياض سحيقة في الخيال، كما يجعل المغرب مصورا ذكيًا ترسم ألوانه لوحة الربا، ثم يجعل أشعة المساء محبة غزلا، وزهرة الفل حبيبته التي يوجه إليها هذا الغزل، وأخيرًا يجعل الأزهار تحلم في الليل، والندى والظلال تنعس في الماء، وكل هذا بسبب منح الشاعر الحياة الإنسانية لهذه المظاهر الطبيعية، واعتبارها -في تصوره- كالبشر في إحساسهم، وتفكيرهم، وأفعالهم.
بل إن خاصة التشخيص ومنح الحياة الإنسانية، لا تقتصر على المحسوسات، وإنما تتجاوزها إلى المجردات، ومن ذلك قول ناجي وقد عاد إلى بيت أحباب فوجده قد تغير:
والبلى أبصرته رأي العيان
…
ويداه تنسجان العنكبوت
صحت: يا ويحك تبدو في مكان
…
كل شيء فيه حي لا يموت
كل شيء من سرور وحزن
…
والليالي من بهيج وشجي
وأنا أسمع أقدام الزمن
…
وخطى الوحدة فوق الدرج2
فالبلى -وهو معنى تجريدي- لا يجسمه الشاعر فحسب، ولا يخلع عليه الحياة فقط، وإنما يمنحه حياة إنسانية ويشخصه، حتى ليراه ويداه تنسجان العنكبوت
…
وكذلك الزمن والوحدة -وهما معنيان مجردان- يمنحهما الشاعر حياة البشر، حتى يكون للزمن وقد أقدام، وللوحدة صوت خطى، وهما يجوسان خلال بيت الأحباب المهجور.
والخاصة الرابعة من خواص هذا الاتجاه المتصلة بالأسلوب وطريقة الأداء، هي التجريد، وتحويل المحسوسات من المجال المادي الذي هو طبيعتها، إلى
1 انظر: الروائع جـ1 ص17-18.
2 انظر: ديوان ناجي ص40 "قصيدة العودة".
مجال معنوي هو من خلق الشاعر، وهذه الخاصة عكس الخاصة السابقة، وأقل منها استعمالًا، ولكنها من سمات التعبير الشعري عند شعراء هذا الاتجاه أيضًا. ومن نماذجها قول محمود حسن إسماعيل في شمعة غرفته:
كأنها والدجن يلهو بها
…
أمنيةٌ في يأسها فانيه1
وقول عبد الحميد الديب في بائس فنان:
كأنه حكمه المجنون يرسلها
…
من غير قصد فلا تصغي لها أذن
ثيابه كأمانيه ممزقة
…
كأنها -وهو حي- فوقه كفن
هو الهدى صرفتكم عنه محنته
…
إن العزيز مهين حين يمتحن2
فالشمعة -والظلام يلهو بها- أمنية فانية عند الشاعر الأول، والبائس حكمة مجنون، وثيابه أمان ممزقة، وهو هدى صرفت الناس عنه محنته، عند الشاعر الثاني.
والخاصة الخامسة من خصائص أسلوب هذا الاتجاه وطريقه تعبيره، هي التعاطف مع الأشياء، الذي يصل أحيانًا إلى حد الامتزاج بها، أو الحلول فيها والتفكير من خلالها3، فالشاعر لا يكتفي بخلع الحياة على الشيء غير الحي، ولا يقف عند منح الإنسانية لما ليس بإنسان، ولا يقنع بإقامة مشاركة وجدانية بينه وبين الأشياء، وإنما يتجاوز ذلك كله إلى جعل الشيء يفكر بدلاً منه، ويحس نيابة عنه، ويعبر عما يريد هو أن يومئ إليه، ومن ذلك قول الهمشري في "النارنجة الذابلة":
وهنا تحركت الشجيرة في أسى
…
وبكى الربيع خيالها المهجور
وتذكرت عهد الصبا فتأوهت
…
وكأنها بيد الأسى طنبور
وتذكرت أيام يرشف نورها
…
ريق الضحى ويزورها الزرزور4
1 انظر: مجلة أبولو المجلد الثاني ص593 "قصيدة مقبرة الحي".
2 انظر: مجلة أبولو المجلد الثاني ص24.
3 انظر: الشعر المصري بعد شوقي الحلقة 3 ص15.
4 انظر: الروائع جـ1ص13-14.
فالواقع أن الشاعر هو الذي تحرك في أسى وبكى خياله على الربيع، وهو الذي تذكر عهد الصبا، فأرسل الآهات على أيام النور والوضاءة والطلاقة والتغريد، نعم هو الشاعر الذي فعل كل هذا، ولكنه حل في الشجرة أو اتحد بها، فجعلها تحس ما يحس وتشعر بما يشعر، وتعبر عما يريد أن يعبر عنه1.
ولعل من ذلك أيضًا قول الصيرفي عن "عقب السيجارة":
في الأرض ملقاة مذهبة
…
هذي البقية من سجارتها
منبوذة كانت مقربة
…
من ثغرها تفنى لسلوتها
كانت تؤانسها فتخلق من
…
موج الدخان عوالما شتى
كانت تؤانسها فتبعث من
…
قبر الحياة حوادثًا موتى
فرمت بها يا سوء ما يلقى
…
من عز يوما من هوى الغيد
يفنى الفؤاد هوى وما أشقى
…
قلبًا يضحى فوق جلمود2
فعقب السيجارة من شأنه أن يلقى، وألا يصان في متحف، ولكنها ليست سيجارة عادية، إنها سيجارة امتزج بها الشاعر وفكر من خلالها، أو ربط بين مأساته ومأساتها، فجعلها تحس بما أحس به، حين نبذته الحبيبة وطرحته، بعد أن كان المؤنس الذي يخلق لها عوالم شتى، ويبعث حولها الحوادث الموتى، ولهذا الامتزاج بين الشاعر والسيجارة، كانت صرخته من أجل هذا "العقب" الملقى على الأرض، أو من أجل نفسه الممثلة في هذا "العقب":"يا سوء ما يلقى من عز يوما في هو الغيد"، "وما أشقى قلبًا يضحى فوق جلمود".
والخاصة السادسة من خصائص هذا الاتجاه المتصلة بالأسلوب الفني
1 انظر: الشعر المصري بعد شوقي لمحمد مندور ص15-16.
2 انظر: الألحان الضائعة لحسن كامل الصيرفي ص54-55.
وطريقة الأداء الشعري، هي خاصة التعبير بالصورة، فالغالب على شعراء هذا الاتجاه هو عدم التعبير المباشر عن الأفكار، والعواطف والأحاسيس، وإنما التعبير عنها من خلال صور شعرية، وهذه الصور تكون حينًا صورًا جزئية تؤلف لتجسيم الفكرة، أو لتعميق الإحساس بالعاطفة، كقول أبي شادي في ملاحة حسناء:
هيفاء ينبض بالملاحة جسمها
…
فترى الحياة من الثياب تطل1
وكقول ناجي في عذاب محبوبه له:
كم تقلبت على خنجره
…
لا الهوى مال ولا الجفن غفا2
وتكون الصورة أحيانًا أخرى صورة كلية تمثل مشهدًا حيًّا خارجيًّا، أو جوًّا نفسيًّا داخليًا، وهذا المشهد أو ذاك الجو يؤلف من صور جزئية تتآزر لتشكل الصورة الكلية، وصور شعراء هذا الاتجاه تمتزج فيها الحقيقة بالخيال غالبًا، فهي تتخذ نقطة انطلاق من الواقع، ثم تضم إليها إضافات خلاقة من خيال الشاعر، لتؤلف في النهاية شيئًا جديدًا مبتدعا3، وقد تعتمد الصورة على الخيال فقط، ولكنه الخيال المستمد من الواقع كثيرا من عناصره.
ومن أمثلة صورهم التي تمثل مشهدا خارجيا حسيا، وتمتزج فيها الحقيقة بالخيال، قول الهمشري في قريته، وقد لفها المساء:
وقد نسجت أيدي الشتاء سياجها
…
عليها، وأسوار الظلام تحاصر
لقد رنقت عين النهار وأسدلت
…
ضفائرها فوق المروج الدياجر
وقد خرج الخفاش يهمس في الدجى
…
ودبت على الشط الهوام النوافر
وطارت من الجميز تصرخ بومة
…
على صوت هرّ في الدجى يتشاجر
وفي فترات ينبح الكلب عابسًا
…
يجاوبه ذئب من الحقل خادر4
1 انظر: الشفق الباكي لأحمد زكي أبي شادي ص822 "قصيدة غادة البحر".
2 انظر: ديوان ناجي ص340 "قصيدة الأطلال".
3 انظر: الشعر المصري بعد شوقي الحلقة 3 ص14.
4 انظر: الروائع جـ1 ص28-29.
فهذه الصورة الكلية تتألف من صور جزئية عديدة، تجمع بين المرئي والمسموع والساكن والمتحرك، فهناك النهار ترنق عينه للنوم، وهناك الدياجر تسدل ضفائرها على المروج، وهناك الخفاش يهمس في الظلام، والهوام النوافر تدب على الشط، وهناك البومة تطير من الجميز صارخة، على صوت هر يتشاجر في الدجى، وخلال هذا كله ينبح كلب عابس، ويعوي ذئب وسنان.
وليس يبعد أن تكون تلك الصورة رمزًا لجو الشاعر النفسي، وما فيه خلال رسم تلك الصورة من قتام وكآبة، وتشاؤم وإعوال1.
ومن الصور الكلية التي تصور حالة نفسية داخلية، وتعتمد أساسًا على الخيال المستمد من الواقع كثيرًا من عناصره؛ قول ناجي عن لحظة إحساس بداعي الجسد، وقد انتابه هو وصاحبته مرة في ساعة لقاء وشوق:
ومن الشوق رسول بيننا
…
ونديم قدم الكأس لنا
وسقانا فانتفضنا لحظة
…
لتراب آدمي مسنا2
فالواقع أنه لم يكن في الخارج الحسي رسول يسعى بين الشاعر وصاحبته، أو نديم يقدم لهمًا كأسًا، وهما لم يتعرضا لهبوب تراب من أي نوع يصيبهما بالانتفاض؛ وإنما هي صورة خيالية محضة يستمد خيالها بعض عناصره من الواقع لتعبر عن جو نفسي داخلي، هو ما أحس به الشاعر في تجربته تلك.
هذا وقد كان التعبير بالصورة عند أصحاب هذا الاتجاه يتسم بالتوفيق غالبًا؛ وذلك حين تتضح الصور، وتتآزر لتحقيق الوحدة، وفي بعض الأحيان كان يخفق التعبير بالصور لعدم تحقق الوضوح الكافي، أو لعدم التآزر بينها أو للسببين معًا3.
