المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المقالة وتميز الأساليب الفنية - تطور الأدب الحديث في مصر

[أحمد هيكل]

فهرس الكتاب

- ‌محتويات الكتاب

- ‌مقدمات

- ‌مقدمة

- ‌تمهيد:

- ‌الفصل الأول: فترة اليقظة

- ‌أهم أسباب اليقظة

- ‌أسلحة علمية للحملة الفرنسية

- ‌ أول الاتصال الفعلي بالثقافة الحديثة:

- ‌الأدب وأولى محاولات التجديد

- ‌الشعر

- ‌ النثر:

- ‌الفصل الثاني: فترة الوعي

- ‌أبرز عوامل الوعي

- ‌اشتداد الصلة بالثقافة الحديثة

- ‌ إحياء التراث العربي:

- ‌ مؤسسات سياسية ومجالات ثقافية:

- ‌ الثورة الأولى:

- ‌الأدب وحركة الإحياء

- ‌أولا: الشعر

- ‌الاتجاه التقليدي وبعض لمحات التجديد

- ‌ ظهور الاتجاه المحافظ البياني:

- ‌ثانيًا: النثر

- ‌ الكتابة الإخوانية، واتجاهها إلى التقليد:

- ‌ الكتابة الديوانية وميلها إلى الترسل:

- ‌ المقالة ونشأتها:

- ‌ الخطابة وانتعاشها:

- ‌ الرواية ونشأة اللون التعليمي:

- ‌ المسرحية وميلادها:

- ‌ كتب الأدب وتجددها:

- ‌الفصل الثالث: فترة النضال

- ‌حوافز النضال واتجاهاته:

- ‌ من جرائم الاحتلال البريطاني:

- ‌ مراحل النضال وطرائقه:

- ‌ بعض معالم النضال المشرقة:

- ‌الأدب بين المحافظة والتجديد

- ‌أولا: الشعر

- ‌سيطرة الاتجاه المحافظ البياني

- ‌ ظهور الاتجاه التجديدي الذهني:

- ‌ثانيًا: النثر

- ‌ المقالة وظهور أول طريقة فنية للنثر الحديث:

- ‌ الخطابة ونشاطها:

- ‌ القصص بين استلهام التراث، ومحاكاة أدب الغرب:

- ‌ المسرحية وأولية الأدب المسرحي:

- ‌الفصل الرابع: فترة الصراع

- ‌دوافع الصراع ومجالاته

- ‌بين الروح الوطنية والانحرافات الحزبية

- ‌ بين نشوة النصر، ومرارة النكسة:

- ‌ نمو الحياة الثقافية:

- ‌ غلبة التيار الفكري الغربي:

- ‌الأدب وغلبة الاتجاه التجديدي

- ‌مدخل

- ‌أولًا: الشعر

- ‌ تجمد الاتجاه المحافظ البياني:

- ‌ انحسار الاتجاه التجديدي الذهني:

- ‌ ظهور الاتجاه الابتداعي العاطفي:

- ‌ثانيا: النثر

- ‌مدخل

- ‌المقالة وتميز الأساليب الفنية

- ‌ الخطابة وازدهارها:

- ‌ القصص واستقرار اللون الفني:

- ‌ المسرحية وتأصيل الأدب المسرحي:

- ‌مراجع الكتاب

- ‌المراجع العربية

- ‌المراجع الأجنبية

الفصل: ‌المقالة وتميز الأساليب الفنية

جـ- محاولات تجديدية:

ولعل المحاولة الوحيدة الجادة في مجال التجديد الشعري من جانب المحافظين هي تلك المحاولة التي قام بها شوقي لتطويع الشعر للمسرح، والحق أن هذه المحاولة ليست وليدة تلك الفترة التي يساق عنها الحديث، ولم يتجه إليها شوقي في تلك السنوات فقط، وإنما بدأها من قبل ذلك بسنين1، ولكن الحق أيضًا، أن شوقي كان قد انصرف عن كتابة المسرحيات الشعرية منذ خاب أمله بعد كتابة مسرحيته الأولى "علي بك الكبير"، التي ألفها في فرنسا سنة 1893، ولكنه تحت عبء الإحساس بالجمود، وإزاء الاتهام بالتخلف، وأمام هجمات دعاة التجديد في هذه الفترة؛ اتجه من جديد إلى الشعر المسرحي منذ سنة 1927، ووالي إخراج مسرحياته الشعرية من ذلك التاريخ حتى سنة 1932، فأخرج في هذه السنوات:"مصرع كليوباترا" و"مجنون ليلى" و"قمبيز" و"عنترة" و"الست هدى"، كما أعاد كتابة مسرحيته الشعرية الأولى "علي بك الكبير" بما يتلاءم مع مستواه الشعري والفني الجديد، وربما يجنبه الأخطاء التي تورط فيها حين أقدم على المحاولة لأول مرة2.

وربما اعتبرت محاولة أخرى لأحمد محرم، في المحل الثاني من هذه المحاولة؛ وذلك أنه أراد أن يطوع الشعر للقصص التاريخي الحماسي الطويل، فألف نحو سنة 1933 "ديوان مجد الإسلام3" ليحكي بالشعر سيرة

1 كتب أولى مسرحياته "علي بك الكبير"، وهو في باريس سنة 1893.

2 انظر: مسرحيات شوقي لمحمد مندور، والمسرحية في شعر شوقي للدكتور محمود شوكت.

واقرأ الدراسة التي كتبتها عن مسرحيات شوقي في الفصل الخاص بها في كتابي "الأدب القصصي والمسرحي في مصر".

3 انظر: "ديوان مجد الإسلام"، المقدمة التي كتبها المشرف على تصحيحه محمد إبراهيم الجيوشي ص هـ.

ص: 285

الرسول وبطولاته وغزواته، وربما أراد محرم بهذا العمل أن يطرق بالشعر العربي فن الملحمة، ولكنه في الواقع لم يخرج ملحمة بالمفهوم الفني لهذا الجنس الأدبي، وإن طاب لكثير ممن تحدثوا عن هذا العمل أن يسموه "الإلياذة الإسلامية"1. وذلك أن الملحمة في حقيقتها، وكما عرفت -من أروع نماذجها التي خلفها "هوميروس"- تعتمد أساسًا على الأساطير الشعبية، والبطولات

الخيالية، التي تصل أحيانًا إلى جعل الأبطال في مصاف الآلهة، أو أنصاف الآلهة، وهي لهذا كله لا تعني بالوقائع التاريخية ولا الأحداث الحقيقية، وإنما تعني قبل كل شيء بالخيال الجامح والتصوير الأسطوري، مما كان يرضي ظمأ الجماهير إلى البطولة الخارقة، وتلهفها على الأبطال الخياليين2.

أما "ديوان مجد الإسلام"، فبرغم اتخاذه سيرة بطل عظيم مادة، وبرغم تسجيله لمعارك وانتصارات باهرات، فإن هذا العمل الشعوي قد التزم الوقائع التاريخية، وسجل الأحداث الحقيقية، ولم يعتمد أصلًا على الأساطير ولم يحكم الخيال؛ ثم هو بعد ذلك قد التزم في البناء الفني شكل القصائد الغنائية المتتالية، التي تؤلف في جملتها ديوانًا ذا موضوع واحد، هو حياة محمد صلى الله عليه وسلم، وبطولاته وغزواته.

وقد درج الشاعر على أن يقدم بين يدي معظم القصائد -بمقدمة نثرية تجمل الأحداث التاريخية التي ستعالج فيما يلي من أبيات، كذلك درج على التزام الوزن والقافية في كل قصيدة تعالج فصلًا، أو موضوعًا معينًا، ثم تغيير الوزن والقافية في القصيدة الأخرى، وهكذا.

ومن هنا نرى أن أهم تجديد في هذا العمل، هو معالجته في ديوان

1 يفهم من المقدمة أن الشاعر لم يطلق على هذا العمل اسم "الإلياذة الإسلامية"، وإنما كان ذلك من إضافات الآخرين. انظر المقدمة ص ي.

2 انظر: المدخل إلى النقد الأدبي الحديث للدكتور محمد غنيمي هلال ص70، وما بعدها وانظر: الأدب ومذاهبه للدكتور محمد مندور ص22-25.

ص: 286

كامل لموضوع واحد، هو سيرة الرسول وبطولاته وغزواته، أما بعد ذلك فهو -في جملته- قصائد غنائية تستلهم مادة تاريخية، ولا تؤلف ملحمة إلا على سبيل التجوز، واعتبار الحديث عن البطولة بالشعر المتسم بالطول والإفاضة، كافيًا لإطلاق هذا الاسم1.

وهذه أبيات من القصيدة الأولى، التي تحمل عنوان:"مطلع النور الأول"، وفي هذه الأبيات يتحدث الشاعر عن ثبات محمد صلى الله عليه وسلم؛ وعدم استجابته لإغراء قومه بالملك والمال، حتى يصرفوه عن دعوته:

جاءه عمه يقول: أترضى

أن يقيموك سيدًا أو أميرا

ويصبوا عليك من صفوة الما

ل، حيًا ماطرًا وغيثًا غزيرا

لو أتوني بالنيرين لأعرضـ

ـت أريهم مطالبي والشقورا2

إن يشيروا بما علمت فإنى

لأدع الهوى وأعصي المشيرا

دون هذا دمي يراق، ونفسي

تطعم الحتف رائعًا محذورًا3

على أن محاولة شوقي برغم نجاحها، إنما كانت محاولة للتجديد في فن الشعر بعامة، وليست محاولة للتجديد في مجال الشعر الغنائي بخاصة، فهي تهدف إلى عمل شعر "درامي"، وهو نوع من الشعر مغاير في حقيقته للشعر الغنائي من الناحية الفنية، وإن خدمت الشعر العربي بوجه عام، وفتحت أمامه ميدانًا من أخصب الميادين.

1 منذ عصر النهضة حاول عدد من الأدباء في العالم عمل ملاحهم بمفهومات مختلفة عن المفهوم القديم للملحمة، فمثلًا وجدت الملحمة الأدبية التي تعتمد على الفكرة، والمعاني المجردة، والتي تقابل الملحمة التاريخية التي تعتمد على التاريخ الممزوج بالأساطير، لكن ملحمتي هومير بقيتا تمثلان النسق الأعلى للملاحم وترشمانه. انظر: المفهوم الصحيح لهذا النوع الأدبي في الأدب ومذاهبه للدكتور محمد مندور ص22-25، وانظر: الأدب وفنونه للدكتور عز الدين إسماعيل ص126-128.

2 الشقور: الحاجات والأمور المتصلة بالقلب، جمع شقر.

3 ديوان مجد الإسلام ص5.

ص: 287

لهذا نستطيع أن نقرر: إنه باستثناء محاولة شوقي الناجحة -أو برغمها- قد تجمد الاتجاه الشعري المحافظ في هذه الفترة، حيث لم يضف جديدًا إلى مجاله الموضوعي، ولم يصب تجديدًا في أسلوبه الفني، وحيث وقف عند المرحلة التي وصل إليها، منذ وصل إلى قمته مع أمير الشعراء.

وقد سار في هذا الاتجاه الشعري المحافظ بعد جيل شوقي، جيل آخر تمثل في علي الجارم، ومحمد الأسمر وعزيز أباظة، وعلي الجندي ومحمود غنيم وغيرهم. ولكن بموت شوقي سنة 1932، ماتت سيادة هذا الاتجاه، وظل كل السائرين في طريقة يحاولون جاهدين أن يقربوا من قمته الشامخة، التي علاها كثير من الجليد.

ص: 288

2-

‌ انحسار الاتجاه التجديدي الذهني:

إذا كانت الظاهرة الأولى من ظواهر الشعر في هذه الفترة، هي ظاهرة تجمد الاتجاه المحافظ البياني، فالظاهرة الثانية هي ظاهرة انحسار الاتجاه التجديدي الذهني1، فقد شهدت هذه الفترة انحسار هذا الاتجاه كمًّا وكيفًا، حتى أوشك أن يختفي من الحياة الأدبية، لولا جهود العقاد وإصراره وأصالته، التي حفظت لهذا الاتجاه الاستمرار، برغم ما أحاط به من معوقات.

وقد من أهم أسباب انحسار هذا الاتجاه -ومن أهم مظاهره أيضًا- توقف شكري عن إصدار دواوين جديدة، بعد أن أصدر ديوانه السابع "أزهار الخريف" سنة 1918. وقد كان هذا التوقف من جانب شكري، بسبب تأزمه النفسي، نتيجة لإحساسه بخيبة الأمل، وعدم نيله ما كان يطمح إليه من مجد أدبي لم يحققه له إصدار سبعة دواوين، ثم نتيجة لعدد من الصدمات في حياته العامة وصلاته الخاصة2،

1 اقرأ تفصيل القول عن هذا الاتجاه وظهوره، وخصائصه في الفصل الثالث، المقال رقم 2 من المقالات الخاصة بالشعر.

2 انظر: ديوان عبد الرحمن شكري تحقيق نقولا يوسف: المقدمة ص85 وما بعدها.

ص: 288

ربما كان من أقساها عليه إقذاع صديقه المازني في نقده، وإقرار صديقه العقاد لهذا النقد، بنشره في كتاب الديوان الذي أصدراه معًا، والذي اتهم فيه شكري بالجنون، وسمي صنم الألاعيب، ونصح بالانصراف عن التأليف ليريح أعصابه المختلة، ويريح القراء من جهوده العقيمة1!!

كذلك كان من أسباب انحسار هذا الاتجاه -ومن مظاهره أيضًا- انصراف المازني عن الشعر، منذ أصدر ديوانه الثاني سنة 1917، فقد اتجه إلى الصحافة، وآثر القصة والمقال من بين فنون الأدب، حيث لم يعد يرى الشعر كافيًا لسد حاجاته أولًا، ولا للتعبير الطليق عما يريد أن يعالج من شئون الحياة ثانيًا، وقد حول تأملاته وذهنياته الشعرية، إلى لون من السخرية الواعية، أجاد استخدامه فيما كان يكتب من مقالات اجتماعية، ومن قصص أو صور قلمية2.

وهكذا بقي العقاد وحده من زعماء الاتجاه التجديدي الذهني يواصل كتابة الشعر، ولكنه لم يجعل الشعر همه أو فنه الأدبي الأول، بل انصرف هو الآخر إلى الصحافة والكتابة السياسية أولًا، ثم إلى التأليف الأدبي والإسلامي أخيرًا، حتى اعتبر في طليعة الكتاب السياسيين في أوائل هذه الفترة، ثم اشتهر كعلم من أعلام الكتابة الأدبية والإسلامية في آخريات تلك السنوات3.

1 انظر: الديوان جـ1 ص48 وما بعدها، وجـ2 ص85 وما بعدها.

هذا وقد نشر شكري بعد فترة من توقفه عددًا من القصائد المتفرقة حين كان يلح عليه خاطرًا، أو فكرة وحين كان يتغلب طبعه الأدبي على تأزمه النفسي، فقد نشر قصيدة الطفل في الهلال في أغسطس سنة 1932، ثم نشر عدة قصائد في سنتي 1935 و 1936 بالرسالة والمقتطف، والمجلة الجديدة، ثم عاد فنشر بعض القصائد في سنة 1949.

انظر: مقدمة ديوان عبد الرحمن شكري بقلم نقولا يوسف ص10-11.

2 انظر: أدب المازني للدكتورة نعمات فؤاد ص113-114، ومحاضرات عن إبراهيم المازني للدكتور محمد مندور ص41.

3 انظر: مع العقاد لشوقي ضيف ص38-51. وانظر: العقاد دراسة وتحية=

ص: 289

وبرغم أن العقاد في هذه الفترة لم يجعل الشعر همه أو فنه الأول، قد ظلت دواوينه تتوالى دون انقطاع، بل لقد أخرج في عام وحد من أعوام تلك الحقبة ديوانين اثنين..

فبعد أن أخرج الجزء الأول من ديوانه الأول سنة 1916، ثم الجزاء الثاني سنة 1917، أخرج الجزء الثالث من هذا الديوان سنة 1921، ثم جمع تلك الأجزاء وضم إليها الجزء الرابع، وسمى كل ذلك:"ديوان العقاد"، ونشره سنة 1928 1.

وفي سنة 1933، أخرج العقاد ديوانين آخرين، الأول باسم "وحي الأربعين"، والثاني باسم "هدية الكروان"، ثم أخرج سنة 1937 ديوان المسمى "عابر سبيل2".

والملاحظ على شعر العقاد الذي ظهر في تلك الفترة، أنه قد سار -في جملته- على المبادئ التي ارتضاها هو وزميلاه شكري والمازني منذ الفترة السابقة، وهي المبادئ التي تقوم قبل كل شيء على عدم اعتبار الشعر المحافظ البياني مثلًا أعلى للشعر في العصر الحديث، والتي تهتم بالتجديد في موضوعات الشعر، وطريقة أدائه، وتعني في المحل الأول بنفس الشاعر وأصالته، والتي تعطي قيمة كبرى للخيط الذهني في النسيج الشعري، وتحاول محاولة جادة لتحقيق الوحدة العضوية وصدق التجربة الشعرية3، كل هذا مع توفيق أحيانًا وإخفاق في بعض الأحايين، وخاصة حين يطغى الفكر، فيفسد طبيعة الشعر4.

= ص 310 وما بعدها، لترى أن أعظم كتبه الأدبية ظهرت في الثلاثينات، وأن عبقرياته ظهرت في الأربعينات.

1 انظر: ديوان العقاد كلمة ختام ص351، والعقاد دراسة وتحية ص310، ومع العقاد لشوقي ضيف ص138-139.

2 وبعد ذلك أخرج "أعاصير مغرب" سنة 1942، ثم "بعد الأعاصير" سنة 1950.

3 انظر: تفصيل هذه المبادئ في الفصل الثالثل، المبحث جـ من مباحث المقال رقم2 من المقالات المخصصة للشعر.

4 انظر: The Name and Nature of poety. Hausman p.47

ص: 290

ففي الجزء الثالث من ديوان العقاد الأول، هذا الجزء الذي ظهر سنة 1921، نراه يعني بالتأملات الفكرية، والقضايا الذهنية، التي تصل أحيانًا إلى درجة التفلسف، كما نراه يبتعد عن التأثير بالقيم البيانية، ويركز اهتمامه على التأثير بالقيم الفكرية، ثم نراه يجعل صدق التجربة الشعرية، وتحقيق الوحدة العضوية في المحل الأول:

ومما يؤيد ذلك هذا النموذج الذي يتحدث فيه العقاد عن الإنسان، وحريته الفطرية، وما يكبلها به الإنسان نفسه من قيود مختلفة، وقد سمى الشاعر هذا النموذج "حانوت القيود"، وفيه يقول:

تزود منه الناس في كل حقبة

وحجوا إليه موكبًا بعد موكب

يصيحون فيه بالقيود كأنهم

سراحين في واد من الأرض مجدب

فمن قائل: عجل بقيدي فإنني

طليق، ومن عان كثير التقلب

إذا أخطأ الأغلال قطب وجهه

كئيبًا، وإن أثقلنه لم يقطب

فهذا إلى قيد من العقل ناظر

وما العقل إلا من عقال مؤرب

يخفض من أهوائه كل ناهض

ويغلب من آماله كل أغلب

ويمشي بأغلال التجارب معجبًا

على غبطة منه لمن لم يجرب

وهذا إلى قيد من الحب شاخص

وفي الحب قيد الجامح المتوثب

ينادي: أنلني القيد يا من تصوغه

ففي القيد من سجن الطلاقه مهربي

أدره على لبي وروحي ومهجتي

وطوق به كفى وجيدي ومنكبي

ورصعه بالحسن المسوم وأجله

بكل سعيد في المناظر طيب

عزيز علينا أن نعيش وحولنا

أسارى الهوى من فائز ومخيب1

وفي الجزء الرابع من ديوانه الأول، الذي صدر سنة 1928، ومعه كل الأجزاء الثلاثة السابقة؛ نرى العقاد يسير في نفس الخط التجديدي الذهني، وربما يصل فيه إلى درجة أكثر نضجًا وأتم استراء، بل قد يصل إلى حد من التأمل الفلسفي ينتهي به -في بعض التجارب- إلى فلسفة السخط

1 انظر: ديوان العقاد ص204-205.

ص: 291

والرفض، والإقرار "بلا جدوى شيء في هذا الوجود"، ففي ذلك الجزء من ديوان العقاد، نراه -مثلًا- يقول في قطعة بعنوان "سيان":

يا شمس ما ضرك لو لم تشرقي؟

يا روض ما ضرك أو لم تعبق؟

يا قلب ما ضرك لو لم تخفق؟!

سيان في هذا الوجود الأحمق

من كان مخلوقًا ومن لم يخلق1!!

وإنما قلت: "إن شعر العقاد في تلك الفترة قد سار -في جملته-" على المبادئ التي ارتضاها هو وزميلاه من قبل، ولم أقل: قد سار كله على تلك المبادئ؛ لأن العقاد كان في بعض هذا الشعر يفعل فعل الشعراء المحافظين، من حيث النظم في المناسبات والسياسات والإخوانيات، التي تصل أحيانًا إلى حد التفاهة. وليس من شك أن روح الفترة التي عرفنا أنها كانت فترة صراع سياسي، قد أثرت على العقاد، فحادت به -بعض الشيء- عن الطريق الذي رسمه هو وصاحباه من قبل، وليس من شك أيضًا في أن ارتباط الشاعر ببعض الهيئات، وصلته ببعض الأصدقاء، قد كان من العوامل التي ورطته في بعض شعر المناسبات والإخوانيات، إلى جانب ما ورطته فيه صراعات الفترة من شعر السياسيات.

فمثلًا نرى العقاد في الجزأين الثالث والرابع من ديوانه الأول، قد أورد قصائد تخالف ما أخذ به نفسه هو وصاحباه من قبل، وتماثل ما أخذه على خصومه، حين هاجم رثائهم، وأمداحهم وتهانيهم، وما إلى ذلك من شعر المناسبات. فنحن نطالع له في الجزء الثالث قصيدة رثاء السلطان حسين2، وأخرى في رثاء محمد

فريد3، وثالثة في رثاء الطلبة الذين ذهبوا ضحية حادث قطار في إيطاليا4.

كما نطالع له في الجزء الرابع قصيدة في سعد زغلول بمناسبة عودته من

1 انظر: ديوان العقاد ص298.

2 انظر: ديوان العقاد ص218-219.

3 انظر: ديوان العقاد ص228-231.

4 انظر: ديوان العقاد ص231-233.

ص: 292

منفاه سنة 1923 1. ثم نطالع بعد تلك القصيدة مباشرة قصيدة أخرى في ذكرى مرور أربعين يومًا على وفاة سعد2.. كما نطالع بعد ذلك في أواخر الديوان قصيدة ثالثة3 في سعد أيضًا قالها العقاد بمناسبة زيارة الزعيم الوفدي لمدينة أسوان سنة 1923.

وما نراه في الجزأين الثالث والرابع من ديوان العقاد الأول، نراه فيما صدر له بعد ذلك من دواوين، فنراه في "هدية الكروان"، قد جعل معظم الديوان لموضوعات تسير في خطه الشعري الحقيقي، بل قد جعل قسمًا كاملًا من الديوان لمناجاة طائرة الكروان، وعرض كثير من القضايا العاطفية والفكرية من خلال هذه النجوى، ومن ذلك قصيدة "اليوم الموعود" التي يقول فيها:

لي جنة يا يوم أجمع في يدي

ما شئته من زهرها المتبسم

وأذوق من ثمراتها ما أشتهي

لا تحتمي مني ولا أنا أحتمي

لم آس بين كرومها وظلالها

إلا على ثمر هناك محرم

فكأنها هي جنة في طيها

ركن تسلل من جحيم جهنم

أبدًا يذكرني النعيم بقربها

حرمان مرؤود وعزة معدم

وأبيت في الفردوس أنعم بالمنى

وكأنني من حسرة لم أنعم4

ولكننا نرى في الديوان نفسه أن الشاعر قد أورد بعض التهاني والتقريظات5، بل نراه ينظم قصيدة في وصف البيرة على لسان طفل، فيقول كلامًا دون مستوى العقاد، واتجاهه بمسافات ومسافات، وحسبنا أن نقرأ مطلع هذه القصيدة الذي يقول فيه:

1 انظر: ديوان العقاد ص277-280.

2 انظر: ديوان العقاد ص281-292.

3 انظر: ديوان العقاد ص247.

4 انظر: "هدية الكروان" ص48.

5 من ذلك تهنئة لمكرم عبيد حين أجرى عملية جراحية، وتهنئة لحافظ جلال بمناسبة خطبته، ومنه تقريض لبعض الأدباء.

ص: 293

البيلا البيلا البيلا

ما أحلى سلب البيلا1

وفي "وحي الأربعين" نرى العقاد -إلى جانب ما له من "تأملات في الحياة"، و"خواطر في شئون الناس" و"قصص وأماثيل" و"وصف وتصوير"، و"غزل ومناجاة" -نراه إلى جانب كل ذلك قد عقد بابًا باسم "قوميات واجتماعيات"، أورد فيه قصيدة ألقيت في حفل جمعية من جمعيات الإحسان، وأخرى قيلت بمناسبة عيد الاستقلال السوري، ومطلع هذه القصيدة يذكرنا بطريقة المحافظين الخطابية وجلجلتها البيانية، فهو يقول فيه:

ربع الشآم أعامر أم خالي

اليوم عيدك عيد الاستقلال2

كما نرى الشاعر إلى جانب كل ذلك قد عقد بابًا باسم "متفرقات"، وضمنه قصيدة في مشروع القرش، كما ضمنه أبياتًا في إهداء كتاب، وقصيدتين في رثاء الكاتب محمد السباعي، والشاعر حافظ إبراهيم.

بل نجد الشاعر في هذا الديوان، يقدم للقراء ما يشبه الاعتذار، عن اكتفائه بما قدم فقط من شعر قليل متصل بالمناسبات المصرية، وعن عدم إيراده لكل ما قد قال في تلك المناسبات من شعر، وفي ذلك يقول:

"اكتفينا بما نقدم في هذا الباب، ولم ننشر فيه كل القصائد التي نظمت في المناسبات المصرية، رعاية لعهد الائتلاف"3.

وفي ديوان "عابر سبيل" نجد العقاد يسير في اتجاهين متضادين، أو -على الأقل- متباعدين أشد التباعد، فنحن نجده أولًا يبلغ حد المبالغة في رعاية مذهبه الشعري، الذي يرى أن موضوع الشعر هو كل ما يقع على الحس ويثير الوجدان، حتى ولو كان أبسط الأشياء، ومن هنا يجعل القسم الأول من هذا الديوان نماذج تطبيقه لهذه النظرية، فيتحدث عن جملة أشياء

1 انظر: هدية الكروان ص139.

2 انظر: وحي الأربعين ص146.

3 انظر: وحي الأربعين ص152.

ص: 294

مما يقع في طريق عابر السبيل، وتقع عليه عينه كل يوم، "كالبيت" و"أصداء الشارع" و"عسكري المرور" و"الفنادق"، و"القطار العابر" و"المصرف" و"المتسول" و"جهات الدكاكين"، وهو خلال حديثه عن هذه الأشياء -التي لا تلفت الشعراء عادة- يستبطن الأسرار التي تحتويها، ويكشف المعاني الإنسانية التي تعكسها، ويستخرج العبر الكونية التي وراءها، فهو يعمل ذهنه وفكره بل فلسفته في أشياء قد تبدو أبعد ما تكون عن الذهن، والفكر والفلسفة، ومن أمثلة ذلك قوله عن "الفنادق" مثلًا:

حسب الفنادق أن تذكرنا

مر الفناء بكل من يحيا

تبدو الوجوه لعين عابرها

وتغيب عنه كأنها رؤيا

في كل توديع وتفرقة

شيء من التوديع للدنيا1

ومن أروع أمثلة هذا الباب في "عابر سبيل"، قول العقاد في "وجهات الدكاكين":

إن الدكاكين التي عرضت

تلك المطارف تعرض النوبا

تحكي الفواجع كلهن لنا

صدقًا، ولا تحكي لنا كذبا

هذا الستار، فنح جانبه

تجد القضاء يهيئ اللعبا

انظر إلى النساج منحنيًا

يطوي بياض نهاره دأبا

وانظر إلى السمسار مقتصدًا

أو طامعًا في الربح مغتصبا

وانظر إلى التجار، ما عرفوا

غير النضار وعده تعبا

وانظر إلى الشارين قد سمحوا

بالمال يقطر من دم صببا

وانظر تر الحسناء لابسة

لا تلتمس غير الهوى أربا

لو تعرف الحسناء ما صنعت

شقت جيوب ردائها رهبا

هذا زمان العرض فانتظروا

عرضًا يرينا الويل والحربا

بهر النفوس بكل ظاهرة

وطوى جمال النفس محتجبا

فالويل للعين التي امتلأت

والويل للقلب الذي نضبا2

1 انظر: عابر سبيل ص37.

2 انظر: عابر سبيل ص25.

ص: 295

ثم نحن نجد الشاعر بعد هذه المبالغة في الذهنية، والتفلسف والابتعاد عن الموضوعات المعروفة إلى موضوعات هي أبعد ما تكون عن مجالات الشعراء؛ تجده يسير في اتجاه مضاد، أو على الأقل في اتجاه شديد البعد عن هذا الاتجاه. فهو نفس الديوان يعقد بابًا "للقوميات" يتحدث فيه عن "ذكرى الجهاد"، وعن "عيد بنك مصر"، كما يتحدث عن "ذكرى سيد درويش"، وعن نقل "جثمان سعد زغلول"، وعن "بعض المتطوعين في مشروع القرش"، وعن "بعض العهود السياسية"، وعن "دار العمال"

ثم يعقد بابًا آخر "للمتفرقات" يورد فيه قصائد في تكريم أحد البشوات بمناسبة حفل قد أقامه أبناء أسوان لهذا الباشا، ثم يورد كذلك قصيدة في تهنئة عروسين، وأخرى في طبيب عيون، كما يورد في هذا الباب قصيدة في الملك غازي ملك العراق، وقد نظمها لتكون أغنية كما يقول الديوان، وفيها يقول على طريقة المحافظين:

غازي قلوب الشعب بالكرم

والفضل والتوفيق والحسنى1

وهكذا نرى الاتجاه التجديدي الذهني قد انحسر في تلك الفترة، فهو بعد أن كان يندفع بقوة ثلاثة من الشعراء الرواد، الذين كانوا يجعلون الشعر فنهم الأول، أصبح يسير هادئًا بجهد شاعر واحد من هؤلاء الثلاثة، جعل من الشعر -في الغالب- مجالا للتعبير عن لحظات التوهج الذهني، وصرف جل طاقته إلى الكتابة السياسية والاجتماعية أولًا، والأدبية والإسلامية آخرًا، ثم هو بعد أن كان يأخذ نفسه بقيم شعرية صارمة، تباعد بينه وبين تقاليد الشعراء المحافظين، قد ترخص -بعض الشيء- في هذه القيم، حتى اقترب في بعض شعره من هؤلاء الشعراء، فمدح ورثى وهنأ وقرظ، وتورط في كثير من شعر المناسبات، التي كان يحارب التورط فيها هو وزميلاه من قبل.

ولكن برغم انحسار الاتجاه التجديدي الذهني في هذه الفترة، قد ظل يمثل -بنماذجه الجيدة- خطًّا مميزًا في مسيرة الشعر العربي الحديث، واستطاع ما تم على يد عملاقه العقاد، من نتاج شعري أولًا، ومن كتابات نقدية ثانيًا، أن يبقى -بعد رواده الأول- ممثلًا في نتاج نفر ممن تتلمذوا على العقاد وشعره، كمحمود عماد، وعبد الرحمن صدقي، وعلي أحمد باكثير. كما استطاع أن يسهم أعظم الإسهام فيما ظهر بعده من اتجاهات تجديدية أخرى، كان أهمها الاتجاه الذي هو موضوع الحديث التالي:

1 انظر: عابر سبيل ص141.

ص: 296

3-

‌ ظهور الاتجاه الابتداعي العاطفي:

بعد سنوات من مبدأ تلك الفترة، وبعد أن أصيب الاتجاه الشعري الأول بالتجمد1، ومنى الاتجاه الثاني بالانحسار2، كانت الظروف مهيأ لنشأة اتجاه شعري ثالث؛ فنشأ هذا الاتجاه ليعوض بحرارته وانطلاقه ما أصاب الحياة الشعرية من تجمد على أيدي البيانيين، ومن انحسار على أيدي الذهنيين.

وإذا كنت قد سميت الاتجاه الأول "الاتجاه المحافظ البياني" نظرًا لميله إلى المحافظة على القيم الشعرية التي خلفتها عصور الازدهار، ثم لاهتمامه بالناحية البيانية -قبل كل شيء- في التعبير الشعري3، وإذا كنت قد سميت الاتجاه الثاني "الاتجاه التجديدي الذهني"، نظرًا لاهتمامه بالتجديد في مفهوم الشعر وأسلوبه ووظيفته، ثم لإبرازه الجانب الفكري في مضمون الشعر4؛ أقول: إذا كنت سميت الاتجاهين السابقين على هذا النحو، فإنني أميل إلى تسمية هذا الاتجاه الثالث "الاتجاه الابتداعي العاطفي"، نظرا لكون الشعر السائر في هذا الاتجاه لا يتسم بالتجديد فحسب، وإنما يتجاوزه إلى الابتداع المنطلق المتحرر، ثم لكون هذا الشعر يجيش بالعاطفة

1 اقرأ تفصيل ذلك في المقال رقم 1 من المقالات الخاصة بالشعر في الفصل الرابع.

2 اقرأ تفصيل ذلك في المقال رقم 2 من المقالات الخاصة بالشعر في الفصل الرابع.

3 اقرأ تفصيل المقال عن هذا الاتجاه في الفصل الثاني -المقال رقم 2 من المقالات الخاصة بالشعر، ثم في الفصل الثالث المبحث جـ من مباحث المقال رقم 1 من مقالات الشعر.

4 اقرأ تفصيل القول عن هذا الاتجاه في الفصل الثالث -المقال رقم2 من المقالات الخاصة بالشعر.

