الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أولًا: الشعر
.
1-
تجمد الاتجاه المحافظ البياني:
كانت أول ظاهرة تتصل بالشعر في تلك الفترة، هي ظاهرة تجمد الاتجاه المحافظ البياني، الذي نشأ في فترة الوعي على يد البارودي، وما زال يقوى حتى سيطر في فترة النضال على يد شوقي1.
ولقد كان من أهم مظاهر هذا الاتجاه في فترة الصراع -التي يساق عنها الحديث- أنه من الناحية الموضوعية لم يضف أي كسب جديد إلى المجالات التي كان يعبر عنها من قبل2، كما أنه من الناحية الفنية لم يصب أي تطور في أسلوبه الذي عرف به فيما سبق3.
أ- من الناحية الموضوعية:
أما من الناحية الموضوعية، فقد ظل هذا الاتجاه يعني في المقام الأول بالأمور العامة، وبخاصة الأمور السياسية والاجتماعية، وإذا كان يلاحظ على تلك الأمور شيء من التغيير، فهو تغيير في شكل تلك الأمور لا في حقيقتها، فكل ما حدث هو نقل الاهتمام من مسألة سياسية إلى أخرى، أو تركيز الاهتمام حول مجال اجتماعي دون آخر، وقد كان ذلك لما طرأ على الحياة السياسية والاجتماعية من تطورات4.
1 انظر: الفصل الثاني المقال الثاني في مبحث الشعر وعنوانه "2- ظهور الاتجاه المحافظ البياني"، والفصل الثالث المقام الأول من المقالات الخاصة بالشعور وعنوانه:"1- سيطرة الاتجاه المحافظ البياني".
2 انظر: تفصيل هذه المجالات في الفصل الثالث، المبحثين أ، ب من مباحث المقال رقم 1 من المقالات المخصصة للشعر.
3 انظر: تفصيل النواحي الفنية لهذا الاتجاه في الفصل الثالث، المبحثين جـ، د من مباحث المقال رقم 1 من المقالات الخاصة بالشعر.
4 انظر: في تلك التطورات الفصل الرابع المقال 1، 2 من المقالات التمهيدية التي قدم بها للحديث عن الأدب.
وهكذا نجد أعلام الاتجاه الشعري المحافظ، يشاركون بشعرهم -خلال فترة الصراع- في القضايا السياسية الداخلية، أكثر مما يهتمون بالشئون الوطنية الخارجية، أو بتعبير أدق، نجدهم يتحولون بشعرهم إلى ميدان الصراع الداخلي. ويولون هذا الميدان اهتمامًا أكثر من الاهتمام بميدان النضال الوطني، فقد أصبح الدستور والبرلمان اهتمامًا أكثر من الاهتمام بميدان النضال الوطني، فقد أصبح الدستور والبرلمان، والأحزاب والزعماء شغل الناس الشاغل، ولما كان من طبيعة هذا الاتجاه المحافظ أن يعبر عما يشغل الناس، وأن يسهم في الحياة السياسية كما يعيشها الناس، نراه في هذه الفترة يهتم في المحل الأول بقضايا الدستور، وأحداث البرلمان، ومشكلات الأحزاب، وتقويم الزعماء، وما إلى ذلك، كل هذا مع اختلاف في وجهات النظر بين الشعراء في بعض المسائل، في ذاك الوقت.
فحين تتأهب الامة لتأليف برلمانها بعد أن فازت بالدستور المضطهد، والاستقلال المقيد، يتحدث شوقي سنة 1922 عن هذا البرلمان المأمول، ويدعو المواطنين إلى انتخاب الواعين الجديرين بالنيابة، فيقول:
دار النيابة قد صفت أرائكها
…
لا تجلسوا فوقها الأحجار والخشبا
اليوم يا قومن إذ تبنون مجلسكم
…
تبنون للعقب الأيام والحقبا1
ويردد الفكرة نفسها في قصيدة أخرى سنة 1924، فيقول:
دار النيابة هيئت درجاتها
…
فليرق في الدرج الذوائب والذرا
الصارخون إذا أسيء إلى الحمى
…
والذائدون إذا أغير على الشرى
لا الجاهلون العاجزون ولا الأولى
…
يمشون في ذهب القيود تبخترا2
ثم يقول سنة 1925، منددًا بإغلاق البرلمان، مشهرًا بالعدوان عليه على أثر الانقلاب الدستوري الأول3.
1 الشوقيات جـ1 ص73-74.
2 الشوقيات جـ1 ص179.
3 وهو الانقلاب الذي تولى الوزارة على أثره زيور.
احتل حصن الحق غير جنوده
…
وتكالبت أيد على المفتاح
ضجت على أبطاله ثكناته
…
واستوحشت لكماتها النزاح
هجرت أرائكه، وعطل عوده
…
وخلا من الغادين والرواح
وعلاه نسج العنكبوت فزاده
…
كالغار من شرف وسمت صلاح1
إلى أن يقول في قصيدة أخرى سنة 1926، محييًا عودة البرلمان2، ممجدًا كيانه باعتباره ثمرة لنضال الأمة، من عهد عرابي إلى عهد مصطفى كامل، ومن معركة التل الكبير إلى مأساة دنشواي:
بنيان آباء مشوا بسلاحهم
…
وبنين لم يجدوا السلاح فثاروا
فيه من التل المدرج حائط
…
ومن المشانق والسجون جدار
أبت التقيد بالهوى وتقيدت
…
بالحق أو بالواجب الأحرار
في مجلس، لا مال مصر غنيمة
…
فيه، ولا سلطان مصر صغار3
…
وحين تفوز الأمة بالدستور المضطهد، يقول شوقي أيضًا من قصيدة له سنة 1924، محذرًا من اتخاذ هذا الدستور مجالًا للهوى الشخصي، أو مثارًا للنزاع الحزبي:
وتفيأوا الدستور تحت ظلاله
…
كنفًا أهش من الرياض وأنضرا
لا تجعلوه هوى وخلفًا بينكم
…
ومجر دنيا للنفوس ومتجرا4
ثم يعود إلى الحديث عن الدستور في قصيدة أخرى سنة 1926 مقسمًا به كشيء مقدس، مصورًا ما بذل في سبيله من تضحيات، وما يرتبط به من آمال، فيقول:
1 الشوقيات جـ2 ص192.
2 هو البرلمان الذي جاء على أثر فوز الوفد بالأغلبية، وتولى سعد زغلول رياسته، وعدلي رياسة الحكومة.
3 الشوقيات جـ2 ص209.
4 الشوقيات جـ1 ص178.