1 انظر: الشعر المصري بعد شوقي الحلقة 3 ص14.
2 انظر: ديوان ناجي ص343 "قصيدة الأطلال".
3 عن عوامل نجاح الصورة الشعرية، أو إخفاقها يمكن أن يقرأ:
The Poetic image C، Day Lewis
والخاصة السابعة من خصائص هذا الاتجاه المتعلقة بالأسلوب، وطريقة الأداء، هي الميل إلى استخدام التعابير الرامزة، التي يغلفها سرت من الضباب الخفيف، أو يغشيها جو من الإبهام اللطيف، فيحول بينها وبين الدلالة المحددة المباشرة. فهي لا تعطي مدلولًا وضعيًّا أو مجازيًا دقيقًا، وإنما تثير في النفس أحلامًا ورؤى وأحاسيس مبهمة، تنتقل بها إلى أودية خيالية بعيدة، تبعث بها ذكريات قديمة، أو تخلق فيها علاقات بين أشياء تبدو غريبة.. ومن تلك التعابير:"اللهب المقدس" و"الشاطئ المجهول" و"وادي الجن" و"شاطئ الأعراف"، و"حجب الغيب" و"نهر النسيان"، و"بحر العدم" و"عروس البحر"، فتعبير "اللهب المقدس" مثلا يحمل المرء على أجنحة الخيال إلى معابد الوثنيين، وهم يوقدون نيرانهم ويقومون بعباداتهم في حرارة ذاهلة، وإخلاص ساذج، فحين يعبر بهذا التعبير عن نار الحب مثلًا، فإنه يلقى على هذا الحب لونًا من القداسة، ويقربه من العبادة الحارة الذاهلة والإخلاص الفطري
…
وتعبير "الشاطئ المجهول" حيث يذكر في مجال خبط الإنسان نحو مصيره الغامض، فإنه يثير في النفس مشاعر اصطخاب الحياة وتلاطمها، حتى كأنها محيط تنتهي أمواهه إلى شاطئ غامض رهيب لا يدري ما يخبأه وراءه، وهكذا يمكن أن يقال في بقية هذه التعابير1.
وقد أدت الخصائص السابقة، كخاصة التوسع في المجاز بناء على وحدة الأثر النفسي، وكخاصة تجسيم المعنويات، وخلع الحياة الإنسانية على ما ليس بإنسان، وكخاصة استخدام التعابير الرامزة -أدت تلك الخصائص إلى خاصة ثامنة من خصائص الأداء الشعري لهذا الاتجاه، وتلك الخاصة هي التجديد في الوصف، فشعراء هذا الاتجاه يكثرون من الأوصاف الجديدة، التي لم يعرفها الاستعمال اللغوي، ولم يألفها التراث الشعري، فالمرأة مثلًا ليست شمسًا أو قمرًا،
1 انظر: مجلة أبولو المجلد الأول عدد يونية سنة 1933 "مقال للهمشري" ص104. وما بعدها. وانظر: الرمزية والأدب العربي الحديث لأنطون عطاس كرم ص80، وانظر: الأدب ومذاهبه لمحمد مندور ص82 وما بعدها.
وليست غصنًا أو رئمًا، وإنما هي كما قال ناجي في بعض حبائبه:
أين من عيني حبيب ساحر
…
فيه نبل وجلال وحياء
واثق الخطوة يمشي ملكًا
…
ظالم الحسن شهي الكبرياء
عبق السحر كأنفاس الربى
…
ساهم الطرف كأحلام المساء
مشرق الطلعة في منطقه
…
لغة النور وتعبير السماء1
فنحن نرى المرأة هنا نبيلة، وجليلة، وحيية. وخطوتها واثقة، وحسنها ظالم وكبرياؤها شهي، كما أن سحرها عبق، وطرفها ساهم وطلعتها مشرقة، ومنطقها مضيء وطاهر؛ لأن فيه لغة النور وتعبير السماء، وليس من شك في أن جل هذه الأوصاف جديدة كل الجدة، تحمل طابع الابتداع المؤكد للطلاقة الفنية والحرية التعبيرية.. وهكذا شاعت تلك الأوصاف الجديدة في شعر هذا الاتجاه، مثال:"الخيال المجنح" و"المجداف المرح" و"الموجة البرة" و"الزورق المجهد"، و"الأسرار الحيارى" عند علي محمود طه، ومثل:"البلبل الخيالي" و"المغرب الذكي" و"الحلم الذهبي"، و"الذهول الهامد" و"العالم المسحور" عند الهمشري، ومثل: الطعنة المجنونة" و"الليل الضرير" و"السراب الخئون"، و"اللانهاية الخرساء" و"الهوى المجروح" و"الخصر الجائع" عند ناجي.. فهذه الأوصاف ليست مما عرف في الاستعمال العربي قبل هؤلاء الشعراء، وهي لا ترد إلى قياس تأسوه أو نمط سابق ساروا عليه، وإنما هي مرتطبة -قبل كل شيء- بتلك الروح الابتداعية التي كانت تسيطر على هؤلاء الشعرا، وتجعلهم يرون الأشياء بعين حرة، ويحسون الأمور إحساسًا مرهفًا؛ فهم يؤمنون بتراسل الحواس، ويلجأون إلى تجسيم المعنويات وتجريد المحسوسات، وخلع الحياة على ما ليس بحي، بل منح الإنسانية لما ليس بإنسان؛ وهم يؤثرون تعابير لا تحمل دلالة محددة، بقدر ما تحمل إيحاء ورمزًا، ولا تفيد معنى دقيقًا، بقدر ما تثير إحساسًا وتخلق جوًا، وهذا الإيحاء والرمز، وذلك
1 انظر: ديوان ناجي ص342 "قصيدة الأطلال".
الإحساس والجو، هو مايرونه أصدق في نقل تجاربهم، وحالاتهم النفسية إلى قارئيهم أو المتلقين عنهم.
والخاصة التاسعة من خصائص هذا الاتجاه التعبيرية، خاصة تتصل باللفظة المفردة، وهي الإكثار من استعمال الألفاظ المرتبطة بالطبيعة، والألفاظ المتصلة بالجو الروحي، فشعراء هذا الاتجاه يكثرون من استعمال أسماء المظاهر والمشاهد الطبيعية، ويكثرون من ذكر الأشياء المرتبطة بالطبيعة على وجه العموم، فهم يكثرون من ذكر ألفاظ كالشفق والأفق، والشروق والغروب، والفجر والصباح، والشعاع والضياء، وكالبحر والعباب، والموجد والغدير، والجدول والبحيرة، والشط والضفة، وكالروض والدوح، والواحة والحقل، والموج والغاب، والربوة والصخرة، وكالضباب والظلام، والغيم والبرق، والرياح والعواصف، والنسيم والندى، والعطر والشذى، وكالزهر والورد، والعصفور والبلبل؛ وكالسفين والزورق، والشراع والملاح، وما إلى ذلك مما يتصل بعالم الطبيعة.
وشعراء هذا الاتجاه أيضًا يستعملون كثيرًا هذه الألفاظ المتصلة بالحياة الدينية، أو بالعالم الروحي على وجه العموم، من مثل: المعبد والمصلى، والمحراب والدير، ومثل: الصلاة والسجود والتسبيح والخشوع، ومثل: الراهب والعابد والناسك والخاشع، ومثل: النبي والملاك والوحي والسماء، وما إلى ذلك من ألفاظ تتصل بالجو الروحي الشفاف.
يقول علي محمود طه في أغنية غزلية، مستخدمًا كثيرًا من الألفاظ المتصلة بمعجم الطبيعة:
دنا الليل فيها الآن يا ربة أحلامي
دعانا ملك الحب إلى محرابه السامي
تعالى فالدجى وحي أناشيد وأنغام
سرت فرحته في الماء والأشجار والسحب
تعالى نحلم الآن فهذي ليلة الحب
على النيل وضوء القمر الوضاح كالطفل
جرى في الضفة الخضراء خلف الماء والظل
تعالى مثله نلهو بلثم الورد والطل
هناك على ربا الوادي لنا مهد من العشب
يلف الصمت روحينا ويشدو بلبل الحب1
فهنا نجد الليل والدجى، والماء والأشجار، والسحب والقمر، والنيل والضفة، والظل والطل، والورد والعشب، والربوة والبلبل؛ وهي من معجم الطبيعة.
ويقول الهمشري من قصيدة عاطفية، جامعًا بين ألفاظ من المعجم الطبيعي، وأخرى من المعجم الروحي:
كنت فجرًا وكنت فيه ضبابا
…
شاع في أفقه الوضيء فتاها
وهبطت الحياة شعلة تقديس
…
وجئت الحياة أنت إلهًا
أنت لحن مقدس علوي
…
قد تهادى من عالم نوراني
سمعت وقعه السماوي روحي
…
فأفاقت في معبد الأحزان
أنت عطر مجنح شفقي
…
فاوح الروح في خمود الذهول
قد سرى في الخيال طيب شذاه
…
من زهور في شاطئ مجهول
أنت ظل مقدس أنت كهف
…
طائفي في ربوة الأحلام
غمر الروح في سكينتها السحر
…
فتاهت عن عالم الآلام2
فهنا نجد الفجر والضباب، والأفق والضوء، والعطر والشفق، والشذى والزهر، وكلها من معجم الطبيعة، كما نجد الشعلة والتقديس والإله، واللحن
1 انظر: ليالي الملاح التائه لعلي محمود ط ص74 "قصيدة سيرانادا مصرية".
2 انظر الروائح جـ1 ص19.
العلوي، والعالم النوراني، والوقع السماوي، والظل المقدس، والكهف الطائفي، وكلها من المعجم الروحي.