ص: 297

الحارة المتدفقة، لا بالبيان المنمق، ولا بالذهن المتفلسف، وسوف تتضح تلك التسمية بصورة أكثر جلاء، حين أعرض للخصائص الفنية لهذا الاتجاه1.

أما تلك الظروف التي هيأت التربة لظهور هذا الاتجاه، وجعلت منه اتجاهًا ضروريًّا -في ذلك الحين- لسد الفراغ في الحياة الفنية، فأهمها ذلك الصراع الذي كان قد احتدم بين المحافظين البيانيين وعلى رأسهم شوقي، وبين المجددين الذهنيين وعلى رأسهم العقاد، فهذا الصراع الذي بدأ في أوائل القرن العشرين، ووصل إلى ذروته مع كتاب "الديوان" سنة 1921 2 قد كشف القناع عن محاسن كل من الاتجاهين ومساوئهما، فاتضح أجمل ما في الاتجاه البياني من روعة الأسلوب وجمال الصياغة، ورونق الموسيقى، ومائية الشعر، واتضح كذلك أجمل ما في الاتجاه الذهني من اهتمام بالصدق الفني، والتفات إلى الجانب الوجداني، واتجاه إلى التعبير عن نزعات النفس، وحقائق الكون، وأسرار الطبيعة، هذا إلى الاهتمام بالوحدة العضوية، والصورة الشعرية. كذلك برز -من خلال هذا الصراع- أقبح ما في الاتجاهين، من تأس لخطى السابقين، واتجاه إلى المناسبات، وميل إلى الخطابية عند المحافظين3، ومن برود ذهني، وجفاف شعري، وميل إلى العقلانية عند المجددين4، ومن هنا كانت الفرصة متاحة أمام جيل الشباب من الشعراء لكي يختار أحسن ما في الاتجاهين، ويتجنب أسوأ ما فيهما، وأن يمزج بين محاسن كل حين يقول شعرًا يريد له أن ينجو مما تورط فيه الجيلان السابقان من محافظين، ومجددين على السواء.

1 اقرأ الفقرة التي عنوانها "خصائصه من حيث الأسلوب، وطريقة الأداء"، والفقرة التي عنوانها "خصائصه من حيث المضمون".

2 انظر: الفصل الثالث -المقال رقم2 من مقالات الشعر، مبحث أ.

3 انظر: الفصل الثالث -المقال رقم 1 من مقالات الشعر، المبحث د.

4 انظر: الفصل الثالث -المقال رقم من مقالات الشعر، مبحث جـ.

ص: 298

وهكذا كان الصراع بين "الاتجاه المحافظ البياني" و"الاتجاه التجديدي الذهني"، من أهم العوامل التي هيأت لظهور "الاتجاه الابتداعي العاطفي"، وتبصيره بكثير من قيم الشعر، فأخذ ما أخذ، وطرح ما طرح، وليس من شك في أن جهود رواد "الاتجاه التجديدي" العقاد وشكري والمازني، قد كانت من أهم ما أفاد منه هذا "الاتجاه الابتداعي" الذي ليس إلا خطوة أفسح نحو التجديد1.

وهناك عامل ثان من العوامل التي هيأت لظهور هذا الاتجاه، وهو التأثر بشعر "الرومانتيكيين" الأوروبيين، وبالإنجليز منهم بصفة خاصة، فقد كان رواد هذا الاتجاه من شعراء الشباب -في ذلك الحين- مثقفين ثقافة أوروبية، ومجيدين بصفة خاصة للغة الإنجليزية، ومتعلقين بصفة أخص بشعر "الرومانتيكيين" الإنجليز2؛ فأحمد زكي أبو شادي3 الذي

1 انظر: "جماعة أبولو" لعبد العزيز الدسوقي ص27، 156 وما بعدها، 278، 315.

2 اقرأ اعتراف ناجي بتأثره هو وزملائه بالثقافة الإنجليزية في مقدمة: "أطياف الربيع" لأحمد زكي أبو شادي ص"ل"، واقرأ كذلك رائد الشعر الحديث لمحمد عبد المنعم خفاجى جـ2 ص281، واقرأ أيضًا: محمد عبد المعطي الهمشري لصالح جودت ص31، وعلي محمود طه للسيد تقي الدين السيد "مقدمة صالح جودت ص6 وص34، 35 من هذا الكتاب".

3 ولد أحمد زكي أبو شادي سنة 1892 بالقاهرة، وتلقى بها تعليمه الابتدائي والثانوي، ثم التحق بمدرسة الطب ومكث بها سنة، ثم انقطع عن الدراسة عامًا نتيجة لصدمة عاطفية، وسافر بعدها إلى إنجلترا لإتمام دراسته العالية هناك، وظل بها من سنة 1912 إلى سنة 1922، ثم عاد وقد أتم دراسة الطب، وتخصيص في علمي الأمراض الباطنية والجراثيم، وعمل بعد عودته إلى الوطن في الوظائف الحكومية بين القاهرة والإسكندرية وبورسعيد، حيث تدرج في السلم الوظيفي من طبيب "بكتريولوجي" إلى مدير معمل، إلى وكيل لكلية طب الإسكندرية سنة 1942، وفي سنة 1946 آثر الهجرة إلى أمريكا، واستقر بها حتى مات سنة 1955، وكان إلى تخصصه في الطب و"البكتريولوجي" هاويًا للنحالة والتعاون مفتونًا بالأدب والشعر بصفة خاصة، وقد كان أشرب حب الأدب من أبيه وأصدقاء أبيه، فهو ابن محمد بك أبي شادي المحامي، والصحافي صاحب جريدة "الإمام" الأسبوعية و"الظاهر" اليومية، وقد كان من أصدقائه ورواد مجلسه الأدبي: إسماعيل صبري وحافظ إبراهيم، وخليل مطران وأحمد محرم.

ص: 299

يعتبره عدد من الدارسين رائد هذا الاتجاه، كان قد عاش في إنجلترا نحو عشر سنوات لإتمام دراسته في الطب، وكان مفتونًا ببعض الشعراء "الرومانتيكيين" الإنجليز، وإبراهيم ناجي1، الذي يعد من أهم معالم

= ولا يمكن أن يغفل أثر خاله مصطفى نجيب الذي كان شاعرًا له جولات في ميدان الوطنية.

وقد بدأ أبو شادي نتاجه الشعري مبكرًا، حيث أصدر ديوانه الأول سنة 1910 باسم "أنداء الفجر"، ثم انقطع عن إصدار الدواوين إلى أن عاد من إنجلترا فتوالت دواوينه بغزارة، فأصدر "زينب" سنة 1924 و"مصريات" في نفس العام و"أنين ورنين" سنة 1925، و"شعر الوجدان" في السنة نفسها، و"الشفق الباكي" سنة 1927، و"مختارات وحي العام" سنة 1928 و"أشعة وظلال" سنة 1931، و"الشعلة" سنة 1932، و"أطياف الربيع" سنة 1933، و"أغاني أبي شادي" في نفس العام، و"الكائن الثاني" سنة 1934، و"الينبوع" في العام ذاته، و"شعر الريف" سنة 1935، و"فوق العباس" في العام نفسه، ثم انقطع حينًا عن قول الشعر وإصدار الدواوين، إلى أن عاد فأصدر سنة 1942 "عودة الراعي"، ثم "من الماء" سنة 1949، كل ذلك بالإضافة إلى بعض القصائد المطولة التي أصدرها منفصلة متناولًا بعض الأحداث القومية، أو المناسبات الأدبية، مثل "نكبة نافارين"، و"ذكرى شكسبير"، و"وطن الفراعنة"، وبالإضافة إلى قصصه الشعرية التي أشهرها:"عبده بك"، و"مها" وبالإضافة أيضًا إلى مسرحياته الغنائية التي اشتهر منها:"إحسان"، و"أردشير"، و"الزباء" و"الآلهة"، اقرأ عنه في: رائد الشعر الحيث لمحمد عبد المنعم خفاجى، والشعر المصري بعد شوقي لمحمد مندور الحلقة الثالثة ص25 وما بعدها، وجماعة أبولو لعبد العزيز الدسوقي ص132 وما بعدها، وفي الأدب العربي المعاصر لشوقي ضيف ص145 وما بعدها.

1 ولد إبراهيم ناجي سنة 1898 بالقاهرة، وتعلم بها حتى أتم الدراسة في كلية الطب سنة 1932، وعمل طبيبًا في مستشفيات سوهاج والمنيا والمنصورة، ثم القاهرة، وقد سافر في مهمة علمية إلى لندن، ثم عاد بعد أن دهمته سيارة هناك وعولج من كسر خطير، وعمل طبيبًا بمصلحة السكة الحديد، ثم رئيسًا للقسم الطبي بوزارة الأوقاف، وأخيرًا أحيل إلى المعاش في سن الخامسة والخمسين، فتفرغ لعيادته الخاصة بشبرا، ولم يطلب به الأجل بعد ذلك فقد وافته المنية يوم 24 مارس سنة 1953. وقد اعتمد في ثقافته الأدبية على جهوده الخاصة وهوايته الذاتية، التي تفتحت على ما كان لدى والده من مكتبة عامرة. وظهرت شاعرية ناجي مبكرة، وأذكتها حياته في المنصورة، كما أطلقتها تجربة عاطفية مريرة تفتح عليها شباب قلبه، فأكسبته عاطفية ملتهبة، وحزنًا يغلف بالدعابة، وبدأ ناجي=

ص: 300

هذا الاتجاه -إن لم يكن أهمها جميعًا- كان من المجيدين للغة الإنجليزية، ومن أقوياء الصلة بالشعر الإنجليزي "الرومانتيكي"، بالإضافة إلى معرفته بالفرنسية وقراءته لبعض الشعراء الفرنسيين، ومحمد عبد المعطي الهمشري1، الذي يمثل أبرز خصائص هذا الاتجاه كان أيضًا يقرأ الشعر

= بنشر شعره في الصحف في أواخر العشرينيات وهو في المنصورة، وتابع نشر شعره بعد ذلك بصورة أوضح منذ إنشاء مجلة "أبولو" سنة 1932، ونشر أول دواوينه سنة 1934 باسم "وراء الغمام"، ثم نشر سنة 1951، "ليالي القاهرة" ديوانه الثاني، وبعد وفاته نشر له ديوان ثالث باسم "الطائر الجريح" سنة 1953، قام باختياره من شعر ناجي الذي لم ينشر صديقه أحمد رامي، ثم رأت وزارة الثقافة جمع تراث ناجي الشعري، ونشره كله في ديوان جامع يضم ما نشره من شعره وما لم ينشر، فظهر هذا الديوان سنة 1961، وقد اشترك في إخراجه: محمد ناجي وأحمد رامي وصالح جودت، وقدم له مؤلف هذا الكتاب بمقدمة عن "فن ناجي".

اقرأ عنه في: ناجي -حياته وشعره لصالح جودت، وفي: ديوان ناجي "سيرة حياة الشاعر بقلم صالح جودت"، وفي: الشعر المصري بعد شوقي الحلقة الثانية ص57، وما بعدها. وفي: الأدب العربي المعاصر في مصر ص154 وما بعدها.

1 ولد محمد عبد المعطي الهمشري سنة 1908 بمدينة السنبلاوين، وتلقى دروسه الابتدائية، ودخل كلية الآداب، ولكنه لم يتم دراسته بها، حيث اضطر إلى قطعها سنة 1934، والحصول على وظيفة في وزارة الزراعة، حيث عمل محررًا بمجلة التعاون.. وقد مات، وهو في عمر الورد، وكان موته أثر عملية جراحية سنة 1938.

وقد تفتحت مواهبه الشعرية، وهو طالب بالمدرسة الثانوية بالمنصورية، واختلط هناك بناجي، وعلي محمود طه وكانا يكبرانه، فأفاد من صحبتهما، كما زامل صالح جودت، في المنصورة، ثم القاهرة. وقد بدأ بنشر شعره في بعض الصحف وهو في المنصورة، فنشر أجزاء من قصيدته "شاطئ الأعراف"، واحتفى بها الدكتور محمد حسين هيكل محرر السياسة في ذلك الحين، ثم واصل نشر شعره في أبولو بعد إنشائها، وبعد أن انتقل إلى القاهرة طالبًا في كلية الآداب، كما نشر بعض شعره في غير "أبولو" مثل مجلة التعاون، ولكنه لم يجمع ديوانًا وينشره قبل وفاته، وبقي شعره متناثرًا في الصحف والمجلات التي كان ينشر بها.

اقرأ عنه في: محمد عبد المعطي الهمشري لصالح جودت، وفي الشعر المصري بعد شوقي لمحمد مندور الحلقة الثالثة ص6 وما بعدها.

ص: 301

الإنجليزي، ويتمثل بعض خصائص شعرائه "الرومانتيكيين"، وكذلك علي محمود طه المهندس1؛ فقد كان على علم بالإنجليزية والفرنسية، وله قراءات في شعرهما وبخاصة الشعر الرومانتيكي، ومثله صالح جودت2،

1 ولد علي محمود طه بالمنصورة سنة 1902، وتلقى بها تعليمه الابتدائي وبعض الثانوي، ثم التحق بمدرسة الفنون التطبيقية، وتخرج منها سنة 1924، وعين بعد ذلك في هندسة المباني بالمنصورة، ثم نقل إلى القاهرة مديرًا للمعهد الخاص بوزارة التجارة، فمديرًا لمكتب الوزير بها، ثم ألحق بسكرتارية مجلس النواب، ومنذ سنة 1938، أخذ يكثر من الرحلات الصيفية إلى أوروبا، وقد خرج من خدمة الحكومة مع وزارة الوفد سنة 1944، ثم أعيد سنة 1949 وكيلًا لدار الكتب، ولكنه توفي في نفس العام، وقد اعتمد علي محمود طه في تحصيله الأدبي على هوايته الذاتية وتثقيفه الشخصي، وكان على علم بالإنجليزية والفرنسية كما يؤكد كتابه "أرواح شاردة"، الذي درس فيه بعض الشعراء الإنجليز والفرنسيين، وترجم مختارات من آثارهم، وبدأ ينظم الشعر منذ زمن مبكر، لكنه بدأ بنشره في أواخر العشرينيات في العصور، وفي أوائل الثلاثينيات في أبولو، ثم في الرسالة. وقد أظهر أول دواوينه "الملاح التائه" سنة 1934، ثم أذاع ديوانه الثاني سنة 1940 باسم "ليالي الملاح التائه"، وفي سنة 1941 أذاع كتابه "أرواح شاردة"، وأكثره مقالات عن الأدب الإنجليزي، والفرنسي، وألحق به قصيدة في دخول الألمان باريس، وفي سنة 1942 نشر قصيدته القصصية الطويلة "أرواح وأشباح"، وفي سنة 1943 نشر مسرحيته الغنائية "أغنية الرياح الأربع"، وفي نفس العام نشر ديوانه الثالث "زهر وخمر"، وفي سنة 1945 نشر ديوانه الرابع "الشوق العائد"، وفي سنة 1947 نشر ديوانه الخامس "شرق وغرب".

اقرأ عنه في: علي محمود طه للسيد تقي الدين السيد، وفي الشعر المصري بعد شوقي لمحمد مندور الحلقة الثانية ص81 وما بعدها، وفي الأدب العربي المعاصر في مصر لشوقي ضيف ص161 وما بعدها.

2 ولد صالح جودت بالقاهرة سنة 1912، وأتم دراسته بالثانوية بالمنصورة والعالية في القاهرة، حيث تخرج في كلية التجارة سنة 1937، وقد آثر أن يعمل في الحقل الأدبي والصحفي، فعمل بالأهرام والإذاعة ودار الهلال، وهو عضو بلجنة الشعر بالمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب، وقد نال جائزة الشعر التشجيعية سنة 1962، وكان قد نشر أول دواوينه سنة 1934 باسم ديوان "صالح جودت"، ثم نشر ديوانه الثاني سنة 1957 باسم "ليالي الهرم"، ثم نشر ديوانه الثالث باسم أغنيات على النيل سنة 1962، ثم ظهر له ديوان "ألحان مصرية" سنة 1968.

اقرأ عنه في الشعر المصري بعد شوقي الحلقة الثالثة ص52.

ص: 302

وحسن كامل الصيرفي1، وهكذا نرى أن هؤلاء الذين يعتبرون الدعامات الأولى لهذا الاتجاه -كانوا جميعًا ممن يقرأون الشعر "الرومانتيكي" ضمن ما يقرأون من أدب أوروبي، وكان لهم ميل خاص إلى" وردز وورث" Wordsworth" و"بيرون" Byron و"شيلي" Shelly و"كيتس" Keats من "الرومانتيكيين" الإنجليز2. بل إن بعض رواد هذا "الاتجاه الابتداعي العاطفي"، كان مفتونًا ببعض هؤلاء "الرومانتيكيين" لدرجة تشبيه نفسه به، واتخاذ حياته نمطًا لحياته، فأبو شادي مثلًا، كان يرى في حياة "كيتس" صورة لحياته، وكان يتحدث عن هذا الشاعر الإنجليزي، وكأنه يتحدث عن نفسه، وكان يرى في تلك المشابهة عزاء عما يعانيه من اضطهاد وعدم تقدير، ومما قاله في ذلك عن "كيتس": "إن أساليبه ونزعاته التجديدية لم ترض جمهرة الأدباء في البداية، ولكنها استحالت فيما بعد إلى مفخرة من مفاخر

الأدب الإنجليزي، وأن شخصيته الأدبية القوية لم تهضمها البيئة ولا المطالعات، بل هو الذي هضمها.. وأن المواهب الجديدة

1 ولد حسن كامل الصيرفي في دمياط سنة 1908، ولم تشأ الظروف أن يتم دراسته، فغادر المدرسة سنة 1925، وهو في أوائل الدراسة الثانوية، ولكنه استمر في تثقيف نفسه بالقراءة، والتحق سنة 26 بوظيفة في وزارة الزراعة، حيث ظل إلى سنة 42، فانتقل إلى سكرتارية مجلس النواب، وعندما أنشأت وزارة الإرشاد صحيفة المجلة انتدب سكرتيرًا لتحريرها.

وقد بدأ بنشر شعره في أواخر العشرينات بمجلة العصور، ثم نشر في أبولو حيث أنشئت سنة 1932، وأخرج أول دواوينه سنة 1934 باسم الألحان الضائعة، ثم نشر ديوانه الثاني سنة 1948 باسم "الشروق"، وله دواوين مخطوطة لم تنشر هي:"قطرات الندى" و"دموع وأزهار" و"رجع الصدى" و"حول النور".

اقرأ عنه في: الشعر المصري بعد شوقي لمحمد مندور، الحلقة الثانية ص111 وما بعدها.

2 انظر: علي محمود طه للسيد تقي الدين "المقدمة التي كتبها صالح جودت" ص6، وانظر: محمد عبد المعطي الهمشري لصالح جودت ص31، ورائد الشعر الحديث لمحمد عبد المنعم خفاجى جـ2 ص281، ومجلة البعثة الكويتية عدد إبريل سنة 1954.

ص: 303

قد لا يعترف بها اعترافًا منصفًا إلا بعد زوال صاحبها، وعلى الأخص إذا كان من الشباب؛ لأن الناس غالبًا عبيد ما تعودوه"1.

وهناك عامل ثالث من العوامل التي هيأت لظهور هذا الاتجاه، وهو التأثر بأدب المهجر2، وقد كان هذا العامل كبير الأثر بصفة خاصة عند الشعراء المحبين لهذا "الاتجاه العاطفي"، ولكنهم لا يجيدون، لغة أجنبية ولا يستطيعون الإفادة من الشعر "الرومانتيكي" في لغته الأصلية.

1 انظر: الينبوع لأحمد زكي أبو شادي "المقدمة" صفحات: ج، ط، ي.

2 بدأت هجرة إخواننا الشاميين إلى أمريكا نحو منتصف القرن الماضي، ونشطت تلك الهجرة بعد سنة 1860، وبخاصة بعد ما يسمى بمذبحة الستين، التي كانت فتنة طائفية بين المسلمين والمسيحيين في لبنان، ووصلت الهجرة إلى مداها في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل العشرين، وكانت أهم أسباب الهجرة: الاضطرابات والمعارك الدامية بين المسلمين والمسيحيين، ثم سوء معاملة بعض الحكام الأترك لأبناء الشام، ثم الفقر والقهر، والتطلع إلى الحرية والكسب، وأخيرًا روح المغامرة، والتنقل التي تكمن في إخواننا اللبنانيين سلائل الفينقيين.

وإذا كانت الهجرة قد بدأت نحو منتصف القرن الماضي، فإن الأدب المهجري لم يظهر إلا في أوائل القرن الحالي، وقد كانت ريادة أدباء المهجر لأمين الريحاني، وجبران خليل جبران، ثم تبعهما نسيب عريضه وعبد المسيج الحداد، ثم ميخائيل نعيمه وإيليا أبو ماضي، وقد التقى الجميع أخيرًا في "الرابطة القلمية" التي أنشئت في نيويورك سنة 1920، وكانت مجلة السائح لسان حال هذه الرابطة، والمنبر الذي يذيع أصوات أعضائها من أدباء المهجر الشمالي، وكان قد أنشأها عبد المسيح حداد منذ سنة 1912، كما أنشأ نسيب عريضة "الفنون" سنة 1913، وأخيرًا أنشأ إيليا أبو ماضي "السمير" سنة 1923.

هذا في المهجر، أما في المهجر الجنوبي فقد تأخر النتاج، والنشاط الأدبي بعض الوقت، فتكونت أولًا في سان باولو جميعة قبل الحرب الأولى، ثم تشكلت جمعية ثانية سنة 1922، وأخيرًا تكونت "العصبة الأندلسية" سنة 1933 بالبرازيل، وكان صحيفتها التي تحمل هذا الاسم أهم منابر المهجر الجنوبي، الذي كان عمده: الشاعر القروي رشيد سليم الخوري، وحليم الخوري شقيقه، ثم فوزي المعلوف، وشقيق المعلوف، ورياض المعلوف، وإلياس فرحات، وقد كان من أهم صحف المهجر الجنوبي العربية كذلك "الشرق" لموسى كريم، التي كانت تصدر من سنة 1927

ومعظم أدب المهجر يتسم بالرومانسية، ويتجه إلى العاطفية والابتداع، ويميل إلى الحنين والتأمل والحيرة، وتمجيد الأرض وإن كان أدب الشمال يغالي في تجديده حتى ليبعد أحيانًا عن أوضاع العربية كما أن حظ أدب الشمال من النثر أعظم من حظ أدب الجنوب، الذي يوشك أن يقتصر على الشعر.

"اقرأ: أدبنا وأدباؤنا في المهاجر الأمريكية لجورج صيدح، وشعراء المهجر لمحمد عبد الغني حسن، وشعراء الرابطة القلمية لنادر السراج".

ص: 304

ومعروف أن أدب المهجر المبكر الممثل في نتاج جبران خليل جبران، يغلب عليه الطابع الرومانسي، برغم أن معظمه نثر، ومعروف أيضًا أن أهم شعراء المهجر قد التقوا في دعوتهم التجديدية، بدعوة المجددين المصريين التي رادها العقاد وشكري والمازني1، غير أن شعر هؤلاء المهجريين كان أكثر من شعر المجددين انطلاقًا وتحررًا، كما كان أقل ذهنية وأغزر عاطفية، أو بعبارة أخرى، كان أشبه بشعر "الرومانتيكيين" الغربيين، ثم إن أدب المهجر نثرًا وشعرًا كان قد بدأ يذاع في مصر خلال كتب هؤلاء المهجريين، ودواوينهم وقصائدهم، التي كانت تنشر في بعض المجلات الأدبية حينذاك، مثل الهلال والمقتطف2، ومن هنا كان هذا الشعر

1 اقرأ: المقدمة التى كتبها العقاد لكاتب الغربال لميخائيل نعيمه، واقرأ: ثناء ميخائيل نعيمه على كتاب الديوان للعقاد والمازني، فى الغربال صـ 175-177، ففي ذلك يتضح اللقاء بين المجددين المصريين والمهجريين، فيما عدا تمسك المصريين بسلامة الأداء اللغوي، الذين كان يترخص فيه المهجريون.

2 كان نتاج جبران من أقدم ما عرف من أدب المهجريين، فقد بدأ نتاجه يذاع منذ سنة 1905، ومن أهم كتبه النثرية الجياشة بالرومانسية "عرائس المروج" و "الأجنحة المتكسرة" و"دمعة وابتسامة" و" الأرواح المتمردة"، وأشهر أعماله الشعرية "المواكب"، ويلي جبران ميخائيل نعيمه، الذى بدأ نتاجه الشعري يذاع بالعربية منذ سنة 1917، ثم إيليا أبو ماضي، الذي كان قد نشر ديوانه الأول بالأسكندرية سنة 1911، باسم"ديوان إيليا ضاهر أبو ماضى"، وواصل إخراج دواوينه بعد ذلك في المهجر، حيث بدأ بالجزء الثانى من ديوانه 1919، ثم أخرج الجداول سنة 1927، والحمائل سنة 1946، ومن نفس الجيل تقريباً رشيد أيوب الذى أصدر ديوانه "الأيوبيات" سنة 1917، ثم ديوانه الثاني "أغاني الدرويش" سنة 1928، ثم "هي الدنيا" سنة 1939.

وكذلك الشاعر القروي "رشيد سليم الخوري" الذي أخرج "الرشيديات" سنة 1917، ثم "القرويات" سنة 1922، وأخيراً ظهر ديوانه الكبير سنة 1953.

اقرأ: عن هؤلاء الأعلام: في أدبنا وأدباؤنا فى المهاجر الأمريكية لجورج صيدح صـ 266 وما بعدها، ص242 وما بعدها، وص 253 وما بعدها، وص 288 وما بعدها، وص 323 وما بعدها.

ص: 305

أحد العوامل التي هيأت لظهور هذا "الاتجاه الابتداعي العاطفي"، وكان أكثر المستفيدين من الشعر المهجري، هؤلاء الشعراء الابتداعيين العاطفيين الذين لم يتح لهم -حينذا- الاتصال المباشر بالشعر "الرومانتيكي" الغربي.

وربما كان الشعر المترجم الذي كان ينشره العقاد وشكري والمازني وغيرهم، عاملًا مشابهًا لهذا العامل، من حيث التأثير على طائفة من شعراء الشباب الذين تطلعوا إلى الابتداع، وفاضوا بالعاطفة، وآثروا هذا الاتجاه الشعري الثالث، دون اتصال مباشر بروافد ثقافية أجنبية، بل اعتمدوا -إلى درجة كبيرة- على الشعر المترجم عن "الرومانتيكيين"، كما اعتمدوا على شعر المهجر المشبه بدوره لشعر هؤلاء "الرومانتيكيين".

بقي عامل رابع من أهم العوامل التي شاركت في إظهار هذا الاتجاه بطابعه الابتداعي المنطلق، ونزعته الفردية الثائرة، ثم بسمته العاطفي الحزين، ونظرته الدامعة الساخطة، وهذا العامل ليس عاملًا فنيًا أو ثقافيًا كالعوامل السابقة، وإنما هو عامل اجتماعي، فقد سيطر على تلك الفترة التي يساق عنها الحديث، شعور جارف باستقلال الشخصية المصرية، وإحساس غامر بالحرية الفردية، وتشبع مستغرق بروح الثورة، وذلك لما تقدم من عوامل، كان في مقدمتها روح ثورة سنة 1919، ومشاركة كل القوى الوطنية فيها، ثم فوزها بإنهاء حماية بريطانيا، وإعلان الاستقلال، وصدور الدستور، وفتح البرلمان، وتأكيد ضمان الحريات1، وإلى هذا العامل الأول يرد ما كان عند أصحاب هذا الاتجاه من شعور بالشخصية، وإحساس بالفردية وتشبع بروح الثورة

ثم شهدت تلك السنوات التي

1 اقرأ المقال رقم 2 من المقالات الممهدة لدراسة الأدب في هذا الفصل.

ص: 306

ظهر فيها هذا الاتجاه ظلام الحياة الاجتماعية في مصر، بسبب فساد السياسة، وتأزم الاقتصاد، واضطهاد الحرية، مما كان نتيجة مباشرة لتعدد العدوان على الدستور، وتكرر إغلاق البرلمان، وتآمر قوى الشر على كل ما حققه الشعب من مكاسب بثورة سنة 1919، وكانت الملكية الباغية، والاستعمار الطاغي، والإقطاع المستغل، أهم أطراف هذا التآمر، الذي وصل إلى ذروته في عهد إسماعيل صدقي سنة 1930، على نحو ما اتضح في التمهيد لهذا الفصل1.. وإلى هذا العامل الثاني يرد ما كان من ضيق طائفة من الشباب الشاعر الحساس بالحياة، وتبرمه بالعيش، وشعوره بخيبة الأمل، فقد دفعته تلك الظروف الأخيرة إلى أن ينطوي ويهرب، ويبحث عن العزاء في الحب حينًا، وفي رحاب الطبيعة حينًا آخر، كما أغرته بأن يتشبث بالأحلام ويتعلق بالخيالات، ويهيم بالرؤى، ليلوذ بعالم أكثر شفافية، وأعظم رحابة وأفسح صدرًا، وهكذا هيأت ظروف الحياة الاجتماعية التربة في مصر لينمو بها هذا الاتجاه الذي فيه كثير من الخصائص الرومانسية2، وتآزرت تلك الظروف مع عوامل ثقافية وفنية أخرى، فكان هذا الاتجاه بجانبيه: الابتداعي المطلق، والعاطفي الجياش.

هذاوقد ألِف بعض الباحثين أن يحددوا تاريخ ظهور هذا الاتجاه بظهور مجلة "أبولو "سنة 1932، وتكوين جمعيتها في العام نفسه، باعتبار أن أهم شعراء هذا الاتجاه كانوا من بين جماعة "أبولو"، أو ممن ينشرون

1 اقرأ المقال رقم 1 من المقالات الممهدة لدراسة الأدب في هذا الفصل بعنوان "بين الروح الوطنية والانحرافات الحزبية".

واقرأ كذلك المقال رقم 2 وعنوانه "بين نشوة النصر ومرارة النكسة".

2 انظر: الشعر المصري بعد شوقي لمحمد مندور الحلقة الثانية ص4.

وانظر: جماعة أبولو لعبد العزيز الدسوقي ص271، وما بعدها.

ص: 307

شعرهم على صفحات مجلتها، وينالون تشجيع مؤسسها الدكتور أبي شادي1. كذلك درج بعض الباحثين على تسمية هذا الاتجاه باسم "جماعة أبولو"2 باعتباره قد انبثق من خلال تلك الجماعة التي أسسها أبو شادي، وبالغ البعض فسمى الاتجاه "مدرسة أبولو"3.

والحق أن هذا الاتجاه قد ظهر قبل ظهور مجلة "أبولو"، وتأسيس جمعيتها بسنين، حيث كان رواد هذا الاتجاه ينشرون شعرهم -قبل ظهور تلك المجلة في صحف ذاك العهد، التي كانت تعني بالأدب، كالسياسة الأسبوعية والبلاغ الأسبوعي، وكالمصور والهلال، والمقتطف وغيرها4، ثم إن مجلة "أبولو" -برغم أن صاحبها كان من أوائل رواد هذا الاتجاه- لم تكن وقفًا على اللون الشعري الذي يتسم بالابتداعية والعاطفية، بل كانت تفسح صفحاتها لكل الاتجاهات، حتى لأشدها محافظة وأكثرها تعلقًا بالقديم، فكانت تنشر لشوقي والرافعي، ومحرم، كما كانت تنشر

1 انظر: الشعر المصري بعد شوقي للدكتور محمد مندور الحلقة الأولى ص90 وما بعدها، والحلقة الثانية ص3 وما بعدها.

2 انظر: جماعة أبولو لعبد العزيز الدسوقي ص372.

3 انظر: أحاديث أبي شادي وناجي والشابي عن هذا الاتجاه، فكلها تسمية باسم مدرسة، واقرأ مثلًا مجلة أدبي سنة 1936 ص357، حيث يتحدث أبو شادي عن أبولو كمدرسة، وانظر:"أطياف الربيع" لأبي شادي -المقدمة التي كتبها ناجي، وفيها يتحدث عن أبولو ويسميها مدرسة. وانظر: الينبوع لأبي شادي -المقدمة التي كتبها الشابي حيث يتحدث كذلك عن الاتجاه، ويسميه مدرسة.

4 من أمثلة ذلك قصيدة للصيرفي بعنوان "مدى الحياة" منشورة في "العصور" العدد العاشر، يونية سنة 1928، وقصيدة أخرى له بعنوان "حبي" منشورة بالعدد السادس والعشرين أكتوبر 1929. وقصيدة لعلي محمود طه بعنوان "الطريد" منشورة في العدد الثلاثين، فبراير سنة 1930، ومن أمثلة ذلك أيضًا قصيدة "صخرة الملتقى" لإبراهيم ناجي، وهي منشورة في السياسة الأسبوعية سنة 1929، وأجزاء من "شاطئ الأعراف" لمحمد عبد المعطي الهمشري، وقد نشرت في السياسة كذلك سنة 1929، ثم قصيدة أخرى للهمشري نشرت في البلاغ سنة 1929 بعنوان "العيون الزرقاء"، انظر: محمد عبد المعطي الهمشري لصالح جودت ص48.

ص: 308

لناجي وعلي محمود طه والهمشري1، بل لقد وصل عدم التزامها بمذهب معين إلى حد أن جعلت أول رئيس لمجلس إدارتها زعيم المحافظين أحمد شوقي، على حين ضم المجلس شعراء من اتجاهات مختلفة بعضهم محافظ، وبعضهم مبتدع2.

ومن هنا لا أميل إلى جعل تاريخ ظهور هذا الاتجاه، هو مجلة "أبولو"، كما لا أميل إلى تسمية هذا الاتجاه باسم "جماعة أبولو"؛ لأن هذا الاتجاه قد ظهر قبل المجلة أولًا، ثم؛ لأن المجلة لم تكن وقفًا عليه ثانيًا.