.. وبالدستور وهو لنا حياة
…
نرى فيه السلامة والفلاحا
أخذناه على المهج الغوالي
…
ولم نأخذه نيلا واستماحا
بنينا فيه من دمع رواقًا
…
ومن دم كل نابتة جناحا1
ثم يواصل تمجيده في قصيدة أخرى سنة 1926، مؤكدًَا أنه هيكل الحرية الذي من شأنه أن يفدى بالضحايا، وأنه يشاد كما تشاد خنادق المحاربين، تحت وابل من الرماح:
صرح على الوادي المبارك ضاحي
…
متظاهر الأعلام والأوضاح
هو هيكل الحرية القاني، له
…
ما للهياكل من فدى وأضاح
يُبنى كما تبنى الخنادق في الوغى
…
تحت النبال وصوبها السحاح2
إلى أن يجعله في قصيدة أخرى سنة 1927، غاية النعم، التي يهون من أجلها كل حدث، ويغفر للزمن كل ذنب، وفي ذلك يقول:
إذا سلم الدستور هان الذي مضى
…
وهان من الأحداث ما كان آتيا
ألا كل ذنب لليالي لأجله
…
سدلنا عليه صفحنا والتناسيا3
وعلى حين نجد شاعرًا كشوقي يبتهج بالبرلمان، ويمجد الدستور على هذا النحو، نجد شاعرًا آخر كأحمد محرم، يسخط على الدستور، ويلعن اليوم الذي فتح فيه البرلمان؛ وذلك لما رأى من استغلال المستعمر لهذه الملهاة لصرف الجهود الوطنية عن نضاله، وفي ذلك يقول الشاعر:
سأتبع يوم السبت ما عشت لعنة
…
يطير بها عاد من الطير ضابحُ
هو اليوم يوم الشؤم ضج نذيره
…
ومر به طير من النحس بارح
يقولون: نواب ودار نيابة
…
وملك ودستور من الحق واضح
1 الشوقيات جـ4 ص31.
2 الشوقيات جـ2 ص190.
3 الشوقيات جـ4 ص183.
وساوس أقوام مهاذير ما لهم
…
من الرأي هاد أو من اللب ناصح1
وحين يتزعم سعد الحركة الوطنية منذ ثورة سنة 1919، ويتولى رياسة أول حكومة دستورية كانت من مكاسب تلك الثورة، نجد شاعرًا كحافظ إبراهيم يمجده، ويدعو إلى مؤازرته والسير على هديه، فيقول من قصيدة له:
يأيها النشء الكرام تحية
…
كالروض قد خطرت عليه قبول
سيروا على سنن الرئيس وحققوا
…
أمل البلاد، فكلكم مأمول
أنتم رجال غد وقد أوفى غدٌ
…
فاستقبلوه وحجلوه وطولوا2.
لكننا نجد شاعرًا آخر كأحمد محرم يدعو عليه، ويتهمه بتحكيم شهواته، وبالتسامح مع أعداء البلاد، وبالاعتداء على المواطنين، وفي ذلك يقول من إحدى قصائده:
جزى الله سعدًا، إنها شهواته
…
طغت ريحها، فالشر غاد ورائح
أباح حمى مصر وسودانها معا
…
فأمعن مغتال وأوغل طامح
يسامح أعداء البلاد ويعتدي
…
على قومه، شر الحماة المسامح3
وحين يشتد الخلاف الحزبي سنة 1925، نرى سخطًا على تلك الأحزاب حتى من أكثر الشعراء تهليلًا للدستور والحياة النيابية، فشوقي ينعي على الأحزاب هذا الخلاف في عدد من القصائد، ويقول إحداها سنة 1925:
إلام الخلف بينكم إلاما
…
وهذي الضجة الكبرى علاما
وفيم يكيد بعضكم لبعض
…
وتبدون العداوة والخصاما
ولينا الأمر حزبًا بعد حزب
…
فلم نك مصلحين ولا كراما4
1 ديوان محرم المخطوط "عن الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر للدكتور محمد حسين جـ2 ص396".
2 ديوان حافظ جـ1 ص114.
3 ديوان محرم المخطوط "عن الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر للدكتور محمد حسين جـ2 ص397".
4 الشوقيات جـ1 ص274-276.
كما يقول من قصيدة أخرى في العام نفسه مقارنًا بين اتحاد الأمس أمام الحوادث، وتفكك اليوم في مواجهتها:
مشينا أمس نلقاها جميعًا
…
ونحن اليوم نلقاها فرداى
ومن لقى السباع بغير ظفر
…
ولا ناب تمزق أو تفادى1
كما ينعي أحمد محرم كذلك على الأحزاب إسلامها البلاد إلى الفوضى، وإيقاعها بالمواطنين الظلم، فيقول من قصيدة له سنة 1925:
سائل الأحزاب ماذا عندها
…
غير ترجاف ووهم مقلق
وتأمل هل ترى اليوم سوى
…
دولة فوضى وحكم أخرق
فات "نيرون" رجال رزقوا
…
من فنون الظلم ما لم يرزق2
ويقول من قصيدة أخرى في السنة نفسها، داعيًا الشعب إلى الانفضاض عن الأحزاب، والانفصال عن الزعماء الحزبيين، الذين لم يعد لهم هم إلا الكيد والصراع، وإسقاط الوطن صريعًا شهيدًا في معركتهم الخاسرة:
دع الزعماء إن لهم لدينا
…
يدين بغيره الشعب الرشيد
لمن تتألف الأحزاب شتى
…
وما هذي الصواعق والرعود
تداعوا للوغى فهوى صريعًا
…
على أيديهم الوطن الشهيد3
كما يندد الكاشف بما منيت به البلاد على يد الأحزاب من فرقة أشعلت بين بنيها ما يشبه الحرب التي لا تنقضي، وفي ذلك يقول من قصيدة له سنة 1925:
تنازع قومي اليوم جند وفادة
…
فلم أر إلا سالبًا وسليبا
مبادئ أحزاب أرى أم منافعًا
…
توالت صنوفًا بينهم وضروبا
تقضت حروب العالمين ولم أزل
…
أرى بين أبناء البلاد حروبا4
1 الشوقيات جـ4 ص16.
2 انظر: شعراء الوطنية لعبد الرحمن الرافعي ص205-206.
3 انظر: شعراء الوطنية لعبد الرحمن الرافعي ص207.
4 انظر: المصدر السابق ص248.