والخاصة العاشرة من خصائص هذا الاتجاه في التعبير، خاصة تتصل كذلك باللفظة المفردة، تلك الخاصة هي الميل إلى الألفاظ الرشيقة، ذات الخفة على اللسان وحسن الواقع في الأذن، وذات الإمكانيات الموسيقية الصافية الهامسة البعدية عن الصخب الخطابي والتفاصح اللغوي، والبريئة من الجفاف والوعورة اللذين يتنافيان مع لغة الشعر1، وقد يكون بعض هذه الألفاظ مما لا يعطي معنى قيما، أو يزيد الدلالة شيئًا، بقدر ما تكون له قدرة على خلق جو شعري صاف رفيع، يحلق فيه الشاعر ومن يتلقون عنه، فيرون الأشياء مغلقة بكثير من الأثيرية، أو يرتفع بتلك الأشياء إلى جوه الشعري الصافي، فيخفف من كثافتها ويمنحها كثيرًا من الشفافية والروحية2، ويمكن أن نجد أوضح صورة لذلك في شعر علي محمود طه، الذي كان أبرع شعراء هذا الاتجاه في استخدام الألفاظ الرشيقة المنغومة التي تخلق هذا الجو الشعري المحلق، ففي قصيدة الجندول مثلًا نجد حشدًا من تلك الألفاظ التي لها رشاقة، وفيها طاقة موسيقية كبيرة أولًا، ولها بعد ذلك قدرة على خلق جو شعري صاف مجنح، أكثر مما لها من قدرة على أداء معان قيمة، أو إضافة دلالات ذات شأن، ومن تلك الألفاظ:"المجالي" و"عروس" و"حلم" و"خيال"، و"عشاق" و"سمار" و"مهد" و"جمال"، و"موكب" و"غيد" و"كرنفال" و"جندول" و"كأس"، و"كرم" و"خمر" و"راح" و"أقداح" و"عطر"، و"مغاني" و"سمات" و"أعطاف" و"لفتات"، وما إلى ذلك من ألفاظ ذات رشاقة موسيقية، وقدرة على خلق الجو الشعري، بتتابعها ووفرتها واحتشادها، بكل ما تحمل من نغم حلو، وظل موح وإشعاع نفسي، وراء الدلالات المعجمية
1 انظر: Style: wolter Raleigh،p: 21
2 انظر: الشعر المصري بعد شوقي لمحمد مندور الحلقة ص 79 وما بعدها.
المحددة والمعاني اللغوية الضيقة1.
وقد يضاف إلى تلك الخصائص التعبيرية المتصلة باللفظة المفردة، خاصة استخدام بعض أسماء من "المثيولوجيا" اليونانية أو التاريخ الفرعوني، وهذه الخاصة تتضح عند أحمد زكي أبي شادي، وتبدو كذلك عند علي محمود طه، ولكن بصورة أقل.
فأبو شادي يكثر من ذكر أسماء مثل: "أزوريس" و"أرفيوس" و"إيزيس" و"أخناتون" و"فينوس"، وأحيانًا يبلغ به الإصرار على ذكر بعض تلك الأسماء، حد تحويرها بما يتلاءم مع الوزن، ومن ذلك قوله مثلًا عن "فينوس":
ولو لم يكن "لفنوس" الخلود
…
لزلزلت الأرض زلزالها2
وقوله ذاكرًا "أخناتون" في حديثه عن "نفرتيتي":
هذي حياة النيل ربه عرشه
…
ومنى "أتون" رشاقة وجلالا3
وعلي طه يذكر أسماء مثل "سافو" و"تاييس" و"بليتيس" و"كيوبيد"، وما إلى ذلك، ومنه قوله في "مخدع مغنية":
نام في بابه العزيز "كيوبيد"، ولكن في كفه المفتاح4.
جـ- خصائصه في موسيقى الشعر:
وأما خصائص هذا الاتجاه في موسيقى الشعر، فأهمها الاعتماد الكبير على القالب المقطعي، إلى جانب الاعتماد على القالب الموحد، ومعنى ذلك أن شعراء هذا الإتجاه كانوا -إلى جانب نظمهم القصائد ذات الوزن المطرد، والقافية الملتزمة- يكثرون من نظم القصائد المؤلفة من مقاطع، تختلف قوافيها من
1 انظر: المصدر السابق ص80-81.
2 انظر: ديوان الشفق الباكي لأحمد زكي أبي شادي ص763 "قصيدة الشلال".
3 انظر: مجلة أبولو: المجلد الأول ص577.
4 انظر: الملاح التائه لعلي محمود طه ص41 "قصيدة مخدع مغنية".
مقطع إلى مقطع، وقد تختلف أوزانها من جزء إلى جزء. فهذا النوع الثاني الذي يسمى القصائد المقطعية كان عندهم لونين، لون ليس فيه من تنوع إلا في القافية، التي تتغير من مقطع إلى مقطع، كالمزدوج الذي يتألف من أزواج شطرات، كل زوج على قافية واحدة تخالف بقية القوافي. وكالمربع الذي يتالف من مقاطع، كل مقطع مكون من بيتين، أحيانًا يكون بين الشطرين الأول والثالث منهما اتفاق في قافية، وبين الآخرين اتفاق في قافية أخرى، وأحيانًا تكون الشطرات الأربع متحدة في قافية تخالف فيها بقية المقاطع، وفي بعض الأحيان تتحد ثلاث شطرات فقط في القافية، وهي الشطرات الأولى والثانية والرابعة، أما الثالثة فتكون حرة، وكالخمس الذي يتألف من مقاطع، كل مقطع مكون من خمس شطرات، تتحد أحيانًا في القافية التي تخالف قافية المقاطع الأخرى في القصيدة، وأحيانًا أخرى تتحد منها أربع شطرات في القافية وتختم بشطرة خامسة ملتزمة في كل الخواتيم، ومتفقة مع قافية الفقرة الأولى. وكالمسمط الذي يتألف من مقاطع تختلف قوافيها دون أن تحصر في أربع، أو خمس على أن يختم كل مقطع بشعر -أو أكثر- يكون على قافية متماثلة في القصيدة كلها1.
ومن أمثلة هذا الشعر المنوع القوافي في مهارة، وتفنن قول ناجي في "عاصفة روح"، وهو من المربع الذي تتفق فيه الشطرة الأولى مع الثالثة، والثانية مع الرابعة:
أين شط الرجاء
…
يا عباب الهموم
ليلتي أنواء
…
ونهاري غيوم
أعولي يا جراح
…
أسمعي الديان
لا يهم الرياح
…
زورق غضبان2
إلى آخر هذه القصيدة التي تمضي هكذا في تقابل بين كل شطرين من شطرات المقطع الواحد.
1 انظر: في هذه الأنواع: موسيقى الشعر للدكتور إبراهيم أنيس ص227 وما بعدها.
2 انظر: ديوان ناجي ص299 "قصيدة عاصفة روح".
ومنه أيضًا قول علي محمود طه في "سيرانادا مصرية"، وهي من المسمط:
دنا اليل فهيا الآن يا ربة أحلامي
دعانا ملك الحب إلى محرابه السامي
وتعالى فالدجى وحي أناشيد وأنغام
سرت فرحته في الماء والأشجار والسحب
تعالى نحلم الآن فهذي ليلة الحب
على النيل وضوء القمر الوضاح كالطفل
جرى في الضفة الخضراء خلف الماء والظل
تعالى مثله نلهو بلثم الورد والفل
هناك على ربى الوادي لنا مهد من العشب
يلف الصمت روحينا ويشدو بلبل الحب1
إلى نهاية هذه القصيدة التي تؤلف من مقاطع خماسية، ثلاثة الأبيات الأولى من كل على قافية تتغير من مقطع إلى آخر، والبيتان اللذان يختم بها المقطع على قافية ملتزمة في القصيدة كلها.
وهذا اللون من القصائد المقطعية يسير في تلك التجديدات التي استحدثت قديمًا في العصر العباسي، ونظم منها كثير من الشعراء العباسيين المحدثين، حينما أرادوا التجديد في موسيقى الشعر2.
وأما اللون الثاني من لوني هذا الشعر المقطعي، فهو اللون الذي يتجاوز التنويع في القافية، ويصل إلى الوزن نفسه، وفي هذا اللون نرى شعراء هذا الاتجاه لا يتلزمون وحدة الوزن الشعري، التي تفرض أن تكون القصيدة كلها من بحر واحد، وفي حالة واحدة من حالاته -التامة أو المجزوءة أو المشطورة، أو المنهوكة- وإنما يتحررون، فيجعلون القصيدة على حالات
1 انظر: ديوان ليالي الملاح التائه ص74.
2 انظر: موسيقى الشعر للدكتور إبراهيم أنيس ص276 وما بعدها.
مختلفة من حالات البحر، فيكون جزء من الرمل مثلا في حالته التامة ذات الافعيل الثلاث، وجزء آخر من الرمل في حالته المنهوكة ذات التفعيلة الواحدة، فتأتي شطرة طويلة وأخرى قصيرة، وقد يؤلف الشطران بيتًا واحدًا من أبيات القصيدة، ومن أمثلة ذلك قول أبي شادي في إحدى قصائده الغزلية:
جزع الصب وللحزن العميق في سبيلك
لوعة الدنيا، فمن هذا يطيق لمثيلك1
إلى آخر هذه القصيدة، التي يستخدم فيها الشاعر بحر الرمل في حالتين من حالاته، الحالة الأولى تعتمد على ثلاث تفعيلات، والحالة الثانية تعتمد على تفعيلة واحد، وقد جعل الأولى لكل الشطرات الأولى من القصيدة، وجعل الثانية لكل الشطرات الثانية منها.
على أن ذلك التنويع في موسيقى الشعر لم يكن يقوم عند شعراء هذا الاتجاه على غير أساس، وإنما كان أساسه هو التزام التماثل بين الأجزاء المتقابلة، بحيث ينتظم تنسيق محدد، برغم ما فيها من تنويع وتلوين.
فالشاعر الذي يجعل أولى الشطرات من ثلاث تفعيلات عليه أن يضع مقابلا لهذه الشطرة، وعليه أن يجعل المقابل على نفس الوزن، فإذا لم تكن الشطرة الثانية هي المقابل المماثل، كانت الشطرة الأولى من البيت الثاني مثلا.
وإذا كانت الشطرة الثانية من تفعيلة واحدة، التزام الشاعر أن يجعل تلك لتلك الشطرة مقابلا مماثلا في الوزن أيضًا، وهكذا. والشاعر الذي يجعل هذه البداية جزءًا أول من مقطع، ويتبعه بأبيات تختلف في نغمها عن هذا الجزء، عليه أن يلتزم ذلك النظام الثنائي في كل المقاطع بحيث يتحقق التقابل والتماثل، مع وجود التنويع والتحرر، وقد يصل هذ التنويع والتحرر درجة بالغة تكثر فيها الشطرات المختلفة، وتتسع خلالها درجة التخلف بين شطرة طويلة
1 انظر: ديوان زينب، للدكتور أحمد زكي أبي شادى ص36 "قصيدة الجزاء العادل".
وأخرى قصيرة، ولكن ذلك يكون دائما محكوما بمبدأ التقابل والتماثل، فكل شطرة لها ما يقابلها ويماثلها، ويحقق معها تناسقا وانسجاما، بل ضبطا وإحكاما، برغم التنويع الكثير والاختلاف البعيد.. ولعل أوضح نماذج ذلك، قول الصيرفي في إحدى قصائده العاطفية:
ليتني البسمة تعلو شفتيك
…
مثلما تعلو طيور فوق أيك
تتنزى وهي تشدو
…
في السكون
تختفي حينا وتبدو
…
في الغصون
فأرى من أين تأتي وتبين
…
وأرى هل أنت حقا تبسمين
لي من قبلك أم لا تحفلين
…
بسلامي وكلامي؟ ليتني1
وهذا اللون من الشعر المقطعي الذي ينوع الأوزان إلى جانب تنويع القوافي يسير في طريق الموشحات، التي اخترعها الأندلسيون منذ أواخر القرن الثالث الهجري "التاسع الميلادي"، والتي نقلت عنهم إلى المشرق2، وازدهرت حينا بين طائفة من الشعراء المجيدين، ولكنها ظلت -في جملتها- دون القصيدة، بل أهملت أخيرا كقالب موسيقي للشعر، إلى أن التفت إليها المهجريون، ثم شعراء هذا الاتجاه الابتداعي العاطفي، وأكسبوها جدة بما لهم من أسلوب جديد، وأغراض جديدة.