ويمكن اعتبار سنة 1927 تاريخ ظهور هذا الاتجاه3، ففي هذا العام أخرج الدكتور أحمد زكي أبو شادي ديوان "الشفق الباكي"4 الذي يمثل-

1 وقد كتب في العدد الأول من الشعراء المحافظين: حسن القاياتي، وأحمد الزين، ومحمدالأسمر، وأحمد محرم، وصادق عنبر. انظر: أبولو العدد الأول سبتمبر سنة 1932، وانظر جماعة أبولو لعبد العزيز الدسوقي ص345-371، ففيه عرض للأسماء والموضوعات التي احتوتها المجلة.

2 اقرأ أسماء أعضاء مجلس الإدارة في العدد الثاني من أبولو، أكتوبر سنة 1932، وفي العدد الثالث نوفمبر سنة 1932، وقد كانوا: أحمد شوقي رئيسًا، وخليل مطران وأحمد محرم نائبي الرئيس، وأحمد زكي أبو شادي سكرتيرًا، ثم الدكتور إبراهيم ناجي، والدكتور علي العناني، وكامل الكيلاني، ومحمود عماد ومحمود صادق، وأحمد الشايب وسيد إبراهيم وعلي محمود طه، ومحمود أبو الوفا وحسن القاياتي وحسن كامل الصيرفي أعضاء، ثم اعتذر محمود عماد عن العضوية، فاختير الدكتور أحمد ضيف مكانه في أول اجتماع للمجلس، وبعد الاجتماع الأول بأربعة أيام توفي شوقي، فاجتمع المجلس اجتماعه الثاني وانتخب مطران رئيسًا، والدكتور علي العناني وكيلًا، وانتخب كذلك إسماعيل صبري الدهشان عضوًا بالمكان الذي خلا، انظر:"أبولو" عدد أكتوبر سنة 1932 وعدد نوفمبر سنة 1932.

3 انظر: "جماعة أبولو" لعبد العزيز الدسوقي ص274-286.

4 كتب على الديوان أنه صدر سنة 1926، ولكن في نهايته تنبيه إلى أنه تأخر حتى صدر سنة 1927، وقد ضم بعض شعر المؤلف حتى يوليو من هذا العام كقصيدتيه في رثاء، وتأبين الدكتور يعقوب صروف صاحب المقتطف "انظر: ص1336".

ص: 309

إلى حد كثير -كثيرًا من خصائص هذا الاتجاه، وفي نحو هذا التاريخ كان علي محمود طه وإبراهيم ناجي، ومحمد عبد المعطي الهمشري، وصالح جودت وحسن كامل الصيرفي؛ ينتجون طلائع شعرهم السائر في هذا الاتجاه، ويحاول بعضهم نشره في صحف ذلك العهد1.

على أن بعض هؤلاء الشعراء قد سبق هذا التاريخ الذي حدد نقطة ابتداء لظهور هذا الاتجاه، ونشر بعض شعره مبكرًا، كأبي شادي الذي أخرج ديوانه الأول سنة 1911 باسم "أنداء الفجر"، وكعلي محمود طه الذي نشرت له قصيدة في السفور سنة 1918 2، غير أن هذا الشعر المبكر لا يحمل طابع ذلك الاتجاه الابتداعي العاطفي، وإن نسب إلى شعراء صاروا فيما بعد من كبار الابتداعيين العاطفيين، فديوان أبي شادي الأول، وما تبعه من دواوين قبل "الشفق الباكي"، شعر مليء بالتقليدية والمحاكاة لشوقي، وغير شوقي من الشعراء المحافظين، وإن ضم بعض لمحات من التجديد أو الابتداع، وقصيدة علي محمود طه يغلب أنها ككل ماله من شعر مبكر، إن اتسم بعضه بالعاطفة الحزينة، وبعض لمحات الابتداع، فهو لا يمثل خصائص هذا الاتجاه "الابتداع العاطفي" ذات السمات المعينة في الموضوعات والأسلوب، والقيم الشعورية والفنية المختلفة، التي لم تتهيأ الظروف لإبرازها قبل سنة 1927.

ولذا يحسن صرف النظر عن هذا التاريخ المبكر لنتاج بعض شعراء هذا الاتجاه السابق لسنة 1927، كما يحسن صرف النظر عن التاريخ المتأخر الذي حدده البعض بظهور مجلة "أبولو"، وجمعيتها سنة 1932.

وإذا كانت سنة 1927 قد شهدت ميلاد هذا الاتجاه في شكل روافد

1 انظر: العصور العدد العاشر "يوليو سنة 1928، والسادس أكتوبر سنة 1929، والثلاثين "فبراير سنة 1930"، وانظر: كذلك السياسة الأسبوعية سنة 1929، والبلاغ الأسبوعي سنة 1929، ففي تلك الصحف قصائد لعلي محمود طه والصيرفي والهمشري وناجي.

2 انظر: علي محمود طه للسيد تقي الدين ص36.

ص: 310

صغيرة لا تكاد تلفت الأنظار، فإن سنة 1932 قد شهدت تجميع هذه الروافد في شكل تيار قوي واضح، قد أخذ مجراه في الحياة الأدبية من خلال مجلة "أبولو"، فقد كانت هذه المجلة فرصة لهؤلاء الشبان الابتداعيين العاطفيين لكي ينموا ويتضاعفوا ويشتدوا، ثم كانت سنة 1934 بمثابة موسم الفيضان لهذا التيار الجديد، حيث ظهرت في هذا العام الدواوين الأولى لمعظم شعرائه الرواد، فقد ظهر لعلي محمود طه "الملاح التائه"، وظهر لإبراهيم ناجي، "من وراء الغمام"، وظهر لحسن كامل الصيرفي "الألحان الضائعة"، وظهر لصالح جودت ديوانه الأول الذي سماه باسمه، وكان ظهور هذه الدواوين الأولى في عام واحد أشبه بمظاهرة فنية تعلن استواء هذا الوليد الذي رأى النور سنة 1927، ثم راح يدرج في رحاب "أبولو" سنة 1932، ثم اكتمل فتيًّا سنة 1934، فلفت أنظار النقاد الكبار من أمثال العقاد وطه حسين، فكتبوا عنه لأول مرة، وإن كانت كتابات العقاد، وطه حسين -في ذلك الحين- ليست في صالح هذا الاتجاه الجديد، لظروف كان أكثرها بعيدًا عن النقد والشعر كما سنرى فيما بعد1.

وإذا كنت لم أمل إلى تسمية هذا الاتجاه باسم "أبولو" لما أوضحت من أسباب، وآثرت تسميته باسم يحدد ابتداء طابعه الفني كما صنعت مع الاتجاهات السابقة، فإنني لا أميل كذلك إلى إطلاق اصطلاح "مدرسة" على هذا الاتجاه، وذلك؛ لأن المدرسة الأدبية تقوم أساسًا على دعائم فلسفية معينة، وتكون لها قيم فنية محددة؛ وذلك ما لا نجده -بدقة- في هذا الاتجاه الشعري؛ فهو لا يقوم على دعائم فلسفية تجعل لأصحابه فلسفة خاصة تغاير فلسفة الآخرين، وهو لا يلتزم قيمًا فنية صارمة تعزل شعراءه.

1 قسًا كل من العقاد وطه حسين في نقد بعض ما ظهر من دواوين، فكتب العقاد عن ديوان ناجي، وكتب طه حسين عن ديوان علي محمود طه، ثم عن ديوان ناجي، وكانت كل الكتابات عنيفة ومجرحة، ومشوبة باعتبارات سياسية وشخصية سوف تنضح في آخر هذا الفصل، وهي اعتبارات ليست غريبة على الطابع العام للفترة، وهو طابع الصراع الذي لعبت الحزبية فيه أهم الأدوار.

ص: 311

تمامًا عن قيم غيرهم من محافظين ومجددين، وإنما هو يختار أحسن ما رأى في الاتجاهات السابقة، ويفيد من الآداب الغربية، ويمزج بين هذه وتلك، ويضيف إليها كثيرًا من الخلق والإبداع، مما يشكل له مجموعة من الخصائص الفنية المشتركة التي تجعل منه اتجاهًا مميزًا بين اتجاهات الشعر، لكنها لا تصل به إلى مستوى المدرسة الفنية ذات الأسس الفلسفية المحددة، والقيم الفنية الفريدة.

على أن من بين أعلام هذا الاتجاه أنفسهم من نفي تقيد هذا الاتجاه بمذهب معين؛ فأحمد زكي أبو شادي يرى أن رفاقه من أصحاب هذا الاتجاه آمنوا بالرمزية والسريالية، والرومانسية والواقعية وغيرها، على درجات شتى، وإن ندر بينهم من اقتصر في شعره على مذهب وأحد من هذه المذاهب1، وقد سمى الاتجاه

مع ذلك مدرسة، وليس من شك في أن مثل هذه التسمية -بعد ما قرره هو نفسه- فيها كثير من التجوز.

وتلك الخصائص الفنية المشتركة التي يتسم بها هذا الاتجاه، منها ما يتصل بالموضوعات الشعرية وطبيعة التجارب، ومنها ما يتصل بالأسلوب الفني وطريقة الآداء، ومنها ما يرتبط بالألفاظ والمعجم الشعري، ومنها ما يرجع إلى الأوزان، والقالب الموسيقي.

أ- خصائصه المتصلة بالموضوعات، وطبيعة التجارب:

أما خصائص هذا الاتجاه المتصلة بالموضوعات، وطبيعة التجارب الشعرية، ففي مقدمتها الاهتمام بموضوع الحب والمرأة، وقد كان شعراء هذا الاتجاه يتخذون من الحب ملاذًا يفرون إليه من عذاب الحياة، وعزاء يعوضون به ظلم الدهر، ومرقي يسمون عليه فوق العالم الأرضي، ومن ذلك قول ناجي:

هوى كالسحر صيرني

أرى بقريحة الشهب

وطهرني وبصرني

ومزق مغلق الحجب

1 انظر: رائد الشعر الحديث لمحمد عبد المنعم خفاجي جـ1 ص236.

ص: 312

سموت كأنني أمضي

إلى رب يناديني

فلا قلبي من الأرض

ولا جسدي من الطين

سموت ودق إحساسي

وجزت عوالم البشر

نسيت ضغائن الناس

غفرت إساءة القد1

ومن ذلك أيضًا قول أبي شادي:

أمانًا أيها الحب

سلامًا أيها الآسي

أتيت إليك مشتفيًا

فرارًا من أذى الناس

حنانك أيها الداعي

فأنت مليك أنفاسي

فررت وحولي الدنيا

تحارب كل إحساسي2

وكان بعض الشعراء يكلف بالمرأة روحًا ووجدًا وعذابًا، وبعضهم يهيم بها جسدًا ومتعة ونعيمًا، ومن النوع الأول إبراهيم ناجي والهمشري، ومن النوع الثاني علي محمود طه، وصالح جودت، يقول ناجي واصفًا لصاحبته بعض ما يعاني من وحدة وجوى، وخداع وهم وخيبة أمل:

كم مرة يا حبيبي

والليل يغشى البرايا

أهيم وحدي وما في الظـ

ـلام شاك سوايا

أصير الدمع لحنًا

وأجعل الشعر نايا

يشدو ويشدو حزينًا

مرددًا شكوايا

مستعطفًا من طوينا

على هواه الطوايا

حتى يلوح خيال

عرفته في صبايا

يدنو إلي وتدنو

من ثغره شفتايا

إذا بحلمي تلاشى

واستيقظت عينابا

ورحت أصغي وأصغي

لم ألفِ إلا صدايا3

1 انظر: ديوان ناجي "قصيدة صلاة الحثب" ص263.

2 انظر: أطياف الربيع لأحمد زكي أبي شادي ص29 "قصيدة الفنان".

3 انظر: ديوان ناجي ص348 "قصيدة الناي المحترق".

ص: 313

ويقول صالح جودت معبرًا لصاحبته عن الظمأ الذي يعانيه، واللهفة إلى الري الذي يطمع فيه:

أجل ظمآن يا ليلى

وماء الحب في نهرك

خذيني في ذراعيك

وضميني إلى صدرك

دعيني أشرب النور الذي

ينساب في شعرك

وروى لهفة الظمآ

ن بالقبلة من ثغرك

هبيني ليلة أثمل

يا ليلاي من خمرك1

ومع هذا كان شعراء هذا الاتجاه يجلون المرأة ويكبرونها، وكانوا يغفرون زلاتها ويلتمسون الأعذار لآثامها، حتى ولو كانت ممن فرضت عليهن الظروف القاسية أن يحيين حياة الليل، أو يخضن خوضًا في الوحل.

فهذا علي محمود طه يقول عن مغنية دخل مخدعها ذات مساء:

فمضت في عتابها: كيف لم ند

ر بما برحت بك الأتراح

إن أسأنا إليه فاليوم نجزيك

بما ذقته رضى وسماح

ولك الليلة التي جمعتنا

فاغتنمها حتى يلوح الصباح

قلت: حسبي من الربيع شذاه

ولعيني زهره اللماح

نحن طير الخيال والحسن روض

كلنا فيه بلبل صداح

بليت في هواه منا قلوب

وأصابت خلودها الأرواح2

وهذا إبراهيم ناجي يقول لراقصة رآها في مرقص ذات ليلة، ثم جمعهما لقاء في الليلة التالية:

لا تكتمي في الصدر أسرارا

وتحدثي كيف الأسى شاء

أنا لا أرى إثمًا ولا عارا

لكن أرى امرأة وبأساء

1 انظر: ديوان صالح جودت ص80.

2 انظر: الملاح التائه لعلي محمود طه ص41-42 "قضية مخدع مغنية".

ص: 314

أفديك باكية وجازعة

قد لفها في ثوبه الغسق

ودعتها شمسًا مودعة

ذهبت وعندي الجرح والشفق

تمضي وتجهل كيف أكبرها

إذ تختفي في حالك الظلم

روحًا إذا أثمت يطهرها

ناران؛ نار الصبر والألم1

بل هذا صالح جودت يصف تجربة له مع بغي، هزته مأساتها فأنسته كل ما لجسدها من مفاتن، وكل ما يمكن أن يثير من رغبات، وراح يدافع عنها وينتصف لها، ويحمل المجتمع الظالم كل ما يتناثر حولها من آثام:

وقفت بالباب في ثوب رقيق

تفتح الباب لقطاع الطريق

ثم قالت: مرحبًا يا مرحبًا

بأخي اللذات أهلا بالعشيق

قلت: لا أبغي متاعًا ليس لي

جنبيه، ما أنا إلا صديق

خبريني يا ابنتي أنت التي

لقيت في خدرها ألفي عشيق

هل وجدت الرفق فيهم ساعة

هل وجدت الطاهر القلب الرفيق

يا إلهي، كيف أعددت لها

بعد دنياها عذابًا؟ هل تطيق؟!

أشقى الدهر يشقى بعده

وهو بالرحمة في الأخرى خليق!! 2

وأخيرًا هذا محمود حسن إسماعيل3 يقول على لسان واحدة من بائعات

1 انظر: ديوان ناجي ص270-281 "قصيدة قلب راقصة".

2 انظر: ديوان صالح جودت ص 18-23.

3 ولد ببلدة النخيلة بمحافظة أسيوط، واتجه فى دراسته وجهة عربية إسلامية، حتى تخرج في دار العلوم سنة 1936، وقد نبغ في الشعر نبوغًا مبكرًا، حتى أصدر ديوانه الأول "أغاني الكوخ"، وهو طالب سنة 1935. ثم تتابعت دواوينه:"هكذا أغني"، و"أين المفر"، و"نار وأصفاد" و"قاب قوسين"، و"لا بد"، و"التائهون"، و"صلاة ورفض".. وقد تدرج في الوظائف الحكومية، من محرر بالمجمع اللغوى إلى أن أصبح المستشار الثقافي لهيئة الإذاعة، ونال جائزة الدولة فى الشعر سنة 1965. اقرأ عن فنه الشعري: المقال الذي كتبه المؤلف بمجلة الشعر، يونيه 1965 واقرأ عنه أيضًا في: الشعر المصري بعد شوقي للدكتور محمد مندور -الحلقة الثالثة ص 100.

ص: 315

الهوى، محملًا إثمها للدنيا القاسية الظالمة، وللبشر الآثمين المخادعين:

واهًا على دنياي ما صنعت

بالحسن في كنف الصبا الفاني

فتكت بعصمته ولو عدلت

فتكت بقلب الآثم الجاني

سرق الأثيم قداستي ومضى

ومضيت أندب حظي الكابي

حيرى أروم القبر لي عوضًا

عن خسة الدنيا وأوصابي

ويقال في حكم الورى سقطت

ونعم، ولكن من خداعكم

لولا أذى الإنسان ما حملت

إثم الهوى عذراء بيتكم1

ومن أهم الموضوعات التي عني بها شعراء هذا الاتجاه أيضًا، موضوع الطبيعة، فكلهم قد أحب الطبيعة وعشقها، بل منهم من حاول أن يمتزج بها، ويذوب فيها، وقد كانت الطبيعة عندهم كذلك مهربًا يلوذون بصفائه من كدر الحياة، ويغسلون في طهره ما يصيبهم من رجس العيش، ويجدون في رحابته متنفسًا لما يعانون من ضيق وتأزم، كل هذا بما يخلعونه عليها من خيال مجنح، هو الذي يجعل لحديثهم عن الطبيعة قيمة ابتداعية2، يقول أبو شادي عن الطبيعة:

يا طريق الحزين عرج على الغر

س وسر بينه بروحي وحسي

يا صميم الحقول س ربي وخذني

من وجود وهبته كل يأس

في جوار المياه تجري فتروي

قبل ري الغراس قلبي ونفسي

في جوار النبات يخفق من خفقي،

ويفضي بهمسه مثل همسي

يا طريق الحزين ما عالم النا

س لمثلي، فليس مثلي بإنسي

أنا بعض من الوجود الذي يأ

بى وجودًا على فساد ورجس3

1 انظر: أغاني الكوخ لمحمود حسن إسماعيل ص67-71 قصيدة "دمعة بغي".

2 انظر: Romanticism: Laseelles Abercrombie p. 50

3 انظر: عودة الراعي لأحمد زكي أبي شادي ص283 "قصيدة في الطريق الحزين".

ص: 316

ويقول ناجي مخاطبًا البحر من قصيدة له بعنوان: "خواطر الغروب":

قلت للبحر إذا وقفت مساء

كم أطلت الوقوف والإصغاء

وجعلت النسيم زادًا لروحي

وشربت الظلال والأضواء

أنت عات ونحن حرب الليالي

مزقنا وصيرتنا هباء

وعجيب إليك يممت وجهي

إذا مللت الحياة والأحياء

أبتغي عندك التأسي ما تملك

ردًّا وما تجيب نداء1

ويقول محمود حسن إسماعيل قصيدته "الناي الأخضر راسمًا صورة حية من المرح والنشوة، التي تملأ وجدانه ببعض مظاهر الطبيعة البسيطة، وكأنه يستعيض بها عما حرم من مرح، ونشوة في دنيا الناس:

زمارتي في الحقول قد صدحت

فكدت من فرحي أطير بها

الجدي في مرتعي يراقصها

والنحل في ربوتي يجاوبها

والضوء من نشوة بنغمتها

قد مال في ردأة يلاعبها

رنا لها من جفون سوسنة

فكاد من سكرة يخاطبها

نفخت في نايها فطربني

وراح في عزلتي يداعبها

سكران من بهجة الربيع بلا

خمر به رقرقت سواكبها2

ويقول الصيرفي مناجيًا "شجرة عارية"، يمتزج بها، ويبثها أحزانه، ويقارن بين حظها وحظه:

أنا أنت لكن خبريني

أترى أعود إلى ربيعي

ترويك أمطار الشتا

ء إذا ارتويت من الدموع

أنا أنت منفرد يحيط

بي السكان بلا سمير

لكن تحيط بك الطيور

ر كعهدك الماضي الزهير

1 انظر: ديوان ناجي ص41 "قصيدة خواطر الغروب".

2 انظر: أغاني الكوخ لمحمود حسن إسماعيل ص120-121 قصيدة "الناي الأخضر"، الذي أراد به عود البرسيم.

ص: 317

وتحط فوقك تطلب الذكرى

وتهجرني طيوري

ولسوف يرتد الربيع

فخبريني عن ربيع1

ويقول الصيرفي أيضًا عن "جدول"، واصفًا هدوءه ثم ثورته، مشيرًا بذلك إلى حالته النفسية، حتى كأنه هو الجدول نفسه، وليس ذلك إلا لإحساسه بالاتحاد به، والفناء فيه:

يسير وفي ضفتيه الجمال

كلحن على شفتي غانيه

منابعه من جنان الحياة

على تلعات الهوى الساميه

تفانيت فيه كأغنية

مضى في الأثير صداها الجميل

وذبت على ضفتيه كما

تذوب الرغائب في المستحيل

وفي ليلة كاكتئاب الخريف

جرى جدولي كالدم النازف

تهب الأعاصير في وحشة

على صدره الخافق الواجف

هدوؤك يا جدولي أين ولي

وهمسك يا جدولي أين راح

أعد للضفاف ترانيمها

ورجع لها أغنيات المراح2

ومن أبرز الموضوعات والتجارب الشعرية التي عالجها شعراء هذا الاتجاه: الحنين إلى مواطن الذكريات، والهروب إليها في لهفة حزينة وتعطش مُر، وذلك فرارًا من الحاضر المؤلم والواقع النفر.. ومواطن الذكريات عندهم كثيرًا ما تكون مرابع للطبيعة، أو مدارج للحب، أو مسارح قد لعب الحب عليها أدواره بين أحضان الطبيعة.

يقول الهمشري في "النارنجة الذابلة"، جامعًا حولها أعذب ذكريات صباه، وأجمل أيام حداثته، بكل ما فيها من نقاء وطهر وصفاء.

1 انظر: الألحان الضائعة لحسن كامل الصيرفي ص53 قصيدة "الشجرة العارية".

2 انظر: "مجلة أبولو المجد الثاني ص112".

ص: 318

كانت لنا عند السياج شجيرة

ألف الغناء بظلها الزرزور

طفق الربيع يزورها مستخفيًا

ويفيض منها في الحديقة نور

حتى إذا حل الصباح تنفست

فيها الزهور وزقزق العصفور

وسرى إلى أرض الحديقة كلها

نبأ الربيع وركبه المسحور

كانت لنا يا ليتها دامت لنا

أو دام يهتف فوقها الزرزور

قد كنت أجلس صوبها في شرفتي

أو كنت أجلس تحتها في ظلتي

أو كنت أرقب في الضحى زرزورها

متهللًا يغشى نوافذ غرفتي

طورًا ينقر في الزجاج وتارة

يسمو يزرزر في وكار سقيفتي

فإذا رآني طار في أغنية

بيضاء واستوفى غصون شجيرتي

كانت لنا يا ليتها دامت لنا

أو دام يهتف فوقها الزرزور1

وكثيرًا ما يكون هذا الهروب إلى مواطن الذكريات يصاب بخيبة الأمل، ويصطدم بالواقع المرير الذي يضاعف الحرة، ويزيد مما يحس به الشاعر من مرارة، يقول ناجي في دار أحبابه، مجسمًا فجيعته حين عاد إليها، وهي مهد أعذب ذكرياته، فوجدها قد تغيرت وحال فيها كل شيء:

هذه الكعبة كنا طائفيها

والمصلين صباحًا ومساء

كم سجدنا وعبدنا الحسن فيها

كيف بالله رجعنا غرباء

دار أحلامي وحبي لقيتنا

في جمود مثلما تلقى الجديد

أنكرتنا وهي كانت إن رأتنا

يضحك النور إلينا من بعيد

رفرف القلب بجنبي كالذبيح

وأنا أهتف يا قلبي اتئد

فيجيب الدمع والماضي الجريح

لم عندنا؟ ليت أنا لم نعد

1 انظر: الروائع لشعراء الجيل جـ1 ص12.

ص: 319

أين ناديك وأين السمر

أين أهلوك بساطًا وندامى

كما أرسلت عيني تنظر

وثب الدمع إلى عيني، وغاما1

ويقول الهمشري في قريته، وكان قد أمل أن يكون في العودة إليها مهربًا لروحه المعذب، وملاذًا لقلبه الجريح، ولكنه اكتشف أنه انتقل إليها بأعباء نفسه، وعذاب روحه وجراحات قلبه، وبكل ما حملته الدنيا من أوجاع؛ فانعكس كل هذا على جمال القرية فجعلها شائهة، واختلط بصفو الطبيعة فيها فكدرها، وكنت خيبة الأمل، واصطدام الذكريات الحلوة بالواقع المرير:

رجعت إليك اليوم من بعد غربتي

وفي النفس آلام تفيض ثوائر

أتيت لألقى في ظلالك راحة

فيهدأ قلبي وهو لهفان حائر

ولكن بلا جدوى أتيت فلم أجد

سوى قفرة أشباحها تتكاثر

وقد نسجت أيدي الشتاء سياجها

عليها، وأسوار الظلام تحاصر2

ومن أبرز الموضوعات والتجارب الشعرية التي اهتم بها شعراء هذا الاتجاه أيضًا، موضوع الشكوى، فهم كثيرًا ما يفضون بأحزانهم ويصورون آلامهم، التي تكون أحيانًا واضحة الاسباب مبررة، وأحيانًا أخرى غامضة غائمة مجهولة المصدر، حتى لنرى الواحد منهم، وكأنه يحزن لمجرد الحزن ويشكو لمجرد الشكوى، أو كأنه يجد في الحزن متعه، أو في الألم لذة، كما يجد في الشكاية تعبيرًا عن متعة الحزن ولذة الألم، ولعل ذلك لاعتقادهم -ككل الرومانتيكيين- أن الألم يطهر النفس والحزن يسمو بالروح، أو لاعتقادهم أن الألم من سمات الحساسين والحزن من صفات الواعين الشاعرين3

يقول

1 انظر: ديوان ناجي ص39، "قصيدة العودة"، وانظر: الشعر المصري بعد شوقي الحلقة الثانية ص59 وما بعدها.

2 الروائع جـ1 ص28.

3 انظر: الرومانتيكية للدكتور محمد غنيمي هلال ص26 وما بعدها، والشعر المصري بعد شوقي للدكتور محمد مندور الحلقة الثالثة ص4.

ص: 320

علي محمود طه متحدثًا عن شقائه وأرقه وفزعه وحيرته، ومرجعًا كل مآسيه إلى أن الأرض مهد الشر منذ الأزل:

شقي أجنته الدياجي السوادف

سليب رقاد أرقته المخاوف

ترامى به ليل كأن سواده

به الأرض غرقى والنجوم كواسف

هي الأرض مهد الشر من قبل خلقنا

ومن قبل أن دبت عليها الزواحف

غذتها الضحايا بالجسوم فأخصبت

وأترعها سيل من الدم جارف

ولي قصة يشُجي القلوب حديثها

ويعجز عن تصويرها اليوم واصف

ألا إنّ لي قلبًا طعينًا تحوطه

عصائب تنزو من دمي ولفائف1

ويقول الهمشري، متحدثًا عن وحدته وعذابه، وضياع أمله ومرارة يأسه، ويتعلل أخيرًا بخلود الشعر ومجد الفن:

جلست على الصخر الوحيد وحيدا

وأرسلت طرفي في الفضا شريدا

وكفكفت دمعًا لا يكفكف غربه

وواسيت قلبًا في الضلوع عميدا

أرى صفحة الآمال قد ضاق أفقها

ولاح على اليأس البعيد مديدا

لقد عشت في دنيا الخيال معذبا

فيا ليت شعري هل أموت سعيدا

لقد كنت في الدنيا جمالا يزينها

بما شاده شعري على هذه الدنيا

خلقت لروحي سحرها لا لغيرها

ومن أجلها أقضي ومن أجلها أحيا

إذا ذبل النارنج عاش عبيره

وكان له في الوهم من نفحه محيا

ويخلد بعد البدر في الفكر رونق

يغذي خيال الشعر والحب والوحيا2

ويقول ناجي شاكيًا ما يعاني في وحدته من هواتف الذكريات الحزينة، وأشباح الأماني الخائبة:

يا وحدتي جئت كي أنسى وهأنذا

ما زلت أسمع أصداء وأصواتا

مهما تصاممت عنها فهي هاتفة

يا أيها الهارب المسكين هيهاتا

1 انظر: "الملاح التائه" لعلي محمود طه ص176-179 "قصيدة الطريد".

2 انظر: الروائع جـ1 ص26-27 "قصيدة تأملات".

ص: 321

جرت على الأماني من مجاهلها

وجمعت ذكر قد كن أشتاتا

ما أسخف الوحدة الكبرى وأضيعها

إذا الهواتف قد أرجعن ما فاتا

بعثن ما كان مطويًّا بمرقده

ولم يزلن إلى أن هب ما ماتا

تلفت القلب مطعونا بوحدته

وأين وحدته باتت كما باتا

حتى إذا لم يجد ريًا ولا شبعا

أفضى إلى الأمل المطعون فاقتاتا1

وكان بعض شعراء هذا الاتجاه تصل به الشكوى أحيانًا إلى حد رفض الحياة وتمنى الموت، ومن ذلك قول محمود حسن إسماعيل بعد أن أطال الشكوى في قصيدته "مقبرة الحي":

يا شاكي الهم لأيامه

لقد شكوت البغي للباغيه

أقصر عن الشكوى إليها فما

ديناك إلا حية غاويه

إهابها يغري وفي نابها

لمن تمس الوخزة القاضيه

دهر له في بطشه لذة

كالوحش يفري مهجة الثاغيه

غبن من الأيام لا رحمة

تحيي ولا صبر على العاديه

ولا فناء عاجل أشتهي

في ورده الراحة مما بيه2

ومن الموضوعات التي اهتم بها بعض شعراء هذا الاتجاه -بعد الحب والطبيعة والحنين والشكوى- موضوع تصوير البؤس، وإبراز بعض الجوانب المظلمة في المجتمع، فقد عني بعض الشعراء بتصوير تعاسة الريف وشقاء الفلاح، كما عنوا بإبراز مأساة بعض ضحايا المجتمع كالمشرد والبغي، وكان أكثر الاهتمام في هذال الشعر الاجتماعي موجهًا إلى الريف، وما يعاني من تخلف وفقر، وإلى الفلاح وما يقاسي من ظلم وقهر حتى لقد كتب أبو شادي عديدًا من القصائد في الريف والفلاح3، بل كتب محمود حسن إسماعيل

1 انظر: ديوان ناجي ص102 "قصيدة أصوات الوحدة".

2 انظر: مجلة أبولو المجلد الثاني ص593 "قصيدة مقبرة الحي".

3 جمع محمد عبد الغفور قصائد أبي شادي التي من هذا القبيل في ديوان باسم "الريف في شعر أبي شادي". وفيه قصائد، مثل: عابد الريف، الفلاح، راعي الغنم، حياة الريف، الفلاحون، كوخ الريف، آلام الريف.

ص: 322

ديوانًا كاملا سماه "أغاني الكوخ1، وجعل محوره القرية وساكنها، وقصد -فيما قصد- تعميق الإحساس بالريف ومأساته، وبالفلاح والظلم الاجتماعي الواقع عليه.. يقول أبو شادي عن الفلاح الذي سماه "أميرنا الصعلوك"، محملًا المجتمع إثم تخلفه، بل مجاهرًا بأن المجتمع سيظل مجرمًا حتى ينصف الفلاح المظلوم:

هو ذلك الفلاح يا قومي الذي

يحيا حياة سوائم ورغام

وهو الذي لولاه ما ارتفعت لنا

رأس ولا كنا من الأقوام

إنا جميعًا مجرمون إزاءه

حتى يخلص من هوى الإجرام

حتى ينال حقوقه في عيشة

خلصت من الأدران والأسقام2

ويقول محمود حسن إسماعيل، جاعلًا من بكاء الساقية رمزًا لبكاء نفسه، ومن الثور المغمض العين، الذي يدور والنير على كتفيه والسوط يلهب ظهره، رمزًا لهذا الفلاح الكادح المعذب، الذي أغمض الجهل عيونه، وأثقل الذل كاهله، والهب العذاب ظهره، تمامًا كهذا الثور الذي تنوح عليه الساقية، أو تنوح عليه نفس الشاعر:

لها عيون دائمات البكا

بمدمع كالسيل في رفده

دؤوبة الشكوى على راسف

في الذل مفجوع على جده

دارت به البلوى فما راعه

إلا عماء غال من رشده

أعمى رماه البين في دارة

لم يدر نحس الخطو من سعده

شدت حبال الذل في رأسه

وفت صرف الرق في كبده

منادح الضجة في أذنه

وملعب السوط على جلده

والسائق الإبله لا ينثني

عن ضربه العاني وعن كيده

يتلو على آذانه سورة

من قسوة السيد على عبده3

وبالإضافة إلى هذا الموضوع من موضوعات الشعر لم يكن شائعًا

1 كان هذا أول ديوان للشاعر. وقد صدر سنة 1934.

2 انظر: الشفق الباكي لأحمد زكي أبي شادي ص832.

3 انظر: أغاني الكوخ لمحمود حسن إسماعيل قصيدة القيثارة الحزينة ص44-47.

ص: 323

بين كل شعراء هذا الاتجاه، قد كان كذلك يعالج في جو "رومانسي" غالبًا، وبطريقة رمزية أحيانًا، وكان الجو الرومانسي يختلط بحب الشاعر للطبيعة وإيثاره لحياة الريف، ويوشك أن يشيع الرضا عن تلك الحياة، ولا يدعو إلى الثورة عليها بالقدر الواجب، كما كانت الملامح الرمزية تحجب المضمون، وتبتعد بالهدف، وتكاد تفقد الشعر جانبه الاجتماعي الرائع، وكل ذلك كان نتيجة لغلبة الطابع "الرومانسي" على شعراء هذا الاتجاه، وميلهم إلى استخدام بعض الوسائل الرمزية كما سنرى، ثم كانت نتيجة أيضًا لعدم اكتمال الوعي بوظيفة الشعر والأدب عمومًا، وكونه يجب أن يكون هادفًا -قبل كل شيء- إلى تطوير الحياة والارتفاع بها إلى مستوى أفضل.

ومن الموضوعات التي التفت إليها بعض شعراء هذا الاتجاه -بعد كل ما مضى- موضوع التأمل، وهذا التأمل كان يتجه إلى حقائق الكون بلمحة الصوفي حينًا، كما كان يرمقها بعين المتفلسف حينًا آخر، ولكن كل التأملات كان يغلب عليها، الجيشان العاطفي -المتسق مع طبيعة هذا الاتجاه- لا الطابع الذهني الذي كان يطغى على شعر أمثال شكري والعقاد والمازني، ممن سمي اتجاههم -لذلك- "بالاتجاه التجديدي الذهني".