وحين يكون الائتلاف بين الأحزاب سنة 1926، ويتهادن الزعماء، وتنام الفتنة إلى حين، يبتهج شوقي بهذا، بل يتغنى به، فيقول من إحدى قصائده في هذا الوقت:
التامت الأحزاب بعد تصدع
…
وتضافت الأقلام بعد تلاح
سحبت على الأحقاد أذيال الهوى
…
ومشى على الضغن الوداد الماحي
وجرت أحاديث العتاب كأنها
…
سمر على الأوتار والأقداح
ترمي بطرفك في المجامع لا ترى
…
غير التعانق واشتباك الراح1
وحين يستبد بعض الحكام في عهود الانقلابات الدستورية، نرى بعض الشعراء المحافظين يصبون بشعرهم اللعنات على الاستبداد والمستبدين، وبرغم أن معظم شعر هؤلاء الشعراء في هذا الميدان قد ضاع، أو نسي لما لم يتح له من نشر أو تسجيل، فإن قليلًا منه قد استطاع أن ينجو من وادي النسيان، ويصل إلينا مسجلًا ما كان من مقاومة لهؤلاء الحكام المستبدين، ومن هذا الشعر القليل الذي نجا من الضياع، قول حافظ من قصيدة له في صدقي سنة 1932:
ودعا عليك الله في محرابه
…
الشيخ والقسيس والحاخام
لا هم أحي ضميره ليذوقها
…
غصصًا وتنسف نفسه الآلام2
وكما نجد أعلام الاتجاه المحافظ البياني يتحولون بشعرهم إلى ميدان الصراع السياسي، ويولونه اهتمامًا أكثر من اهتمامهم بميدان النضال الوطني، نجدهم كذلك يعبرون عما طرأ على الفكر المصري حينذاك، من تطورات "أيديلوجية" وما أصاب النظرة السياسية من تغيرات3.
فحين تغلب فكرة الوطنية المحلية فكرة الجامعة الإسلامية -في هذه الفترة- نجد أعلام الاتجاه المحافظ يعبرون عن هذا الشعور الوطني، حتى ليتطرف بعضهم فيقدس الوطن تقديسًا، وهذا شوقي يقول للشباب سنة 1924:
1 الشوقيات جـ2 ص191.
2 ديوان حافظ جـ2 ص105.
3 انظر: في ذلك: الفصل الرابع، المقال "1- غلبة التيار الفكري الغربي".
وجه الكنانة ليس يغضب ربكم
…
أن تجعلوه كوجهه معبودا
ولوا إليه في الدروس وجوهكم
…
وإذا فرغتم فاعبدوه هجودا1
وحين تغذو فكرة الفرعونية الشعور الوطني، وتساندها الكشوف الأثرية، وبخاصة كشف مقبرة توت عنخ آمون؛ نجد الشعر المحافظ يغني الأمجاد الفرعونية، عاكسًا هذا الحماس الملتهب لفكرة الوطنية، التي أصبحت تتكئ على ماض مشرف عريق، ومن هنا نجد لشوقي عددًا غير قليل من القصائد في الآثار المصرية، من بينها أربع قصائد في توت عنخ آمون، وما حوته مقبرته من عجائب، وما أوحى به تاريخه من أمجاد، وما ألهمت قصة آثاره من عظات2. ومن ذلك قوله في إحدى: تلك القصائد مفاخرًا بالفراعين:
مشت بمنارهم في الأرض "روما"
…
ومن أنوارهم قبست أثينا
ملوك الدهر بالوادي أقاموا
…
على وادي الملوك محجبينا
تعالى الله كان السحر فيهم
…
أليسوا للحجارة منطقينا3
كذلك نجد لحافظ قصيدته المشهورة "مصر تتحدث عن نفسها"، تلك القصيدة التي نراه فيها يمجد الفراعنة تمجيدًا نحس معه تفضيلهم على العرب، بل نكاد نشم منه اعتبار العرب غرباء عن مصر كاليونان، وفي تلك القصيدة يقول حافظ على لسان مصر، تحت هذا الحماس الذي كانت تزيده فكرة الفرعونية، وتؤججه الكشوف الأثرية الباهرة:
إن مجدي في الأوليات عريق
…
من له مثل أولياتي ومجدي
أنا أم التشريع، قد أخذ الرو
…
مان عني الأصول في كل حد
وشدا "بنتئور" فوق ربوعي
…
قبل عهد اليونان أو عهد نجد4
1 الشوقيات جـ1 ص127.
2 الأولى في الشوقيات جـ1 ص79 وما بعدها، والثانية في نفس المصدر ص334 وما بعدها، والثالثة في الجزء الثاني ص116، والرابعة في نفس المصدر ص197 وما بعدها.
3 الشوقيات جـ1 ص35.
4 ديوان حافظ جـ2 ص91.
وزعماء الاتجاه المحافظ برغم أنهم عنوا كثيرًا بالصراع السياسي، واهتموا بالحديث عن الدستور، والبرلمان والأحزاب والزعماء، وبرغم أنهم صوروا التحول "الأيديلوجي"، وسجلوا الحماس البالغ للوطنية المحلية، وما تؤججه من فكرة فرعونية -برغم ذلك كله، لم ينسوا قضية الإنجليز ووجوب جلائهم، كما لم يحولوا أنظارهم عن إخوانهم العرب والمسلمين، ووجوب الانتصار لهم. أو بتعبير أكثر إيجازًا: لم يصرفهم الاشتغال بالصراع الداخلي، عن النضال في المجال الخارجي، وإن كانوا قد جعلوا من الميدان الأول أهم الميدانين، بل اتخذوا من الميدان الثاني طريقًا لخدمة الميدان الأول في كثير من الأحايين.
فنحن أولًا نرى زعماء الاتجاه المحافظ ينددون في مناسبات عددية بالإنجليز، ويشككون في نواياهم، ويحذرون الزعماء من حيلهم، ويتوجسون مما يبدو من خير على أيديهم، ويطالبون بالجلاء للخلاص منهم، ونحن ثانيًا نرى هؤلاء الشعراء قد تعلقت أنظارهم بالأقطار الإسلامية، والبلاد العربية، وسجلوا أهم أحداثها، وغنوا أفراحها وبكوا مآسيها، ولم تخلعهم فكرة الوطنية المحلية، وما تؤججها من فرعونية، من الارتباط شعوريًّا بأبناء دينهم المسلمين وأبناء لغتهم العرب، وظلوا إلى تحركهم في دائرة الوطنية بعمق، يتحركون في دوائر العروبة، والإسلام والشرق، دون تمييز دقيق بين هذه الدوائر في كثير من الأحايين.