ومن أهم خصائص موسيقى الشعر لهذا الاتجاه كذلك، الاعتماد على البحور ذات الموسيقى الجياشة المتدفقة، دون رنين عال أو نبرة خطابية، فهم يميلون -من بين بحور الشعر- إلى الخفيف والرمل والهزج، وإلى المجزوءات التي تشيع الحركة والخفة، والهمس في نغم الشعر، وهم يقلدون من
1 ديوان قطرات الندى لحسن كامل الصيرفي "مخطوط" عن الشعر المصري بعد شوق لمحمد مندور ص114-115 الحلقة الثانية.
2 انظر: الأدب الأندلسي للمؤلف ص156 وما بعدها.
البسيط والطويل والوافر، وما إليها من البحور ذات التفاعيل الكثيرة، والنبرة الخطابية والرنين العالي.
وهكذا جدد هؤلاء الشعراء في موسيقى الشعر، ولكن تجديداتهم -في جملتها- مل تكن مبتكرة كتجديداتهم في الأسلوب وطريقة الأداء، حيث كانت تجديداتهم في مجال موسيقى الشعر مبنية على أنماط عربية قديمة، بعضها قد سبق إليه المشارقة في العصر العباسي، وبعضها قد ابتكره الأندلسيون بعد ذلك بقليل، ففضل شعراء الاتجاه الابتداعي العاطفي هو في التفاتهم إلى هذه الينابيع الثرة للنغم الشعري، -وهي قوالب الموشحات- التي كانت قد أهملت، وأوشك أن يطمرها الزمن، برغم أنها تستطيع مد موسيقى الشعر العربي دائمًا بما لا يحد من ألحان منوعة، تحول دون الرتابة التي قد تترتب على التزام الوزن المضطرد والقافية الملتزمة، كما تحول دون النثرية التي تتبع إهمال الوزن والقافية، والتمرد عليهما تمامًا.
على أننا إذا أردنا أن نتلمس إضافات شعراء هذا الاتجاه، إلى هذه القوالب الموسيقية المسبوقة، فإننا لن نخطئ بعض هذه الإضافات؛ ففي قالب القصيدة الموحدة نجد بعضهم يستخدم بحورًا قديمة، ولكن في صورة لم يألفها الشعر العربي، ولم يقرها العروضيون، كاستخدام بحر في تفعيلة واحدة من تفاعيله لكل شطرة، ومن ذلك قول أبي شادي في قصيدة له عن "الأمل":
يا أمل
…
يا أمل
يا هدى
…
من عمل
يا حلى
…
للبطل
يا قوي
…
في الجلل1
إلى آخر القصيدة التي تتألف كل شطرة من شطراتها من تفعيلة واحدة هي "فاعلن".. وكاستخدام بحر في مجموعة تفاعيله التامة، دون رضوخ لما يشترط فيها من بعض الحذف الذي لاحظه العروضيون على المأثور من شعر
1 انظر: ديوان الشفق الباكي لأحمد أبي شادي ص819-820.
العرب، كما حدث في تفاعيل الرمل مثلًا، حيث اشترطوا ألا تؤلف ست تامة منها بيتًا من الشعر، ولكن بعض الشعراء من السائرين في هذا الاتجاه، لم يأهبوا بهذا، ونظموا من الرمل على تفاعيله التامة الست، ونجد نماذج من ذلك عند أبي شادي، وعلي محمود طه.
وفي القصيدة المقطعية التي من اللون الأول، نرى أن بعض الشعراء، يقطع أحيانًا رتابة الوزن المطرد، بإدخال بعض المقطوعات المخالفة في وزنها لمعظم مقطوعات القصيدة، ويكون ذلك غالبًا حين يتغير الموقف النفسي، أو حين يتغير المتحدث، أو حين يطرأ تغيير ما على السياق يسمح -أو يقتضي- أن تتغير الموسيقى.
ومن أمثلة ذلك ما نجده في قصيدة الأطلال لإبراهيم ناجي، فقد سارت كلها على مقطوعات رباعية من بحر الرمل بتفاعيله الست، إلا عدة مقطوعات ذكرها الشاعر قرب ختام القصيدة، جاعلًا كل شطر منها على تفعيلتين بدلًا من ثلاث، مع اختلاف بينها كذلك من حيث تمام التفعيلتين، أو حذف بعض الأجزاء منهما، فعلى حين نجد الشاعر يمضي في معظم القصيدة على هذ النحو:
يا فؤادي رحم الله الهوى
…
كان صرحًا من خيال فهوى
اسقني واشرب على أنغامه
…
وارو عني طالما الدمع روى1
نراه قبيل نهاية القصيدة يقصر الوزن، فيقول:
لست أنسى أبدا
…
ساعة في العمر
تحت ريح صفقت
…
لارتقاص المطر2
ويمضي هكذا في بعض المقاطع التي فيها تغيير للموقف والمتحدث، ثم يعود إلى وزن الأصلي حين يعود هو إلى الحديث كما كان في أول القصيدة، ولذا يختم القصيدة بنفس النغم الذي بدأها به.
1 انظر: ديوان ناجي ص341 "قصيدة الأطلال".
2 انظر: ديوان ناجي ص345 "قصيدة الأطلال".
ومن أمثلة هذا التغيير الذي يدخله الشاعر على وزن القصيدة المقطعية التي من اللون الأول، ما نجده عند الهمشري في قصيدة "النارنجة الذابلة"، حيث يلجأ صاحبها في بعض المواطن إلى عدم التزام شكل المقطع الذي سار عليه منذ أول القصيدة، فهو قد غلب استخدام المقاطع رباعية مسمطة ببيت خامس مكرر تختم به المقطوعة، ولكنه لم يلتزم ذلك في كل القصيدة، بل جعل بعض المقاطع ثنائية على طريقة المزدوج، وجعل بعضها رباعية بلا تسميط، وهكذا جاءت المقاطع منوعة خلال القصيدة، وإن غلب عليها المقطع المسمط1، وهذا التغيير قد أحدث في القصيدة حركة، وبعد بها كثيرًا عن الرتابة، بل حقق بها مرونة الشعور، وتنوع الإحساس الذي يوحى به تنوع النغم2.
على أن بعض شعراء هذا الاتجاه قد أقدموا على محاولات أكثر جرأة، وذلك في السنوات الأولى التي شهدت فكرة التجارب الفنية، ومن تلك المحاولات، استخدام قال الشعر المرسل، الذي لا يلتزم قافية ما، وإنما يلتزم الوزن فحسب3. وكان شكري قد سبق إلى هذا القالب، ولكن هذا القالب المرسل لم يصادف نجاحًا عنده، كما لم يصادف في محاولات شعراء هذا الاتجاه كذلك، ومن محاولات بعضهم الجريئة، استعمال أكثر من بحر في القصيدة الواحدة، مع التنويع في الشطرات طولًا وقصرًا، ومع التحرر من القافية4، وهذه المحاولة تشبه من بعض الوجوه بعض محاولات الشعر الحرب، حيث لا يلتزم وحدة
1 انظر: "الروائع جمع محمد فهمي ص12".
2 انظر: Poetry Direct and Ablique: Tillyard P.60
3 اقرأ بعض نماذج هذا الشعر لأحمد أبي شادي في "الشفق الباكي" مثل "ممنون الفيلسوف" ص625-639 و"إذا" ص923-925: والأول مترجمة عن قصة لفولتير، والثانية مترجمة عن قصيدة لكبلنج.
4 اقرأ بعض نماذج لها في: "مختارات وحي العالم" لأحمد زكي أبي شادي ص44-45، قصيدة مناظرة وحنان"، وفي "الشفق الباكي" للمؤلف نفسه ص535، قصيدة "الفنان".
البيت كما لا يلتزم القافية، ولكن هذه المحاولة هي الأخرى لم تصادف أي نجاح في شعر أصحاب هذا الاتجاه، ولذا عدل عنها وعن مثيلاتها الدكتور أحمد زكي أبو شادي، الذي كان أكثر شعراء هذا الاتجاه جرأة في محاولة التجديد في موسيقى الشعر.
هذه أهم خصائص هذا الاتجاه في الموضوعات والتجارب، وفي الأسلوب وطريقة الأداء، ثم في الموسيقى والقالب النغمي.
د- خصائصه من حيث المضمون:
أما خصائصه من حيث المضمون، فأولاها غلبة الجانب الوجداني على المضمون الشعري، بحيث تبدو العاطفة أوضح خيط في نسيجه، أو بحيث تمثل أهم ما عند الشاعر، وأبرز ما يحاول نقله إلى الآخرين.
والخاصة الثانية هي غلبة طابع الحزن على تلك العاطفة، بحيث تصدر عن أسى ومرارة حينًا، وعن يأس واستسلام حينًا، وتثير الشجن والحزن في كثير من الأحايين.
والخاصة الثالثة هي فردية النزعة بحيث يعبر الشاعر -في الأعم الأغلب- عن أحاسيسه هو، ويهتم بهمومه الفردية، ولواعجه الذاتية وشئونه الخاصة على وجه العموم1، وقلما التفت الشاعر -في فترة ظهور هذا الاتجاه- إلى أحاسيس الجماعة، أو اهتم بالأمور الوطنية أو القومية، وحين اهتم بعض الشعراء بتلك الأمور فيما بعد، كانت دائمًا في المحل الثاني.
ونتيجة لهذه النزعة العاطفية الذاتية المنطوية الحزينة، جاءت دواوين شعراء هذا الاتجاه الأولى، تحمل عناوين توحي بالانطواء والذاتية، وتسبح في جو عاطفي حزين، فناجي يسمى ديوانه "من وراء الغمام" ليوحي بأنه شاعر محلق في سماء الشعر، وأنه بعيد عن الأرض، ناء عن دنيا الناس، وأنه
1 انظر: الشعر المصري بعد شوقي للدكتور محمد مندور، الحلقة الثانية ص4، 5 والحلقة الثالثة ص4.
غير مبتهج في هذا التحليق، وإنما هو وراء غمام من الهموم القاتلة، تجعله يرى كل شيء وقد اكتسى غلالة رمادية، أو تجعله لا يرى شيئًا على حقيقته، بعد أن حال الغمام بينه وبين الأشياء.