ومن الحقائق التي كان يتأملها بعض شعراء هذا الاتجاه "الابتداعي العاطفي" بجيشان عاطفة: حقائق الله والناس، والخير والشر، والخلود والفناء، والحياة والموت وما إلى ذلك، ومن نماذج هذا الشعر التأملي، قول الصيرفي من قصيدة بعنوان "الحيارى" مناجيًا الله عز وجل، ومعبرًا عن حيرة الإنسان إزاء سره:

قد سبحنا بالفكر عندك يا رب

فتاهت أرواحنا في سمائك

وشدونا ما قد شدونا ولكن

ضاع هذا جميعه في فضائك

وعرفنا من الخيال معانيه

وغابت عنا معاني جلائك

وسمعناك في الضمائر توحي

ما يهز القلوب من إيحائك

فجهلناه واستمعنا إلى ما

يملأ الجو من صفير هوائك

ص: 324

ورأيناك في الظلام مضيئًا

فمشينا به حيارى ضيائك

ورأيناك في الجمال ولكن

لم تقدر لنا حياة الملائك

أنت قدرت أن نعيش حيارى

والحيارى هنا ضحايا قضائك1

ومن نماذج هذ الشعر التأملي أيضًا قول إبراهيم ناجي من قصيدة بعنوان "الحياة"، مبينًا كيف يضل الإنسان إذا تأملها، حتى ليستوي جهله وعلمه؛ لأن حقيقته أنه صغير مغرور:

جلست يومًا حين حل المساء

وقد مضى يومي بلا مؤنس

أريح أقداما وهت من عياء

وأرقب العالم من مجلسي

أرقبه يا كد هذا الرقيب

في طيب الكون وفي باطله

وما يبالي ذا الخضم العجيب

بناظر يرقب في ساحله

سيَّان ما أجهل أو أعلم

من غامض الليل ولغز النهار

سيستمر المسرح الأعظم

روايةً ظالت وأين الستار

عييت بالدنيا وأسرارها

وما احتيالي في صموت الرمال

أنشد في رائع أنوارها

رشدًا فما أغنم إلا الضلال

يا رب غفرانك إنا صغار

ندب في الأرض دبيب الغرور

نسحب في الدنيا ذيول الصغار

والشيب تأديب لنا والقبور2

ومن نماذج هذا الشعر التأملي كذلك، قول صالح جودت من قصيدة بعنوان "أكذوبة الموت"، يتحدث فيها عن خلود الروح، ويصل من ذلك إلى استمرار حياة الإنسان برغم انتقاله ممن هذه الدنيا:

1 الألحان الضائعة لحسن كامل الصيرفي ص29 "قصيدة الحيارى".

2 انظر: ديوان ناجي ص185-187 "قصيدة الحياة".

ص: 325

قد حرت في الموت وفي أمره

وما زواه الله من سره

وكلما سألت عنه امرأ

أجابني: والله لم أدره

والروح إما حل في غيره

أو آثر الإخلاد في بئره

فلم يقول الناس مات امرؤ

إن هاجر الدنيا إلى قبره

أليس في القرر حياة امرئ

تطول بالمرء إلى حشره

فكيف قالوا: إنه ميت

من يوم أن غيب عن دهره

وليس بعد رحلته سوى

جديد عيش دب في إثره1

وأخيرًا من هذا الشعر التأملي، هذه القصيدة الجريئة التي تعالج تجربة الشك، وتجعل الموت هو العصا التي ترفع في وجه العباد، فتحملهم على الإيمان، وفيها يحكي صالح جودت قصة راهب تمرد على حياة العبادة، بل كفر بالله والآخرة وراح يغري الكاهن برأيه، حتى خدعه واستماله، وقبيل أن يتركا الدير إلى الدنيا ومتعها، هبط ملك الموت ليقبض روح الراهب، فلم يكن منه إلا الإسراع إلى التوبة، والاعتراف بالله واليوم الآخر.. يقول صالح جودت من تلك القصيدة على لسان الراهب:

خلني يا كاهن الدير إلى

نضرة الأيام أجتاز القفار

أنت أفنيت شبابي راحلا

لم أميز فيه ليلا من نهار

أجلال في صلاتي نحه

أو وقار؟ ما لمثلى والوقار

أإلى النار إذا عفت التقى

إنها أهون من طول اصطبار

ثم يمضي الشاعر متحدثًا على لسان الراهب باسطًا أسباب شكه، ومصرحًا بجوانب تمرده، إلى أن يقول على لسانه، حين هبط عليه ملك الموت فتاب وأناب:

يا ملاك الموت

آمنت بسلطان الإله

أيها الكاهن قدني

لمحاريب الصلاه

1 انظر: ديوان صالح جودت ص82-86.

ص: 326

فإله الكون يدعوني إلى غير الحياه

خلني أفني الهنيات البقايا في هواه

يا ملاك الموت إن قابلت رب العالمين

قل له قد جاءك الراهب مصدوع اليمين

لابسًا في موقف الذل مسوح النادمين

فلقد علمته بالموت ما معنى اليقين1

ومثل هذا اللون من الشعر التأملي المثير للشكوك، والمسبب للانفعالات غير الحميدة، مؤاخذ من معظم النقاد، وإن كان بعضهم يرى أن من حق الأديب أن يعبر عن أي انفعال، ويقول هذا البعض: إن على الباحثين عن الانفعالات المسعدة أن يتلمسوها في الأخلاقيات والدينيات2.

هذا، وقد كان شعراء هذا الاتجاه يبتعدون -في فترة ظهوره- عن الشعر السياسي، وعن شعر المناسبات بصفة عامة، وذلك باستثناء أحمد زكي أبي شادي، الذي كان يهتم بالموضوعات السياسية والوطنية والقومية منذ وقت مبكر، حتى لقد أظهر ديوانًا كاملًا باسم "مصريات"، وحتى حشد في ديوانه الشفق الباكي قصائد عن:"اضطهاد الرأي العام" و"مصر للحضارة" و"عصبة النيل" و"المؤتمر الوطني"، و"الطيار المصري" و"بيت الأمة" و"الزعيم" وعن "الكرامة القومية" و"دار بن لقمان" و"كارثة دمشق"، وعن الأمير عبد الكريم الخطابي الذي سماه "الأسير".

لكن بعد سنوات من ظهور هذا الاتجاه، أخذ شعراؤه يدنون قليلًا من الموضوعات السياسية والوطنية والقومية، بل أخذوا يخوضون بشعرهم بعض المناسبات التي كانت من أهم مجالات الشعراء المحافظين.

فنجد لإبراهيم ناجي بعض القصائد الوطنية في "مصر" و"يوم الشباب"

1 انظر: ديوان صالح جودت قصيدة "الراهب المتمرد" ص113-139.

2 Poetry and Contemplation: G.R. Hamilton. p.152.

ص: 327

و"الشهيد الجراحي" الذي سقط برصاص الإنجليز سنة 1935، كما نجد له قصائد في مدح أنطون الجميل، ودسوقي أباظة، وعزيز أباظة وعبد الحميد عبد الحق، وإبراهيم عبد الهادي، والدكتور علي إبراهيم، والدكتور زكي مبارك، والفنان سامي الشوا1، وأخيرًا نجد له قصائد في المناسبات التي كانت تتلمسها "جماعة أدباء العروبة"، وبعض هذه القصائد يصل إلى حد الفكاهة والحديث عن بعض الأمور التافهة2.

ونجد لعلي محمود طه بعض القصائد الوطنية والقومية، كقصائد:"على النيل"، و"مصر" و"عودة المحارب"، وكقصائد "يوم فلسطين" و"شهيد ميسلون" و"بطل الريف" و"الأمير المجاهد3، كما نجد له قصائد في بعض المناسبات العربية والمحلية، كقصيدته في تحية زعماء العروبة بمناسبة اجتماعهم في القاهرة سنة 1944؛ لتكوين الجامعة العربية، وكقصيدته في رثاء جبرائيل تقلا صاحب الأهرام4.

1 اقرأ قصائد المناسبات في ديوان ناجي ص49، 62، 64، 81، 83، 104، 130، 131، 133، 157، 162، 167، 170، 179، 193، 206، 239، 252، 264، 272، 283، 284، 296، 303.

2 كانت جماعة أدباء العروبة جماعة أدبية معظمها من الشعراء، وكان يرأسها الأستاذ الدسوقي أباظه، الذي كان يحب الشعر والشعراء، وكانت هذه الجماعة تقيم مهرجانات شعرية في القاهرة والأقاليم، وتتلمس لتلك المهرجانات المناسبات الرسمية، وغير الرسمية، وكانت بعض لقاءات هذه الجماعة في دار الدسوقي أباظه، وكان للشعراء في هذه اللقاءات أشعار تخرج كثيرًا عن معدن الشعر الحق، ورسالته الكريمة. انظر: ديوان ناجي ص206.

3 هذه القصائد في ديوان "شرق وغرب" الصادر سنة 1947.

4 هاتان القصيدتان في ديوان "الشوق العائد" الصادر سنة 1944.

وكان له في ديوان الأول "الملاح التائه" قصائد مثل: "الأجنحة المحترقة"، وهي في طيارين مصريين احترقت طائرتهما في سماء فرنسا، ومثل "إلى سيد درويش" و"الملك البطل"، وهي في الملك العراق فيصل الأول. ومثل "قبر شاعر"، وهي في الشاعر المهجري فوزي المعلوف، ومثل "حافظ إبراهيم" و"شوقي" و"عدلي يكن".

ص: 328

ونجد كذلك لمحمود حسن إسماعيل قصائد عديدة في مناسبات وطنية، وقومية مختلفة، كما نراه يمدح ويرثي، حتى ليمثل المدح والرثاء قسمًا بارزًا من بعض دواوينه1.

وبرغم كل ذلك، قد ظل شعراء هذا الاتجاه أقل من غيرهم من الشعراء اهتمامًا بالشعر الوطني والقومي، وبشعر المناسبات على وجه العموم، وبقيت الموضوعات الغالبة على شعرهم هي تلك الموضوعات المتصلة بالحب والطبيعة والحنين والشكوى والتأمل، وما إلى ذلك مما سلف عنه الحديث، وقد كانوا يتفاوتون -بطبيعة الحال- في التعلق ببعض هذه الموضوعات أكثر من بعضها الآخر؛ فناجيى يكثر من شعر الحب المعذب المحروم، وعلي طه يكثر من شعر الحب المانح المعطاء، والهمشري يكثر من شعر الطبيعة والحنين، والصيرفي يكثر من شعر الشكوى والتأمل، ومحمود حسن إسماعيل يكثر من شعر الطبيعة والريف، وهكذا.

ب- خصائصه من حيث الأسلوب وطريقة الأداء:

وأما خصائص هذا الاتجاه من حيث الأسلوب وطريقة الأداء، فأساسها الطلاقة البيانية، والحرية التعبيرية2، بحيث تستعمل اللغة استعمالاً جديدًا أو شبه جديد، وفي استخدام الألفاظ ودلالتها، ووضع الصفات من موصوفاتها، ثم في التوسع الكبير في المجازات، والابتكار المبدع في الصور، وأخيرًا في تفضيل معجم شعري خاص، مؤثر من الكلمات ما كان ذا موسيقى معينة، ومن التعابير ما كان ذا إيحاءات خاصة.

وهذه الجوانب المتصلة بالأسلوب وطريقة الأداء، هي أهم ما يتضح فيه عنصر الابتداع، الذي هو أحد ركني هذا الاتجاه.

1 انظر: ديوان هكذا أغنى على سبيل المثال.

2 انظر: ما قاله أبو شادي عن مدرسة أبولو، والتحرر الفني والطلاقة البيانية في مجلة أدبي سنة 1936 ص357.

وما قاله ناجي عن مدرسة أبولو، وطلاقه الفن في ديوان أطياف الربيع لأبي شادي ص "ن".

ص: 329

أما تلك الخصائص القائمة على هذا الأساس، فأولاها التوسع في نقل الألفاظ من مجالات استعمالها القريبة المألوفة، إلى مجالات أخرى بعيدة مبتكرة، لا عن طريق المجاز القديم المعتمد على العلاقات التي ذكرها البلاغيون، وإنما عن طريق مجاز جديد معتمد على تراسل الحواس، بحيث يستعمل للشيء المسموع ما أصله للشيء الملموس، أو المرئي أو المشموم، ويستخدم للشيء المشموم ما من شأنه أن يستخدم للشيء المرئي، أو الملموس أوالمسموع، وهكذا. ومن هنا يتحدثون عن نعومة النغم، أو بياض اللحن، أو تعطر الأغنية، كما يتحدثون عن العطر القمري، أو الأريج الناعم، أو العبير المنغوم، ومن ذلك قول الهمشري مخاطبًا "النارنجة الذابلة":

خنقت جفوني ذكرياتٌ حلوة

من عطرك القمري والنغم الوضي

فانساب منك على كليل مشاعري

ينبوع لحن في الخيال مفضض

وهفت عليك الروح من وادي الأسى

لتعب من خمر الأريج الأبيض1

فالشاعر في البيت الأول يستعمل للعطر -وهو مشموم- صفة القمرية المفيدة للإشراق، وشأنها أن تستعمل للمنظور، كما يستعمل للنغم- وهو مسموع- صفة الوضاءة، وشأنها أن تستعمل كذلك للمنظور.

وهو في البيت الثاني يستعمل كلمة ينبوع مع اللحن، وشأنها أن تستعمل مع الماء ونحوه، ثم يجعل هذا اللحن مفضضًا، كما تجعل الأشياء التي تدرك بالعين لا بالأذن.

ثم هو في البيت الثالث يعطي الأريج -وهو من المشمومات- صفة البياض التي من شأنها أن تكون للمرئيات.

ومثل هذا الاستعمال كثير عند شعراء هذا الاتجاه، وبخاصة عند الهمشري الذي كان أكثرهم إيغالا فيه.

ومصدر هذه الخاصة التعبيرية عندهم؛ التأثر بالشعراء الرمزيين، الذين كانت هذه الخاصة من أبرز سمات أسلوبهم، والذين اتصل رواد هذا الاتجاه

1 انظر: الروائع ص13.

ص: 330

بشعرهم، وعرفوا تلك الخاصة عندهم فنقلوها بمهارة إلى اتجاههم، فقد كان إبراهيم ناجي مثلًا على صلة بشعر "بودلير" الشاعر الرمزي الفرنسي، وقد ترجم له "أزهار الشر"، كذلك كان علي محمود طه على صلة بشعر "بودلير" وقد ذكره هو والشاعر الفرنسي الرمزي "فرلين" في كتابه "أرواح شاردة"1.

و"بودلير" هو القائل: "إن العطور والألوان والأصوات تتجاوب2" أي أن لونًا خاصًّا قد يحدث في النفس أثرًا مشابها للأثر الذي يحدثه صوت معين أو عطر بذاته، وبهذا يكون بين الحواس تجاوب وتراسل، بحيث تتلقى حاسة معطى حاسة أخرى3، وبناء عليه إذا أحس شاعر أن نغمًا معينًا يحدث في نفسه أثرًا مشابهًا لما تحدثه الوضاءة، فلا بأس عليه إذا قال عن هذا النغم: إنه نغم وضيء. وإذا أحس للحن معين تأثيرًا أشبه بتأثير ملمس الحرير، فلا ضير عليه إذا قال عن هذا اللحن: إنه لحن ناعم. وكل ذلك بناء على وحدة الأثر النفسي للشيء المستعمل له اللفظ منقولًا، والشيء الذي كان يستعمل له في الأصل، وليس بناء على الجامع الكلي الذي يشترك فيه المشبه والمشبه به في البلاغة التقليدية، ولا بناء على أية علاقة أخرى من تلك العلاقات التي يذكرها البلاغيون في باب المجاز4.

ويفسر الشاعر الهمشري الأساس الفني للتعبير الرمزي في مثل "السكون المشمس"، بقوله: "إننا عندما نجلس في بستان ساكن رأد الضحى، ترسم في عقولنا صور متفاوتة لهذه الساعة التي مرت بنا، فإذا استعرضنا صورة ملازمة

1 انظر: أرواح شادة لعلي محمود طه ص30.

2 قال ذلك في قصيدة مشهورة له أسمها "العلاقات" Corrspondance. وانظر: الشعر المصري بعد شوقي لمحمد مندور الحلقة 3 ص22، وانظر: الرمزية والأدب العربي الحديث لأنطون كرم غطاس ص44، 92.

3 انظر: الرمزية ص45.

4 انظر: الشعر المصري بعد شوقي لمحمد مندور الحلقة 3 ص21-23.

ص: 331

لهذا السكون، وهي الشمس، فلم لا يكون السكون مشمسًا1؟ ". وكأن الهمشري يضع أساسًا ثانيًا لظاهرة تراسل الحواس، إلى جانب الأساس الأول الذي هو وحدة الأثر النفسي، أما هذا الأساس الثاني، فهو الملازمة الخارجية بين الشيء الذي يستعمل له اللفظ بعد نقله، والشيء الذي كان يستعمل له اللفظ قبل النقل.

وقد أثارت هذه الخاصة التعبيرية ثائرة كثير من المحافظين، فأكثروا من اتهام مستخدميها بالهذيان والخلط، والخروج على العرف اللغوي، والحق أن هذا الاستخدام ليس لا ضربًا من المجاز، ولكن مع شيء من التوسع؛ فإذا كان أساس المجاز هو علاقة بين شيئين كالمشابهة في الاستعارة مثلاً، فإن أساس هذا اللون من الاستعمال، هو وحدة الأثر النفسي، أو الملازمة الخارجية بين شيئين. وهذا الاستعمال -كالمجاز التقليدي- سبيل من سبل توسيع اللغة، وإثرائها ومرونتها وحيوية تعبيرها وتجددها، وهو -من الناحية الفنية- وسيلة إلى نقل الحالة النفسية بدقة أكثر ورهافة أشد، حيث يكون اللفظ المنقول أدق تعبيرًا، وأرهف أداء في حالة نفسية معينة، لارتباطه بموقف يتلازم فيه شيئان، أو لوحدة الأثر النفسي بين الشيء المنقول له اللفظ، والشيء المنقول منه2.

والخاصة الثانية من خصائص هذا الاتجاه في الأسلوب وطريقة الأداء، هي التجسيم، أي تحويل المعنويات من مجالها التجريدي إلى مجال آخر حسي، ثم بث الحاية فيها أحيانًا، وجعلها كائنات حية تنبض وتتحرك، برغم ما في عملية التجسيم وحدها من صعوبة أدركها النقاد3.

يقول ناجي في معاودة ذكريات حب قديم:

1 انظر: مجلة أبولو المجلد الأول عدد يونيه سنة 1932.

2 انظر: الشعر المصري بعد شوقي لمحمد مندور الحلقة 3ص20-23.

3 انظر: A. Premir of literary Criticism: Hollingwroth.p.22

ص: 332

ذوت الصبابة وانطوت

وفرغت من آلامها

عادت إلي الذكريات

بحشدها وزحامها1

فالصبابة -وهي تجريدية- يجعلها الشاعر تذوي كالنبات، وتنطوي كالبساط. والذكريات -وهي من المجردات- تعود بتجسيم الشاعر في احتشاد وازدحام، كأنها أشياء مجسمة، أو كائنات حية، وليست معاني مجردة.

ويقول ناجي أيضًا في الغد، وما يزحمه من ظنون وهواجس:

إنّ غدًا هوة لناظرها

تكاد فيها الظنون ترتعد

أطلُّ في عمقها أسائلها

أفيك أخفى خياله الأبد؟ 2

فالغد -وهو من المجردات- يجسمه الشاعر في صورة هوة، والظنون -وهي من المعاني التجريدية أيضًا- يجسمها الشاعر، بل يهبها الحياة ويجعلها ترتعد، والأبد -وهو تجريدي كذلك- يجسمه الشاعر حتى ليجعل له خيالا يختبئ في هوة الغد.

والخاصة الثالثة من الخصائص الأسلوبية لهذا الاتجاه وطريقته في الأداء، هي التشخيص، أي منح الحياة الإنسانية لما ليس بإنسان، حتى ليتصور شعراء هذا الاتجاه ما ليس إنسانا، وكأنه إنسان يحس إحساسه، ويفكر تفكيره ويفعل أفعاله.. ومن ذلك قول الهمشري:

فنسيم المساء يسرق عطرًا

من رياض سحيقة في الخيال

صور المغرب الذكي رباها

فهي تحكي مدينة الأحلام

ووراء السياج زهرة فل

غازلتها أشعة في المساء

إنّ هذي الأزهار تحلم في الليل

وعطر النارنج خلف السياج

1 انظر: ديوان ناجي ص282 "قصيدة رسالة محترقة".

2 انظر: ديوان ناجي ص153 "قصيدة الغريب".

ص: 333

والندى والظلال تنعس في الما

ء وهذا الشعاع خلف الغمام1

فالشاعر يجعل النسيم لصًّا ظريفًا، يسرق العطر من رياض سحيقة في الخيال، كما يجعل المغرب مصورا ذكيًا ترسم ألوانه لوحة الربا، ثم يجعل أشعة المساء محبة غزلا، وزهرة الفل حبيبته التي يوجه إليها هذا الغزل، وأخيرًا يجعل الأزهار تحلم في الليل، والندى والظلال تنعس في الماء، وكل هذا بسبب منح الشاعر الحياة الإنسانية لهذه المظاهر الطبيعية، واعتبارها -في تصوره- كالبشر في إحساسهم، وتفكيرهم، وأفعالهم.

بل إن خاصة التشخيص ومنح الحياة الإنسانية، لا تقتصر على المحسوسات، وإنما تتجاوزها إلى المجردات، ومن ذلك قول ناجي وقد عاد إلى بيت أحباب فوجده قد تغير:

والبلى أبصرته رأي العيان

ويداه تنسجان العنكبوت

صحت: يا ويحك تبدو في مكان

كل شيء فيه حي لا يموت

كل شيء من سرور وحزن

والليالي من بهيج وشجي

وأنا أسمع أقدام الزمن

وخطى الوحدة فوق الدرج2

فالبلى -وهو معنى تجريدي- لا يجسمه الشاعر فحسب، ولا يخلع عليه الحياة فقط، وإنما يمنحه حياة إنسانية ويشخصه، حتى ليراه ويداه تنسجان العنكبوت

وكذلك الزمن والوحدة -وهما معنيان مجردان- يمنحهما الشاعر حياة البشر، حتى يكون للزمن وقد أقدام، وللوحدة صوت خطى، وهما يجوسان خلال بيت الأحباب المهجور.

والخاصة الرابعة من خواص هذا الاتجاه المتصلة بالأسلوب وطريقة الأداء، هي التجريد، وتحويل المحسوسات من المجال المادي الذي هو طبيعتها، إلى

1 انظر: الروائع جـ1 ص17-18.

2 انظر: ديوان ناجي ص40 "قصيدة العودة".

ص: 334

مجال معنوي هو من خلق الشاعر، وهذه الخاصة عكس الخاصة السابقة، وأقل منها استعمالًا، ولكنها من سمات التعبير الشعري عند شعراء هذا الاتجاه أيضًا. ومن نماذجها قول محمود حسن إسماعيل في شمعة غرفته:

كأنها والدجن يلهو بها

أمنيةٌ في يأسها فانيه1

وقول عبد الحميد الديب في بائس فنان:

كأنه حكمه المجنون يرسلها

من غير قصد فلا تصغي لها أذن

ثيابه كأمانيه ممزقة

كأنها -وهو حي- فوقه كفن

هو الهدى صرفتكم عنه محنته

إن العزيز مهين حين يمتحن2

فالشمعة -والظلام يلهو بها- أمنية فانية عند الشاعر الأول، والبائس حكمة مجنون، وثيابه أمان ممزقة، وهو هدى صرفت الناس عنه محنته، عند الشاعر الثاني.

والخاصة الخامسة من خصائص أسلوب هذا الاتجاه وطريقه تعبيره، هي التعاطف مع الأشياء، الذي يصل أحيانًا إلى حد الامتزاج بها، أو الحلول فيها والتفكير من خلالها3، فالشاعر لا يكتفي بخلع الحياة على الشيء غير الحي، ولا يقف عند منح الإنسانية لما ليس بإنسان، ولا يقنع بإقامة مشاركة وجدانية بينه وبين الأشياء، وإنما يتجاوز ذلك كله إلى جعل الشيء يفكر بدلاً منه، ويحس نيابة عنه، ويعبر عما يريد هو أن يومئ إليه، ومن ذلك قول الهمشري في "النارنجة الذابلة":

وهنا تحركت الشجيرة في أسى

وبكى الربيع خيالها المهجور

وتذكرت عهد الصبا فتأوهت

وكأنها بيد الأسى طنبور

وتذكرت أيام يرشف نورها

ريق الضحى ويزورها الزرزور4

1 انظر: مجلة أبولو المجلد الثاني ص593 "قصيدة مقبرة الحي".

2 انظر: مجلة أبولو المجلد الثاني ص24.

3 انظر: الشعر المصري بعد شوقي الحلقة 3 ص15.

4 انظر: الروائع جـ1ص13-14.

ص: 335

فالواقع أن الشاعر هو الذي تحرك في أسى وبكى خياله على الربيع، وهو الذي تذكر عهد الصبا، فأرسل الآهات على أيام النور والوضاءة والطلاقة والتغريد، نعم هو الشاعر الذي فعل كل هذا، ولكنه حل في الشجرة أو اتحد بها، فجعلها تحس ما يحس وتشعر بما يشعر، وتعبر عما يريد أن يعبر عنه1.

ولعل من ذلك أيضًا قول الصيرفي عن "عقب السيجارة":

في الأرض ملقاة مذهبة

هذي البقية من سجارتها

منبوذة كانت مقربة

من ثغرها تفنى لسلوتها

كانت تؤانسها فتخلق من

موج الدخان عوالما شتى

كانت تؤانسها فتبعث من

قبر الحياة حوادثًا موتى

فرمت بها يا سوء ما يلقى

من عز يوما من هوى الغيد

يفنى الفؤاد هوى وما أشقى

قلبًا يضحى فوق جلمود2

فعقب السيجارة من شأنه أن يلقى، وألا يصان في متحف، ولكنها ليست سيجارة عادية، إنها سيجارة امتزج بها الشاعر وفكر من خلالها، أو ربط بين مأساته ومأساتها، فجعلها تحس بما أحس به، حين نبذته الحبيبة وطرحته، بعد أن كان المؤنس الذي يخلق لها عوالم شتى، ويبعث حولها الحوادث الموتى، ولهذا الامتزاج بين الشاعر والسيجارة، كانت صرخته من أجل هذا "العقب" الملقى على الأرض، أو من أجل نفسه الممثلة في هذا "العقب":"يا سوء ما يلقى من عز يوما في هو الغيد"، "وما أشقى قلبًا يضحى فوق جلمود".

والخاصة السادسة من خصائص هذا الاتجاه المتصلة بالأسلوب الفني

1 انظر: الشعر المصري بعد شوقي لمحمد مندور ص15-16.

2 انظر: الألحان الضائعة لحسن كامل الصيرفي ص54-55.

ص: 336

وطريقة الأداء الشعري، هي خاصة التعبير بالصورة، فالغالب على شعراء هذا الاتجاه هو عدم التعبير المباشر عن الأفكار، والعواطف والأحاسيس، وإنما التعبير عنها من خلال صور شعرية، وهذه الصور تكون حينًا صورًا جزئية تؤلف لتجسيم الفكرة، أو لتعميق الإحساس بالعاطفة، كقول أبي شادي في ملاحة حسناء:

هيفاء ينبض بالملاحة جسمها

فترى الحياة من الثياب تطل1

وكقول ناجي في عذاب محبوبه له:

كم تقلبت على خنجره

لا الهوى مال ولا الجفن غفا2

وتكون الصورة أحيانًا أخرى صورة كلية تمثل مشهدًا حيًّا خارجيًّا، أو جوًّا نفسيًّا داخليًا، وهذا المشهد أو ذاك الجو يؤلف من صور جزئية تتآزر لتشكل الصورة الكلية، وصور شعراء هذا الاتجاه تمتزج فيها الحقيقة بالخيال غالبًا، فهي تتخذ نقطة انطلاق من الواقع، ثم تضم إليها إضافات خلاقة من خيال الشاعر، لتؤلف في النهاية شيئًا جديدًا مبتدعا3، وقد تعتمد الصورة على الخيال فقط، ولكنه الخيال المستمد من الواقع كثيرا من عناصره.

ومن أمثلة صورهم التي تمثل مشهدا خارجيا حسيا، وتمتزج فيها الحقيقة بالخيال، قول الهمشري في قريته، وقد لفها المساء:

وقد نسجت أيدي الشتاء سياجها

عليها، وأسوار الظلام تحاصر

لقد رنقت عين النهار وأسدلت

ضفائرها فوق المروج الدياجر

وقد خرج الخفاش يهمس في الدجى

ودبت على الشط الهوام النوافر

وطارت من الجميز تصرخ بومة

على صوت هرّ في الدجى يتشاجر

وفي فترات ينبح الكلب عابسًا

يجاوبه ذئب من الحقل خادر4

1 انظر: الشفق الباكي لأحمد زكي أبي شادي ص822 "قصيدة غادة البحر".

2 انظر: ديوان ناجي ص340 "قصيدة الأطلال".

3 انظر: الشعر المصري بعد شوقي الحلقة 3 ص14.

4 انظر: الروائع جـ1 ص28-29.

ص: 337

فهذه الصورة الكلية تتألف من صور جزئية عديدة، تجمع بين المرئي والمسموع والساكن والمتحرك، فهناك النهار ترنق عينه للنوم، وهناك الدياجر تسدل ضفائرها على المروج، وهناك الخفاش يهمس في الظلام، والهوام النوافر تدب على الشط، وهناك البومة تطير من الجميز صارخة، على صوت هر يتشاجر في الدجى، وخلال هذا كله ينبح كلب عابس، ويعوي ذئب وسنان.

وليس يبعد أن تكون تلك الصورة رمزًا لجو الشاعر النفسي، وما فيه خلال رسم تلك الصورة من قتام وكآبة، وتشاؤم وإعوال1.

ومن الصور الكلية التي تصور حالة نفسية داخلية، وتعتمد أساسًا على الخيال المستمد من الواقع كثيرًا من عناصره؛ قول ناجي عن لحظة إحساس بداعي الجسد، وقد انتابه هو وصاحبته مرة في ساعة لقاء وشوق:

ومن الشوق رسول بيننا

ونديم قدم الكأس لنا

وسقانا فانتفضنا لحظة

لتراب آدمي مسنا2

فالواقع أنه لم يكن في الخارج الحسي رسول يسعى بين الشاعر وصاحبته، أو نديم يقدم لهمًا كأسًا، وهما لم يتعرضا لهبوب تراب من أي نوع يصيبهما بالانتفاض؛ وإنما هي صورة خيالية محضة يستمد خيالها بعض عناصره من الواقع لتعبر عن جو نفسي داخلي، هو ما أحس به الشاعر في تجربته تلك.

هذا وقد كان التعبير بالصورة عند أصحاب هذا الاتجاه يتسم بالتوفيق غالبًا؛ وذلك حين تتضح الصور، وتتآزر لتحقيق الوحدة، وفي بعض الأحيان كان يخفق التعبير بالصور لعدم تحقق الوضوح الكافي، أو لعدم التآزر بينها أو للسببين معًا3.

1 انظر: الشعر المصري بعد شوقي الحلقة 3 ص14.

2 انظر: ديوان ناجي ص343 "قصيدة الأطلال".

3 عن عوامل نجاح الصورة الشعرية، أو إخفاقها يمكن أن يقرأ:

The Poetic image C، Day Lewis

ص: 338

والخاصة السابعة من خصائص هذا الاتجاه المتعلقة بالأسلوب، وطريقة الأداء، هي الميل إلى استخدام التعابير الرامزة، التي يغلفها سرت من الضباب الخفيف، أو يغشيها جو من الإبهام اللطيف، فيحول بينها وبين الدلالة المحددة المباشرة. فهي لا تعطي مدلولًا وضعيًّا أو مجازيًا دقيقًا، وإنما تثير في النفس أحلامًا ورؤى وأحاسيس مبهمة، تنتقل بها إلى أودية خيالية بعيدة، تبعث بها ذكريات قديمة، أو تخلق فيها علاقات بين أشياء تبدو غريبة.. ومن تلك التعابير:"اللهب المقدس" و"الشاطئ المجهول" و"وادي الجن" و"شاطئ الأعراف"، و"حجب الغيب" و"نهر النسيان"، و"بحر العدم" و"عروس البحر"، فتعبير "اللهب المقدس" مثلا يحمل المرء على أجنحة الخيال إلى معابد الوثنيين، وهم يوقدون نيرانهم ويقومون بعباداتهم في حرارة ذاهلة، وإخلاص ساذج، فحين يعبر بهذا التعبير عن نار الحب مثلًا، فإنه يلقى على هذا الحب لونًا من القداسة، ويقربه من العبادة الحارة الذاهلة والإخلاص الفطري

وتعبير "الشاطئ المجهول" حيث يذكر في مجال خبط الإنسان نحو مصيره الغامض، فإنه يثير في النفس مشاعر اصطخاب الحياة وتلاطمها، حتى كأنها محيط تنتهي أمواهه إلى شاطئ غامض رهيب لا يدري ما يخبأه وراءه، وهكذا يمكن أن يقال في بقية هذه التعابير1.

وقد أدت الخصائص السابقة، كخاصة التوسع في المجاز بناء على وحدة الأثر النفسي، وكخاصة تجسيم المعنويات، وخلع الحياة الإنسانية على ما ليس بإنسان، وكخاصة استخدام التعابير الرامزة -أدت تلك الخصائص إلى خاصة ثامنة من خصائص الأداء الشعري لهذا الاتجاه، وتلك الخاصة هي التجديد في الوصف، فشعراء هذا الاتجاه يكثرون من الأوصاف الجديدة، التي لم يعرفها الاستعمال اللغوي، ولم يألفها التراث الشعري، فالمرأة مثلًا ليست شمسًا أو قمرًا،

1 انظر: مجلة أبولو المجلد الأول عدد يونية سنة 1933 "مقال للهمشري" ص104. وما بعدها. وانظر: الرمزية والأدب العربي الحديث لأنطون عطاس كرم ص80، وانظر: الأدب ومذاهبه لمحمد مندور ص82 وما بعدها.