ونتيجة لعدم نسيان مشكلة الإنجليز، وقضية الجلاء -برغم الاهتمام الزائد بالصراع السياسي- وجدنا شاعرًا كشوقي، يقول في قصيدة له سنة 1922 متحدثًا عن مصر، وخديعة الإنجليز لها بتصريح 28 فبراير، وعن وجوب مواصلة النضال ضد المحتلين حتى يتحقق الاستقلال الحق:
ربحت من التصريح أن قيودها
…
قد صرن من ذهب وكن حديدا
يا فتية النيل السعيد خذوا المدى
…
واستأنفوا نفس الجهاد مديدا1
1 الشوقيات جـ1 ص127.
ووجدنا الشاعر نفسه يقول من قصيدة له سنة 1923، أثناء انعقاد مؤتمر لوزان، متحدثًا عن غطرسة الإنجليز وتجاهلهم لحق مصر، نظرًا لكونها لا تستند إلى قوت تنتزع بها هذا الحق:
أتعلم أنهم صلفوا وتاهوا
…
وصدوا الباب عنا موصدينا
ولو كنا نجر هناك سيفًا
…
وجدنا عندهم عطفًا ولينا1
كذلك وجدنا شاعرًا كحافظ إبراهيم يشكك في تصريح 28 فبراير، ويدعو إلى الحذر والنضال، فيقول عن الإنجليز والتصريح:
قد حارت الأفهام في أمرهم
…
إن لمحوا بالقصد أو صرحوا
إني أرى قيدًا فلا تسلموا
…
أيديكم، فالقيد لا يسجح
حتَّام يمضي أمرنا غيرنا
…
وذاك الأحرار لا يملح2
ثم وجدنا الشاعر نفسه يحذر سعدًا من الإنجليز وأحابيلهم، فيقول من قصيدة له سنة 1924:
لا تقرب "التاميز" واحذر ماءه
…
مهما بدا لك أنه معسول
الكيد ممزوج بأصفى مائه
…
والختل فيه مذوب مصقول
كم وارد يا سعد قبلك ماءه
…
قد عاد منه والفؤاد غليل3
كذلك وجدنا الكاشف يشكك في الاستقلال المقيد الذي خدع به الإنجليز تطلع المصريين، ويندد بحيل المستعمرين وأحابيلهم، فيقول من قصيدة له سنة 1923، فيما سمي حينذاك "عيد الاستقلال":
يا عيد الاستقلال أنت
…
له خيال أم حقيقه
للعتق أم للرق ما
…
خطوه في تلك الوثيقه
إن أطلقوا أمس البلا
…
د، فمنهم ليست طليقه
وحديقة أضحت ولكن
…
للغريب جنى الحديقة4
1 الشوقيات جـ1 ص340.
2 ديوان حافظ جـ2 ص95-96.
3 ديوان حافظ جـ1ص111.
4 شعراء الوطنية للرافعي ص245.
وإلى جانب هذا كله، وجدنا الحديث عن الجلاء يتردد في أشعار زعماء الاتجاه المحافظ؛ فشوقي يقول في قصيدة له سنة 1924 متحدثًا عن طائفة من الوطنيين بعد الإفراج عنهم، مما سمي حينذاك بالمؤامرة الكبرى:
طلبوا الجلاء على الجهاد مثوبة
…
لم يطلبوا أجر الجهاد زهيدا
والله ما دون الجلاء ويومه
…
يومًا تسميه الكنانة عيدا
وجد السجين يدًا تحطم قيده
…
من ذا يحطم للبلاد قيودا1
ويقول في قصيدة أخرى سنة 1925 بمناسبة ذكرى مصطفى كامل:
بك الوطنية اعتدلت وكانت
…
حديثًا من خرافة أو مناما
بنيت قضية الأوطان منها
…
وصيرت الجلاء لها دعاما2
كما وجدنا مجابهة الإنجليز، وتحديهم من الأمور التي تتردد كذلك في شعر هؤلاء الشعراء، فمحرم يقول من قصيدة له سنة 1925 في استقبال اللورد "جورج لويد":
عميد الغاصبين نزلت أرضًا
…
يبيد الغاصبون ولا تبيد
يذود الواحد القهار عنها
…
إذا قهرت جنودك من يذود
أتذكر إذا لقومك ما أرادوا
…
وإذا "لكرومر" البطش الشديد
تطوف جنوده فتصيد منا
…
ومن سرب الحمائم ما تصيد3
وكذلك يقول حافظ سنة 1932 مخاطبًا دار المندوب السامي، ومنددًا بما سموه سياسة الحياد، ليتخلصوا من تبعة ما كان يتورط فيه صدقي من استبداد، وتنكيل بالمواطنين:
قصر الدبارة قد نقضـ
…
ت العهد نقض الغاصب
أخفيت ما أضمرته
…
وأبنت ود الصاحب
1 الشوقيات جـ1 ص127.
2 الشوقيات جـ1 ص177-178.
3 شعراء الوطنية لعبد الرحمن الرافعي ص207.
الحرب أروح للنفو
…
س من الحياد الكاذب1
ويقول في نفس السنة مخاطبًا "السير برسي لوين" المندوب السامي، وقتئذ:
ألم تخبر بني التاميز عنا
…
وقد بعثوك مندوبًا أمينا
بأمنا قد لمسنا الغدر لمسا
…
وأصبح ظننا فيكم يقينا
كشفنا عن نواياكم فلستم
…
وقد برح الخفاء محايدينا
سنجمع أمرنا فترون منا
…
لدى الجلي كرامًا صابرينا2
ويصل حافظ إلى قمة التحدي حين يقول سنة 1932، مخاطبًا الإنجليز:
حولوا النيل واحجبوا الضوء عنا
…
واطمسوا النجم واحرمونا النسيما
واملأوا البحر إن أردتم سفينا
…
واملأوا الجو إن أردتم رجومًا
إننا لن نحول عن عهد مصر
…
أو ترونا في الترب عظمًا رميمًا3
وواضح أن وطنية شوقي في هذه الفترة أصرح منها في الفترة السابقة، وخاصة فيما يتعلق بموقفه من الإنجليز، والسبب في هذه الصراحة، ما أفاده الرجل بعد عودته من المنفى من انعتاق من قيد القصر، هذا القيد الذي كان يفرض عليه -فيما سبق- أن يربط موقفه بموقف القصر إزاء الإنجليز، الأمر الذي ورطه أحيانًا في مهادنة المحتلين، بل أوقعه في مدحهم.
وواضح كذلك أن وطنية حافظ في هذه الفترة، وخاصة في أواخرها قد طرأ عليها شيء من الشجاعة، حتى لنراه يقول للإنجليز ما لم يقله منذ عين في دار الكتب، وحتى لنراه أيضًا يقول لبعض الحكام المستبدين ما لم يقله غيره من الشعراء، والسبب في ذلك أن الرجل كان قد اطمأن بعض الشيء بعد الاستقلال المقيد، وأمن في بعض الفترات أذى المحتلين، كما كان بعد ذلك قد أمضى مدة خدمته في دار الكتب، وأحيل إلى المعاش؛ فلم يعد قيد الوظيفة يعقل لسانه أو يهيض جناحه، ولذا هاجم الإنجليز، وطالب بالجلاء
1 ديوان حافظ جـ2 ص109.