وعلي محمود طه يسمى ديوانه "الملاح التائه" ليُفهِم أنه هارب من الحياة والأحياء، وأنه يضرب في عوالم شتى من الحيرة والضياع، والوحدة كملاح تاه في بحار لا يعرف لها شط، ولا يدري لعابرها مصير.
وحسن كامل الصيرفي يجعل ديوانه "الألحان الضائعة"؛ ليدل على يأسه الجاثم وحظه العاثر وحزنه العميق؛ فأشعاره ألحان ضاعت سدى؛ لأنها لم تجد أذنًا مصغية، والشاعر يعزفها لنفسه في انطوائية، ويأس ومرارة.
وأحمد زكي أبو شادي يجعل اسم ديوان "الشفق الباكي"؛ ليفيد أنه يستلهم جانبًا نائيًا من الحياة، وهذا الجانب حزين جريح، ففيه لون الدم أولًا، وفيه أحزان البكاء ثانيًا؛ لأنه شفق وباك معًا، وفي هذا الجانب تتمثل نفس الشاعر المنطوية الحزينة الباكية الجريحة.
وبرغم أن هذه النزعة الفردية العاطفية المنطوية الحزينة، كانت تمثل روح الفترة1، قد كانت أهم ما أخذ على هذا الاتجاه، وأبرز ما سبب الهجوم على أصحابه فيما بعد، فقد لوحظ أن شعراء هذا الاتجاه باتباعهم هذه النزعة الفردية المنطوية، قد وقفوا سلبيين من قضايا عصرهم ومشكلات وطنهم، وبدلًا من أن يناضلوا بالكلمة المنغومة المجنحة ليحققوا لمجتمعهم، ووطنهم حياة أفضل، أو على الأقل ليحاربوا الطغيان والظلم الذي جثم على صدره؛ راحوا يبكون ويحملون، ويهربون إلى أحضان الطبيعة حينًا، وإلى حنان الحب حينًا آخر، تاركين وطنهم ومجتمعهم لما فرض عيه من ظلم، وتآمر وانتكاس2.
ويبدو أن المسألة كانت لونًا من رد الفعل الشديد، قابل به هؤلاء
1 انظر: المصدر السابق الحلقة الثانية ص4.
2 انظر: في الثقافة المصرية لمحمود أمين العالم، وعبد العظيم أنيس ص188 وما بعدها.
الشعراء ما كان عند الشعراء المحافظين من إفراط في الإسهام بالشعر من ميادين النضال دون رعاية -في كثير من الأحيان- لمقتضيات الفن ومتطلبات الشعر، حتى تحولت قصائد كثيرة إلى خطب منظومة، بل حتى تورط هذا الاتجاه المحافظ في شعر المناسبات وغرق فيه غرقًا.. أو يبدو أن المسألة كانت عدم نضج في الوعي بوظيفة الشاعر، وما يجب عليه نحو مجتمعه من التزام بقضاياه، واتخاذ موقف نضالي في سبيل تحقيق أمانيه، ولتمكينه من حياة أفضل، وليس ببعيد أن يكون الأمران معًا قد سببا هذه النزعة التي نأت بأغلب شعراء هذا الاتجاه عن الارتباط بقضايا مجتمعهم، ودفعتهم دفعًا إلى الهروب من الظلم، والقهر والفساد، بالانطواء والحزن والشكوى، لا بالمقاومة والتمرد والثورة.
هـ- أهم مصادر تلك الخصائص:
هذه هي أهم خصائص هذا الاتجاه، وليس من شك في أن كثيرًا منها قد أفاده شعراؤه من ثقافتهم الأجنبية التي وصلتهم بنتاج شعراء "الرومانتيكية" الغربيين، وبخاصة الإنجليز، وقد مضى ما يوضح صلتهم بشعر هؤلاء الشعراء، وإعجابهم به1، وقد تمثل تأثرهم بهؤلاء "الرومانتيكيين" في أكثر من جانب، كالاهتمام بموضوعي الطبيعة والحب2، والاتجاه إلى موضوع الحنين
1 انظر: محمد عبد المعطي الهمشري لصالح جودت ص31، وعلي محمود طه للسيد تقي الدين "المقدمة" ص6 و"الكتاب" ص34، 35، ورائد الشعر الحديث لمحمد عبد المنعم خفاجه جـ2 ص281، ومجلة البعثة الكويتية عدد أبريل سنة 1954، وانظر: الينبوع لأحمد زكي أبي شادي "المقدمة" صفحات: ح، ط، ي.
2 عن اهتمام الرومانتيكيين بالطبيعة، انظر: الرومانتيكية للدكتور محمد غنيمي هلال ص132 وما بعدها. وانظر: الرومنطيقية، ومعالمها في الشعر العربي الحديث لعيسى يوسف بلاطة ص57 وما بعدها، وعن اهتمامهم بالحب انظر: الرومانتيكية للدكتور محمد غنيمي هلال ص143 وما بعدها: وانظر: الرومنطيقية لعيسى يوسف بلاطه ص63 وما بعدها.
إلى مواطن الذكريات1، والإكثار من الشكوى وبث الحزن2، ثم في النزعة العاطفية المنطوية، والروح الهاربة على أجنحة الخيال3، وأخيرًا في الثورة على الأساليب المحافظة، واصطناع أساليب مبتدعة4.
وليس من شك أيضًا في أن بعض الخصائص الفنية لهذا الاتجاه، قد أفادها شعراؤه من صلتهم بنتاج الشعراء الرمزيين، وقد مضى أيضًا ما يوضح أن أعلام هذا الاتجاه "الابتداع العاطفي"، كانوا على صلة بشعر "بودلير" و"فرلين"5. كذلك كان أحمد زكي أبو شادي يشيد بقيمة بعض الخصائص الرمزية في التعبير، ومن المأثور عنه قوله: "كلما سما الفن كان رمزيًا في بلاغته؛ لأنه بهذا الرمز يثير التفكير والتأمل، ويثير عواطف شتى مكنونة، ويحيي ذكريات، ويكون علاقات ذهنية ونفسية متنوعة بين صور الحياة"6.
وكذلك كان الهمشري أيضًا يدرك القيمة الفنية لبعض الوسائل الرمزية، كالإبهام الرمزي الذي يقول فيه:"إنه أسمى ما يصل إليه الفكر العبقري في نواحي تعبيره"7.
1 انظر: الرومانتيكية للدكتور هلال ص59 وما بعدها، وانظر: الشعر المصري بعد شوقي لمحمد مندور الحلقة 3 ص7 وما بعدها، وانظر: الرومنطيقية لعيسى بلاطة ص61 وما بعدها.
2 انظر: الرومانتيكية للدكتور محمد غنيمي هلال ص36 وما بعدها، وانظر: مندور الحلقة 3ص4.
3 انظر: الرومانتيكية لمحمد غنيمي هلال ص50 وما بعدها، وانظر: الرومانطيقية لعيسى بلاطه ص57 وما بعدها.
4 انظر: الرومانتيكية لمحمد غنيمي هلال ص153 وما بعدها، وانظر: الرومانطيقية لعيسى بلاطة ص77 وما بعدها، وفي الأدب والنقد لمحمد مندور ص108.
5 مثل ناجي الذي ترجم أزهار الشر "لبودلير"، ومثل علي محمود طه الذي ذكر بودلير، وفرلين في "أرواح شاردة" حيث تكلم عن "بول فرلين" في ص7 وما بعدها، وعن "شارل بودلير" في ص20 وما بعدها.
6 انظر: الشفق الباكي لأحمد زكي أبي شادي ص1211.
7 انظر: مجلة أبولو المجد الأول ص1204 "عدد يونية سنة 1933".
وقد تجلى هذا التأثر بالرمزية في خاصة التوسع في المجاز، بناء على فكرة تجاوب الحواس التي نبه إليها "بودلير"1. كما تجلى في خاصة استخدام التعابير الموحية، التي تخلق جوًا، وتثير خيالا وتجلب ذكرى، أكثر مما تؤدي معنى أو تفيد دلالة أو تزيد فكرة2.
ويمكن أن يضاف إلى مصادر هذه الخصائص الفنية عند بعض شعراء هذا الاتجاه مصدر آخر، هو الأدب المهجري، الذي كان في طابعه العام يتسم "بالرومانتيكية"، وفي بعض جوانبه يرتبط بالرمزية، ومن ذلك كتب جبران خليل جبران، التي تتمثل "ورمانتيكيتها" في جيشان العاطفة، وانطوائية النزعة وغلبة طابع الحزن، والاهتمام بموضوعي الطبيعة والحب، كما تمسها الرمزية في العبارات الموحية، والصور المعبرة عن حالات النفس، والمخاطبة لمكنون اللاشعور، وقد ظهر النتاج المهجري مبكرًا، وكان بعضه ينشر في مصر في وقت نشأة هذا الاتجاه وظهوره إلى النور، فقد أخذت كتب جبران خليل جبران تظهر منذ سنة 1905 3، وتوافر عدد منها ومن غيرها في الفترة التي يساق عنها الحديث، فكانت رافدًا من روافد هذا الاتجاه، وخاصة بالنسبة لمن لم يكونوا يجيدون لغة أجنبية من الشعراء المتطلعين بحكم نزعتهم التجديدية، إلى زاد يشحذ ملكاتهم، ويثير خيالاتهم، ويعطيهم النموذج الذي عليه ينسجون.
ولا يمكن، ونحن بصدد الحديث عن مصادر هذا الاتجاه الفنية، أن ننسى تأثير كل من المحافظثين والمجددين السابقين، حيث أفاد شعراء هذا الاتجاه من حركة الصراع بينهما، وأخذوا من سمات كل اتجاه أحسنها، بل أفادوا
1 انظر: الرمزية والأدب العربي لأنطون غطاس كرم ص92، وانظر: الشعر المصري بعد شوقي الحلقة الثالثة ص22.
2 انظر: الرمزية والأدب العربي لأنطون غطاس كرم ص76-85، وانظر: مجلة أبولو عدد يونية سنة 1933، ص2204، وما بعدها "مقال للهمشري".
3 انظر: أدبنا وأدباؤنا في المهاجر الأمريكية لجورج صيدح ص266 وما بعدها ط3.
بشكل واضح من كتابات المجددين الثلاثة شكري، والمازني، والعقاد على نحو ما ذكر في أول هذا الفصل.