ص: 339

وليست غصنًا أو رئمًا، وإنما هي كما قال ناجي في بعض حبائبه:

أين من عيني حبيب ساحر

فيه نبل وجلال وحياء

واثق الخطوة يمشي ملكًا

ظالم الحسن شهي الكبرياء

عبق السحر كأنفاس الربى

ساهم الطرف كأحلام المساء

مشرق الطلعة في منطقه

لغة النور وتعبير السماء1

فنحن نرى المرأة هنا نبيلة، وجليلة، وحيية. وخطوتها واثقة، وحسنها ظالم وكبرياؤها شهي، كما أن سحرها عبق، وطرفها ساهم وطلعتها مشرقة، ومنطقها مضيء وطاهر؛ لأن فيه لغة النور وتعبير السماء، وليس من شك في أن جل هذه الأوصاف جديدة كل الجدة، تحمل طابع الابتداع المؤكد للطلاقة الفنية والحرية التعبيرية.. وهكذا شاعت تلك الأوصاف الجديدة في شعر هذا الاتجاه، مثال:"الخيال المجنح" و"المجداف المرح" و"الموجة البرة" و"الزورق المجهد"، و"الأسرار الحيارى" عند علي محمود طه، ومثل:"البلبل الخيالي" و"المغرب الذكي" و"الحلم الذهبي"، و"الذهول الهامد" و"العالم المسحور" عند الهمشري، ومثل: الطعنة المجنونة" و"الليل الضرير" و"السراب الخئون"، و"اللانهاية الخرساء" و"الهوى المجروح" و"الخصر الجائع" عند ناجي.. فهذه الأوصاف ليست مما عرف في الاستعمال العربي قبل هؤلاء الشعراء، وهي لا ترد إلى قياس تأسوه أو نمط سابق ساروا عليه، وإنما هي مرتطبة -قبل كل شيء- بتلك الروح الابتداعية التي كانت تسيطر على هؤلاء الشعرا، وتجعلهم يرون الأشياء بعين حرة، ويحسون الأمور إحساسًا مرهفًا؛ فهم يؤمنون بتراسل الحواس، ويلجأون إلى تجسيم المعنويات وتجريد المحسوسات، وخلع الحياة على ما ليس بحي، بل منح الإنسانية لما ليس بإنسان؛ وهم يؤثرون تعابير لا تحمل دلالة محددة، بقدر ما تحمل إيحاء ورمزًا، ولا تفيد معنى دقيقًا، بقدر ما تثير إحساسًا وتخلق جوًا، وهذا الإيحاء والرمز، وذلك

1 انظر: ديوان ناجي ص342 "قصيدة الأطلال".

ص: 340

الإحساس والجو، هو مايرونه أصدق في نقل تجاربهم، وحالاتهم النفسية إلى قارئيهم أو المتلقين عنهم.

والخاصة التاسعة من خصائص هذا الاتجاه التعبيرية، خاصة تتصل باللفظة المفردة، وهي الإكثار من استعمال الألفاظ المرتبطة بالطبيعة، والألفاظ المتصلة بالجو الروحي، فشعراء هذا الاتجاه يكثرون من استعمال أسماء المظاهر والمشاهد الطبيعية، ويكثرون من ذكر الأشياء المرتبطة بالطبيعة على وجه العموم، فهم يكثرون من ذكر ألفاظ كالشفق والأفق، والشروق والغروب، والفجر والصباح، والشعاع والضياء، وكالبحر والعباب، والموجد والغدير، والجدول والبحيرة، والشط والضفة، وكالروض والدوح، والواحة والحقل، والموج والغاب، والربوة والصخرة، وكالضباب والظلام، والغيم والبرق، والرياح والعواصف، والنسيم والندى، والعطر والشذى، وكالزهر والورد، والعصفور والبلبل؛ وكالسفين والزورق، والشراع والملاح، وما إلى ذلك مما يتصل بعالم الطبيعة.

وشعراء هذا الاتجاه أيضًا يستعملون كثيرًا هذه الألفاظ المتصلة بالحياة الدينية، أو بالعالم الروحي على وجه العموم، من مثل: المعبد والمصلى، والمحراب والدير، ومثل: الصلاة والسجود والتسبيح والخشوع، ومثل: الراهب والعابد والناسك والخاشع، ومثل: النبي والملاك والوحي والسماء، وما إلى ذلك من ألفاظ تتصل بالجو الروحي الشفاف.

يقول علي محمود طه في أغنية غزلية، مستخدمًا كثيرًا من الألفاظ المتصلة بمعجم الطبيعة:

دنا الليل فيها الآن يا ربة أحلامي

دعانا ملك الحب إلى محرابه السامي

تعالى فالدجى وحي أناشيد وأنغام

سرت فرحته في الماء والأشجار والسحب

تعالى نحلم الآن فهذي ليلة الحب

ص: 341

على النيل وضوء القمر الوضاح كالطفل

جرى في الضفة الخضراء خلف الماء والظل

تعالى مثله نلهو بلثم الورد والطل

هناك على ربا الوادي لنا مهد من العشب

يلف الصمت روحينا ويشدو بلبل الحب1

فهنا نجد الليل والدجى، والماء والأشجار، والسحب والقمر، والنيل والضفة، والظل والطل، والورد والعشب، والربوة والبلبل؛ وهي من معجم الطبيعة.

ويقول الهمشري من قصيدة عاطفية، جامعًا بين ألفاظ من المعجم الطبيعي، وأخرى من المعجم الروحي:

كنت فجرًا وكنت فيه ضبابا

شاع في أفقه الوضيء فتاها

وهبطت الحياة شعلة تقديس

وجئت الحياة أنت إلهًا

أنت لحن مقدس علوي

قد تهادى من عالم نوراني

سمعت وقعه السماوي روحي

فأفاقت في معبد الأحزان

أنت عطر مجنح شفقي

فاوح الروح في خمود الذهول

قد سرى في الخيال طيب شذاه

من زهور في شاطئ مجهول

أنت ظل مقدس أنت كهف

طائفي في ربوة الأحلام

غمر الروح في سكينتها السحر

فتاهت عن عالم الآلام2

فهنا نجد الفجر والضباب، والأفق والضوء، والعطر والشفق، والشذى والزهر، وكلها من معجم الطبيعة، كما نجد الشعلة والتقديس والإله، واللحن

1 انظر: ليالي الملاح التائه لعلي محمود ط ص74 "قصيدة سيرانادا مصرية".

2 انظر الروائح جـ1 ص19.

ص: 342

العلوي، والعالم النوراني، والوقع السماوي، والظل المقدس، والكهف الطائفي، وكلها من المعجم الروحي.

والخاصة العاشرة من خصائص هذا الاتجاه في التعبير، خاصة تتصل كذلك باللفظة المفردة، تلك الخاصة هي الميل إلى الألفاظ الرشيقة، ذات الخفة على اللسان وحسن الواقع في الأذن، وذات الإمكانيات الموسيقية الصافية الهامسة البعدية عن الصخب الخطابي والتفاصح اللغوي، والبريئة من الجفاف والوعورة اللذين يتنافيان مع لغة الشعر1، وقد يكون بعض هذه الألفاظ مما لا يعطي معنى قيما، أو يزيد الدلالة شيئًا، بقدر ما تكون له قدرة على خلق جو شعري صاف رفيع، يحلق فيه الشاعر ومن يتلقون عنه، فيرون الأشياء مغلقة بكثير من الأثيرية، أو يرتفع بتلك الأشياء إلى جوه الشعري الصافي، فيخفف من كثافتها ويمنحها كثيرًا من الشفافية والروحية2، ويمكن أن نجد أوضح صورة لذلك في شعر علي محمود طه، الذي كان أبرع شعراء هذا الاتجاه في استخدام الألفاظ الرشيقة المنغومة التي تخلق هذا الجو الشعري المحلق، ففي قصيدة الجندول مثلًا نجد حشدًا من تلك الألفاظ التي لها رشاقة، وفيها طاقة موسيقية كبيرة أولًا، ولها بعد ذلك قدرة على خلق جو شعري صاف مجنح، أكثر مما لها من قدرة على أداء معان قيمة، أو إضافة دلالات ذات شأن، ومن تلك الألفاظ:"المجالي" و"عروس" و"حلم" و"خيال"، و"عشاق" و"سمار" و"مهد" و"جمال"، و"موكب" و"غيد" و"كرنفال" و"جندول" و"كأس"، و"كرم" و"خمر" و"راح" و"أقداح" و"عطر"، و"مغاني" و"سمات" و"أعطاف" و"لفتات"، وما إلى ذلك من ألفاظ ذات رشاقة موسيقية، وقدرة على خلق الجو الشعري، بتتابعها ووفرتها واحتشادها، بكل ما تحمل من نغم حلو، وظل موح وإشعاع نفسي، وراء الدلالات المعجمية

1 انظر: Style: wolter Raleigh،p: 21

2 انظر: الشعر المصري بعد شوقي لمحمد مندور الحلقة ص 79 وما بعدها.

ص: 343

المحددة والمعاني اللغوية الضيقة1.

وقد يضاف إلى تلك الخصائص التعبيرية المتصلة باللفظة المفردة، خاصة استخدام بعض أسماء من "المثيولوجيا" اليونانية أو التاريخ الفرعوني، وهذه الخاصة تتضح عند أحمد زكي أبي شادي، وتبدو كذلك عند علي محمود طه، ولكن بصورة أقل.

فأبو شادي يكثر من ذكر أسماء مثل: "أزوريس" و"أرفيوس" و"إيزيس" و"أخناتون" و"فينوس"، وأحيانًا يبلغ به الإصرار على ذكر بعض تلك الأسماء، حد تحويرها بما يتلاءم مع الوزن، ومن ذلك قوله مثلًا عن "فينوس":

ولو لم يكن "لفنوس" الخلود

لزلزلت الأرض زلزالها2

وقوله ذاكرًا "أخناتون" في حديثه عن "نفرتيتي":

هذي حياة النيل ربه عرشه

ومنى "أتون" رشاقة وجلالا3

وعلي طه يذكر أسماء مثل "سافو" و"تاييس" و"بليتيس" و"كيوبيد"، وما إلى ذلك، ومنه قوله في "مخدع مغنية":

نام في بابه العزيز "كيوبيد"، ولكن في كفه المفتاح4.

جـ- خصائصه في موسيقى الشعر:

وأما خصائص هذا الاتجاه في موسيقى الشعر، فأهمها الاعتماد الكبير على القالب المقطعي، إلى جانب الاعتماد على القالب الموحد، ومعنى ذلك أن شعراء هذا الإتجاه كانوا -إلى جانب نظمهم القصائد ذات الوزن المطرد، والقافية الملتزمة- يكثرون من نظم القصائد المؤلفة من مقاطع، تختلف قوافيها من

1 انظر: المصدر السابق ص80-81.

2 انظر: ديوان الشفق الباكي لأحمد زكي أبي شادي ص763 "قصيدة الشلال".

3 انظر: مجلة أبولو: المجلد الأول ص577.

4 انظر: الملاح التائه لعلي محمود طه ص41 "قصيدة مخدع مغنية".

ص: 344

مقطع إلى مقطع، وقد تختلف أوزانها من جزء إلى جزء. فهذا النوع الثاني الذي يسمى القصائد المقطعية كان عندهم لونين، لون ليس فيه من تنوع إلا في القافية، التي تتغير من مقطع إلى مقطع، كالمزدوج الذي يتألف من أزواج شطرات، كل زوج على قافية واحدة تخالف بقية القوافي. وكالمربع الذي يتالف من مقاطع، كل مقطع مكون من بيتين، أحيانًا يكون بين الشطرين الأول والثالث منهما اتفاق في قافية، وبين الآخرين اتفاق في قافية أخرى، وأحيانًا تكون الشطرات الأربع متحدة في قافية تخالف فيها بقية المقاطع، وفي بعض الأحيان تتحد ثلاث شطرات فقط في القافية، وهي الشطرات الأولى والثانية والرابعة، أما الثالثة فتكون حرة، وكالخمس الذي يتألف من مقاطع، كل مقطع مكون من خمس شطرات، تتحد أحيانًا في القافية التي تخالف قافية المقاطع الأخرى في القصيدة، وأحيانًا أخرى تتحد منها أربع شطرات في القافية وتختم بشطرة خامسة ملتزمة في كل الخواتيم، ومتفقة مع قافية الفقرة الأولى. وكالمسمط الذي يتألف من مقاطع تختلف قوافيها دون أن تحصر في أربع، أو خمس على أن يختم كل مقطع بشعر -أو أكثر- يكون على قافية متماثلة في القصيدة كلها1.

ومن أمثلة هذا الشعر المنوع القوافي في مهارة، وتفنن قول ناجي في "عاصفة روح"، وهو من المربع الذي تتفق فيه الشطرة الأولى مع الثالثة، والثانية مع الرابعة:

أين شط الرجاء

يا عباب الهموم

ليلتي أنواء

ونهاري غيوم

أعولي يا جراح

أسمعي الديان

لا يهم الرياح

زورق غضبان2

إلى آخر هذه القصيدة التي تمضي هكذا في تقابل بين كل شطرين من شطرات المقطع الواحد.

1 انظر: في هذه الأنواع: موسيقى الشعر للدكتور إبراهيم أنيس ص227 وما بعدها.

2 انظر: ديوان ناجي ص299 "قصيدة عاصفة روح".

ص: 345

ومنه أيضًا قول علي محمود طه في "سيرانادا مصرية"، وهي من المسمط:

دنا اليل فهيا الآن يا ربة أحلامي

دعانا ملك الحب إلى محرابه السامي

وتعالى فالدجى وحي أناشيد وأنغام

سرت فرحته في الماء والأشجار والسحب

تعالى نحلم الآن فهذي ليلة الحب

على النيل وضوء القمر الوضاح كالطفل

جرى في الضفة الخضراء خلف الماء والظل

تعالى مثله نلهو بلثم الورد والفل

هناك على ربى الوادي لنا مهد من العشب

يلف الصمت روحينا ويشدو بلبل الحب1

إلى نهاية هذه القصيدة التي تؤلف من مقاطع خماسية، ثلاثة الأبيات الأولى من كل على قافية تتغير من مقطع إلى آخر، والبيتان اللذان يختم بها المقطع على قافية ملتزمة في القصيدة كلها.

وهذا اللون من القصائد المقطعية يسير في تلك التجديدات التي استحدثت قديمًا في العصر العباسي، ونظم منها كثير من الشعراء العباسيين المحدثين، حينما أرادوا التجديد في موسيقى الشعر2.

وأما اللون الثاني من لوني هذا الشعر المقطعي، فهو اللون الذي يتجاوز التنويع في القافية، ويصل إلى الوزن نفسه، وفي هذا اللون نرى شعراء هذا الاتجاه لا يتلزمون وحدة الوزن الشعري، التي تفرض أن تكون القصيدة كلها من بحر واحد، وفي حالة واحدة من حالاته -التامة أو المجزوءة أو المشطورة، أو المنهوكة- وإنما يتحررون، فيجعلون القصيدة على حالات

1 انظر: ديوان ليالي الملاح التائه ص74.

2 انظر: موسيقى الشعر للدكتور إبراهيم أنيس ص276 وما بعدها.

ص: 346

مختلفة من حالات البحر، فيكون جزء من الرمل مثلا في حالته التامة ذات الافعيل الثلاث، وجزء آخر من الرمل في حالته المنهوكة ذات التفعيلة الواحدة، فتأتي شطرة طويلة وأخرى قصيرة، وقد يؤلف الشطران بيتًا واحدًا من أبيات القصيدة، ومن أمثلة ذلك قول أبي شادي في إحدى قصائده الغزلية:

جزع الصب وللحزن العميق في سبيلك

لوعة الدنيا، فمن هذا يطيق لمثيلك1

إلى آخر هذه القصيدة، التي يستخدم فيها الشاعر بحر الرمل في حالتين من حالاته، الحالة الأولى تعتمد على ثلاث تفعيلات، والحالة الثانية تعتمد على تفعيلة واحد، وقد جعل الأولى لكل الشطرات الأولى من القصيدة، وجعل الثانية لكل الشطرات الثانية منها.

على أن ذلك التنويع في موسيقى الشعر لم يكن يقوم عند شعراء هذا الاتجاه على غير أساس، وإنما كان أساسه هو التزام التماثل بين الأجزاء المتقابلة، بحيث ينتظم تنسيق محدد، برغم ما فيها من تنويع وتلوين.

فالشاعر الذي يجعل أولى الشطرات من ثلاث تفعيلات عليه أن يضع مقابلا لهذه الشطرة، وعليه أن يجعل المقابل على نفس الوزن، فإذا لم تكن الشطرة الثانية هي المقابل المماثل، كانت الشطرة الأولى من البيت الثاني مثلا.

وإذا كانت الشطرة الثانية من تفعيلة واحدة، التزام الشاعر أن يجعل تلك لتلك الشطرة مقابلا مماثلا في الوزن أيضًا، وهكذا. والشاعر الذي يجعل هذه البداية جزءًا أول من مقطع، ويتبعه بأبيات تختلف في نغمها عن هذا الجزء، عليه أن يلتزم ذلك النظام الثنائي في كل المقاطع بحيث يتحقق التقابل والتماثل، مع وجود التنويع والتحرر، وقد يصل هذ التنويع والتحرر درجة بالغة تكثر فيها الشطرات المختلفة، وتتسع خلالها درجة التخلف بين شطرة طويلة

1 انظر: ديوان زينب، للدكتور أحمد زكي أبي شادى ص36 "قصيدة الجزاء العادل".

ص: 347

وأخرى قصيرة، ولكن ذلك يكون دائما محكوما بمبدأ التقابل والتماثل، فكل شطرة لها ما يقابلها ويماثلها، ويحقق معها تناسقا وانسجاما، بل ضبطا وإحكاما، برغم التنويع الكثير والاختلاف البعيد.. ولعل أوضح نماذج ذلك، قول الصيرفي في إحدى قصائده العاطفية:

ليتني البسمة تعلو شفتيك

مثلما تعلو طيور فوق أيك

تتنزى وهي تشدو

في السكون

تختفي حينا وتبدو

في الغصون

فأرى من أين تأتي وتبين

وأرى هل أنت حقا تبسمين

لي من قبلك أم لا تحفلين

بسلامي وكلامي؟ ليتني1

وهذا اللون من الشعر المقطعي الذي ينوع الأوزان إلى جانب تنويع القوافي يسير في طريق الموشحات، التي اخترعها الأندلسيون منذ أواخر القرن الثالث الهجري "التاسع الميلادي"، والتي نقلت عنهم إلى المشرق2، وازدهرت حينا بين طائفة من الشعراء المجيدين، ولكنها ظلت -في جملتها- دون القصيدة، بل أهملت أخيرا كقالب موسيقي للشعر، إلى أن التفت إليها المهجريون، ثم شعراء هذا الاتجاه الابتداعي العاطفي، وأكسبوها جدة بما لهم من أسلوب جديد، وأغراض جديدة.

ومن أهم خصائص موسيقى الشعر لهذا الاتجاه كذلك، الاعتماد على البحور ذات الموسيقى الجياشة المتدفقة، دون رنين عال أو نبرة خطابية، فهم يميلون -من بين بحور الشعر- إلى الخفيف والرمل والهزج، وإلى المجزوءات التي تشيع الحركة والخفة، والهمس في نغم الشعر، وهم يقلدون من

1 ديوان قطرات الندى لحسن كامل الصيرفي "مخطوط" عن الشعر المصري بعد شوق لمحمد مندور ص114-115 الحلقة الثانية.

2 انظر: الأدب الأندلسي للمؤلف ص156 وما بعدها.

ص: 348

البسيط والطويل والوافر، وما إليها من البحور ذات التفاعيل الكثيرة، والنبرة الخطابية والرنين العالي.

وهكذا جدد هؤلاء الشعراء في موسيقى الشعر، ولكن تجديداتهم -في جملتها- مل تكن مبتكرة كتجديداتهم في الأسلوب وطريقة الأداء، حيث كانت تجديداتهم في مجال موسيقى الشعر مبنية على أنماط عربية قديمة، بعضها قد سبق إليه المشارقة في العصر العباسي، وبعضها قد ابتكره الأندلسيون بعد ذلك بقليل، ففضل شعراء الاتجاه الابتداعي العاطفي هو في التفاتهم إلى هذه الينابيع الثرة للنغم الشعري، -وهي قوالب الموشحات- التي كانت قد أهملت، وأوشك أن يطمرها الزمن، برغم أنها تستطيع مد موسيقى الشعر العربي دائمًا بما لا يحد من ألحان منوعة، تحول دون الرتابة التي قد تترتب على التزام الوزن المضطرد والقافية الملتزمة، كما تحول دون النثرية التي تتبع إهمال الوزن والقافية، والتمرد عليهما تمامًا.

على أننا إذا أردنا أن نتلمس إضافات شعراء هذا الاتجاه، إلى هذه القوالب الموسيقية المسبوقة، فإننا لن نخطئ بعض هذه الإضافات؛ ففي قالب القصيدة الموحدة نجد بعضهم يستخدم بحورًا قديمة، ولكن في صورة لم يألفها الشعر العربي، ولم يقرها العروضيون، كاستخدام بحر في تفعيلة واحدة من تفاعيله لكل شطرة، ومن ذلك قول أبي شادي في قصيدة له عن "الأمل":

يا أمل

يا أمل

يا هدى

من عمل

يا حلى

للبطل

يا قوي

في الجلل1

إلى آخر القصيدة التي تتألف كل شطرة من شطراتها من تفعيلة واحدة هي "فاعلن".. وكاستخدام بحر في مجموعة تفاعيله التامة، دون رضوخ لما يشترط فيها من بعض الحذف الذي لاحظه العروضيون على المأثور من شعر

1 انظر: ديوان الشفق الباكي لأحمد أبي شادي ص819-820.

ص: 349

العرب، كما حدث في تفاعيل الرمل مثلًا، حيث اشترطوا ألا تؤلف ست تامة منها بيتًا من الشعر، ولكن بعض الشعراء من السائرين في هذا الاتجاه، لم يأهبوا بهذا، ونظموا من الرمل على تفاعيله التامة الست، ونجد نماذج من ذلك عند أبي شادي، وعلي محمود طه.

وفي القصيدة المقطعية التي من اللون الأول، نرى أن بعض الشعراء، يقطع أحيانًا رتابة الوزن المطرد، بإدخال بعض المقطوعات المخالفة في وزنها لمعظم مقطوعات القصيدة، ويكون ذلك غالبًا حين يتغير الموقف النفسي، أو حين يتغير المتحدث، أو حين يطرأ تغيير ما على السياق يسمح -أو يقتضي- أن تتغير الموسيقى.

ومن أمثلة ذلك ما نجده في قصيدة الأطلال لإبراهيم ناجي، فقد سارت كلها على مقطوعات رباعية من بحر الرمل بتفاعيله الست، إلا عدة مقطوعات ذكرها الشاعر قرب ختام القصيدة، جاعلًا كل شطر منها على تفعيلتين بدلًا من ثلاث، مع اختلاف بينها كذلك من حيث تمام التفعيلتين، أو حذف بعض الأجزاء منهما، فعلى حين نجد الشاعر يمضي في معظم القصيدة على هذ النحو:

يا فؤادي رحم الله الهوى

كان صرحًا من خيال فهوى

اسقني واشرب على أنغامه

وارو عني طالما الدمع روى1

نراه قبيل نهاية القصيدة يقصر الوزن، فيقول:

لست أنسى أبدا

ساعة في العمر

تحت ريح صفقت

لارتقاص المطر2

ويمضي هكذا في بعض المقاطع التي فيها تغيير للموقف والمتحدث، ثم يعود إلى وزن الأصلي حين يعود هو إلى الحديث كما كان في أول القصيدة، ولذا يختم القصيدة بنفس النغم الذي بدأها به.

1 انظر: ديوان ناجي ص341 "قصيدة الأطلال".

2 انظر: ديوان ناجي ص345 "قصيدة الأطلال".

ص: 350

ومن أمثلة هذا التغيير الذي يدخله الشاعر على وزن القصيدة المقطعية التي من اللون الأول، ما نجده عند الهمشري في قصيدة "النارنجة الذابلة"، حيث يلجأ صاحبها في بعض المواطن إلى عدم التزام شكل المقطع الذي سار عليه منذ أول القصيدة، فهو قد غلب استخدام المقاطع رباعية مسمطة ببيت خامس مكرر تختم به المقطوعة، ولكنه لم يلتزم ذلك في كل القصيدة، بل جعل بعض المقاطع ثنائية على طريقة المزدوج، وجعل بعضها رباعية بلا تسميط، وهكذا جاءت المقاطع منوعة خلال القصيدة، وإن غلب عليها المقطع المسمط1، وهذا التغيير قد أحدث في القصيدة حركة، وبعد بها كثيرًا عن الرتابة، بل حقق بها مرونة الشعور، وتنوع الإحساس الذي يوحى به تنوع النغم2.

على أن بعض شعراء هذا الاتجاه قد أقدموا على محاولات أكثر جرأة، وذلك في السنوات الأولى التي شهدت فكرة التجارب الفنية، ومن تلك المحاولات، استخدام قال الشعر المرسل، الذي لا يلتزم قافية ما، وإنما يلتزم الوزن فحسب3. وكان شكري قد سبق إلى هذا القالب، ولكن هذا القالب المرسل لم يصادف نجاحًا عنده، كما لم يصادف في محاولات شعراء هذا الاتجاه كذلك، ومن محاولات بعضهم الجريئة، استعمال أكثر من بحر في القصيدة الواحدة، مع التنويع في الشطرات طولًا وقصرًا، ومع التحرر من القافية4، وهذه المحاولة تشبه من بعض الوجوه بعض محاولات الشعر الحرب، حيث لا يلتزم وحدة

1 انظر: "الروائع جمع محمد فهمي ص12".

2 انظر: Poetry Direct and Ablique: Tillyard P.60

3 اقرأ بعض نماذج هذا الشعر لأحمد أبي شادي في "الشفق الباكي" مثل "ممنون الفيلسوف" ص625-639 و"إذا" ص923-925: والأول مترجمة عن قصة لفولتير، والثانية مترجمة عن قصيدة لكبلنج.

4 اقرأ بعض نماذج لها في: "مختارات وحي العالم" لأحمد زكي أبي شادي ص44-45، قصيدة مناظرة وحنان"، وفي "الشفق الباكي" للمؤلف نفسه ص535، قصيدة "الفنان".

ص: 351

البيت كما لا يلتزم القافية، ولكن هذه المحاولة هي الأخرى لم تصادف أي نجاح في شعر أصحاب هذا الاتجاه، ولذا عدل عنها وعن مثيلاتها الدكتور أحمد زكي أبو شادي، الذي كان أكثر شعراء هذا الاتجاه جرأة في محاولة التجديد في موسيقى الشعر.

هذه أهم خصائص هذا الاتجاه في الموضوعات والتجارب، وفي الأسلوب وطريقة الأداء، ثم في الموسيقى والقالب النغمي.

د- خصائصه من حيث المضمون:

أما خصائصه من حيث المضمون، فأولاها غلبة الجانب الوجداني على المضمون الشعري، بحيث تبدو العاطفة أوضح خيط في نسيجه، أو بحيث تمثل أهم ما عند الشاعر، وأبرز ما يحاول نقله إلى الآخرين.

والخاصة الثانية هي غلبة طابع الحزن على تلك العاطفة، بحيث تصدر عن أسى ومرارة حينًا، وعن يأس واستسلام حينًا، وتثير الشجن والحزن في كثير من الأحايين.

والخاصة الثالثة هي فردية النزعة بحيث يعبر الشاعر -في الأعم الأغلب- عن أحاسيسه هو، ويهتم بهمومه الفردية، ولواعجه الذاتية وشئونه الخاصة على وجه العموم1، وقلما التفت الشاعر -في فترة ظهور هذا الاتجاه- إلى أحاسيس الجماعة، أو اهتم بالأمور الوطنية أو القومية، وحين اهتم بعض الشعراء بتلك الأمور فيما بعد، كانت دائمًا في المحل الثاني.

ونتيجة لهذه النزعة العاطفية الذاتية المنطوية الحزينة، جاءت دواوين شعراء هذا الاتجاه الأولى، تحمل عناوين توحي بالانطواء والذاتية، وتسبح في جو عاطفي حزين، فناجي يسمى ديوانه "من وراء الغمام" ليوحي بأنه شاعر محلق في سماء الشعر، وأنه بعيد عن الأرض، ناء عن دنيا الناس، وأنه

1 انظر: الشعر المصري بعد شوقي للدكتور محمد مندور، الحلقة الثانية ص4، 5 والحلقة الثالثة ص4.

ص: 352

غير مبتهج في هذا التحليق، وإنما هو وراء غمام من الهموم القاتلة، تجعله يرى كل شيء وقد اكتسى غلالة رمادية، أو تجعله لا يرى شيئًا على حقيقته، بعد أن حال الغمام بينه وبين الأشياء.

وعلي محمود طه يسمى ديوانه "الملاح التائه" ليُفهِم أنه هارب من الحياة والأحياء، وأنه يضرب في عوالم شتى من الحيرة والضياع، والوحدة كملاح تاه في بحار لا يعرف لها شط، ولا يدري لعابرها مصير.

وحسن كامل الصيرفي يجعل ديوانه "الألحان الضائعة"؛ ليدل على يأسه الجاثم وحظه العاثر وحزنه العميق؛ فأشعاره ألحان ضاعت سدى؛ لأنها لم تجد أذنًا مصغية، والشاعر يعزفها لنفسه في انطوائية، ويأس ومرارة.

وأحمد زكي أبو شادي يجعل اسم ديوان "الشفق الباكي"؛ ليفيد أنه يستلهم جانبًا نائيًا من الحياة، وهذا الجانب حزين جريح، ففيه لون الدم أولًا، وفيه أحزان البكاء ثانيًا؛ لأنه شفق وباك معًا، وفي هذا الجانب تتمثل نفس الشاعر المنطوية الحزينة الباكية الجريحة.

وبرغم أن هذه النزعة الفردية العاطفية المنطوية الحزينة، كانت تمثل روح الفترة1، قد كانت أهم ما أخذ على هذا الاتجاه، وأبرز ما سبب الهجوم على أصحابه فيما بعد، فقد لوحظ أن شعراء هذا الاتجاه باتباعهم هذه النزعة الفردية المنطوية، قد وقفوا سلبيين من قضايا عصرهم ومشكلات وطنهم، وبدلًا من أن يناضلوا بالكلمة المنغومة المجنحة ليحققوا لمجتمعهم، ووطنهم حياة أفضل، أو على الأقل ليحاربوا الطغيان والظلم الذي جثم على صدره؛ راحوا يبكون ويحملون، ويهربون إلى أحضان الطبيعة حينًا، وإلى حنان الحب حينًا آخر، تاركين وطنهم ومجتمعهم لما فرض عيه من ظلم، وتآمر وانتكاس2.

ويبدو أن المسألة كانت لونًا من رد الفعل الشديد، قابل به هؤلاء

1 انظر: المصدر السابق الحلقة الثانية ص4.

2 انظر: في الثقافة المصرية لمحمود أمين العالم، وعبد العظيم أنيس ص188 وما بعدها.

ص: 353

الشعراء ما كان عند الشعراء المحافظين من إفراط في الإسهام بالشعر من ميادين النضال دون رعاية -في كثير من الأحيان- لمقتضيات الفن ومتطلبات الشعر، حتى تحولت قصائد كثيرة إلى خطب منظومة، بل حتى تورط هذا الاتجاه المحافظ في شعر المناسبات وغرق فيه غرقًا.. أو يبدو أن المسألة كانت عدم نضج في الوعي بوظيفة الشاعر، وما يجب عليه نحو مجتمعه من التزام بقضاياه، واتخاذ موقف نضالي في سبيل تحقيق أمانيه، ولتمكينه من حياة أفضل، وليس ببعيد أن يكون الأمران معًا قد سببا هذه النزعة التي نأت بأغلب شعراء هذا الاتجاه عن الارتباط بقضايا مجتمعهم، ودفعتهم دفعًا إلى الهروب من الظلم، والقهر والفساد، بالانطواء والحزن والشكوى، لا بالمقاومة والتمرد والثورة.

هـ- أهم مصادر تلك الخصائص:

هذه هي أهم خصائص هذا الاتجاه، وليس من شك في أن كثيرًا منها قد أفاده شعراؤه من ثقافتهم الأجنبية التي وصلتهم بنتاج شعراء "الرومانتيكية" الغربيين، وبخاصة الإنجليز، وقد مضى ما يوضح صلتهم بشعر هؤلاء الشعراء، وإعجابهم به1، وقد تمثل تأثرهم بهؤلاء "الرومانتيكيين" في أكثر من جانب، كالاهتمام بموضوعي الطبيعة والحب2، والاتجاه إلى موضوع الحنين

1 انظر: محمد عبد المعطي الهمشري لصالح جودت ص31، وعلي محمود طه للسيد تقي الدين "المقدمة" ص6 و"الكتاب" ص34، 35، ورائد الشعر الحديث لمحمد عبد المنعم خفاجه جـ2 ص281، ومجلة البعثة الكويتية عدد أبريل سنة 1954، وانظر: الينبوع لأحمد زكي أبي شادي "المقدمة" صفحات: ح، ط، ي.

2 عن اهتمام الرومانتيكيين بالطبيعة، انظر: الرومانتيكية للدكتور محمد غنيمي هلال ص132 وما بعدها. وانظر: الرومنطيقية، ومعالمها في الشعر العربي الحديث لعيسى يوسف بلاطة ص57 وما بعدها، وعن اهتمامهم بالحب انظر: الرومانتيكية للدكتور محمد غنيمي هلال ص143 وما بعدها: وانظر: الرومنطيقية لعيسى يوسف بلاطه ص63 وما بعدها.