2 ديوان حافظ جـ2 ص106-107.
3 ديوان حافظ جـ2 ص108.
ولعن المستبد صدقي، ولذا أيضًا وجدنا أهم ما له من شعر وطني في تلك الفترة قد قاله حول سنة 1932، وهي سنة إحالته إلى المعاش.
ونتيجة لتعلق أنظار هؤلاء الشعراء بالبلاد الإسلامية والعربية، وارتباطهم وجدانيًّا بإخوانهم المسلمين والعرب، وتحركهم في دوائر الإسلامية والعروبة والشرق، إلى جانب تحركهم بعمق في دائرة الوطنية المحلية؛ نتيجة لهذا كله، نجد زعماء الاتجاه المحافظ يتابعون أحداث الخلافة بعد الحرب العالمية الأولى، باكين هزيمة تركيا أولا، ثم مهللين لانتصار مصطفى كمال ثانيًا، ثم جزعين من إلغاء أتاتورك للخلافة آخر الأمر، وهم في كل ذلك مدفوعون بمشاعر إسلامية خالصة، يذكرونها صراحة، ويؤكدونها بترديد أسماء المعالم المقدسة في البلاد الإسلامية، ليخلعوا على تلك المعالم مشاعرهم، وليثيروا -بما تحمله من طاقات شعورية- حماس المسلمين في كل مكان.
كما نجد هؤلاء الشعراء المحافظين يسهمون في قضايا البلاد الإسلامية العربية الأخرى، مؤازرين نضالها، مباركين انتصارها، باكين من استشهدوا من أبطالها، وهم في هذه المرة مشيدون بالرابطة الإسلامية والرابطة العربية، التي تذكر كل منهما صراحة أو تكنيه، أو يشار إلى أي منهما بلفظ الشرق، الذي كان يعني الوطن العربي أحيانًا، والوطن الإسلامي أحيانًا، كما تدل على ذلك استعمالات الشعراء في ذاك الوقت1.
فحين تُحتل الآستانة، ويتقسمها الإنجليز والفرنسيون والطليان، يتحدث حافظ إبراهيم عن هذه النكبة، فيقول مناجيًا الله سبحانه، في تحسر المسلم على ما كان من ضياع أرض إسلامية عزيزة، وإذلال لإخوة مسلمين أعزاء:
1 من الاستعمالات التي تجعل للشرق معنى العروبة قول شوقي:
كان شعري الغناء في فرح
…
الشرق وكان العزاء في أحزانه
قد قضى الله أن يؤلفنا الجرح
…
وأن نلتقي على أشجانه
كلما أن بالعراق جريح
…
لمس الشرق جنبه في عمانه
ومن الاستعمالات التي يراد بها الوطن الإسلامي قول شوقي: "ونحن في الشرق والفصحى بنو رحم"، حيث جعل الفصحى رمزًا للعروبة، وجعل الشرق رمزًا للإسلام.
أيرضيك أن تغشى سنابك خيلهم
…
حماك، وأن يمنى الحطيم وزمزم
وكيف يذل المسلمون وبينهم
…
كتابك يتلى كل يوم ويكرم
نبيك محزون وبيتك مطرق
…
حياء، وأنصار الحقيقة نوم1
وحين ينتصر مصطفى كمال سنة 1922، وتنهض تركيا بعد ما منيت به من هزيمة واستسلام، يتحدث شوقي عن هذا الانتصار بلغة المسلم المبتهج بانتصار قائد مسلم في معركة إسلامية، حتى ليذكره هذا النصر القريب في الأناضول بما كان من انتصار بعيد في بدر، وحتى لينقل إليه مصطفى كمال صورة خالد بن الوليد، وحتى ليجعل الفرحة تهز كل جوانب العالم الإسلامي، وتمس كل آثاره المقدسة، وفي ذلك يقول شوقي:
الله أكبركم في الفتح من عجب
…
يا خالد الترك جدد خالد العرب
لما أتيت ببدر من مطالعها
…
تلفت البيت في الأستار والحجب
وهشت الروضة الفيحاء ضاحكة
…
إلى المنورة المكية الترب
وأرَّج الفتح أرجاء الحجاز وكم
…
قضى الليالي لم ينعم ولم يطب2
بل يتحدث عبد المطلب عن هذا الانتصار، في حماس أعظم واندماج أشد، حتى ليعتبره انتصارًا لقومه، وفوزًا لآله، وهو في ذلك لا يعتبر نفسه تركيًّا، ولا يتخلى عن شيء من حماسه لوطنه، وإنما يصدر عن هذا الشعور الإسلامي المجمع، الذي يعتبر المسلمين إخوة، وفي ذلك يقول من قصيدة له:
لقد ظنوا الظنون بنا سفاهًا
…
ورادوا البغي وانتجعوا الخيالا
كأم لم يعلموا أن المنايا
…
بأيدينا نصرفها نصالا
وأن لنا لدى الغارات خيلا
…
بحد بنا إلى الموت اختيالا
وما يونان -إن جهلت- بكفء
…
لنا يوم المغار ولا مثالا3
1 ديوان حافظ جـ2 ص88-89.
2 الشوقيات جـ1 ص48-52.
3 ديوان عبد المطلب ص198.
وحين يُلغي مصطفى كمال الخلافة، يبكيها شوقي -قبل كل شيء- في حزن المسلم، الذي كان يرى فيها وسيلة تجميعن وتكتيل لقوى المسلمين، ومظهرًا من مظاهر عظمة الإسلام وجلاله، وفي ذلك يقول:
ضجت عليك مآذن ومنابر
…
وبكت عليك ممالك ونواح
بكت الصلاة، وتلك فتنة عابث
…
بالشرع عربيد القضاء وقاح
أفتى خزعبلة وقال ضلالة
…
وأتى بكفر في البلاد صراح
إن الذين جرى عليهم فقهه
…
خلقوا لفقه كتيبة وسلاح1
كما يتحدث أحمد محرم -كمسلم- عما لقيت الخلافة من خيانات بعض الزعامات العربية الطامعة، والمدفوعة بإغراءات الإنجليز وحيل الاستعمار، فيقول في قصيدة له في المناسبة نفسها:
وما نفع الخلافة حين تمسي
…
حديث خرافة للهازلينا
ثوت تتجرع الآلام شتى
…
على أيدي الدهاة الماكرينا
منعنا الظلم أن يطغى عليهم
…
فخانونا وكانوا الظالمينا
نصاب لأجلهم ونصاب منهم
…
فإن تعجب فذلك ما لقينا2
وحين تهب سوريا في ثورتها ضد الاحتلال الفرنسي سنة 1925، يسهم الشعراء المحافظون بشعرهم في المعركة، إلى جانب إخوانهم السوريين، حتى لنجد لشوقي وحده ثلاثة قصائد في هذه المناسبة، فهو أولًا يذيع قصيدته النونية المشهورة، مؤكدًا أخوة الإسلام والعروبة، والمأساة بين سوريا ومصر، فيقول:
قم ناج جلق وانشد رسم من بانوا
…
مشت على الرسم أحداث وأزمان
تغير المسجد المحزون واختلفت
…
على المنابر أحرار وعبدان
1 الشوقيات جـ1 ص106-107.