وإذا كان رواد هذا الاتجاه قد اعترفوا بتأثرهم بمطران، واعتزوا بأستاذيته من بين المجددين1، على حين أغفلوا تأثرهم "بالاتجاه التجديدي الذهني"، الذي كان يتصدره العقاد، فليس معنى ذلك أن مطران كان فعلا أستاذهم في التجديد، وأن العقاد وصاحبيه شكري والمازني، لم يكونوا من المؤثرين في هذا الاتجاه الجديد، فالحق أن أعلام الاتجاه التجديدي الذهني، كانوا ذوي تأثير كبير في هذا "الاتجاه الابتداعي" بما لهم من شعر جديد خصب، وبما لهم أيضًا من كتابات رائدة في النقد والتبصير بوسائل التجديد في الشعر، ورمبا كان العقاد بشعره الجديد ونقده الرائد، من أهم المؤثرين في هؤلاء الشعراء الابتداعيين.
غير أنه يبدون أن هؤلاء الشعراء الابتداعيين كانوا -أيام ظهور اتجاههم- يؤثرون السلامة، ويخافون من الخصومات، ويبتعدون عن التحزب، لهذا لاذوا بمطران المحايد المسلم من بين المجددين، وأغفلوا العقاد واتجاهه، لارتباطه بكثير من المعارك والصراعات، التي لم يشأ هؤلاء الشعراء الجدد أن يمسهم شررها وهم في أول الطريق2.
هذا بالإضافة إلى ما كان من صلة قوية بين مطران، وأحمد زكي أبي شادي، تلك الصلة التي ترجع إلى صداقة مطران ووالد الشاعر، فهذه الصلة القوية والمودة القديمة، جعلت أبا شادي يكثر من الإشادة بمطران، وجعلت زملاءه أو مريديه، يجارونه في هذه الإشادة، التي ترجع إلى المجاملة، وإلى شخصية مطران أكثر من أي سبب آخر3.
1 انظر: "أنداء الفجر" لأحمد زكي أبو شادي ص110، وانظر:"أطياف الربيع" لأحمد زكي أبي شادي "مقدمة ناجي" ص "د".
2 انظر: جماعة أبولو لعبد العزيز الدسوقي ص158.
3 انظر: جماعة أبولو لعبد العزيز الدسوقي ص163 وما بعدها وص314، 315.
وبعد، فلعل مما مضى من خصائص هذا الاتجاه يتضح سر تسميته، "بالابتداع العاطفي"، فهو يقوم أولًا على الابتداع المجاوز حد التجديد في الموضوعات والأساليب، وهو يقوم ثانيًا على نزعة عاطفية تشكل أهم مادته الشعرية، وتكاد تطغى على ما سواها من محتويات المضمون الشعري، وإذا كان لا بد من تشبيه هذا الاتجاه باتجاه غربي، فهو أشبه بالاتجاه "الرومانتيكي"1، الذي نجد فيه أكثر الخصائص التي وجدناها في هذا الاتجاه، والذي يقوم إلى درجة كبيرة على دعامتي الابتداع والعاطفية، هذا مع تأكيد ما لم سبق تقريره من أن هذا الاتجاه لا يصل إلى درجة المدرسة الفنية؛ لأنه لم يقم أولًا على فلسفة محددة، ولم يلتزم بمذهب فني خاص، وقد اعترف بعدم مذهبيته بعض أعلام الاتجاه أنفسهم2.
و ريادة هذا الاتجاه:
هذا وقد درج بعض الباحثين على اعتبار الدكتور أحمد زكي أبي شادي رائد هذا الاتجاه، وأستاذ السائرين فيه3، والحق أن الدكتور أبا شادي كان من أوائل المتحمسين لهذا الاتجاه الجديد، كما كان أكثر أصحابه تشيعًا له، وأخذًا بيد الشبان المتجهين إليه، وقد صنع من أجل ذلك الكثير، فأصدر مجلة "أبولو" لتتيح لهم فرصة النشر بجانب الشعراء الكبار، كما ألف "جماعة أبولو" ليعلو فيها صوت هؤلاء الشعراء الشبان، إلى جانب ما كان يزحم الحياة الأدبية من أصوات، كما ساعد على نشر دواوين هؤلاء الشبان
1 انظر: الرومنطيقية، ومعالمها في الشعر العربي الحديث لعيسى يوسف بلاطة القسم الثاني "الرومنطيقية العربية".
2 انظر: حديث أبي شادي عن ذلك في: رائد الشعر الحديث جـ1 ص236.
3 انظر: الشعر المصري بعد شوقي الحلقة الأولى ص90 والحلقة الثانية ص3 والحلقة الرابعة ص4. وانظر: جماعة أبولو لعبد العزيز الدسوقي ص250، 272، 287، 302، 313.
الجدد، وإذاعة نتاجهم والدفاع عنهم1، إلا أنه مع سبقه وتحمسه، ومع كل ما كان له من جهود خيرة، لم يكن أقوى شعراء هذا الاتجاه شاعرية، ولا أعظمهم فنًا، وإن كان أكثرهم خدمة للاتجاه، وأغزرهم نتاجًا بين أصحابه.
وقد اتسم نتاجه الكثير بالعفوية والتلقائية، وعدم التجويد المبني على المراجعة، فجاء غير محافظ على المستوى الفني المرضي؛ حيث ارتفع بعضه إلى درجة الشعر الجيد، وانحط بعضه إلى مهاوي النظم الرديء، وجاء كثير منه على سطحية في الفكر، أو نثرية في التعبير، أو برود في العاطفة2؛ مما لا يدع بصاحبه إلى الصف الأول من بين شعراء هذا الاتجاه، برغم ما نرى من مجاملة بعض رفاقه له، وحديثهم عنه كرافع لواء الاتجاه الجديد3.
والحق أنه إذا كان شوقي قمة "الاتجاه المحافظ البياني"، وإذا كان العقاد قمة "الاتجاه التجديدي الذهني"، فإن ناجي هو قمة الاتجاه "الابتداعي العاطفي"، وذلك لطاقته الأضخم ونتاجه الأجود، وفنه الأسمى، على أن هناك شاعرًا قد مات في عمر الورد، ولو قدر له أن يعيش كما عاش رفاقه، لانتزاع لواء هذا الاتجاه، وتربع على عرش فنه، هذا الشاعر هو محمد عبد المعطي الهمشري الذي نرى نتاجه -الأقل كمًّا من نتاج رفاقه- يمثل إرهاصات عبقرية شعرية فذة، كما نرى فيه أوضح خصائص هذا الاتجاه، بحيث يمكن أن تمثلها القصيدة الواحدة من قصائده إلى درجة كبير4.
1 اقرأ تفصيل ذلك في: جماعة أبولو لعبد العزيز الدسوقي ص302 وما بعدها وص 332، وما بعدها وص487 وما بعدها.
2 انظر: الشعر المصري بعد شوقي لمندور الحلقة الثانية ص17-18 وص29-33، وص 52-53.
3 انظر: اعتراف ناجي مثلًا بأن أبا شادي هو رافع لواء المدرسة الجديدة في: "أطياف الربيع" ص "ل".
4 اقرأ تفصيل حياته في: الهمشري لصالح جودت، واقرأ قصيدته: النارنجة الذابلة"، لترى أهم خصائص هذا الاتجاه مجتمعة.
ز- مقاومة هذا الاتجاه وانتصاره:
وقد لقي هذا الاتجاه كثيرًا من المقاومة، وبخاصة حين خرجت إلى النور دواوينه الأولى سنة 1934، وأعجب ما في هذه المقاومة ما كان منها من النقاد المتحررين ذوي الثقافة الغربية والميول التجديدية، فقد تعرض شعر هذا الاتجاه -ممثلًا في بعض دواوينه الأولى- لهجوم طه حسين والعقاد، وهما دعامتا الأدب الجديد في ذلك الحين، ويبدو أن هذا الهجوم لم يكن بدوافع فنية حتى يثير العجب، وإنما كان وراءه روح الفترة التي تتسم بالصراع السياسي، والخصام الحزبي، الذي انعكس على كثير من المجالات حتى مجال الفكر والأدب1.
فقد عرف أن العقاد كان يضيق بشعراء هذا الاتجاه؛ لأنهم على صلة بأبي شادي ومجلته، وأبو شادي كان -في رأي العقاد- على صلة برئيس الديوان الملكي حينذاك2، كما كانت له كبوة في مدح الملك فؤاد3، وعثرة في التودد إلى رئيس وزرائه في ذاك العهد إسماعيل صدقي4، والعقاد كان على عداء للملك فؤاد، وقد عرض به في البرلمان، وسجن من أجل هذا التعريض5.
وكان ذلك كله في عهد إسماعيل صدقي، الذي كان ينكل بالوفد، ويضطهد كتابه الذين في مقدمتهم العقاد، فكان من الطبيعي أن يشك العقاد في أبي شادي، وأن يسخط على المتصلين به، وأن يعبر عن ذلك بالهجوم على
1 اقرأ ما كتب تحت عنوان "الأدب وغلبة الاتجاه التجديد" في أول الحديث عن الأدب في الفصل الرابع.
2 انظر: جماعة أبولو لعبد العزيز الدسوقي ص494.
3 انظر: الينبوع ص80.
4 انظر: جماعة أبولو لعبد العزيز الدسوقي ص494.
5 كان ذلك سنة 1930 حينما خطب العقاد في البرلمان قائلًا: "إن الأمة مستعدة أن تسحق أكبر رأس يخون الدستور، ويعتدي عليه"، وقد حكم عليه بالسجن تسعة شهور، وكان ذلك في عهد انظر: العقاد: دراسة وتحية ص64-65".
الشعراء الذي ينضمون تحت لوائه، ويسيرون في اتجاهه، وخاصة إذا نمي إليه أن تلك الحركة التي يتزعمها أبو شادي قد أقامها القصر لتحاربه1، ومن هنا هاجم العقاد ناجي هجومًا عنيفًا حين أخرج ديوانه الأول "من وراء الغمام"، واتهمه بالسرقة، والسطحية، والرخاوة.
وكان مما قاله: "وأظهر ما يظهر من سمات هذه المجموعة الضعف المريض والتصنع، فإن صاحبها كما يدل عليه كلامه من أولئك النوع الذي يفهمون أن "الرقة" ترادف البكاء، وأن الشاعر ينظم ليبكي ويشكو، فإذا هجره الحبيب بكى
…
وإذا تناجى مع حبيبته قال لها: "هاتي حديث السقم والوصب"، إلى نحو ذلك من أعراض الرخاوة المريضة2....".
وأماط طه حسين، فمعروف أنه أخرج من الجامعة في عهد صدقي، ولاقى كثيرًا من الاضطهاد على يد وزير معارفه حينذاك حلمي عيسى3، وقد وجد طه حسين أنا أبا شادي قد تورط في التودد إلى صدقي، كما وجده هو وبعض "جماعة أبولو"، قد زاروا حلمي عيسى في الوزارة ومدحوه، طالبين منه رعاية مجلتهم وتشجيع حركتهم4، فسخط طه حسين على أبي شادي، ومن يلوذون به، واتخذ هذا السخط عدة مظاهر، منها مبايعة العقاد بإمارة الشعر5، ومنها الهجوم على ما صدر من دواوين لشعراء هذا الاتجاه الذي
1 انظر: جماعة أبولو لعبد العزيز الدسوقي ص494.