ص: 354

إلى مواطن الذكريات1، والإكثار من الشكوى وبث الحزن2، ثم في النزعة العاطفية المنطوية، والروح الهاربة على أجنحة الخيال3، وأخيرًا في الثورة على الأساليب المحافظة، واصطناع أساليب مبتدعة4.

وليس من شك أيضًا في أن بعض الخصائص الفنية لهذا الاتجاه، قد أفادها شعراؤه من صلتهم بنتاج الشعراء الرمزيين، وقد مضى أيضًا ما يوضح أن أعلام هذا الاتجاه "الابتداع العاطفي"، كانوا على صلة بشعر "بودلير" و"فرلين"5. كذلك كان أحمد زكي أبو شادي يشيد بقيمة بعض الخصائص الرمزية في التعبير، ومن المأثور عنه قوله: "كلما سما الفن كان رمزيًا في بلاغته؛ لأنه بهذا الرمز يثير التفكير والتأمل، ويثير عواطف شتى مكنونة، ويحيي ذكريات، ويكون علاقات ذهنية ونفسية متنوعة بين صور الحياة"6.

وكذلك كان الهمشري أيضًا يدرك القيمة الفنية لبعض الوسائل الرمزية، كالإبهام الرمزي الذي يقول فيه:"إنه أسمى ما يصل إليه الفكر العبقري في نواحي تعبيره"7.

1 انظر: الرومانتيكية للدكتور هلال ص59 وما بعدها، وانظر: الشعر المصري بعد شوقي لمحمد مندور الحلقة 3 ص7 وما بعدها، وانظر: الرومنطيقية لعيسى بلاطة ص61 وما بعدها.

2 انظر: الرومانتيكية للدكتور محمد غنيمي هلال ص36 وما بعدها، وانظر: مندور الحلقة 3ص4.

3 انظر: الرومانتيكية لمحمد غنيمي هلال ص50 وما بعدها، وانظر: الرومانطيقية لعيسى بلاطه ص57 وما بعدها.

4 انظر: الرومانتيكية لمحمد غنيمي هلال ص153 وما بعدها، وانظر: الرومانطيقية لعيسى بلاطة ص77 وما بعدها، وفي الأدب والنقد لمحمد مندور ص108.

5 مثل ناجي الذي ترجم أزهار الشر "لبودلير"، ومثل علي محمود طه الذي ذكر بودلير، وفرلين في "أرواح شاردة" حيث تكلم عن "بول فرلين" في ص7 وما بعدها، وعن "شارل بودلير" في ص20 وما بعدها.

6 انظر: الشفق الباكي لأحمد زكي أبي شادي ص1211.

7 انظر: مجلة أبولو المجد الأول ص1204 "عدد يونية سنة 1933".

ص: 355

وقد تجلى هذا التأثر بالرمزية في خاصة التوسع في المجاز، بناء على فكرة تجاوب الحواس التي نبه إليها "بودلير"1. كما تجلى في خاصة استخدام التعابير الموحية، التي تخلق جوًا، وتثير خيالا وتجلب ذكرى، أكثر مما تؤدي معنى أو تفيد دلالة أو تزيد فكرة2.

ويمكن أن يضاف إلى مصادر هذه الخصائص الفنية عند بعض شعراء هذا الاتجاه مصدر آخر، هو الأدب المهجري، الذي كان في طابعه العام يتسم "بالرومانتيكية"، وفي بعض جوانبه يرتبط بالرمزية، ومن ذلك كتب جبران خليل جبران، التي تتمثل "ورمانتيكيتها" في جيشان العاطفة، وانطوائية النزعة وغلبة طابع الحزن، والاهتمام بموضوعي الطبيعة والحب، كما تمسها الرمزية في العبارات الموحية، والصور المعبرة عن حالات النفس، والمخاطبة لمكنون اللاشعور، وقد ظهر النتاج المهجري مبكرًا، وكان بعضه ينشر في مصر في وقت نشأة هذا الاتجاه وظهوره إلى النور، فقد أخذت كتب جبران خليل جبران تظهر منذ سنة 1905 3، وتوافر عدد منها ومن غيرها في الفترة التي يساق عنها الحديث، فكانت رافدًا من روافد هذا الاتجاه، وخاصة بالنسبة لمن لم يكونوا يجيدون لغة أجنبية من الشعراء المتطلعين بحكم نزعتهم التجديدية، إلى زاد يشحذ ملكاتهم، ويثير خيالاتهم، ويعطيهم النموذج الذي عليه ينسجون.

ولا يمكن، ونحن بصدد الحديث عن مصادر هذا الاتجاه الفنية، أن ننسى تأثير كل من المحافظثين والمجددين السابقين، حيث أفاد شعراء هذا الاتجاه من حركة الصراع بينهما، وأخذوا من سمات كل اتجاه أحسنها، بل أفادوا

1 انظر: الرمزية والأدب العربي لأنطون غطاس كرم ص92، وانظر: الشعر المصري بعد شوقي الحلقة الثالثة ص22.

2 انظر: الرمزية والأدب العربي لأنطون غطاس كرم ص76-85، وانظر: مجلة أبولو عدد يونية سنة 1933، ص2204، وما بعدها "مقال للهمشري".

3 انظر: أدبنا وأدباؤنا في المهاجر الأمريكية لجورج صيدح ص266 وما بعدها ط3.

ص: 356

بشكل واضح من كتابات المجددين الثلاثة شكري، والمازني، والعقاد على نحو ما ذكر في أول هذا الفصل.

وإذا كان رواد هذا الاتجاه قد اعترفوا بتأثرهم بمطران، واعتزوا بأستاذيته من بين المجددين1، على حين أغفلوا تأثرهم "بالاتجاه التجديدي الذهني"، الذي كان يتصدره العقاد، فليس معنى ذلك أن مطران كان فعلا أستاذهم في التجديد، وأن العقاد وصاحبيه شكري والمازني، لم يكونوا من المؤثرين في هذا الاتجاه الجديد، فالحق أن أعلام الاتجاه التجديدي الذهني، كانوا ذوي تأثير كبير في هذا "الاتجاه الابتداعي" بما لهم من شعر جديد خصب، وبما لهم أيضًا من كتابات رائدة في النقد والتبصير بوسائل التجديد في الشعر، ورمبا كان العقاد بشعره الجديد ونقده الرائد، من أهم المؤثرين في هؤلاء الشعراء الابتداعيين.

غير أنه يبدون أن هؤلاء الشعراء الابتداعيين كانوا -أيام ظهور اتجاههم- يؤثرون السلامة، ويخافون من الخصومات، ويبتعدون عن التحزب، لهذا لاذوا بمطران المحايد المسلم من بين المجددين، وأغفلوا العقاد واتجاهه، لارتباطه بكثير من المعارك والصراعات، التي لم يشأ هؤلاء الشعراء الجدد أن يمسهم شررها وهم في أول الطريق2.

هذا بالإضافة إلى ما كان من صلة قوية بين مطران، وأحمد زكي أبي شادي، تلك الصلة التي ترجع إلى صداقة مطران ووالد الشاعر، فهذه الصلة القوية والمودة القديمة، جعلت أبا شادي يكثر من الإشادة بمطران، وجعلت زملاءه أو مريديه، يجارونه في هذه الإشادة، التي ترجع إلى المجاملة، وإلى شخصية مطران أكثر من أي سبب آخر3.

1 انظر: "أنداء الفجر" لأحمد زكي أبو شادي ص110، وانظر:"أطياف الربيع" لأحمد زكي أبي شادي "مقدمة ناجي" ص "د".

2 انظر: جماعة أبولو لعبد العزيز الدسوقي ص158.

3 انظر: جماعة أبولو لعبد العزيز الدسوقي ص163 وما بعدها وص314، 315.

ص: 357

وبعد، فلعل مما مضى من خصائص هذا الاتجاه يتضح سر تسميته، "بالابتداع العاطفي"، فهو يقوم أولًا على الابتداع المجاوز حد التجديد في الموضوعات والأساليب، وهو يقوم ثانيًا على نزعة عاطفية تشكل أهم مادته الشعرية، وتكاد تطغى على ما سواها من محتويات المضمون الشعري، وإذا كان لا بد من تشبيه هذا الاتجاه باتجاه غربي، فهو أشبه بالاتجاه "الرومانتيكي"1، الذي نجد فيه أكثر الخصائص التي وجدناها في هذا الاتجاه، والذي يقوم إلى درجة كبيرة على دعامتي الابتداع والعاطفية، هذا مع تأكيد ما لم سبق تقريره من أن هذا الاتجاه لا يصل إلى درجة المدرسة الفنية؛ لأنه لم يقم أولًا على فلسفة محددة، ولم يلتزم بمذهب فني خاص، وقد اعترف بعدم مذهبيته بعض أعلام الاتجاه أنفسهم2.

و ريادة هذا الاتجاه:

هذا وقد درج بعض الباحثين على اعتبار الدكتور أحمد زكي أبي شادي رائد هذا الاتجاه، وأستاذ السائرين فيه3، والحق أن الدكتور أبا شادي كان من أوائل المتحمسين لهذا الاتجاه الجديد، كما كان أكثر أصحابه تشيعًا له، وأخذًا بيد الشبان المتجهين إليه، وقد صنع من أجل ذلك الكثير، فأصدر مجلة "أبولو" لتتيح لهم فرصة النشر بجانب الشعراء الكبار، كما ألف "جماعة أبولو" ليعلو فيها صوت هؤلاء الشعراء الشبان، إلى جانب ما كان يزحم الحياة الأدبية من أصوات، كما ساعد على نشر دواوين هؤلاء الشبان

1 انظر: الرومنطيقية، ومعالمها في الشعر العربي الحديث لعيسى يوسف بلاطة القسم الثاني "الرومنطيقية العربية".

2 انظر: حديث أبي شادي عن ذلك في: رائد الشعر الحديث جـ1 ص236.

3 انظر: الشعر المصري بعد شوقي الحلقة الأولى ص90 والحلقة الثانية ص3 والحلقة الرابعة ص4. وانظر: جماعة أبولو لعبد العزيز الدسوقي ص250، 272، 287، 302، 313.

ص: 358

الجدد، وإذاعة نتاجهم والدفاع عنهم1، إلا أنه مع سبقه وتحمسه، ومع كل ما كان له من جهود خيرة، لم يكن أقوى شعراء هذا الاتجاه شاعرية، ولا أعظمهم فنًا، وإن كان أكثرهم خدمة للاتجاه، وأغزرهم نتاجًا بين أصحابه.

وقد اتسم نتاجه الكثير بالعفوية والتلقائية، وعدم التجويد المبني على المراجعة، فجاء غير محافظ على المستوى الفني المرضي؛ حيث ارتفع بعضه إلى درجة الشعر الجيد، وانحط بعضه إلى مهاوي النظم الرديء، وجاء كثير منه على سطحية في الفكر، أو نثرية في التعبير، أو برود في العاطفة2؛ مما لا يدع بصاحبه إلى الصف الأول من بين شعراء هذا الاتجاه، برغم ما نرى من مجاملة بعض رفاقه له، وحديثهم عنه كرافع لواء الاتجاه الجديد3.

والحق أنه إذا كان شوقي قمة "الاتجاه المحافظ البياني"، وإذا كان العقاد قمة "الاتجاه التجديدي الذهني"، فإن ناجي هو قمة الاتجاه "الابتداعي العاطفي"، وذلك لطاقته الأضخم ونتاجه الأجود، وفنه الأسمى، على أن هناك شاعرًا قد مات في عمر الورد، ولو قدر له أن يعيش كما عاش رفاقه، لانتزاع لواء هذا الاتجاه، وتربع على عرش فنه، هذا الشاعر هو محمد عبد المعطي الهمشري الذي نرى نتاجه -الأقل كمًّا من نتاج رفاقه- يمثل إرهاصات عبقرية شعرية فذة، كما نرى فيه أوضح خصائص هذا الاتجاه، بحيث يمكن أن تمثلها القصيدة الواحدة من قصائده إلى درجة كبير4.

1 اقرأ تفصيل ذلك في: جماعة أبولو لعبد العزيز الدسوقي ص302 وما بعدها وص 332، وما بعدها وص487 وما بعدها.

2 انظر: الشعر المصري بعد شوقي لمندور الحلقة الثانية ص17-18 وص29-33، وص 52-53.

3 انظر: اعتراف ناجي مثلًا بأن أبا شادي هو رافع لواء المدرسة الجديدة في: "أطياف الربيع" ص "ل".

4 اقرأ تفصيل حياته في: الهمشري لصالح جودت، واقرأ قصيدته: النارنجة الذابلة"، لترى أهم خصائص هذا الاتجاه مجتمعة.

ص: 359

ز- مقاومة هذا الاتجاه وانتصاره:

وقد لقي هذا الاتجاه كثيرًا من المقاومة، وبخاصة حين خرجت إلى النور دواوينه الأولى سنة 1934، وأعجب ما في هذه المقاومة ما كان منها من النقاد المتحررين ذوي الثقافة الغربية والميول التجديدية، فقد تعرض شعر هذا الاتجاه -ممثلًا في بعض دواوينه الأولى- لهجوم طه حسين والعقاد، وهما دعامتا الأدب الجديد في ذلك الحين، ويبدو أن هذا الهجوم لم يكن بدوافع فنية حتى يثير العجب، وإنما كان وراءه روح الفترة التي تتسم بالصراع السياسي، والخصام الحزبي، الذي انعكس على كثير من المجالات حتى مجال الفكر والأدب1.

فقد عرف أن العقاد كان يضيق بشعراء هذا الاتجاه؛ لأنهم على صلة بأبي شادي ومجلته، وأبو شادي كان -في رأي العقاد- على صلة برئيس الديوان الملكي حينذاك2، كما كانت له كبوة في مدح الملك فؤاد3، وعثرة في التودد إلى رئيس وزرائه في ذاك العهد إسماعيل صدقي4، والعقاد كان على عداء للملك فؤاد، وقد عرض به في البرلمان، وسجن من أجل هذا التعريض5.

وكان ذلك كله في عهد إسماعيل صدقي، الذي كان ينكل بالوفد، ويضطهد كتابه الذين في مقدمتهم العقاد، فكان من الطبيعي أن يشك العقاد في أبي شادي، وأن يسخط على المتصلين به، وأن يعبر عن ذلك بالهجوم على

1 اقرأ ما كتب تحت عنوان "الأدب وغلبة الاتجاه التجديد" في أول الحديث عن الأدب في الفصل الرابع.

2 انظر: جماعة أبولو لعبد العزيز الدسوقي ص494.

3 انظر: الينبوع ص80.

4 انظر: جماعة أبولو لعبد العزيز الدسوقي ص494.

5 كان ذلك سنة 1930 حينما خطب العقاد في البرلمان قائلًا: "إن الأمة مستعدة أن تسحق أكبر رأس يخون الدستور، ويعتدي عليه"، وقد حكم عليه بالسجن تسعة شهور، وكان ذلك في عهد انظر: العقاد: دراسة وتحية ص64-65".

ص: 360

الشعراء الذي ينضمون تحت لوائه، ويسيرون في اتجاهه، وخاصة إذا نمي إليه أن تلك الحركة التي يتزعمها أبو شادي قد أقامها القصر لتحاربه1، ومن هنا هاجم العقاد ناجي هجومًا عنيفًا حين أخرج ديوانه الأول "من وراء الغمام"، واتهمه بالسرقة، والسطحية، والرخاوة.

وكان مما قاله: "وأظهر ما يظهر من سمات هذه المجموعة الضعف المريض والتصنع، فإن صاحبها كما يدل عليه كلامه من أولئك النوع الذي يفهمون أن "الرقة" ترادف البكاء، وأن الشاعر ينظم ليبكي ويشكو، فإذا هجره الحبيب بكى

وإذا تناجى مع حبيبته قال لها: "هاتي حديث السقم والوصب"، إلى نحو ذلك من أعراض الرخاوة المريضة2....".

وأماط طه حسين، فمعروف أنه أخرج من الجامعة في عهد صدقي، ولاقى كثيرًا من الاضطهاد على يد وزير معارفه حينذاك حلمي عيسى3، وقد وجد طه حسين أنا أبا شادي قد تورط في التودد إلى صدقي، كما وجده هو وبعض "جماعة أبولو"، قد زاروا حلمي عيسى في الوزارة ومدحوه، طالبين منه رعاية مجلتهم وتشجيع حركتهم4، فسخط طه حسين على أبي شادي، ومن يلوذون به، واتخذ هذا السخط عدة مظاهر، منها مبايعة العقاد بإمارة الشعر5، ومنها الهجوم على ما صدر من دواوين لشعراء هذا الاتجاه الذي

1 انظر: جماعة أبولو لعبد العزيز الدسوقي ص494.

2 انظر: مقال العقاد في جريدة الجهاد عدد 12 يونيه سنة 1934.

3 أخرج طه حسين من الجامعة سنة 1932، ثم أعيد سنة 1936 "انظر: الهلال عدد أول فبراير سنة 1966".

4 اقرأ تفصيل هذه الزيارة في مجلة أبولو المجلد الثالث ص5 وما بعدها.

5 كانت تلك المبايعة في حفل تكريم أقامة الشباب الوفدي للعقاد بمناسبة فوز نشيده القومي، وكان ذلك الحفل في 27 أبريل سنة 1934.

واقرأ حديث طه حسين في: الجهاد عدد 29 أبريل سنة 1934، وقد ختم طه حسين هذا الحديث بقوله:"ضعوا لواء الشعر في يد العقاد، وقولوا للأدباء والشعراء: أسرعوا واستظلوا بهذا اللواء، فقد رفعه لكم صاحبه".

ص: 361

يريد أن يتزعمه أبو شادي، وهكذا هاجم طه حسين علي محمود طه1، كما هاجم إبراهيم ناجي2، وتحامل عليه تحاملا لا يتفق مع ثقافة الدكتور طه النقدية، ولا مع ذوقه الفني؛ فقد كان مما قاله عنه:"فإذا نظرنا إليه نظرة الناقد المحلل الذي يريد أن يقسم الشعر أنصافًا وأثلاثًا وأرباعًا -كما يقول الفرنسيون- لم يكد يثبت لنا أو يصبر على نقدنا، وإنما يدركه الإعياء قبل أن يدركنا، ويفر عنه الجمال الفني قبل أن يفر عنا الصبر على الدرس والنقد والتحليل". كما قال في تعليقه على أبيات ناجي التي منها:

أمسيت أشكو الضيق والأينا

مستغرقًا في الفكر والسأم

فمضيت لا أدري إلى أينا

ومشيت حيث تجرني قدمي

"فانظر إليه، وقد أمسى يشكو الضيق والأين، وهو مستغرق في الفكر والسأم، فأما الضيق والسأم فقد نفهمها من الشاعر، وقد نفهم أن يشكو التعب، ولا سيما إذا كان طبيبًا قد أنفق ساعات طوالا يلقى المرضى، ويفحصهم وصيف لهم الدواء، ويسمع منهم ما لا يحب للقراء أن يسمعوه، ولكن الذي لا يستقيم للشاعر المجيد، هو الاستغراق في الفكر والسأم معا، فالمفكر لا يسأم والسائم لا يفكر؛ لأن التفكير يشغل صاحبه حتى عن الضيق والتعب والسأم؛ ولأن السأم لا يمكن صاحبه من التفكير، ولا يخلي بينه وبينه".

1 انظر: ما قال عنه في: حديث الأربعاء جـ3 ص148-149، ومن ذلك قوله: "

فهو يغلو في الخيال أحيانًا حتى يجاوز المألوف، ويتورط تورطًا فاحشًا فيما عاب النقاد به أبا تمام، فهو يجسم ما لا سبيل إلى تجسيمه، وليس بذلك بأس إذا لم يسرف الشعراء، وإنما ألموا به لمامًا، أما شاعرنا فيغلو فيه غلوًا فاحشًا، وما رأيك فيم جسم الليل حتى جعل له أوصالا وعروقًا، وأجرى في هذه العروق دمًا، وليت شعري كيف يكون دم الليل، أجامد هو أم سائل، أناصع هو أم قائم، أخفيف هو أم ثقيل، وليت شعري كيف يكون حال الليل إن سفك دمه أيموت أم يتجدد له الدم، فتتجدد له الحياة؟.. وليت شعري كيف تكون أوصال الليل؟ ومن المحقق أن هذه الأوصال والعروق تستتبع لحمًا وعظمًا وجلدًا، وما يتصل بذلك كله

".

وقوله: "فهو شاعر مجيد حقًا، ولكنه ما زال مبتدئًا".

2 انظر: ما قاله في حديث الأربعاء جـ3 ص153-154.

ص: 362

"وعلى كل حال فقد أمسى الشاعر ضيقًا متعبًا مغرقًا في السأم والتفكير، فخرج لا يدري إلى أين ومضى حيث تجره قدمه، فانظر إلى هذه الصورة التي لا تلائم شعرًا ولا لغة؛ فالقدم لا تجر صاحبها وإنما تحمله، وتحمله متثاقلة مكدودة، إذا لم يتح لها النشاط؛ وإنم يجر صاحب القدم قدمه فاترًا مكدودًا لا يقوى على المشي، ولكن الشاعر أراد قافية تلائم السأم، فجعل قدمه تجره على حين كان ينبغي أن يجرها هو"1.

وإذا كان مثل هذا التحامل لا يتفق مع ثقافة طه حسين وذوقه الفني، فإنه يتفق مع روح الصراع الذي كان يسيطر على الحياة المصرية في ذلك الحين، ويفسد عليها كثيرًا من شئونها.

وليس من شك في أن هذه المقاومة التي لقيها هذا الاتجاه -وبخاصة من العقاد وطه حسين- قد فتت في عضد شعرائه، وأصابت بعضهم بصدمة شديدة حملتهم على التوقف، فأعلن أكثر من واحد إضرابه عن قول الشعر، كما كان من إبراهيم ناجي وصالح جودت2، ولكن تلك الوقفة لم تطل، فسرعان ما زالت الصدمة، واستعاد هؤلاء الشعراء الثقة، وواصلوا سيرهم في اتجاههم بحماس أكثر ونتاج أغزر، فازداد عدد الأنظار الملتفتة إليهم، وتضاعف الشعراء السائرون في اتجاههم، وخاصة من الشباب المثقف، الذي لا يريد أن يحصر نفسه في نطاق التراث العربي، وإنما يتطلق إلى آفاق فنية أرحب، وألوان أدبية أخصب، وقد كان هذا الاتجاه بإبداعه وعاطفيته، يستهوي هذا الشباب، حتى رأينا منهم طائفة ممتازة تسرع بالانضمام إلى السائرين فيه، وكان من هؤلاء الشباب المثقفين الطموحين: عزيز فهمي وعبد الرحمن الخميسي، وصالح الشرنوبي، ومحمد فهمي، وهكذا ظل هذا الاتجاه أخصب الاتجاهات الشعرية وأكثرها حيوية، وأشدها رواجًا حتى نهاية الحرب العالمية الثانية.

1 انظر: حديث الأربعاء جـ3 ص153-154.

2 انظر: جماعة أبولو لعبد العزيز الدسوقي ص514-516، وانظر: ديوان ناجي ص20.

ص: 363

ز- محاولات مسرحية وقصصية:

وقد كان لبعض شعراء هذا الاتجاه محاولات في الشعر الموضوعي، أرادوا بها أن يسهموا في تطويع الشعر لفني المسرحية والقصة، أو الخروج به عن الانحصار في قالب القصيدة الغنائية المعروف، ومن أوائل أصحاب تلك المحاولات، الدكتور أحمد زكي أبو شادي، الذي ألف بعض المسرحيات الغنائية "أبرات"، وبعض القصص الشعرية.

أما مسرحياته الغنائية، فالمشهور منها أربع، نشرها سنة 1927، وهي:

"إحسان" و"أردشير" و"الزباء" و"الآلهة"1.

والمسرحية الغنائية الأولى تعرض قصة فتاة مصرية اسمها "إحسان" أحبها ابن عمها الضابط المصري "أمين"، ولكنه قبل الزواج بها سافر إلى الحبشة ضمن حملة عسكرية سنة 1876، ووقع في الأسر. وانتهز "حسن" الفرصة، فأشاع -كذبًا- أنه مات، رجاء أن يحل محله في الزواج "بإحسان"، ولكنه لم يحقق مطمعه؛ لأن الفتاة تزوجت من "كمال" شقيق الضابط الأسير، بناء على وصيته قبل سفره إلى الحبشة، بأن يتزوج أخوه خطيبته إذا مات هو، وقد احتال "حسن" فدس السم لكمال زوج "إحسان"، الذي أخذ يمشي الموت في جسده رويدًا رويدًا حتى انتقل إلى جوار ربه.. وأخيرًا نجا الضابط الأسير "أمين"، وعاد إلى مصر، وعلم بخيانة صديقه "حسن"، ووجد "إحسان" في أيامها الأخيرة، نتيجة لعدوى السل التي أصابتها من زوجها قبل موته، وانتهى أمرها بأن لفظت أنفاسها الأخيرة بين يدي فتاها الأول "أمين" بعد أن صاحت صيحة الفرح والدهشة بعودته ولقائه.

والمسرحية الغنائية الثانية تعرض قصة حب "أردشير"، ولي عهد

1 انظر: رائد الشعر الحديث لمحمد عبد المنعم خفاجى ص48.

ص: 364

ملك شيراز "لحياة النفوس" ابنة ملك العراق، التي كانت تبغض الرجال وترفض الزواج، نتيجة لعقدة أصابتها منهم، بسب رؤيا رأت فيها طائرًا يقع في الشرك فتنقذه أنثاه، ثم تقع الأنثى في الشرك نفسه، ولكن الطائر الذكر يفر تاركا صاحبته للصائد يذبحها.. ولقد زاد رفض "حياة النفوس" للخاطبين، من تعلق "أردشير" بها، وإصراره على الزواج منها.

وحين رفضته هو الآخر، غضب والده "السيف الأعظم"، وصمم على غزو العراق، ولكن ابنه "أردشير" يقنعه بالعدول عن هذه الفكرة، ويلجأ إلى الحيلة في الوصول إلى بغيته، فيرحل إلى العراق، ويتنكر في لباس تاجر كبير، ويلتقي "بحياة النفوس" بعد مراسلة ساعدته عليها مربيتها العجوز.

وهكذا تحب الأميرة الأمير، ويتكرر لقاؤهما، ولكن أباها الملك يكشف علاقتهما ويهم بقتلهما، غير أن الشاة يجيء في اللحظة المناسبة على رأس جيش، للبحث عن ابنه الذي طال غيابه، وحين يلتقي الولدان يتصافيان، وتزف الأميرة للأمير.

والمسرحية الغنائية الثالثة، تعرض قصة "زنوبيا" ملكة تدهر، حين أرادت توسيع مملكتها وتأكيد نفوذها، فغزت مصر بحملة على رأسها ابنها هبة الله، وقائد جيشها "بلينيوس"، وكان هذا القائد يرغب في الزواج من الزباء طمعا في مملكتها، وحين رفضت رغبته حقد عليها، وانضم إلى جيش إمبراطور الرومان "أورليان"، الذي كان قد أرسل لتأديب الزباء على محاولتها الابتعاد عن نفوذ روما، وانتهى الأمر بانتصار هذا الجيش على "الزباء"، والقضاء على مملكة تدمر، وأسر "الزباء" نفسها والذهاب بها إلى روما، وهناك أوضحت للإمبراطور ما كان من أمر القائد "بلينيوس" وأطماعه، وشرحت له أن سر انضمامه إلى الجيش الذي حاربها، إنما هو الانتقام منها على رفضها الزواج منه، وليس وفاء للإمبراطور ولا حبا لروما، وهنا غضب "أورليان" على "بلينيوس" وأمر بإعدامه، وصفح

ص: 365

عن "الزباء"، وأنزلها في ضيافته مكرمة هي وأولادها.

والمسرحية الغنائية الرابعة، تعرض فترة خيالية من حياة شاعر فيلسوف، يستيقظ في غابة الطبيعة على نشيد إلهة الجمال، التي تفتنه، وتخبره بأنها المتصرفة في الدنيا، وتعده بالسعادة الحقة، إذاما أطاع إرشادها، وتعرض عليه أمثلة من نفوذها، وتسمح له في حدود سلطانها بمصاحبة شقيقتها إلهة الحب التي تكلفها بإرشاده وتوجيهه، ولكن إلهة الشهوة، ثم إلهة القوة، تجعلانه يجحد إيمانه بالجمال بالحب، فيشقى ويضل ويندم، بعد أن ينال منه الشقاء والتعاسة، وهنا يدعو إلهتي الجمال والحب لنجدته، ويغمى عليه فيسقط، فتخفان إلى جواره ونجدته والصفح عنه، وتعيدان إليه سعادة الدنيا، وتهيئاته لهناءه الخلود.

ويلاحظ على مسرحيات أبي شادي الغنائية عدة ملاحظات، فهي أولا تستوحي التاريخ الحديث حينا، كما في "إحسان"، وتستوحي التاريخ القديم حينا آخر كما في "أردشير" و"الزباء"، كما تستوحي عالم الأساطير، وتعتمد على الرموز في بعض الأحايين كما في "الآلهة"، وهي ثانيا ليست على حظ كبير من الجودة الفنية، وربما كان ذلك؛ لأنها لم يقصد منها إلى إنشاء نص "درامي" شعري مستقل بمقوماته الفنية، وإنما قصد بها إلى إنشاء أعمال شعرية تكمل فنيتها بالتلحين والموسيقى، ولا يهتم فيها بجودة النص "الدرامي" بالقدر الكافي، نظرا لعدم الاعتماد أساسا عليه وحده.

وتلك المسرحيات الغنائية -بعد ذلك- يلاحظ على شعرها خاصة شعر أبي شادي العامة، الذي يتردد بين القوة والضعف، وتبدو فيه أحيانا نثرية في الأسلوب، وسطحية في الأفكار، وبرود في العاطفة، نتيجة لغزارة نتاجه، وتسجيله لكل ما يعن له، وعدم اهتمامه بالمعاودة والتجويد والصقل1.

1 انظر: الشعر المصري بعد شوقي للدكتور محمد مندور الحلقة الثانية ص11-18، والأدب العربي المعاصر في مصر ص152-153.

ص: 366

وأما كتابات أبي شادي الشعرية في مجال القصة، فأهمها قصتان نشرهما سنة 1926، هما "عبده بك" و"مها"1. والأولى تحكي حكاية زواج رجل مصري من الطبقة الوسطى، بثلاث زوجات تباعًا، الأولى منهن مصرية، يفشل زواجه بها لنقص تربيتها وسوء اختياره لها، والثانية أجنبية، يفشل زواجه بها أيضًا، ولكن نتيجة للتنافر بين الزوجين، واختلاف طباعهما وتقاليدهما، والثالثة من بنات وطنه وبيئته، وينجح زواجه بها لتجنبه الأخطاء التي تورط فيها حين تزوج من السابقتين، وفي خلال هذه القصة يعرض المؤلف ما كان من مهازل الزواج، وما كان يحيط به قبل التطور الاجتماعي من المفارقات وسيئ العادات، كالوسطاء والخاطبات، والأطماع والاندفاع، وعدم رعاية القيم المعنوية التي يجب أن تطلب في الزوجة، والاهتمام بشكليات لا تغني في نجاح الحياة الزوجية شيئًا.

وأما القصة الثانية "مها"، فتحكي حكاية فتاة عربية أحبها ضابط إنجليزي، وأحبته أثناء الحرب العالمية الأولى، في مكان قرب العقبة، وحين رفض أبوها زواجهما هرب الحبيبان، حيث مات المحب في شعاب الجبل، وانتحرت الفتاة فوق جثته بطلقة نارية صوبتها إلى صدرها من مسدسه.

والملاحظ على القصتين، أنهما ضعيفتان من الناحية الفنية؛ لأن الشعر ليس لغة القِصص التي يمكن أن تندرج بحق تحت هذا الجنس الأدبي، إذ الشعر يضيق بأوزانه وقوافيه وأسلوبه، عن الوصف والتحليل، ورسم الشخصيات، وما إلى ذلك من عناصر قصصية ضرورية لنجاح القصة الفنية، ومجال القصة الوحيد هو النثر، الذي نشأت القصة.

ظلاله وصارت تتخذ لغة في جميع الآداب2، وهذا لا يمنع من اتساع الشعر للأقاصيص القصار، التي لا تحتاج إلى عناصر قصصية تحتم مرونة

1 له بعض القصص الشعرية التي ظهرت قبل ذلك مثل "نكبة نافارين" و"مفخرة رشيد"، الأولى سنة 24 والثانية سنة 1925.

2 انظر: الشعر المصري بعد شوقي للدكتور محمد مندور الحلقة الثانية ص19-21.

ص: 367

النثر، بل تبدو كخاطرة أو تجربة شعرية لا يضيق بها الشعر، كذلك لا يعارض هذا ما كان من صوغ الملاح شعرًا -وهي في حقيقتها قصص طوال- وذلك؛ لأن الملاحم كانت تعتمد أساسًا على الأساطير، وتضرب في شعاب الخيال، وهي أمور ألصق بسذاجة الشعر وطبيعته، ولم تكن الملاحم قصصًا بالمفهوم الفني، الذي يتطلب تحليلا للمواقف، ورسمًا للشخصيات وإبرازًا لأبعادها النفسية والاجتماعية والأخلاقية، حتى يضيق بها الشعر كما ضاق بمحاولة أبي شادي، فتلك المحاولة بعيدة عن النجاح، حيث لم تحقق عملا قصصيًا جيدًا، ولم تقدم نصًا شعريًا ممتازًا، ففي الجانب القصصي إملال وإسهاب، وبعد عن خصائص فن القصص، وفي الجانب الشعري فتور ونظم، ونأي عن رونق فن الشعر، ويكفي -شاهدًا على ذلك- أن نقرأ مثل هذين البيتين اللذين يتحدث فيهما الشاعر في قصة "إحسان"، عن الخاطبة الحاجة "حليمة"، وما لها من تجارب وخبرات:

ويقال مصر كَحلةٍ

ومثالها كالمغرفة

فلها اطلاع واسع

ولها اختيار المعرفة1

ولكون سر النجاح عند شعراء هذا الاتجاه هو إدراكهم لطبيعة اتجاههم، ومحاولتهم تنمية هذه الطبيعة لا مسخها؛ نجد أن أنجح محاولة لهم في ميدان الشعر القصصي2، هي محاولة الشاعر الهمشري، التي تمثلها قصيدته القصصية الطويلة "شاطئ الأعراف"، التي كتبها سنة 1929، ونشر أجزاء منها في السياسة الأسبوعية: ثم نشرها كاملة في أبولو سنة 1933 3، وتلك القصيدة تحكي رحلة خيالية يقوم بها الشاعر إلى الشاطئ الذي يقع وراء الحياة،

1 انظر: عبده بك لأحمد زكي أبي شادي ص16.