2 ديوان محرم مخطوط "عن الاتجاهات الوطنية للدكتور محمد حسين جـ2 ص31".
فلا الأذان أذان في منابره
…
إذا تعالى ولا الآذان آذان
ونحن في الشوق والفصحى بنو رحم
…
ونحن في الجرح والآلام إخوان1
ثم يذيع قصيدته الثانية سنة 1926 بمناسبة نكبة دمشق، ويتحدث فيها عن صلات الدين واللسان، والمحنة بين المصريين والسوريين، ويحاول أن يستنهض همم مواطنيه في نضال الإنجليز، بتمجيده لبطولات أبناء سوريا في نضال الفرنسيين، ومن تلك القصيدة يقول شوقي:
نصحت ونحن مختلفون دارًا
…
ولكن كلنا في الهم شرق
وتجمعنا إذا اختلفت بلاد
…
بيان غير مختلف ونطق
وللأوطان في دم كل حر
…
يد سلفت ودين مستحق
وللحرية الحمراء باب
…
بكل يد مضرجة يدق2
ثم يذيع قصيدته الثالثة سنة 1926 أيضًا، رابطًا بين معاناة قومه من أجل الحرية، ومعاناة إخوانه في سوريا من أجلها أيضًا، ويوضح أن الطريق الوحيد إلى الظفر بها هو طريق الدم، وفي تلك القصيدة يقول:
سلوا الحرية الزهراء عنا
…
وعنكم: هل أذاقتنا الوصالا
وهل نلنا كلانا اليوم إلا
…
عراقيب المواعد والمطالا
عرفتم مهرها فمهرتموها
…
دمًا صبغ السباسب والدغالا3
وحين يستشهد القائد العربي محمد بن سعيد العاصي في فلسطين سنة 1929 4، يذيع محرم قصيدة في رثائه، وفيها يستنهض همم المسلمين والعرب من أجل نصرة فلسطين، سابقًا كل الشعراء إلى هذا الميدان المقدس، ومن هذه القصيدة يقول:
1 الشوقيات جـ2 ص122-125.
2 الشوقيات جـ2 ص90-91.
3 الشوقيات جـ2 ص228.
4 كان ذلك حين اتسع نطاق القتال بين العرب واليهود منذ حوادث البراق، أو حائط المبكى.
نظم المجد لأبطال الحمى
…
ونظمت الشعر نارًا ودما
يا فلسطين ارفعي تاجيك في
…
دولة البأس وزيدي شمما
صخرة صماء تحمي صخرة
…
علمتها كيف تشفي الصمما
أسمت "بلفور" نجوى وعده
…
ترتمي حزنًا وتمضي ندما1
وحين يقتل الطليان الشهيد المسلم، عمر المختار سنة 1931، يذيع شوقي همزيته الرائعة، التي يصور فيها كيف ضجت أفريقيا على البطل العظيم، الذي ركزه المستعمرون -عن جهل- لواء يتجمع تحته المظلومون ليثأروا من ظالميهم. ومن تلك القصيدة قول شرقي:
ركزوا رفاتك في الرمال لواء
…
يستنهض الوادي صباح مساء
يا أيها السيف المجرد في الفلا
…
يكسو السيوف على الزمان مضاء
أفريقيا مهد الأسود ولحدها
…
ضجت عليك أراجلا ونساء
والمسلمون على اختلاف ديارهم
…
لا يملكون على المصاب عزاء2
ويذيع محرم قصيدة في نفس المناسبة، معتبرًا المصيبة مصيبة الإسلام والمسلمين، فيقول:
هتف النعي فما ملكت بياني
…
ليت النعي إلى الإمام نعاني
ذعر الحطيم وراع يثرب حائط
…
للموت ضج لهوله الحرمان
سهم أصاب المسلمين وجال في
…
كبد الهدى وحشاشة الإيمان3
وحين ينكل الصهيونيون بأبناء الإسلام والعروبة في فلسطين، يقول محرم من قصيدة له سنة 38 متنبئًا بما سيجره اغتصاب الأرض المقدسة على الإسلام والعروبة من ويلات، ومثيرًا الهمم إلى خوض معركة الحياة ضد الصهيونية الباغية:
1 ديوان محرم المخطوط "عن الاتجاهات الوطنية للدكتور محمد حسين جـ2 ص155".
2 الشوقيات جـ4 ص17-18.
3 ديوان محرم المخطوط "عن الاتجاهات الوطنية للدكتور محمد حسين جـ2 ص154".
من ذا يرى دمه أعز مكانة
…
من أن يخصب في فلسطين الربا
وطن يعذب في الجحيم وأمة
…
أعزز علينا أن تصاب وتنكبا
إنا لنعلم أن آكل لحمهم
…
سيخوض منا في الدماء ليشربا1
ب- من الناحية الفنية:
أما من الناحية الفنية، فإن زعماء الاتجاه المحافظ البياني ظلوا على طريقتهم في محافظتها على تقاليد الشعر العربي التي حددتها عصور الازدهار، ووقفوا عند ما ألفوا من الاهتمام قبل كل شيء بالجانب البياني، وجعل إتقان الصياغة في المحل الأول2، شأنهم في ذلك شأن "الكلاسيكيين" الذين تعد الصياغة المتقنة أبرز خصائصهم3.
وليس من شك أنهم أحسوا بحرج موقفهم، وخاصة بعد الهجوم العنيف الذي وجه إليهم من أصحاب الاتجاه التجديدي الذهني، وبصفة أخص، بعد ظهور كتاب "الديوان"، الذي أخرجه العقاد والمازني، وجعلا من أهم أهدافه هدم هؤلاء المحافظين، بتحطيم زعيمهم شوقي عن طريق نقد شعره وبيان ما فيه من تخلف، وبعد عن الفن الشعري الذي يتطلبه العصر4.