2 انظر: مقال العقاد في جريدة الجهاد عدد 12 يونيه سنة 1934.
3 أخرج طه حسين من الجامعة سنة 1932، ثم أعيد سنة 1936 "انظر: الهلال عدد أول فبراير سنة 1966".
4 اقرأ تفصيل هذه الزيارة في مجلة أبولو المجلد الثالث ص5 وما بعدها.
5 كانت تلك المبايعة في حفل تكريم أقامة الشباب الوفدي للعقاد بمناسبة فوز نشيده القومي، وكان ذلك الحفل في 27 أبريل سنة 1934.
واقرأ حديث طه حسين في: الجهاد عدد 29 أبريل سنة 1934، وقد ختم طه حسين هذا الحديث بقوله:"ضعوا لواء الشعر في يد العقاد، وقولوا للأدباء والشعراء: أسرعوا واستظلوا بهذا اللواء، فقد رفعه لكم صاحبه".
يريد أن يتزعمه أبو شادي، وهكذا هاجم طه حسين علي محمود طه1، كما هاجم إبراهيم ناجي2، وتحامل عليه تحاملا لا يتفق مع ثقافة الدكتور طه النقدية، ولا مع ذوقه الفني؛ فقد كان مما قاله عنه:"فإذا نظرنا إليه نظرة الناقد المحلل الذي يريد أن يقسم الشعر أنصافًا وأثلاثًا وأرباعًا -كما يقول الفرنسيون- لم يكد يثبت لنا أو يصبر على نقدنا، وإنما يدركه الإعياء قبل أن يدركنا، ويفر عنه الجمال الفني قبل أن يفر عنا الصبر على الدرس والنقد والتحليل". كما قال في تعليقه على أبيات ناجي التي منها:
أمسيت أشكو الضيق والأينا
…
مستغرقًا في الفكر والسأم
فمضيت لا أدري إلى أينا
…
ومشيت حيث تجرني قدمي
"فانظر إليه، وقد أمسى يشكو الضيق والأين، وهو مستغرق في الفكر والسأم، فأما الضيق والسأم فقد نفهمها من الشاعر، وقد نفهم أن يشكو التعب، ولا سيما إذا كان طبيبًا قد أنفق ساعات طوالا يلقى المرضى، ويفحصهم وصيف لهم الدواء، ويسمع منهم ما لا يحب للقراء أن يسمعوه، ولكن الذي لا يستقيم للشاعر المجيد، هو الاستغراق في الفكر والسأم معا، فالمفكر لا يسأم والسائم لا يفكر؛ لأن التفكير يشغل صاحبه حتى عن الضيق والتعب والسأم؛ ولأن السأم لا يمكن صاحبه من التفكير، ولا يخلي بينه وبينه".
1 انظر: ما قال عنه في: حديث الأربعاء جـ3 ص148-149، ومن ذلك قوله: "
…
فهو يغلو في الخيال أحيانًا حتى يجاوز المألوف، ويتورط تورطًا فاحشًا فيما عاب النقاد به أبا تمام، فهو يجسم ما لا سبيل إلى تجسيمه، وليس بذلك بأس إذا لم يسرف الشعراء، وإنما ألموا به لمامًا، أما شاعرنا فيغلو فيه غلوًا فاحشًا، وما رأيك فيم جسم الليل حتى جعل له أوصالا وعروقًا، وأجرى في هذه العروق دمًا، وليت شعري كيف يكون دم الليل، أجامد هو أم سائل، أناصع هو أم قائم، أخفيف هو أم ثقيل، وليت شعري كيف يكون حال الليل إن سفك دمه أيموت أم يتجدد له الدم، فتتجدد له الحياة؟.. وليت شعري كيف تكون أوصال الليل؟ ومن المحقق أن هذه الأوصال والعروق تستتبع لحمًا وعظمًا وجلدًا، وما يتصل بذلك كله
…
".
وقوله: "فهو شاعر مجيد حقًا، ولكنه ما زال مبتدئًا".
2 انظر: ما قاله في حديث الأربعاء جـ3 ص153-154.
"وعلى كل حال فقد أمسى الشاعر ضيقًا متعبًا مغرقًا في السأم والتفكير، فخرج لا يدري إلى أين ومضى حيث تجره قدمه، فانظر إلى هذه الصورة التي لا تلائم شعرًا ولا لغة؛ فالقدم لا تجر صاحبها وإنما تحمله، وتحمله متثاقلة مكدودة، إذا لم يتح لها النشاط؛ وإنم يجر صاحب القدم قدمه فاترًا مكدودًا لا يقوى على المشي، ولكن الشاعر أراد قافية تلائم السأم، فجعل قدمه تجره على حين كان ينبغي أن يجرها هو"1.
وإذا كان مثل هذا التحامل لا يتفق مع ثقافة طه حسين وذوقه الفني، فإنه يتفق مع روح الصراع الذي كان يسيطر على الحياة المصرية في ذلك الحين، ويفسد عليها كثيرًا من شئونها.
وليس من شك في أن هذه المقاومة التي لقيها هذا الاتجاه -وبخاصة من العقاد وطه حسين- قد فتت في عضد شعرائه، وأصابت بعضهم بصدمة شديدة حملتهم على التوقف، فأعلن أكثر من واحد إضرابه عن قول الشعر، كما كان من إبراهيم ناجي وصالح جودت2، ولكن تلك الوقفة لم تطل، فسرعان ما زالت الصدمة، واستعاد هؤلاء الشعراء الثقة، وواصلوا سيرهم في اتجاههم بحماس أكثر ونتاج أغزر، فازداد عدد الأنظار الملتفتة إليهم، وتضاعف الشعراء السائرون في اتجاههم، وخاصة من الشباب المثقف، الذي لا يريد أن يحصر نفسه في نطاق التراث العربي، وإنما يتطلق إلى آفاق فنية أرحب، وألوان أدبية أخصب، وقد كان هذا الاتجاه بإبداعه وعاطفيته، يستهوي هذا الشباب، حتى رأينا منهم طائفة ممتازة تسرع بالانضمام إلى السائرين فيه، وكان من هؤلاء الشباب المثقفين الطموحين: عزيز فهمي وعبد الرحمن الخميسي، وصالح الشرنوبي، ومحمد فهمي، وهكذا ظل هذا الاتجاه أخصب الاتجاهات الشعرية وأكثرها حيوية، وأشدها رواجًا حتى نهاية الحرب العالمية الثانية.
1 انظر: حديث الأربعاء جـ3 ص153-154.
2 انظر: جماعة أبولو لعبد العزيز الدسوقي ص514-516، وانظر: ديوان ناجي ص20.
ز- محاولات مسرحية وقصصية:
وقد كان لبعض شعراء هذا الاتجاه محاولات في الشعر الموضوعي، أرادوا بها أن يسهموا في تطويع الشعر لفني المسرحية والقصة، أو الخروج به عن الانحصار في قالب القصيدة الغنائية المعروف، ومن أوائل أصحاب تلك المحاولات، الدكتور أحمد زكي أبو شادي، الذي ألف بعض المسرحيات الغنائية "أبرات"، وبعض القصص الشعرية.
أما مسرحياته الغنائية، فالمشهور منها أربع، نشرها سنة 1927، وهي:
"إحسان" و"أردشير" و"الزباء" و"الآلهة"1.
والمسرحية الغنائية الأولى تعرض قصة فتاة مصرية اسمها "إحسان" أحبها ابن عمها الضابط المصري "أمين"، ولكنه قبل الزواج بها سافر إلى الحبشة ضمن حملة عسكرية سنة 1876، ووقع في الأسر. وانتهز "حسن" الفرصة، فأشاع -كذبًا- أنه مات، رجاء أن يحل محله في الزواج "بإحسان"، ولكنه لم يحقق مطمعه؛ لأن الفتاة تزوجت من "كمال" شقيق الضابط الأسير، بناء على وصيته قبل سفره إلى الحبشة، بأن يتزوج أخوه خطيبته إذا مات هو، وقد احتال "حسن" فدس السم لكمال زوج "إحسان"، الذي أخذ يمشي الموت في جسده رويدًا رويدًا حتى انتقل إلى جوار ربه.. وأخيرًا نجا الضابط الأسير "أمين"، وعاد إلى مصر، وعلم بخيانة صديقه "حسن"، ووجد "إحسان" في أيامها الأخيرة، نتيجة لعدوى السل التي أصابتها من زوجها قبل موته، وانتهى أمرها بأن لفظت أنفاسها الأخيرة بين يدي فتاها الأول "أمين" بعد أن صاحت صيحة الفرح والدهشة بعودته ولقائه.
والمسرحية الغنائية الثانية تعرض قصة حب "أردشير"، ولي عهد
1 انظر: رائد الشعر الحديث لمحمد عبد المنعم خفاجى ص48.
ملك شيراز "لحياة النفوس" ابنة ملك العراق، التي كانت تبغض الرجال وترفض الزواج، نتيجة لعقدة أصابتها منهم، بسب رؤيا رأت فيها طائرًا يقع في الشرك فتنقذه أنثاه، ثم تقع الأنثى في الشرك نفسه، ولكن الطائر الذكر يفر تاركا صاحبته للصائد يذبحها.. ولقد زاد رفض "حياة النفوس" للخاطبين، من تعلق "أردشير" بها، وإصراره على الزواج منها.
وحين رفضته هو الآخر، غضب والده "السيف الأعظم"، وصمم على غزو العراق، ولكن ابنه "أردشير" يقنعه بالعدول عن هذه الفكرة، ويلجأ إلى الحيلة في الوصول إلى بغيته، فيرحل إلى العراق، ويتنكر في لباس تاجر كبير، ويلتقي "بحياة النفوس" بعد مراسلة ساعدته عليها مربيتها العجوز.
وهكذا تحب الأميرة الأمير، ويتكرر لقاؤهما، ولكن أباها الملك يكشف علاقتهما ويهم بقتلهما، غير أن الشاة يجيء في اللحظة المناسبة على رأس جيش، للبحث عن ابنه الذي طال غيابه، وحين يلتقي الولدان يتصافيان، وتزف الأميرة للأمير.