2 من المحاولات الناجحة "أرواح وأشباح" و"أغنية الرياح الأربع" لعلي محمود طه، ولكنهما من نتاج الفترة التالية، الأولى سنة 1942 والثانية سنة 1943.

3 انظر: جماعة أبولو لعبد العزيز الدسوقي ص565، وانظر الهمشري لصالح جودت ص33-64.

ص: 368

ويشرف على عالم الموت، "بعد أن يخدر الموت شكاته"، وتحمله "سفينة الذكريات" إلى هذه الرحلة العجيبة.

وهذه الرحلة قد اتخذت مجالها عالمًا آخر غير عالمنا، يشبه عالم المعري في "رسالة الغفران"، وعالم "دانتي" في "الكوميديا الإلهية"، وقد عرض الشاعر في هذا المجال أحداثًا خيالية، وجسم معاني تجريدية، تجري بينها تلك الأحداث، فهناك "بحر الوقت"، الذي يتسرب من فتحات في "هيكل الليالي"، وهناك "سفن الموت" التي تحمل كل شيء إلى "وادي العدم"، وهناك "مواكب الحياة"، التي تشرق أولًا بالبهة في "بحر الوقت"، ثم لا تلبث أن تتوارى في "هيكل الليالي"، وهناك بعد ذلك "إلهة الشعر" التي تعرض على الشاعر أن تصحبه إلى "الفردوس". وهناك "المغني" الذي يحاول أن يبعث لحنًا من قيثارته، فلا يخرج منها أي صوت.

والشاعر من خلال هذه الأحداث الخيالية، والمعاني المجسمة، يعبر عن حزن الإنسان وقلقه، وفزعه من نهايته المؤلمة التي تتجسم في الممات، كما يعبر -في الوقت نفسه- عن مأساته الخاصة، التي تتمثل في سوء الحظ في الحياة، وخيبة الأمل في الحب، وقسوة العيش في فقدان العزاء، لدرجة أن الشاعر لم يجد من يبثه شكواه في الدنيا، فراح يبحث عنه في الآخرة1.

فموضوع تلك القصيدة القصصية تجربة ذاتية؛ ولكن الشاعر استطاع أن يوسع أبعادها، فيجعل منها تجربة إنسانية، تعالج خوف البشر وقلقهم الدائم من المصير الحتمي المؤلم.

وقد صاغ الشاعر تلك التجربة في أسلوب شعري جيد، فيه الخيال الجنح، والعاطفة الجياشة، واللغة الجذابة، والموسيقى النابضة، وفيه -قبل ذلك- أهم خصائص هذا الاتجاه الابتداعي التي مضى عنها الحديث.

انظر: الشعر المصري بعد شوقي الحلقة الثانية ص17-18، وانظر: جماعة أبولو لعبد العزيز الدسوقي ص565-579، وانظر: الهمشري لصالح جودت ص63-64.

ص: 369

وبرغم ما اشتملت عليه القصيدة من عثرات لغوية وتعبيرية1؛ قد جاءت من أنجح المحاولات للقصيدة القصصية، التي لا تخرج بالقصيدة عن طبيعتها الغنائية الأصلية، ولكنها ترفدها بعنصر قصصي يمنحها موضوعية توسع مجالها، ويهبها وحدة تربط بناءها: هذا إلى ما يشيع فيها من حركة وحيوية، واتساع وعمق.

هذا وقد جاء عرض هذا اللون من الشعر المتصل بالموضوعية هنا، برغم ما يبدو من أن مكانه الطبيعي هو مكان الحديث عن المسرحية والقصة؛ لأن الناجح من هذه المحاولات في الفترة التي يساق عنها الحديث -وهو محاولة الهمشري- أقرب إلى الشعر الغنائي منه إلى الشعر الموضوعي، فلو أخذناه بمقياس القصة الفنية والمسرحية الحقيقية، لظلمناه: حيث يسقط برغم وصوله إلى مستوى رفيع من الناحية الغنائية، الآخذة بشيء من موضوعية القصة و"درامية" المسرحية.

ص: 370

‌ثانيا: النثر

‌مدخل

ثانيًا: النثر:

كان من أوضح الظواهر الأدبية في تلك الفترة أن النثر قد ازدهر، حتى سبق الشعر، وتصدر ميدان الأدب، بعد أن كان في الفترات السابقة يأتي خلف الشعر، وقد كان طبيعيًا أن يزدهر النثر بعد ما كان من تقدم ثقافي ونضج فكري2، فالتقدم الثقافي والنضج الفكري يستتبعان دائمًا ازدهار النثر، لاحتياجه أبدًا إلى الثقافة، وقيامه أساسًا على الفكرة، بخلاف الشعر الذي قد تكفيه الفطرة الملهمة، وقد يقنع بالعاطفة الساذجة.

كذلك كان طبيعيًا أن يتصدر النثر في تلك الفترة بعد ما كان من

1 مثل قوله: "قم أيا عارف المنون وغني"، وقوله:"ليت شعري فأين أثوي وأينت"، انظر: جماعة أبولو ص579.

2 اقرأ المقال رقم 3 من هذا الباب بعنوان: "نمو الحياة الثقافية".

ص: 370

تغلب للاتجاه الفكري الذي يولي وجهه شطر الغرب، وبعد ما كان من تصدر للأدباء الذين لا يرون في التراث العربي وحده المثل الأعلى1. فالتراث كان يقدم الشعر، وكان الشعر دائمًا هو الفن الأدبي الأول، على حين عرفت الآداب الغربية فنونًا من النثر قد سبقت الشعر بأشواط، أو على الأقل لم تدع له مكان الصدارة، ومن هنا كان تغلب الاتجاه الغربي، وتصدر أدباء من المثقفين ثقافة غربية، ومن المتصلين بآداب الغرب، مستتبعًا بالضرورة تصدر النثر الذي يعملون في ميدانه، ويتصلون في الآداب الأوروبية بأنواعه، ويحاولون أن يتفوقوا على غيرهم بالخوض في هذه الميادين التي لم يكن لغيرهم فيها نصيب يذكر.

وهكذا كان من مظاهر ازدهار النثر وسبقه، ظهور أنواع أدبية نثرية لم تكن معروفة في أدبنا العربي من قبل كالترجمة الذاتية واليوميات والمسرحية المقروءة، بالإضافة إلى ألوان روائية جديدة.

كما كان من مظاهر هذا الازدهار والسبق الذي حظا به النثر، اختفاء الطريقة البديعية تمامًا، واتضاح اتجاهين فنيين للأداء النثري، هما:"الاتجاه الأسلوبي" و"الاتجاه الفكري".

أما الاتجاه الأسلوبي فقد جاء امتدادًا لطريقة المنفلوطي، التي تعني بإشراق الديباجة وروعة البيان، وتعطي عناية خاصة للصياغة2.

وقد كان أعلام هذا الاتجاه من ذوي الثقافة العربية القديمة أساسًا، وإن أضاف بعضهم إلى تلك الثقافة ثقافة أوروبية واسعة، كطه حسين، وأحمد حسن الزيات.

1 اقرأ ما كتب تحت عنوان "غلبة التيار الفكري الغربي" في أول الحديث عن الأدب في الفصل الرابع.

2 اقرأ الفقرة المقال1 من المقالات الخاصة بالثنر في الفصل السابق، وعنوانها "المقالة، وظهور أول فنية للنثر الحديث".

ص: 371

كذلك كان من أعلام هذا الاتجاه من بدأوا يشقون طريقهم في أواخر الفترة السابقة كهذين العلمين1، كما كان منهم من شق طريقه تمامًا فيما مضى ولكن كشاعر، ولم ينصرف إلى النثر ويجعله فنه الأدبي الأول إلا في هذه الفترة، كمصطفى صادق الرافعي2.

1 كان طه حسين قد بدأ يكتب في بعض الصحف في أواخر الفترة السابقة، مثل الجريدة والبيان، كما كتب كذلك رسالته التي تقدم بها إلى الجامعة القديمة عن أبي العلاء المعري 1914، كذلك كان الزيات يكتب في بعض الصحف في أواخر الفترة السابقة، مثل السفور التي كان قد بدأ يترجم على صفحاتها "رفائيل".

2 نشر الرافعي الجزء الأول من ديوانه الأول سنة 1902، ونشر الجزء الثاني سنة 1903، وقد قرظه البارودي والمنفلوطي، وحياة الشيخ محمد عبده، ثم نشر الجزء الثالث سنة 1912، وقرظه حافظ إبراهيم، وكان قد نشر ديوانًا آخر سنة 1908 باسم "النظرات"، قد بدأ الرافعي يتجه إلى النثر بجانب الشعر، وذلك في أوائل العشرينيات، حين نشر سنة 1911، الجزء الأول من كتابه "تاريخ آداب العرب"، الذي ألفه بمناسبة إعلان الجامعة على جائزة لكتاب في أدبيات اللغة العربية، وفي السنة التالية سنة 1912 أصدر الجزء الثاني، وقصره على إعجاز القرآن والبلاغة النبوية، ثم طبعه بعد ذلك باسم "إعجاز القرآن"، وقد قرظه سعد زغلول، كذلك أصدر سنة 1912، "حديث قمر" بعد رحلة إلى لبنان، وتعرفه على شاعرة كان بينه وبينها حديث حب طويل، وفي سنة 1917 أخرج "المساكين"، وهو فصول عن هؤلاء التعساء، وآلامهم وحظوظهم، وعن الخير والشر، وإلى جانب ذلك كان يقول الشعر من حين إلى حين، حتى أسهم به في ثورة سنة 1919، حيث اهتم بالشعر الحماسي، والنشيد الوطني، وأخرج نشيده المشهور "اسلمي يا مصر"

ثم اتجه تمامًا إلى النثر بعد ثورة 1919، وفي خلال الفترة التي يساق عنها الحديث، فأخرج "رسائل الأحزان" سنة 1924، ثم أخرج "السحاب الأحمر" في السنة نفسها، ثم أخرج بعد نحو ست سنوات "أوراق الورد"، وهذه الكتب الثلاثة تدور حول فلسفة الحب والجمال، والمرأة والرجل، والعشق والزواج، وأخيرًا اتصل الرافعي بمجلة الرسالة، وكانت مقالاته فيها آخر صورة لنثره بعد أن تطور، واتضحت ملامحه، وقد جمعت معظم هذه المقالات في مجلدات باسم "وحي القلم".

اقرأ الترجمة الموجزة التي كتبت له في هامش صفحة 241، واقرأ عنه:"حياة الرافعي" لمحمد سعيد العريان. وفي: "الأدب المعاصر في مصر" لشوقي ضيف ص242.

ص: 372

على أن جميعهم لم يقفوا عند مرحلة المنفلوطي، بل تجاوزوها تجويدًا، واتفاقًا في المضمون، وفي الشكل على السواء، فهم قد حاولوا أن يتجنبوا العيوب التي أخذت على طريقة المنفلوطي، كما حاولوا أن يضيفوا إلى حسناتها حسنات، حتى وصلوا بتلك "الطريقة الأسلوبية" إلى مرتبة عظيمة من الرقي، وذلك على اختلاف بينهم في الدرجة والطابع، والسمات الشخصية كما سيتضح فيما بعد.

وقد تبع هذه الطريقة بعد أعلامها الأول، طائفة من ذلك الجبل التالي من الكتاب، الذين بدأوا يظهرون في النصف الثاني من تلك الفترة، وكانوا من ذوي الثقافة العربية أساسًا، من أمثال محمد سعيد العريان، ومحمد عبد المنعم خلاف.

وأما الاتجاه الفكري فقد جاء امتدادًا لطريقة أحمد لطفي السيد، تلك الطريقة التي تعني قبل كل شيء بالمضمون وما يحمل من قيم، وتهتم في المحل الأول بالفكرة، وما يدور حولها من معان، وهي لا تهمل الشكل ولكن لا تنمقه تنميقًا، ولا تغفل الأسلوب ولكن لا تجعل العناية به فوق الصحة والبساطة والدقة والوضوح1.

وقد كان أعلام هذا الاتجاه ممن بدأوا يشقون طريقهم في أواخر الفترة السابقة، مثل الدكتور محمد حسين هيكل2، وعباس محمود العقاد3،

1 اقرأ ص182 من هذا الكتاب.

2 كان هيكل قد بدأ يكتب منذ أواخر الفترة السابقة في الجريدة والسفور والبيان، كما كان قد نشر قصة زينب سنة 1912، ثم أصبح رئيسًا لتحرير "السياسة" جريدة الأحرار الدستوريين، اقرأ ترجمته في هامش ص211 من هذا الكتاب.

3 وكان العقاد قد كتب في عدد من الصحف في الفترة السابقة، مثل: الظاهر والدستور والبيان، ثم أصبح في فترة ما بين الحربين الكاتب الأول لصحافة الوفد، وكان في "البلاغ" يقابل هيكل في "السياسة"، إلى أن أخرج من الوفد، فصار يكتب في صحف خصوم هذا الحزب وخاصة السعديين.

وكان كتابه الأول قد ظهر سنة 1912 باسم خلاص اليومية، وأما ديوانه الأول فقد ظهر سنة 1916، اقرأ ترجمة له في هامش ص155 من هذا الكتاب.

ص: 373

وسلامه موسى1، وقد كانوا جميعًا من ذوي الثقافة الغربية أساسًا، وإن أضافوا إلى تلك الثقافة ثقافة عربية على درجات متفاوتة.

وقد تجاوز أعلام هذا الاتجاه أيضًا مرحلة طريقة لطفي السيد، التي كانت تتسم بالانحصار في دائرة ضيقة من الكتابات الفلسفية والسياسية، ويوشك أن يغلب عليها جفاف لغة العلم، وانطلقوا إلى مجالات شتى أدبية وتاريخية واجتماعية ونفسية وحضارية وفنية؛ كما خطوا بالأسلوب الفكري خطوات، فساح نحو الصقل والإشراق والجمال.

وقد سار في هذا الاتجاه طائفة أخرى من كتاب الجيل التالي لجيل أعلامه، وكانوا كسابقيهم ممن آمنوا بعمق الثقافة في الأدب، وغزارة الفكر في الفن، وممن كان أساسهم الثقافي قائمًا على الثقافة الغربية، ومن هؤلاء محمد مندور وزكي نجيب محمود.

وإذا كان لا بد لكل اتجاه من طرف متطرف، فطرف الاتجاه الأسلوب المتطرف هو الرافعي، وطرف الاتجاه الفكري المتطرف هو سلامة موسى.

وفيما يلي لما سبق من إجمال:

1 كان يكتب في المقتطف سنة 1908، ثم سافر إلى أوروبا في تلك السنة، وعاد سنة 1913، بعد أن قضى سنوات بين إنجلترا وفرنسا، وبعد أن تأثر بالثقافة الإنجليزية بصفة خاصة، ولما عاد إلى مصر واصل الكتابة في المجلات والصحف، وبخاصة تلك التي كانت تعني بالفكر والأدب، فكتب في الهلال والبلاغ وغيرهما، ثم أصدر مجلة باسم "المجلة الجديدة" سنة 1929، اقرأ ترجمة موجزة له في هامش صفحة 243 من هذا الكتاب.

ص: 374

1-

المقالة وتميز الأساليب الفنية:

في تلك الفترة عرفت المقالة عهدها الذهبي، فقد تعددت الصحف نتيجة للصراع الحزبي، واهتمت كل صحيفة باستكتاب اللامعين من حملة الأقلام، لكسب أوفر عدد من القراء، ولم يقتصر الأمر على الصحف الحزبية، بل تعددت كذلك المجلات الثقافية والأدبية، نتيجة للتقدم الثقافي والوعي الصحفي والازدهار الأدبي، فكما كانت هناك:"السياسة" و"البلاغ" و"كوكب الشرق" و"الجهاد" في الميدان السياسي، كانت هناك:"الهلال" و"المقتطف" و"العصور" و"الرسالة"، و"المجلة الجديدة" في الميدان الثقافي والأدبي1.

وكانت المقالة هي أهم الوسائل التي يخاطب بها الأدباء قراءهم عن طريق تلك الصحف والمجلات، وكان للصراع الحزبي بين الصحف الناطقة بلسان الأحزاب؛ كما كان للتنافس الشديد بين المجلات الناطقة بلسان الثقافة والأدب؛ أثر هائل في تنشيط كتابة المقالة، التي توفرت لها كل عوامل الازدهار في ذلك الحين.

وقد كان من مظاهر هذا الازدهار تعدد ألوان المقالات، فكان منها المقالة الأدبية، التي تدرس شخصية أو ظاهرة، أو اتجاهًا أو أثرًا في الأدب العربي القديم أو الحديث، أو في الأدب الأوروبي الغابر أو المعاصر، وكان منها المقالة النقدية، التي تحدد قيمة أو تشرح مبدأ من قيم النقد أو مبادئه، أو تطبق هذا أو ذاك على بعض الدواوين، أو الكتب أو النصوص الأدبية على وجه العموم، كما كان منها المقالة الفلسفية التي تعرف ببعض الفلاسفة، أو تشرح بعض نظرياتهم وأفكارهم، لكن بلغة الأدب وأسلوب الأدباء، لا بلغة الفلاسفة وأسلوب الحكماء، كذلك كان منها المقالة التاريخية، التي تعرض لعصر مضى أو ثورة سلفت، أو بطل غبر أو شخصية ولت، وذلك

1 كانت السياسة لسان حال الأحرار الدستوريين، وكان البلاغ وكوكب الشرق والجهاد، من أهم صحف الوفد، وكان الهلال والمقتطف مجلات ثقافية على اختلاف بينهما في الطابع، فالهلال يغلب عليها الطابع الأدبي والمقتطف يغلب عليها الطابع العلمي، والعصور لإسماعيل مظهر، والمجلة الجديدة لسلامه موسى يغلب عليها الطابع العلمي التقدمي كذلك، أما الرسالة، فكان يغلب عليها الطباع العربي الإسلامي.

ص: 375

أيضًا بلغة الأدب وطريقة الناثرين، لا بلغة التاريخ، وأسلوب المؤرخين، ثم كان من المقالة التي ازدهرت في تلك الفترة، المقالة الاجتماعية، التي تندرج تحتها الكتابة في كل ما يتصل بالمجتمع من أمور سياسية واقتصادية وتعليمية، وخلقية وما إلى ذلك، مما يتناول الأدباء لا كمتخصصين في السياسة والاقتصاد والتعليم والأخلاق، وإنما كمثقفين لهم مشاركتهم فيما يدور حولهم، ولهم آراؤهم فيما يتصل بمجتمعهم، وذلك أيضًا على طريقتهم الفنية.

وأخيرًا كان من أهم ألوان المقالة حينذاك، المقالة التعبيرية التي موضوعها انطباع الكاتب أو شعوره حيال حدث معين، أو موقف خاص أو مشهد ما.

وفي هذا اللون من المقالات يكون الكاتب أشبه بالشاعر، ولا ينقصه غالبًا إلا الجانب الموسيقي المعهود في الشعر، حتى يكون عمله قصيدة لا مقالة.

وقد بلغ من ازدهار المقالة في تلك الفترة، أن كثيرًا من الكتب الجيدة التي نراها الآن لكبار الكتاب، ونراهم يعتزون بها ويذكرونها في مقدمة آثارهم؛ إنما نشرت أولًا في الصحف على هيئة مقالات، ثم جمعت بعد ذلك في شكل كتب، ومن تلك الكتب:"حديث الأربعاء" لطه حسين، و"في أوقات الفراغ" لمحمد حسين هيكل، و"مطالعات في الكتب والحياة"، و"ساعات بين الكتب" لعباس محمود العقاد، و"حصاد الهشيم" و"قبض الريح" لإبراهيم عبد القادر المازني.

"فحديث الأربعاء" مجموعة مقالات نشر معظمها في السياسة الأسبوعية1، وقد ضمن المؤلف الجزء الأول من هذا الكتاب مقالاته التي قد نشرها حول الشعر الجاهلي والإسلامي، وبعض الشعراء الجاهليين والإسلاميين، وفي آخره فصول عن "الغزل والغزليين" من حسيين وعذريين، ممن عاشوا في العصر الأموي، كذلك ضمن المؤلف الجزء الثاني من "حديث الأربعاء"

1بعض المقالات نشر في صحف أخرى "كالجهاد".

ص: 376

مقالاته التي كان قد نشرها عن الشعر العباسي والشعراء العباسيين، وعن تصوير هذا الشعر وهؤلاء الشعراء لذلك العصر عصر لهو وزندقة.. ثم خص المؤلف الجزء الثالث من هذا الكتاب بمقالاته في الأدب الحديث وقضاياه، ففيه حديث عن القديم والجديد، ومناقشة للرافعي في مذهبه في الأدب، وفيه نقد لبعض الكتب والدواوين المصرية والمهجرية، كدواوين علي محمود طه، وإبراهيم ناجي، وفوزي المعلوف.

و"في أوقات الفراغ" لمحمد حسين هيكل، مجموعة مقالات أيضًا نشر معظمها في السياسة، وقد رتبها المؤلف في كتابه ثلاث طوائف، وأهم ما في الطائفة الأولى مباحث مختلفة في النقد، وترجمات منوعة "لأناتول فرانس"، و"بييرلوتي" وقاسم أمين.. وأهم ما في الطائفة الثانية مقالات عن مصر وتاريخها القديم، بمناسبة اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون.. وأهم ما في الطائفة الثالثة تلك المقالات الخاصة بالدعوة إلى الأدب القومي، الذي يمثل البيئة المصرية والحياة المصرية، وتتضح فيه سمات الأمة وخصائص الشعب، بما يميز المصريين عن أسلافهم الأقدمين، وجيرانهم المعاصرين.

و"مطالعات في الكتب والحياة" للعقاد مجموعة مقالات أيضًا نشر معظمها في"البلاغ"1، وتلك المجموعة من المقالات منوعة غاية التنوع، فهي تتناول شخصيات عربية وأوروبية مثل: المعري والمتنبي و"أناتول فرانس" و"عمانويل كانت" كما تتناول مباحث جمالية وفنية، مثل:"عبقرية الجمال" و"الحرية والفنون الجميلة" و"معرض الصور"

وتتناول كذلك دراسات أدبية نقدية، مثل:"الأدب كما يفهم الجيل" و"القديم والجديد" و"الشعر ومزاياه" و"خواطر عن الطبع والتقليد".. وأخيرًا تتناول تلك المقالات بعض الانطباعات والصور الوصفية مثل: "الألم واللذة"، و"على معبد إيزيس" و"التمثيل في مصر".

1 نشر بعضها في صحف أخرى مثل: الأهرام والنيل والمشكاة والشذور.

ص: 377

ومثل هذا الكتاب كتاب "ساعات بين الكتب"؛ فهو الآخر مجموعة مقالات نشرت في الصحف والمجلات التي كان العقاد يتعاون معها في ذلك الحين، وهو أيضًا يضم ألوانًا منوعة من تلك المقالات؛ ففيه مقالات عن شخصيات عربية وأوروبية، مثل: ابن الرومي والمتنبي، و"شكسبير" و"توماس هاردي" و"بلاسكو إيبانيث" و"كبلنج" و"إبسن" و"رسو" و"فولتير"، وفي الكتاب أيضًا مقالات عن "الشعر في مصر"، وأخرى في النقد مثل:"التجميل في الأسلوب والمعاني" و"الصحيح والزائف في الشعر" و"النثر والشعر".. وفيه كذلك مقالات إسلامية تتصل بالجانب الأدبي والنقدي، وهي تلك المقالات التي كتبها حول "إعجاز القرآن".. وفي الكتاب أخيرًا طائفة من المقالات التي تعبر عن خاطر، أو انطباع أو وجهة نظر، مثل:"حب المرأة" و"الغيرة" و"النكتة" و"البطولة" و"الوطنية".

و"حصاد الهشيم" للمازني قريب الشبه بكتابي العقاد، فهو مجموعة مقالات منوعة، قد نشرها صاحبها أولًا في الصحف التي كان يعمل بها، وخاصة "الأخبار1"، وبعض تلك المقالات عن المتنبي وابن الرومي، و"تاجر البندقية" و"رباعيات الخيام"، وبعضها عن الفن واللغة "كمعرض الصور" و"الحقيقة والمجاز"، كما أن بعض تلك المقالات من النوع الإنشائي، الذي يتناول الانطباع ويسجل الخاطرة ويصف المشهد، مثل حديث المازني عن "الصحراء".

ومثل حصاد الهشيم "قبض الريح"، ففيه مقالات عديدة في النقد، وجهت طائفة منها إلى طه حسين وكتابه "حديث الأربعاء"، كما اختص بعضها بالحديث عن بشار وأبي العلاء، وجاء بعضها الآخر من قبيل وجهات

1 المراد الأخبار القديمة التي كان يصدرها أمين الرافعي شقيق المؤرخ عبد الرحمن الرافعي.

ص: 378

النظر والحواضر والانطباعات، مثل:"نشأة الشعر"، و"المرأة واللغة" و"المفعول المطلق".

وقد قصد بهذا العرض لتلك الكتب وألوان المقالات التي تحويها، إعطاء صورة للمقالة في جوانبها الموضوعية، وميادينها المتعددة، مما كان مظهرًا جليًّا من مظاهر ازدهار هذا النوع النثري في تلك الفترة.. فإذا تركنا هذه الجوانب المتصلة بالموضوع ونظرنا فيما يتصل بالمقالة من ناحية الأسلوب، وجدنا جانبًا آخر من جوانب الازدهار يفوق هذا الجانب، ويتجاوزه بأشواط.

فقد أدت الثقافة الفنية التي تمتع بها كبار كتاب تلك الفترة، وما كان لهم من شعور قوي باستقلال الشخصية، وإحساس عارم بالحرية الفردية، ثم ما كان من ممارسة متصلة للكتابة، ومعاناة دائبة للانتاج -قد أدت كل تلك العوامل إلى تعدد طرق التعبير، وتميز أساليب الأداء، برغم اندماجها جميعًا تحت اتجاهين رئيسيين، هما:"الاتجاه الأسلوبي" و"الاتجاه الفكري".

ويمكن أن نتعرف على خمس من تلك الطرق، هي" طريقة طه حسين التي يمكن أن نسميها "طريقة التصوير المتتابع"، وطريقه العقاد التي يمكن أن نطلق عليها "طريقة التعبير المحكم"، وطريقة الرافعي التي نستطيع أن نقول إنها: "طريقة البيان المقطر"، وطريقة الزيات التي نستطيع أن نعرفها "بطريقة البيان المنسق". وأخيرًا طريقة المازني التي لا نبعد عن الحق إذا وصفناها بأنها طريقة "الأداء المصري".

1-

طريقة طه حسين:

وقد اخترت لطريقة طه حسين اسم "طريقة التصوير المتتابع"؛ لأن هذا الكتاب يغلب عليه في أسلوبه التصوير بالألفاظ والجمل، وتقديم المشاهد المتتابعة والصور المتعاقبة، التي قد يكون بعضها لرسم شيء حسي خارجي،

ص: 379

وبعضها لنقل جو نفسي داخلي، وبعضها لتجسيم معنى أو إبراز فكرة، أو تعميق إحساس.

ولطه حسين وسائل عديدة في رسم صورة، وإيرادها في تتابع وتعاقب ومن أهم تلك الوسائل، الاعتماد على الجمل والقصار، وإيراد تلك الجمل -أو بعض أجزائها- فيما يشبه التكرار والإعادة1، مما يحقق بالكلمة والعبارة تجسيم الصورة أولًا، ويهبها التحرك والتتابع ثانيًا.. ومن أهم وسائل طه حسين كذلك، استخدام الروابط -كحروف الجر ونحوها- في وفرة وتنوع وتقابل، مما يزيد التجسيم الذي يبرز الصورة، ويضاعف التتابع الذي يهبها الحيوية.

على أن لطريقة طه حسين بعد تلك الوسائل، سمات أخرى تحدد بقية أبعادها، وتميز آخر ملامحها، ومن تلك السمات المميزة، استخدام طائفة من "اللازمات" في البدء والانتقال والتفصيل، وكقوله:"ليس من شك"، و"مما لا شك فيه" و"مهما يكن من أمر"، وكقوله:"يحدث هذا حينًا ويحدث ذلك حينًا، ويحدث كذا في كثير من الأحايين"، وكقوله عن شيء: تستطيع أن تسميه "كذا"، وتستطيع أن تسميه "كيت"، وأنا زعيم لك بأنه ليس "بكذا"، وليس "بكيت" وإنما هو شيء آخر غير "كذا"، وغير "كيت" جميعًا.

ومن سمات طريقة طه حسين المميزة كذلك، ميله إلى التوجيه بالحديث إلى المخاطب، حتى ليبدو وكأنه يحدث قارئه، ولا يكتب إليه.

ومن سماته الفنية أيضًا الإلمام بالسجع الخفيف غير المتكلف، حين تدعو الحاجة إلى إشاعة لون من النغم في الحديث، أو حين يتطلب الموقف بعض التأثير بموسيقى الكلم، على أن هذا السجع في كثير من الحالات لا يأتي في نهاية الجمل -شأن السجع التقليدي- وإنما يأتي بين كلمتين متجاورتين في

1 علل بعض الباحثين هذا التكرار بكون طه حسين يملي ولا يكتب، فأخذت طريقته بعض خصائص الخطابة، اقرأ حديث "جيب" عن أسلوب طه حسين في كتابه: Studies on the Civilzation of Islam p.279.

ص: 380

الجملة الواحدة، وقد يجاوره بعد ذلك سجع بين نهايتي جملتين؛ كقوله:"كان الشيخ مهيبًا رهيبًا، وكان فخمًا ضخمًا، قد ارتفعت قامته في السماء، وامتد جسمه في الفضاء1".

وكلف طه حسين بتلك الوسائل السابقة المحققة للتتابع يورطه أحيانًا في اللف والدوران من غير ضرورة، كما يورطه أحيانًا أخرى في بطء الحركة الأسلوبية، ويجعل من صورة -في بعض ما يكتب- شيئًا شبيهًا بصور السينما التي تعرض بالطريقة البطيئة، لتوضيح حركة خفية، أو تسجيل موقف غريب.

على أن الغالب على طريقة طه حسين، استخدام التتابع بوسائله العديدة في تجسيم أبعاد الصور الحسية، وتعميق الإحساس بأبعاد الصور النفسية، وتأكيد الإيمان بالفكرة المجردة، فما يبدو في ظاهره تكرارًا وإعادة، إنما هو في حقيقته تتابع، في كل جزء من أجزائه زيادة ولو طفيفة، وتغيير ولو يسير، ونمو ولو غير ملحوظ، أشبه ما يكون بكل لقطة من لقطات "الفيلم" الجزئية التي تؤلف في جملتها اللقطة الكلية في حركتها وحيويتها، ثم تؤلف مع اللقطات الكلية الأخرى أبعاد العمل الفني، وأعماقه وإيحاءات فنه.

ونستطيع أن نتبين طريقه "التصوير المتتابع" التي أطلقناها على طريقة طه حسين، في النموذج التالي، وهو جزء من مقال له "عن الحب في شعر عمر بن أبي ربيعة".. وفي هذا النموذج يقول طه حسين.

"

وكان كل شيء في حياة عمر وسيلة إلى الاتصال بالمرأة وذكرها، والتحدث إليها، ولا سيما الحج، فلم يكن ابن أبي ربيعة يفهم من موسم الحج إلا أنه معرض إسلامي للجمال، كان إذا قرب الموسم اتخذ أجمل ما كان يستطيع من زينة، وظهر في مظهر الفتوة والقوة، وفارق مكة،

1 انظر: "على هامش السيرة" لطه حسين جـ3 ص1.

ص: 381

فتعرض للحجيج في طريق المدينة والشام والعراق، يتلمس نساءهم ويتبين هوادجهن، ويعرض منها لمن تظهر عليها آثار النعمة والترف، فإذا وافى الحجيج مكة وغيرها من مواضع المناسك، كان عمر قد أحصى النساء اللاتي يجب أن يكون بينه وبينهن لقاء، أو حديث أو مكاتبة، وكانت له رسل تعمل في ذلك، فتأتيه المواعيد في مكة حينًا، وفي منى حينًا آخر، وكانت أحب ساعات الدهر إليه أوائل الليل من أيام الموسم، حين ينتهز النساء فرصة الليل فيخرجن للطواف، هنالك كان عمر بن أبي ربيعة يترصدهن، ومنهن من كانت تترصده. وهنالك كانت تبتدئ الأحاديث لتتم بعيدًا عن البيت، حتى إذا انتهى الموسم وأزمع الحجيج العودة إلى بلادهم، رأيت عمر مقسما بين نساء المدينة، ونساء الشام ونساء العراق، يشيع هذه ثم يعود فيشيع تلك، ثم يترك هاتين ليشيع امرأة أخرى، وهو لا يفرغ من تشييع امرأة إلا قال الشعر الجيد يسبقها إلى موطنها، ولا يلبث أن يسقط بين أيدي المغنين، فإذا هو مصدر للهو والطرب لهذه الأرستقراطية المترفة من أبناء قريش والأنصار، فكان موسم الحج موسم شعر وغناء في الحجاز".

"

منذ سنين كتب صديقي الأستاذ ضيف رسالة باللغة الفرنسية قدمها إلى "السربون"، وقارن فيها بين عمر بن أبي ربيعة، وبين الشاعر الفرنسي "ألفرد دي موسيه"، وقد تكون هذه المقارنة خلابة في ظاهر الأمر، فعمر بن أبي ربيعة أظهر عشاق العرب، و"ألفرد دي موسيه" أظهر الغزلين من شعراء فرنسا في القرن الماضي، وكلاهما وقف حياته على المرأة وحبها، وكلاهما وقف شعره على جمال المرأة والتغني به، ولكن الفرق عظيم جدًا بين الشاعرين، عظيم إلى حد أن المقارنة بينهما مستحيلة، فليس بين نفسيهما شبه ما، أنت محزون حين تقرأ "ألفرد دي موسيه"، يتفرط قلبك لوعة وأسى، ويأخذك شيء من اليأس والسخط على الحياة والزهد فيها، حين تنظر إلى هذا الحب القوي المتين، فترى أنه على قوته وصدقه، ومتانته جريح يدمي.