وقد عبر حافظ عن هذا الإحساس عند الشعراء المحافظين، حين قال:
ملأنا طبقا الأرض وجدًا ولوعة
…
بهند ودعد والرباب وبوزع
وملت بنات الشعر منا مواقفًا
…
بسقط اللوى والرقمتين ولعلع
تغيرت الدنيا وقد كان أهلها
…
يرون متون العيس ألين مضجع
1 انظر: شعراء الوطنية للرافعي ص210.
2 انظر: تفصيل مذهبهم في الفصل الثالث، المبحثين جـ، د من مباحث المقال رقم 1 من المقالات الخاصة بالشعر.
3 انظر: Wat is classic T، Eliot p،9
4 ظهر الديوان سنة 1921، وتولى العقاد نقد شوقي والرافعي، وتولى المازني نقد المنفلوطي وشكري، وكان نقد المازني لشكري خارجًا عن طبيعة الكتاب؛ لأن شكري من عمد التجديد، وكان النقد له بدوافع شخصية.
وكان بريد العلم عيرًا وأينقا
…
متى يعيها الإيجاف في البيد تظلع
فأصبح لا يرضى البخار مطية
…
ولا السلك في تياره المتدفع
ونحن كما غنى الأوائل لم نزل
…
نغني بأرماح وبيض وأدرع
عرفنا مدى الشيء القديم فهل مدى
…
لشيء جديد حاضر النفع ممتع؟! 1
غير أن هذا الإحساس لم يتجاوز هذا الاعتراف من جانب حافظ، وبعض محاولات للتجديد لا تنم عن فهم لحقيقته عند رفاق حافظ، ممن حسبوا أن التجديد هو الحديث عن بعض المخترعات الحديثة، كالقطار والطيارة، وما إلى ذلك، وجعل مجرد الحديث عن هذه الأشياء ثورة على الحديث عن الجمل والناقة مثلًا، مع أن من المقررات أن التجديد لا يكون في تناول شيء جديد فحسب، وإنما في طريقة تناول هذا الشيء، بل في طريقة الإحساس به والوقوف منه، قبل طريقة الحديث عنه، وقد تناول الشعراء المحافظون ما تناولوا من مخترعات حديثة بنفس الطريقة القديمة، التي تتناول الشيء من الخارج، وتعدد مظاهره لونًا وحجمًا وفائدة أو ضررًا، دون أن تتعدى ذلك -في الغالب- إلى وقع هذا الشيء على نفس الشاعر، أو تحاول النفاذ من الحدود الشكلية لهذا الشيء إلى ما وراء اللون والحجم، والمظاهر السطحية، بل أكثر من ذلك، قد عبر الشعراء المحافظون عن هذه المخترعات الحديثة، بتلك الأوصاف والتراكيب، والصور التي ألفت، بل استهلكت في الحديث عن أشياء معرفة في القدم، ومن ذلك قول شوقي في الطيارة:
أعقابٌ في عنان الجو لاح
…
أم سحاب فر من هوج الرياح
أم بساط الريح ردته النوى
…
بعد ما طوف في الدهر وساح
أو كأن البرج ألقى حوته
…
فترامى في السموات الفساح2
1 ديوان حافظ جـ1 ص129-130.
2 انظر: الشوقيات جـ2 ص194.
جـ- محاولات تجديدية:
ولعل المحاولة الوحيدة الجادة في مجال التجديد الشعري من جانب المحافظين هي تلك المحاولة التي قام بها شوقي لتطويع الشعر للمسرح، والحق أن هذه المحاولة ليست وليدة تلك الفترة التي يساق عنها الحديث، ولم يتجه إليها شوقي في تلك السنوات فقط، وإنما بدأها من قبل ذلك بسنين1، ولكن الحق أيضًا، أن شوقي كان قد انصرف عن كتابة المسرحيات الشعرية منذ خاب أمله بعد كتابة مسرحيته الأولى "علي بك الكبير"، التي ألفها في فرنسا سنة 1893، ولكنه تحت عبء الإحساس بالجمود، وإزاء الاتهام بالتخلف، وأمام هجمات دعاة التجديد في هذه الفترة؛ اتجه من جديد إلى الشعر المسرحي منذ سنة 1927، ووالي إخراج مسرحياته الشعرية من ذلك التاريخ حتى سنة 1932، فأخرج في هذه السنوات:"مصرع كليوباترا" و"مجنون ليلى" و"قمبيز" و"عنترة" و"الست هدى"، كما أعاد كتابة مسرحيته الشعرية الأولى "علي بك الكبير" بما يتلاءم مع مستواه الشعري والفني الجديد، وربما يجنبه الأخطاء التي تورط فيها حين أقدم على المحاولة لأول مرة2.
وربما اعتبرت محاولة أخرى لأحمد محرم، في المحل الثاني من هذه المحاولة؛ وذلك أنه أراد أن يطوع الشعر للقصص التاريخي الحماسي الطويل، فألف نحو سنة 1933 "ديوان مجد الإسلام3" ليحكي بالشعر سيرة
1 كتب أولى مسرحياته "علي بك الكبير"، وهو في باريس سنة 1893.
2 انظر: مسرحيات شوقي لمحمد مندور، والمسرحية في شعر شوقي للدكتور محمود شوكت.
واقرأ الدراسة التي كتبتها عن مسرحيات شوقي في الفصل الخاص بها في كتابي "الأدب القصصي والمسرحي في مصر".
3 انظر: "ديوان مجد الإسلام"، المقدمة التي كتبها المشرف على تصحيحه محمد إبراهيم الجيوشي ص هـ.
الرسول وبطولاته وغزواته، وربما أراد محرم بهذا العمل أن يطرق بالشعر العربي فن الملحمة، ولكنه في الواقع لم يخرج ملحمة بالمفهوم الفني لهذا الجنس الأدبي، وإن طاب لكثير ممن تحدثوا عن هذا العمل أن يسموه "الإلياذة الإسلامية"1. وذلك أن الملحمة في حقيقتها، وكما عرفت -من أروع نماذجها التي خلفها "هوميروس"- تعتمد أساسًا على الأساطير الشعبية، والبطولات
الخيالية، التي تصل أحيانًا إلى جعل الأبطال في مصاف الآلهة، أو أنصاف الآلهة، وهي لهذا كله لا تعني بالوقائع التاريخية ولا الأحداث الحقيقية، وإنما تعني قبل كل شيء بالخيال الجامح والتصوير الأسطوري، مما كان يرضي ظمأ الجماهير إلى البطولة الخارقة، وتلهفها على الأبطال الخياليين2.