والمسرحية الغنائية الثالثة، تعرض قصة "زنوبيا" ملكة تدهر، حين أرادت توسيع مملكتها وتأكيد نفوذها، فغزت مصر بحملة على رأسها ابنها هبة الله، وقائد جيشها "بلينيوس"، وكان هذا القائد يرغب في الزواج من الزباء طمعا في مملكتها، وحين رفضت رغبته حقد عليها، وانضم إلى جيش إمبراطور الرومان "أورليان"، الذي كان قد أرسل لتأديب الزباء على محاولتها الابتعاد عن نفوذ روما، وانتهى الأمر بانتصار هذا الجيش على "الزباء"، والقضاء على مملكة تدمر، وأسر "الزباء" نفسها والذهاب بها إلى روما، وهناك أوضحت للإمبراطور ما كان من أمر القائد "بلينيوس" وأطماعه، وشرحت له أن سر انضمامه إلى الجيش الذي حاربها، إنما هو الانتقام منها على رفضها الزواج منه، وليس وفاء للإمبراطور ولا حبا لروما، وهنا غضب "أورليان" على "بلينيوس" وأمر بإعدامه، وصفح
عن "الزباء"، وأنزلها في ضيافته مكرمة هي وأولادها.
والمسرحية الغنائية الرابعة، تعرض فترة خيالية من حياة شاعر فيلسوف، يستيقظ في غابة الطبيعة على نشيد إلهة الجمال، التي تفتنه، وتخبره بأنها المتصرفة في الدنيا، وتعده بالسعادة الحقة، إذاما أطاع إرشادها، وتعرض عليه أمثلة من نفوذها، وتسمح له في حدود سلطانها بمصاحبة شقيقتها إلهة الحب التي تكلفها بإرشاده وتوجيهه، ولكن إلهة الشهوة، ثم إلهة القوة، تجعلانه يجحد إيمانه بالجمال بالحب، فيشقى ويضل ويندم، بعد أن ينال منه الشقاء والتعاسة، وهنا يدعو إلهتي الجمال والحب لنجدته، ويغمى عليه فيسقط، فتخفان إلى جواره ونجدته والصفح عنه، وتعيدان إليه سعادة الدنيا، وتهيئاته لهناءه الخلود.
ويلاحظ على مسرحيات أبي شادي الغنائية عدة ملاحظات، فهي أولا تستوحي التاريخ الحديث حينا، كما في "إحسان"، وتستوحي التاريخ القديم حينا آخر كما في "أردشير" و"الزباء"، كما تستوحي عالم الأساطير، وتعتمد على الرموز في بعض الأحايين كما في "الآلهة"، وهي ثانيا ليست على حظ كبير من الجودة الفنية، وربما كان ذلك؛ لأنها لم يقصد منها إلى إنشاء نص "درامي" شعري مستقل بمقوماته الفنية، وإنما قصد بها إلى إنشاء أعمال شعرية تكمل فنيتها بالتلحين والموسيقى، ولا يهتم فيها بجودة النص "الدرامي" بالقدر الكافي، نظرا لعدم الاعتماد أساسا عليه وحده.
وتلك المسرحيات الغنائية -بعد ذلك- يلاحظ على شعرها خاصة شعر أبي شادي العامة، الذي يتردد بين القوة والضعف، وتبدو فيه أحيانا نثرية في الأسلوب، وسطحية في الأفكار، وبرود في العاطفة، نتيجة لغزارة نتاجه، وتسجيله لكل ما يعن له، وعدم اهتمامه بالمعاودة والتجويد والصقل1.
1 انظر: الشعر المصري بعد شوقي للدكتور محمد مندور الحلقة الثانية ص11-18، والأدب العربي المعاصر في مصر ص152-153.
وأما كتابات أبي شادي الشعرية في مجال القصة، فأهمها قصتان نشرهما سنة 1926، هما "عبده بك" و"مها"1. والأولى تحكي حكاية زواج رجل مصري من الطبقة الوسطى، بثلاث زوجات تباعًا، الأولى منهن مصرية، يفشل زواجه بها لنقص تربيتها وسوء اختياره لها، والثانية أجنبية، يفشل زواجه بها أيضًا، ولكن نتيجة للتنافر بين الزوجين، واختلاف طباعهما وتقاليدهما، والثالثة من بنات وطنه وبيئته، وينجح زواجه بها لتجنبه الأخطاء التي تورط فيها حين تزوج من السابقتين، وفي خلال هذه القصة يعرض المؤلف ما كان من مهازل الزواج، وما كان يحيط به قبل التطور الاجتماعي من المفارقات وسيئ العادات، كالوسطاء والخاطبات، والأطماع والاندفاع، وعدم رعاية القيم المعنوية التي يجب أن تطلب في الزوجة، والاهتمام بشكليات لا تغني في نجاح الحياة الزوجية شيئًا.
وأما القصة الثانية "مها"، فتحكي حكاية فتاة عربية أحبها ضابط إنجليزي، وأحبته أثناء الحرب العالمية الأولى، في مكان قرب العقبة، وحين رفض أبوها زواجهما هرب الحبيبان، حيث مات المحب في شعاب الجبل، وانتحرت الفتاة فوق جثته بطلقة نارية صوبتها إلى صدرها من مسدسه.
والملاحظ على القصتين، أنهما ضعيفتان من الناحية الفنية؛ لأن الشعر ليس لغة القِصص التي يمكن أن تندرج بحق تحت هذا الجنس الأدبي، إذ الشعر يضيق بأوزانه وقوافيه وأسلوبه، عن الوصف والتحليل، ورسم الشخصيات، وما إلى ذلك من عناصر قصصية ضرورية لنجاح القصة الفنية، ومجال القصة الوحيد هو النثر، الذي نشأت القصة.
ظلاله وصارت تتخذ لغة في جميع الآداب2، وهذا لا يمنع من اتساع الشعر للأقاصيص القصار، التي لا تحتاج إلى عناصر قصصية تحتم مرونة
1 له بعض القصص الشعرية التي ظهرت قبل ذلك مثل "نكبة نافارين" و"مفخرة رشيد"، الأولى سنة 24 والثانية سنة 1925.
2 انظر: الشعر المصري بعد شوقي للدكتور محمد مندور الحلقة الثانية ص19-21.
النثر، بل تبدو كخاطرة أو تجربة شعرية لا يضيق بها الشعر، كذلك لا يعارض هذا ما كان من صوغ الملاح شعرًا -وهي في حقيقتها قصص طوال- وذلك؛ لأن الملاحم كانت تعتمد أساسًا على الأساطير، وتضرب في شعاب الخيال، وهي أمور ألصق بسذاجة الشعر وطبيعته، ولم تكن الملاحم قصصًا بالمفهوم الفني، الذي يتطلب تحليلا للمواقف، ورسمًا للشخصيات وإبرازًا لأبعادها النفسية والاجتماعية والأخلاقية، حتى يضيق بها الشعر كما ضاق بمحاولة أبي شادي، فتلك المحاولة بعيدة عن النجاح، حيث لم تحقق عملا قصصيًا جيدًا، ولم تقدم نصًا شعريًا ممتازًا، ففي الجانب القصصي إملال وإسهاب، وبعد عن خصائص فن القصص، وفي الجانب الشعري فتور ونظم، ونأي عن رونق فن الشعر، ويكفي -شاهدًا على ذلك- أن نقرأ مثل هذين البيتين اللذين يتحدث فيهما الشاعر في قصة "إحسان"، عن الخاطبة الحاجة "حليمة"، وما لها من تجارب وخبرات:
ويقال مصر كَحلةٍ
…
ومثالها كالمغرفة
فلها اطلاع واسع
…
ولها اختيار المعرفة1
ولكون سر النجاح عند شعراء هذا الاتجاه هو إدراكهم لطبيعة اتجاههم، ومحاولتهم تنمية هذه الطبيعة لا مسخها؛ نجد أن أنجح محاولة لهم في ميدان الشعر القصصي2، هي محاولة الشاعر الهمشري، التي تمثلها قصيدته القصصية الطويلة "شاطئ الأعراف"، التي كتبها سنة 1929، ونشر أجزاء منها في السياسة الأسبوعية: ثم نشرها كاملة في أبولو سنة 1933 3، وتلك القصيدة تحكي رحلة خيالية يقوم بها الشاعر إلى الشاطئ الذي يقع وراء الحياة،
1 انظر: عبده بك لأحمد زكي أبي شادي ص16.
2 من المحاولات الناجحة "أرواح وأشباح" و"أغنية الرياح الأربع" لعلي محمود طه، ولكنهما من نتاج الفترة التالية، الأولى سنة 1942 والثانية سنة 1943.
3 انظر: جماعة أبولو لعبد العزيز الدسوقي ص565، وانظر الهمشري لصالح جودت ص33-64.
ويشرف على عالم الموت، "بعد أن يخدر الموت شكاته"، وتحمله "سفينة الذكريات" إلى هذه الرحلة العجيبة.
وهذه الرحلة قد اتخذت مجالها عالمًا آخر غير عالمنا، يشبه عالم المعري في "رسالة الغفران"، وعالم "دانتي" في "الكوميديا الإلهية"، وقد عرض الشاعر في هذا المجال أحداثًا خيالية، وجسم معاني تجريدية، تجري بينها تلك الأحداث، فهناك "بحر الوقت"، الذي يتسرب من فتحات في "هيكل الليالي"، وهناك "سفن الموت" التي تحمل كل شيء إلى "وادي العدم"، وهناك "مواكب الحياة"، التي تشرق أولًا بالبهة في "بحر الوقت"، ثم لا تلبث أن تتوارى في "هيكل الليالي"، وهناك بعد ذلك "إلهة الشعر" التي تعرض على الشاعر أن تصحبه إلى "الفردوس". وهناك "المغني" الذي يحاول أن يبعث لحنًا من قيثارته، فلا يخرج منها أي صوت.
والشاعر من خلال هذه الأحداث الخيالية، والمعاني المجسمة، يعبر عن حزن الإنسان وقلقه، وفزعه من نهايته المؤلمة التي تتجسم في الممات، كما يعبر -في الوقت نفسه- عن مأساته الخاصة، التي تتمثل في سوء الحظ في الحياة، وخيبة الأمل في الحب، وقسوة العيش في فقدان العزاء، لدرجة أن الشاعر لم يجد من يبثه شكواه في الدنيا، فراح يبحث عنه في الآخرة1.
فموضوع تلك القصيدة القصصية تجربة ذاتية؛ ولكن الشاعر استطاع أن يوسع أبعادها، فيجعل منها تجربة إنسانية، تعالج خوف البشر وقلقهم الدائم من المصير الحتمي المؤلم.
وقد صاغ الشاعر تلك التجربة في أسلوب شعري جيد، فيه الخيال الجنح، والعاطفة الجياشة، واللغة الجذابة، والموسيقى النابضة، وفيه -قبل ذلك- أهم خصائص هذا الاتجاه الابتداعي التي مضى عنها الحديث.
انظر: الشعر المصري بعد شوقي الحلقة الثانية ص17-18، وانظر: جماعة أبولو لعبد العزيز الدسوقي ص565-579، وانظر: الهمشري لصالح جودت ص63-64.