ص: 382

"ولكنك مبتهج راض للحياة، حين تقرأ شعر ابن أبي ربيعة؛ فلم يكن قلبه جريحًا، ولم تكن نفسه كئيبة، ولم يكن يرى الحياة إلا لهوًا أو سبيلًا إلى اللهو. وأنت حين تقرأ ما يظهر ابن أبي ربيعة فيه الحزن والأسى مطمئن راض، بل مبتسم؛ لأنك تعلم أن هذا الحزن إنما هو وسيلة إلى السرور، ومذهب من مذاهب الاستعطاف، وسبيل من سبل اللذة".

"لا أضع ابن أبي ربيعة بإزاء "ألفرد دي موسيه"، وإنما أضعه بإزاء رجل فرنسي آخر هو أخوه حقًا، هو صورته الصادقة لولا ما بينهما من فروق البيئة والجيل، ولكن نفسيهما نفس واحدة، ولكن حسيهما حس واحد، ولكن مذهبيهما في الحب، وإعلانه مذهب واحد، كلاهما أحب بحسه وأخضع قلبه لحسه، وكلاهما فتن النساء، وكلاهما تحدث بفنه للنساء حديثًا حلوًا خلابًا، وكلاهمها تعمق الحب الحسي حتى وصل إلى قرارته، وكلاهما أحب حتى كره الحب، ولذ حتى زهد اللذة، وكلاهما لم يعرف لحبه موضعًا يقصره عليه، فكان يترك هذه ليحب تلك، ويخلص من هذه ليقع في شراك تلك".

"سألتني عن هذا الفرنسي الذي يشبه عمر بن أبي ربيعة هذا الشبه القوي الغريب، ليس شاعرًا ولكنه ناثر كالشاعر، أنت تعرفه حق المعرفة؛ لأن بينك وبينه صلة قوية؛ لأنه صديق الشرق عامة وصديق مصر خاصة: بييرلوتي

1".

ب- طريقة العقاد:

وإنما آثرت لطريقة العقاد اسم "طريقة التعبير المحكم"؛ لأنه يعمد إلى التعبير عما عنده بألفاظ وجمل محكمة، فيها الدقة، وفيها القصد، وفيها التركيز، وفيها دسامة الزاد قبل أن يكون فيها رونق الشكل، فلا إفراط في

1 انظر: حديث الأربعاء جـ2 ص309 وما بعدها.

ص: 383

المقدمات، بل أحيانًا لا تكون هناك مقدمات، ولا لجوء إلى التكرار أو اللف أو التوكيد بالكلمة أو بالجملة؛ لأنه لا محل لشيء من ذلك، وإنما المحل الأول لإعطاء أوفر معان وأغزر أفكار؛ وحسب الكلمة والعبارة أن تؤدي المعنى وتنقل الخاطرة وتفصح عن الشعور، وهي تتبع كلمة أو عبارة أخرى، لكن لا لتحدث معها إيقاعًا أو تزيد الفكرة تأكيدًا، وإنما لتزيد المعني ولتضيف إلى الفكرة جديدًا.

فهذه الطريقة لإحكامها لا تتزيد، ولا تهتم بالإطار، وإنما تجعله لباسًا محبوكًا مفصلًا على قد المعاني، بل إن هذا الإحكام قد يبالغ فيه أحيانًا إلى حد الضيق، فلا تتسع العبارة للمعاني بالقدر الكافي، وقد تطول الجملة مع ذلك أكثر من المألوف، فيبدو جزء من الأسلوب على شيء من الغموض أو الجفاف، أو الالتواء، ويتطلب من القارئ تنبهًا عظيمًا كما يقول الأستاذ "جيب"1.

على أن الغالب على تلك الطريقة الإبانة والإفصاح، ولا ينقصها الجمال الطبيعي البعيد عن التلاعب بالعواطف، وعن التوجه المباشر إلى العين بالصورة أو إلى الأذن بالجرس، بل إن هذا الجمال قد يصل أحيانًا إلى حد الشاعرية إذا كان الموقف متطلبًا لذلك، وهذا يأتي جريًا وراء الإحكام الذي يلبس كل مضمون شكله، ويختار لكل موقف ما يناسبه.

ومن سمات هذه الطريقة المميزة، استخدام التذييلات الضابطة، والاحتراسات المتحفظة، ضمانًا لإحكام التعبير، وصونًا لدقة المعنى.

ومن سمات هذه الطريقة كذلك الميل إلى التفصيلات المنقطية لا اللغوية، واستخدام المقابلات العقلية لا البديعية، وكل ذلك يأتي أيضًا جريًا وراء الإحكام، ورعاية لدقة أداء المعاني.

1 ذكر الأستاذ جيب أيضًا عن أسلوب العقاد أنه شديد الشبه في نسجه بالأساليب الغربية.

اقرأ حديثه في: Studies on the Civilization of Islam: Gibb. p.233

ص: 384

الحياة وحدها، أو تعد هذه الحياة المتوحدة غايتها، وأمنيتها من السعادة والخلو من الألم؟؟ ".

"وإما أن يكون معك في الوجود غيرك على ألا تحس به، أو على ألا يصدمك من هذه الأشياء صادم، ولا يقابلك منها ما ترى أن بينه، وبين حياتك اختلافًا وفرقًا، وهذه هي أشبه الحالات بـ"النرفانا" البوذية، أو هي الموت بذاته في صورة غير صورته المعهودة".

"ولست أفرض لهاتين الحياتين حياة ثالثة، إلا أن يتمنى المتمني أن تسره الأشياء الأخرى التي تصادمه في هذا الوجود، فلا يكون إلا مبتهجًا بها راضيًا عن جميع حالاتها، وهذا كالجمع بين المتناقضات؛ لأن منس ره قرب شيء ساءه البعد عنه، ومن أرضاه أن يدرك أملا أغضبه أن يحرمه، فإما حياة متشابهة من جميع الجوانب، فيستوي فيها الخير والشر والحسن والقبيح، بل لا يكون فيها خير ولا شر ولا حسن ولا قبيح، بل لا يكون فيها شيء تتمناه؛ لأنك لا تحرم فيها شيئًا، فكيف تكون هذه الحياة هي رضى النفس، وأمنيتها التي نتمناها؟ وإما حياة تختلف جوانبها ففيها النقيض ونقيضه، وفيها حينئذ ما يسر وما يسوء، وما يلذ

وما يؤلم".

"وخلاصة هذه الفروض، أن النازل عن الألم نازل عن ذاته، أو حياته في هذا العالم، وأن العقل الإنساني لن يستطيع أن يتخيل حياة مبرأة من الألم، وإن كان يتمناها أحيانًا.. ولو أننا دفعنا خوف الألم يومًا واحدًا من نفوس الأحياء لبادوا جميعًا في ذلك اليوم الواحد؛ ذلك أن أحدًا منهم لا يبالي أن يخبط بجدار، أو يسقط من علٍ أو يغرق في نهر، أو يلقى بنفسه في المهالك التي فيها تلف، وهو لا يتحرك في غيبوبة الألم حركة إلا كان مشفيًا على تلف أو واقعًا فيه، فنحن إنما نحفظ حياتنا الحاضرة بذخيرة من الآلام السابقة، التي عاناها أسلافنا وتعلموا منها ما تعلموه من حيطة ومقدرة، ولا نكاد نضيف شيئًا جديدًا على ما ادخروه من كنوز الحياة، حتى نسلك إليه من سراديب الألم وأنفاقه المظلمة. ولولا أنني أعلم أن الحياة نفس أكب من الألم، وأنكر

ص: 386

أنه كل شيء فيها، لقلت: إن الحياة هي قابلية الألم، وإننا كلما ازداد نصيبنا من الحياة ازداد معه قسطنا من الألم".

وليس معنى هذا بالبداهة أنني أمنع الشكوى على المتألمين، فإن الألم الذي لا يشتكي صاحبه فلا فائدة فيه، ولا أنني آبى العطف عليهم؛ فإن النفس التي تتسع للآلام تتسع للعطف عليها، ولكنني أعني أن أجعل الحياة أكبر من ألمها، وأن أقول: إن الحياة التي نألم في سبيلها جديرة أن تكون شيئًا عظيمًا، لا أن أعكس الأمر كما يعكسه بعض الساخطين المتذمرين، فأقول: إنها لحقيرة؛ لأننا نألم في سبيلها1..".

جـ- طريقة الرافعي:

وإنما فضلت لطريقة الرافعي اسم "طريقة البيان المقطر"؛ لأنه يميل في أسلوبه إلى الناحية البيانية، ويهتم في المقام الأول بجمال الصياغة وروعة الديباجة، ثم؛ لأن بيانه ليس ذلك البيان القريب التناول، البسيط العناصر، الهين الأداء، وإنما هو بيان فيه بعد وتركيب وجهد؛ حيث يجنح صاحبه إلى اعتصار المعاني، وتوليد الأفكرا، ومزج الخواطر، من خلال مجازات مركبة واستعارات بعيدة، وكنايات خفية، فيأت بيانه آخر الأمر أشبه بعملية تقطير لألوان من الزهور المعروفة، والورود المألوفة، والرياحين الشائعة، لاستخلاص عطر مركب مركز غريب، فيه جمال ولكن ليس فيه بساطة، وفيه متعة ولكن ليس فيه جلاء، وفيه فن ولكنه فن المهارة التي تسيطر على الفطرة.

وهكذا كان أسلوب الرافعي في النثر قريب الشبه بأسلوب أبي تمام في الشعر؛ تزدحم فيه الاستعارات والمجازات والكنايات والتشبيهات، ولكن في جدة وطرافة وإبداع في كثير من الأحايين، وهذا كله يأتيها من جهة إعمال الفكر وتحكيم المهارة، مما يبعدها كثيرًا عن المألوف، ويجنح بها

1 انظر: مطالعات في الكتب والحياة للعقاد ص254 وما بعدها.

ص: 387

إلى غير المتوقع، وقد يسبب ذلك بعض الغموض الذي يصل أحيانًا إلى حد الإلغاز.

ومن خصائص طريقة الرافعي -أو طريقة البيان المفطر- أنها تستلهم المعجم القرآني والسني والتراثي على وجه العموم؛ حيث يتكئ الكاتب في كثير من المواطن على لفظة أو عبارة من القرآن الكريم، أو على كلمة أو جملة من الحديث الشريف، أو على حكمة أو مثل أو بيت شعر من مأثورات العرب.

ومما يكلم صورة طريقة الرافعي بعد ذلك كله، أنها تميل إلى استخدام بعض البديع، ولكن في اقتصاد وفنية، وبعض هذا البديع يأتي لخدمة الجانب البياني المتصل بروعة الصياغة، كالسجع والجناس، وبعضه يأتي لخدمة الجانب المعنوي الجاانح إلى توليد الأفكار كالمقابلة والتورية.

وأهم ما يمثل فن المقالة عند الرافعي وأسلوبه الذي تم له في هذا الفن، تلك المقالات التي كان ينشرها في "الرسالة"، والتي جمع طائفة منها في كتابه "وحي القلم"، وهي تتناول خواطر نفسية، ومشاعر إنسانية، ومواقف إسلامية، وصورًا وصفية، ونظرات إصلاحية، ويغلب عليها جميعًا الطابع العربي، ويشيع فيها الروح الإسلامي، وتتسم في اتجاهها العام بالالتفات إلى التراث.

ولعل النموذج التالي يوضح ما ذُكر لطريقة الرافعي من خصائص، وهو جزء من مقال له بعنوان "حقيقة المسلم"، يقول فيه الكاتب:

"لا يعرف التاريخ غير محمد صلى الله عليه وسلم رجلًا أفرغ الله وجوده في الوجود الإنساني كله، كما تصب المادة في المادة، لتمتزج بها، فتحولها، فتحدث منها الجديد، فإذا الإنسانية تتحول به وتنمو، وإذ هو صلى الله عليه وسلم وجود سار فيها، فما تبرح الإنسانية تنمو به وتتحول".

"كان المعنى الآدمي في هذه الإنسانية، كأنما وهن من طول الدهر عليه

ص: 388

يتحيفه ويمحوه ويتعاوره بالشكر والمنكر، فابتعث الله تاريخ العقل بآدم جديد. بدأت به الدنيا تطورها الأعلى، من حيث يرتفع الإنسان على ذاته، كما بدأت من حيث يوجد الإنسان في ذاته، فكانت الإنسانية دهرها بين اثنين: أحدهما فتح لها طريق المجيء من الجنة، والثاني فتح لها طريق العودة إليها، كان في آدم سر وجود الإنسانية، وكان في محمد سر كمالها".

"ولذا سمي الدين "بالإسلام"؛ لأنه إسلام النفس إلى واجبها، أي إلى الحقيقة من الحياة الاجتماعية، كأن المسلم ينكر ذاته فيسلمها إلى الإنسانية تصرفها وتعتملها في كمالها ومعاليها، فلاحظ له هو من نفسه يمسكها على شهواته ومنافعه، ولكن للإنسانية به الحظ".

"وما الإسلام في جملته إلا هذا المبدأ، مبدأ إنكار الذات و"إسلامها" طائعة على المنشط والمكره لفروضها وواجباتها، وكلما نكصت إلى منزعها الحيواني، أسلمها صاحبها إلى وازعها الإلهي، وهو أبدًا يروضها على هذه الحركة ما دام حيًا، فينتزعها كل يوم من أوهام دنياها ليضعها ما بين يدي حقيقتها الإلهية، يروضها على ذلك كل يوم وليلة خمس مرات مسماة في اللغة خمس صلوات، لا يكون الإسلام إسلامًا بغيرها، فلا غرو كانت الصلاة بهذا المعنى كما وصفها النبي صلى الله عليه وسلم: هي عماد الدين، بين ساعات وساعات في كل مطلع شمس من حياة المسلم صلاة، أي إسلام النفس إلى الإرادة الاجتماعية الشاملة القائمة على الطاعة للفرض الإلهي، وإنكار المعاني الذاتية الفانية التي هي مادة الشر في الأرض، وإقرارها لحظات في حيز من الخير المحض البعيد عن الدنيا وشهواتها وآثامها ومنكراتها، ومعنى ذلك كله تحقيق المسلم لوجود روحه، إذا كانت أعمال الدنيا في جملتها طرقًا تشتت فيه الأرواح وتتبعثر، حتى تضل روح الأخ عن روح أخيه، فتنكرها ولا تعرفها".

"وهذا الوجود الروحي هو مبعث العقلية التي جاء بها الإسلام؛ ليهدي الإنسانية إليها، حالة السلام الروحاني الذي يجعل حرب الدنيا

ص: 389

المهلكة حربًا خارج النفس لا في داخلها، ويجعل ثروة الإنسان مقدرة بما يعامل الله والإنسانية عليه، فلا يكون ذهبه وفضته مما كتب عليه "ضرب في مملكة كذا"، ولكن ما يراه هو قد كتب عليه "صنع في مملكة نفسي"، ومن ثم لا يكون وجوده الاجتماعي الأخذ فحسب، بل للعطاء أيضًا، فإن قانون المال هو الجمع، أما قانون العمل فهو البذل".

"بالانصراف إلى الصالة، وجمع النية عليها يستشعر المسلم أنه حطم الحدود الأرضية المحيطة بنفسه من الزمان والمكان، وخرج منها إلى روحانية لا يحد فيها إلا بالله وحده".

"وبالقيام في الصلاة يحقق المسلم لذاته معنى إفراغ الفكر السامي على الجسم كله ليمتزج بجلال الكون ووقاره، كأنه كائن منتصب مع الكائنات يسبح بحمده".

"وبالتولي شطر القبلة في سمتها الذي لا يتغير على اختلاف أوضاع الأرض، يعرف المسلم حقيقة الرمز للمركز الثابت في روحانية الحياة، فيحمل قلبه معنى الاطمئنان، والاستقرار على جاذبية الدنيا وقلقها".

"وبالركوع والسجود بين يدي الله، يشعر المسلم نفسه معنى السمو، والرفعة على كل ما عدا الخالق من وجود الكون".

"وبالجلسة في الصلاة وقراءة التحيات الطيبات، يكون المسلم جالسًا فوق الدنيا يحمد الله، ويسلم على نبيه وملائكته ويشهد ويدعو".

"وبالتسليم الذي يخرج به من الصلاة يقبل المسلم على الدنيا وأهلها إقبالًا جديدًا من جهتي السلام والرحمة".

"وهي لحظات من الحياة كل يوم في غير أشياء هذه الدنيا، لجمح الشهوات، وتقييدها بين وقت وآخر بسلاسلها، وأغلالها من حركات الصلاة، ولتمزيق الفناء كل يوم خمس مرات عن النفس، فيرى المسلم من ورائه حقيقة الخلود، فتشعر روحه أنها تنمو وتتسع، هي خمس صلوات، وهي كذلك

ص: 390

خمس مرات يفرغ فيها القلب مما امتلأ به من الدنيا

1".

د- طريقة الزيات:

كذلك آثرت تسمية طريقة لازيات باسم "طريقة البيان المنسق"؛ لأن هذا الكاابت أولًا يميل في أسلوبه إلى الناحية البيانية، ويجعلها في المحل الأول، ثم؛ لأنه ثانيًا لا يعمد إلى البيان البسيط أو إلى البيان المركب، وإنما إلى البيان الذي يقوم على التنسيق والهندسة، فالجملة فيه تعادل الجملة، بل الكلمة تقابل الكلمة، والفقرة توازي الفقرة، حتى ليتألف من الكلمات والجمل والفقرات لوحة بيانية تتقابلب خطوطها، وتتعادل مساحاتها وتتوازن ألوانها، كاللوحات التي ترسم على مسطح قسم أولًا إلى مربعات، كيلا ينحرف خط أو تزيد مساحة، أو يجور لون.

والزيات يهتم -لتحقيق ذلك- باستخدام ألوان من المحسنات، ولكن في مهارة فائقة، ورشاقة شفافة، وبعض هذه المحسنات يأتي به لتحقيق التناسق الصوتي كالسجع والجناس، وبعضها يأتي به لتحقيق التناسق المعنوي كالمقابلة والطباق.

وهكذا يحس قارئ مقالة الزيات، أنه أمام عمل هندسي مصمم مقسم مهندم، قد اعتنى فيه بالحرف والمقطع والكلمة، مثل العناية بالجملة والعبارة والفقرة. فلا تثقل كلمة وتخف كلمة، ولا تطول عبارة وتقصر عبارة، ولا يوضع جزء من الجملة "نشازًا" دون جزء آخر يقابله ويسانده، ويكون معه عملًا جماليًا أساسه التناسق والتعادل.

وأهم ما يمثل فن المقالة عند الزيات، تلك المقالات التي كان يفتتح بها أعداد مجلة "الرسالة"، والتي جمع أكثرها بعد ذلك في مجلدات باسم "وحي الرسالة"، وتلك المقالات تتنوع بين أدبية وسياسية ووصفية، ويغلب عليها وفرة العناية بالإطار، وشدة رعاية جانب الشكل، حتى ليقل الزاد الفكري

1 انظر: مجلة الرسالة عدد 15 إبريل سنة 1935.

ص: 391

فيها، ويتضاءل المضمون بها في كثير من الأحايين، ولكنها تبقى -برغم ذلك- باهرة بإشراق صياغتها، أخاذة بروعة بيانها، هذه الروعة التي تجعل منها في بعض الأحيان شيئًا شبيهًا بالشعر، وخاصة في الموضوعات العاطفية والوصفية.

وهذا نموذج "لطريقة البيان المنسق" التي عرف بها الزيات تتضح فيها أهم سمات تلك الطريقة التي سلف عنها الحديث، والنموذج جزء من مقال للكاتب بعنوان:"أوروبا والإسلام"، وفيه يقول:

"شيع الناس بالأمس عاما قالوا: إنه نهاية الحرب، واستقبلوا اليوم عامًا يقولون إنه بداية السلم، وما كانت تلك الحرب التي حسبوها انتهت، ولا هذه السلم التي زعموها ابتدأت، إلا ظلمة أعقبها عمى، وإلا ظلامًا سيعقبه دمار! ".

"حاربت الديمقراطية وحليفتها الشيوعية عدوتيهما الدكتاتورية، وزعمتا للناس أن أولاهما تمثل الحرية والعدالة، وأخراهما تمثل الإخاء والمساواة، فالحرب بينها وبين الدكتاتورية التي تمثل العلو في الأرض،والتعصب للجنس والتطلع إلى السعادة، إنما هي حرب بين الخير والشر، وصراع بين الحق والباطل، ثم أكدوا هذا الزعم بميثاق خطوه على مياه "الأطلسي"، واتخذوا من الحريات الأربع التي ضمنها هذا الميثاق مادة للدعاية شغلت الإذاعة والصحافة والتمثيل، والتأليف أربع سنين كوامل، حتى وهم ضحايا القوة وفرائس الاستعمار أن الملائكة والروح يتنزلون في كل ليلة بالهدى والحق على روزفلت، وتشرشل وستالين، وأن الله الذي أكمل الدين وأتم النعمة وختم الرسالة، قد عاد فأرسل هؤلاء الأنبياء الثلاثة في واشنطن ولندن وموسكو، ليدرأوا عن أرضه فساد الأبالسة الثلاثة في برلين وروما وطوكيو! وعلى هذا الوهم الأثيم بذلت الأمم الصغرى للدول الكبرى قسطها الأوفى من الدموع والدماء والعرق؛ فأقامت مصر من حريتها، وثروتها وسلامتها في "العلمين" سدًّا دون القناة، وحجزت تركية

ص: 392

بحيادها الودي سيل النازية عن الهند، وفتحت إيران طرقها البحرية والبرية ليمر منها العتاد إلى روسيا، ولولا هذه النعم الإسلامية الثلاث لدقت أجراس النصر في كنائس أخرى".

"ثم تمت المعجزة وصرع الجبارون ووقف الأنبياء الثلاثة، على رءوس الشياطين الثلاثة، يهصرون الأستار عن العالم الموعود، وتطلعت شعوب الأرض إلى مشارق الوحي في الوجوه المقدسية، فإذا اللحى تتساقط، والقرون تنتأ، والمسابح تنفرط، والمسوح تنهتك، وإذا التسابيح والتراتيل عواء وزئير، والوعود والمواثيق خداع وتغرير، وإذا الديمقراطية والشيوعية والنازية والفاشية كلها ألفاظ تترادف على معنى واحد، هو استعمار المشرق واستعباد أهله! ".

"إذن برح الخفاء وانفضح الرياء، وعادت أوروبا إلى الاختلاف والاتفاق على حساب العرب والإسلام1

".

هـ- طريقة المازني:

وأخيرًا فصلت لطريقة المازني اسم "طريقة الأداء المصري"؛ لأن هذا الكاتب يميل في أسلوبه إلى أن يؤدي مشاعره وأحاسيسه وأفكاره وانطباعاته، بروح مصرية، وبلغة فيها ظلال لغة المصريين، فهو يميل إلى الدعابة والسخرية وإبراز المفارقات، مما عرفت به الروح المصرية في تناولها للأشياء، ثم هو يعمد إلى البساطة واليسر في التعبير، ويستخدم -غالبًا- الألفاظ الأليفة التي تعودتها الآذان، ويلجأ إلى العبارات المأنوسة التي ألفتها الألسنة2، وهو يؤثر من هذه وتلك ماله رصيد نفسي مصري، وإشعاع شعبي غني، ما دامت الفصحى لا تنكرها، والعربية السليمة لا ترفضها، بل إنه في

1 انظر: مجلة الرسالة، عدد 7 يناير سنة 1946.

2 اقرأ ما كتب "جيب" عن أسلوب المازني وتطوره في:

Studies on the Civilization of Islam: Gibb. pp.283-284

ص: 393

كلفه بمثل تلك الألفاظ والتعابير، يوشك أن يجري جريًا وراء اللفظة الشعبية والعبارة المصرية التي تحاشاها الاستعمال المتفاصح، حتى ظُن أنها ليست عربية. وفوق كل هذا يكلف المازني بالمثل الشعبي كما يكلف برسم الصورة المصرية التي تستمد عناصرها من البيئة المحلية، ومن البيئة القاهرية على وجه الخصوص. والمازني في كل ذلك قاصد إلى الأداء بأسلوب فيه ظلال اللغة المصرية، كما هو قاصد بسخريته ودعابته ومفارقاته إلى الأداء بأسلوب فيه عطر الروح المصرية كذلك، ومن تآزر عطر الروح المصرية، وظلال اللغة المصرية في أسلوب المازني، يتحقق ما سميته "بطريقة الأداء المصري".

على أننا نجد في أسلوب المازني أحيانًا بعض الألفاظ الغربية، أو المغالية في مستوى الفصاحة، وأغلب الظن أنه يستخدم مثل تلك الألفاظ في معارض السخرية، أو إظهار المفارقة أو الإضحاك، كأن يخاطب متعاليًا بقوله:"أيها الفطحل"، وكأن يتحدث عن متحذلق بقوله:"إنه من الجهابذة"، وكأن يقول عن حالته امتلائه:"إنه شعر بالكظة".

وبرغم هذا "الأداء المصري" في طريقة المازني، قد كان -غالبًا- لا يتورط في إهمال قواعد اللغة أو اللجوء إلى الألفاظ، أو التراكيب العامية، وإنما كان يحافظ على الإطار اللغوي الفصيح، في قواعده، وتراكيبه ومفردات ألفاظه، اللهم إلا ما قد يكون من استعمال للفظة هنا أو عبارة هناك، حين يفرضها رسم لجو ما، أو يحتمها تصوير لشخصية معينة، أو يدعو إليها إيحاء خاص.

وهذا نموذج يصور إلى حد كبير طريقة المازني، أو "طريقة الأداء المصري"، وسماتها التي سلف عنها الحديث، والنموذج جزء من مقال للمازني بعنوان "بين القراءة والكتابة"، وفيه يقول:

"مضت شهور لم أكتب فيها كلمة في الأدب؛ لأني كنت أقرأ! والقراءة والكتابة عندي نقيضان، وقد كنت -وما زلت- امرءًا يتعذر عليه، ولا يتأتى له، أن يجمع بينهما في فترة واحدة، ولكم أطلت الفكر في ذلك

ص: 394

فلم يفتح علي بتعليل يستريح إليه العقل ويأنس له القلب، وما أظن بي إلا أن الله جلت قدرته قد خلقني على طراز "عربات الرش"، التي تتخذها مصلحة التنظيم -خزان ضخم يمتلئ ليفرغ، ويفرغ ليمتلئ! وكذلك أنا فيما أرى؛ أحس الفراغ في رأسي، وما أكثر ما أحس ذلك! فأسرع إلى الكتب ألتهم ما فيها وأحشو بها دماغي، هذا الذي خلقه الله لي خلقة عربات الرش كما قلت! حتى إذا شعرت بالكظة وضايقني الامتلاء، رفعت يدي عن ألوان هذا الغذاء، وقمت عنه متثاقلًا متثائبًا من التخمة، فلا ينجيني إلا أن أفتح الثقوب وأسح! وهكذا دواليك!

"ولكم قلت لنفسي: أهذا الذي ركبه الله لك يا مازني بين كتفيك، رأس كرءوس الناس أم معدة أخرى؟؟ وأداة نظر وإدراك وتفكير هو أم مخزم يكتظ حينا ويخلو أحيانًا تبعًا لانتقال الأحوال بك؟ والحق أقول: إن الجواب يعييني؟ وإذا لم أكن قد ركبت من الوهم شر الحمير! فالناس في الأكثر والأعم إنما يعالجون الكتابة؛ لأن في رءوسهم فكرة أو خالجة، كائنة ما كانت، يبغون العبارة عنها والإفصاح بها، ولست أرى كذلك، ولقد يخيل إلي في بعض الأحايين أن في نفسي معنى معينًا، ويؤكد ذلك عندي ويقرر اعتقاديه، ما أحسه من جيشان الصدر واضطرابه، فأذهب ألتمس هذا المعنى أو الخاطر، فإذا به قد تبخر! وإذا بي كابني حين يجلس إلى جانبي ويحاول أن يقبض على الدخان الذي يتصاعد من سيجارتي، وأنا أضحك من هذا الذي يحاوله، وألهو به وأقول: إنه يجرب في عالم المحسوسات بعض ما أعانيه في عالم المعنويات!

"

وأحيانًا أفعل هذا: أسأل نفسي "أفي رأسك شيء؟، وأعني بالشيء ماله قيمة، لا أي شيء على الإطلاق، فتساورني الشكوك، فأنقر بأصبعي على جوانب رأسي كمن يريد أن يتبين من الرنين مبلغ الخلو! وربما أسفت؛ لأني لا أستطيع أن أتناول رأسي هذا، وأن أقلبه بين كفي، وأن أفعل به ما يفعل المرء حين يختبر البطيخ!

ص: 395

"

وأمري مع الكتب أغرب، كنت في أول عهدي بها -أي منذ عشرين سنة أو نحو ذلك- أذهب في أول كل شهر إلى واحد من باعتها، فيتقدم إلى العامل سائلا عن حاجتي فأبينها له، فيرفع رأسه إلى الرفوف، ويدور حول نفسه وهو في مكانه، ثم يلتفت إلي وعلى شفته -دون عينيه- ابتسامة جهل وغباء، ويهز لي رأسه أسفًا، فأنحيه عن الطريق وأمضي إلى الرفوف وأجيل عيني فيها، وآخذ منها ما يروقني، وأنصرف عن الحانوت بأثقل من حمل حمار! وأغرق فيها بقية الشهر إلى ما فوق الأذنين، إن كان فوقهما شيء يستحق الذكر! ".

"

وإني لأمر الآن بالمكاتب فأشيح بوجهي عنها وأغمض عيني دونها، ويردني الكتاب بكرهي فأتركه حيث يقع، وأهمله الأسابيع والشهور، وإذا فتحته اكتفيت بأن أعبره تزجية للوقت، ولم أبال من أي موضع بدأت، وسيان عندي أن أقرأه من أوله إلى آخره، أو من آخره إلى أوله، أو أن لا أقرأه، وقد تعاودني الحمى القديمة، ويتأوبني الحنين الماضي إلى الكتب، فأدافع نفسي عنها ما استطعت، فإن عجزت وغلبت على أمري، طاوعتها على حذر وسايرتها متحفزًا، وذهبت أتخير لها الكتب وأنتقيها، ومهما يكن من الأمر، فلست الآن ذلك الذي كان كأنما يعبد منها دمى وأصنامًا، ولقد غنمت أول فرصة سنحت فبعتها جملة، وتحريت بعد ذلك أن أزداد جهلًا! ".

"ولكن الزامر يموت وأصابعه تلعب! كما يقول المثل العامي، وللعادة حكم! لا يقوى المرء كل حين على مغالبته، والنفس لا تطاوع المرء دائمًا على ما يريدها عليه من الخمود والتبلد، وقد يزعج المرء أن يرى نفسه يقضي أيامه بطين الجسد وحده، أو يموتها على الأصح؛ فإن من الموت أن يستحيل الإنسان جثة خامدة المتقد لا ينقصها إلا الرمي، وما لا يصح سلوى ومتعة قد يصلح دواء، وعسير على من تعنود أن يحس الحياة بأعصابه العارية أن يروض نفسه على التبلد ويخلد إلى الركود، فلا عجب إذا كنت أقبل على المطالعة حينًا بعد حين1".

1 انظر: قبض الريح للمازني ص5 وما بعدها.

ص: 396

‌المقالة وتميز الأساليب الفنية

ومن سمات هذه الطريقة بعد هذا، الابتعاد عن الزخرف بكل ألوانه، وذلك باستثناء بعض السجع الذي قد يؤتي به قليلًا في المواقف المحتاجة إلى رنين يقرع السمع، كمواقف السخرية والتحدي والدعابة، وما إلى ذلك.

ويمكن أن نتبين طريقة "التعبير المحكم" التي أسمينا بها طريقة العقاد، في هذا النموذج التالي، وهو جزء من مقال للكاتب الراحل بعنوان "الألم واللذة"، وفيه يقول:

"أما أن الألم موجود في هذه الدنيا فمما لا يختلف فيه اثنان، وأما أنه فوق ما تقبله النفوس فمما لا يختلف فيه إلا القليل، وأما أنه نافع أو غير نافع ومقدم للحياة أو مثبط لها، فذلك ما يختلف فيه الكثيرون".

"ورأيي في هذا الخلاف أن الألم ضرورة من ضرورات الحياة، وحسنة من حسناتها في بعض الأحيان، وحالة لا تتخيل الإنسانية بدونها على وجه من الوجوه".

"أما تفصيل هذا الرأي، فهو أن الشعور بالنفس يستلزم الشعور بغير النفس؛ فهذه الـ"أنا" التي تقولها، وتجمل فيها خصائص حياتك، ومميزات وجود وتعرف بها نفسك مستقلا عما حولك منفردًا بإحساسك، هي نصيبك من الحياة الذي لا نصيب لك غيره، وهي تلك "الذات" التي لا تشعر بها إلا إذا شعرت بشيء مخالف لها في هذا العالم الذي يحيط بها، فأنت لا تكون شيئًا له حياة ولذات وآلام ومحاب ومكاره، إلا إذا كانت في العالم أشياء أخرى غيرك، ولا تكون هذه الأشياء الأخرى معك إلإ إذا كان منها ما يلائمك، وما لا يلائمك، أو ما يسرك وما يؤلمك".

"فإذا أردت حياة لا ألم فيها، فأنت تريد إحدى حياتين: فإما أن تكون وحدك في هذا الوجود، وهذا حياة لا يتخيل العقل كيف تكون، ولو تخيلها لما أطاق احتمالها، وكيف ونحن نرى أن الأديان الكبرى كلها تعلمنا أن الله خلق الخلق ليعرفه غيره بعد أن كان ولا شيء سواء؟؟ فإذا كانت النفس البشرية لا تقوى على أن تتصور إلهًا منفردًا بالوجود، فكيف تراها تطيق

ص: 285