أما "ديوان مجد الإسلام"، فبرغم اتخاذه سيرة بطل عظيم مادة، وبرغم تسجيله لمعارك وانتصارات باهرات، فإن هذا العمل الشعوي قد التزم الوقائع التاريخية، وسجل الأحداث الحقيقية، ولم يعتمد أصلًا على الأساطير ولم يحكم الخيال؛ ثم هو بعد ذلك قد التزم في البناء الفني شكل القصائد الغنائية المتتالية، التي تؤلف في جملتها ديوانًا ذا موضوع واحد، هو حياة محمد صلى الله عليه وسلم، وبطولاته وغزواته.
وقد درج الشاعر على أن يقدم بين يدي معظم القصائد -بمقدمة نثرية تجمل الأحداث التاريخية التي ستعالج فيما يلي من أبيات، كذلك درج على التزام الوزن والقافية في كل قصيدة تعالج فصلًا، أو موضوعًا معينًا، ثم تغيير الوزن والقافية في القصيدة الأخرى، وهكذا.
ومن هنا نرى أن أهم تجديد في هذا العمل، هو معالجته في ديوان
1 يفهم من المقدمة أن الشاعر لم يطلق على هذا العمل اسم "الإلياذة الإسلامية"، وإنما كان ذلك من إضافات الآخرين. انظر المقدمة ص ي.
2 انظر: المدخل إلى النقد الأدبي الحديث للدكتور محمد غنيمي هلال ص70، وما بعدها وانظر: الأدب ومذاهبه للدكتور محمد مندور ص22-25.
كامل لموضوع واحد، هو سيرة الرسول وبطولاته وغزواته، أما بعد ذلك فهو -في جملته- قصائد غنائية تستلهم مادة تاريخية، ولا تؤلف ملحمة إلا على سبيل التجوز، واعتبار الحديث عن البطولة بالشعر المتسم بالطول والإفاضة، كافيًا لإطلاق هذا الاسم1.
وهذه أبيات من القصيدة الأولى، التي تحمل عنوان:"مطلع النور الأول"، وفي هذه الأبيات يتحدث الشاعر عن ثبات محمد صلى الله عليه وسلم؛ وعدم استجابته لإغراء قومه بالملك والمال، حتى يصرفوه عن دعوته:
جاءه عمه يقول: أترضى
…
أن يقيموك سيدًا أو أميرا
ويصبوا عليك من صفوة الما
…
ل، حيًا ماطرًا وغيثًا غزيرا
لو أتوني بالنيرين لأعرضـ
…
ـت أريهم مطالبي والشقورا2
إن يشيروا بما علمت فإنى
…
لأدع الهوى وأعصي المشيرا
دون هذا دمي يراق، ونفسي
…
تطعم الحتف رائعًا محذورًا3
…
على أن محاولة شوقي برغم نجاحها، إنما كانت محاولة للتجديد في فن الشعر بعامة، وليست محاولة للتجديد في مجال الشعر الغنائي بخاصة، فهي تهدف إلى عمل شعر "درامي"، وهو نوع من الشعر مغاير في حقيقته للشعر الغنائي من الناحية الفنية، وإن خدمت الشعر العربي بوجه عام، وفتحت أمامه ميدانًا من أخصب الميادين.
1 منذ عصر النهضة حاول عدد من الأدباء في العالم عمل ملاحهم بمفهومات مختلفة عن المفهوم القديم للملحمة، فمثلًا وجدت الملحمة الأدبية التي تعتمد على الفكرة، والمعاني المجردة، والتي تقابل الملحمة التاريخية التي تعتمد على التاريخ الممزوج بالأساطير، لكن ملحمتي هومير بقيتا تمثلان النسق الأعلى للملاحم وترشمانه. انظر: المفهوم الصحيح لهذا النوع الأدبي في الأدب ومذاهبه للدكتور محمد مندور ص22-25، وانظر: الأدب وفنونه للدكتور عز الدين إسماعيل ص126-128.
2 الشقور: الحاجات والأمور المتصلة بالقلب، جمع شقر.
3 ديوان مجد الإسلام ص5.
المقالة وتميز الأساليب الفنية
…
ومن سمات هذه الطريقة بعد هذا، الابتعاد عن الزخرف بكل ألوانه، وذلك باستثناء بعض السجع الذي قد يؤتي به قليلًا في المواقف المحتاجة إلى رنين يقرع السمع، كمواقف السخرية والتحدي والدعابة، وما إلى ذلك.
ويمكن أن نتبين طريقة "التعبير المحكم" التي أسمينا بها طريقة العقاد، في هذا النموذج التالي، وهو جزء من مقال للكاتب الراحل بعنوان "الألم واللذة"، وفيه يقول:
"أما أن الألم موجود في هذه الدنيا فمما لا يختلف فيه اثنان، وأما أنه فوق ما تقبله النفوس فمما لا يختلف فيه إلا القليل، وأما أنه نافع أو غير نافع ومقدم للحياة أو مثبط لها، فذلك ما يختلف فيه الكثيرون".
"ورأيي في هذا الخلاف أن الألم ضرورة من ضرورات الحياة، وحسنة من حسناتها في بعض الأحيان، وحالة لا تتخيل الإنسانية بدونها على وجه من الوجوه".
"أما تفصيل هذا الرأي، فهو أن الشعور بالنفس يستلزم الشعور بغير النفس؛ فهذه الـ"أنا" التي تقولها، وتجمل فيها خصائص حياتك، ومميزات وجود وتعرف بها نفسك مستقلا عما حولك منفردًا بإحساسك، هي نصيبك من الحياة الذي لا نصيب لك غيره، وهي تلك "الذات" التي لا تشعر بها إلا إذا شعرت بشيء مخالف لها في هذا العالم الذي يحيط بها، فأنت لا تكون شيئًا له حياة ولذات وآلام ومحاب ومكاره، إلا إذا كانت في العالم أشياء أخرى غيرك، ولا تكون هذه الأشياء الأخرى معك إلإ إذا كان منها ما يلائمك، وما لا يلائمك، أو ما يسرك وما يؤلمك".
"فإذا أردت حياة لا ألم فيها، فأنت تريد إحدى حياتين: فإما أن تكون وحدك في هذا الوجود، وهذا حياة لا يتخيل العقل كيف تكون، ولو تخيلها لما أطاق احتمالها، وكيف ونحن نرى أن الأديان الكبرى كلها تعلمنا أن الله خلق الخلق ليعرفه غيره بعد أن كان ولا شيء سواء؟؟ فإذا كانت النفس البشرية لا تقوى على أن تتصور إلهًا منفردًا بالوجود، فكيف تراها تطيق