الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عليك وشهادة الله إنما عرفت بسبب أنه أنزل هذا القرآن البالغ في الفصاحة والبلاغة إلى حيث عجز الأولون والآخرون عن معارضته، والإيمان بمثله فكان ذلك معجزا وإظهار المعجزة شهادة يكون المدعي صادقا لا جرم قال الله تعالى لكن الله يشهد لك يا محمد بالنبوة بواسطة هذا القرآن الذي أنزله عليك أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ يعني أنه تعالى لما قال لكن الله يشهد بما أنزل إليك بين صفة ذلك الإنزال وهو أنه تعالى أنزله بعلم تام وحكمة بالغة وقيل معناه أنزله وهو عالم بأنك أهل لإنزاله عليك وأنك مبلغه إلى عباده وقيل معناه أنزله بما علم من مصالح عباده في إنزاله عليك وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ يعني يشهدون بأن الله أنزله عليك ويشهدون بتصديقك وإنما عرفت شهادة الملائكة لأن الله تعالى إذا شهد بشيء شهدت الملائكة بذلك الشيء. وقد ثبت أن الله يشهد بأنه أنزله بعلمه فلذلك الملائكة يشهدون بذلك وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً يعني وحسبك يا محمد أن الله يشهد لك وكفى بالله شهيدا وإن لم يشهد معه أحد غيره ففيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عن شهادة أهل الكتاب له فإن الله يشهد له وملائكته كذلك.
قوله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني جحدوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وهم اليهود وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ يعني منعوا غيرهم عن الإيمان به بكتمان صفته وإلقاء الشبهات في قلوب الناس وهو قولهم لو كان محمد رسولا لأتى بكتاب من السماء جملة واحدة كما أتى موسى بالتوراة قَدْ ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيداً يعني عن طريق الهدى إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا يعني كفروا بالله وظلموا محمدا صلى الله عليه وسلم بكتمان صفته وظلموا غيرهم بإلقاء الشبهة في قلوبهم لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ يعني لمن علم منهم أنهم يموتون على الكفر وقيل معناه لم يكن الله ليستر عليهم قبائح أفعالهم بل يفضحهم في الدنيا ويعاقبهم عليها بالقتل والسبي والجلاء في الآخرة بالنار وهو قوله تعالى: وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً يعني ينجون فيه من النار وقيل ولا ليهديهم طريقا إلى الإسلام لأنه قد سبق في علمه أنهم لا يؤمنون إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ يعني لكنه تعالى يهديهم إلى طريق يؤدي إلى جهنم وهي اليهودية لما سبق في علمه أنهم أهل لذلك خالِدِينَ فِيها يعني في جهنم أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً يعني هينا.
قوله عز وجل: يا أَيُّهَا النَّاسُ هذا خطاب عام يدخل فيه جميع الكفار من اليهود والنصارى وعبادة الأصنام وغيرهم وقيل هو خطاب لمشركي العرب قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ يعني محمدا صلى الله عليه وسلم بِالْحَقِّ يعني بدين الإسلام الذي ارتضاه الله لعباده وقيل جاء بالقرآن الذي هو الحق مِنْ رَبِّكُمْ يعني من عند ربكم فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ يعني فآمنوا بما جاءكم به محمد صلى الله عليه وسلم يكن الإيمان بذلك خيرا لكم يعني من الكفر الذي أنتم عليه وَإِنْ تَكْفُرُوا يعني وإن تجحدوا رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وتكذبوا بما جاءكم من الحق من ربكم فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني فإن الله هو الغني عن إيمانكم لأن له ما في السموات والأرض ملكا وعبيدا ومن كان كذلك لم يكن محتاجا إلى شيء وأنه قادر على من يشاء وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً يعني بما يكون منكم لا يخفى عليه شيء من أعمال عباده فيجزي كل عامل بعمله حَكِيماً يعني في تكليفهم مع علمه بما يكون منكم. قوله عز وجل:
[سورة النساء (4): آية 171]
يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَاّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (171)
يا أَهْلَ الْكِتابِ نزلت هذه الآية في النصارى وذلك أن الله تعالى لما أجاب عن شبه اليهود فيما تقدم من الآية اتبع ذلك بإبطال ما تعتقده النصارى وأصناف النصارى أربعة: اليعقوبية والملكانية والنسطورية والمرقوسية، فأما اليعقوبية والملكانية فقالوا في عيسى أنه الله وقالت النسطورية إنه ابن الله وقالت المرقوسية ثالث ثلاثة وقيل:
إنهم يقولون إن عيسى جوهر واحد ثلاثة أقانيم أقنوم الأب وبأقنوم الابن وأقنوم روح القدس وأنهم يريدون بأقنوم الأب الذات وأقنوم الابن عيسى. وبأقنوم روح القدس الحياة الحالة فيه فتقديره عندهم الإله ثلاثة، وقيل إنهم يقولون في عيسى ناسوتية وألوهية فناسوتيته من قبل الأم وألوهيته من قبل الأب تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا يقال إن الذي أظهر هذا للنصارى رجل من اليهود يقال له بولص تنصر ودس هذا في دين النصارى ليضلهم بذلك. وستأتي قصته في سورة التوبة إن شاء الله تعالى وقيل يحتمل أن يكون المراد بأهل الكتاب اليهود والنصارى جميعا. فإنهم غلوا في أمر عيسى عليه السلام. فأما اليهود فإنهم بالغوا في التقصير في أمره حتى حطوه عن منزلته حيث جعلوه مولودا لغير رشدة وغلت النصارى في رفع عيسى عن منزلته ومقداره حيث جعلوه إلها فقال الله تعالى ردا عليهم جميعا يا أهل الكتاب لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وأصل الغلو مجاوزة الحد وهو في الدين حرام والمعنى لا تفرطوا في أمر عيسى ولا تحطوه عن منزلته ولا ترفعوه فوق قدره ومنزلته وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ يعني لا تقولوا إن له شريكا وولدا وقيل معناه لا تصفوه بالحلول والاتحاد في بدن الإنسان ونزهوا الله تعالى عن ذلك، ولما منعهم الله من الغلو في دينهم أرشدهم إلى طريق الحق في أمر عيسى عليه السلام فقال تعالى: إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ يقول إنما المسيح هو عيسى ابن مريم ليس له نسب غير هذا وأنه رسول الله فمن زعم غير هذا فقد كفر وأشرك وَكَلِمَتُهُ هي قوله تعالى: كن فكان بشرا من غير أب ولا واسطة أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ يعني أوصلها إلى مريم وَرُوحٌ مِنْهُ يعني أنه كسائر الأرواح التي خلقها الله تعالى وإنما أضافه إلى نفسه على سبيل التشريف والتكريم كما يقال بيت الله وناقة الله. وهذه نعمة من الله يعني أنه تفضل بها وقيل الروح هو الذي نفخ فيه جبريل في جيب درع مريم فحملت بإذن الله. وإنما أضافه إلى نفسه بقوله منه لأنه وجد بأمر الله قال بعض المفسرين إن الله تعالى لما خلق أرواح البشر جعلها في صلب آدم عليه السلام، وأمسك عنده روح عيسى عليه السلام فلما أراد الله أن يخلقه أرسل بروحه مع جبريل إلى مريم فنفخ في جيب درعها فحملت بعيسى عليه السلام وقيل إن الروح والريح متقاربان في كلام العرب، فالروح عبارة عن نفخ جبريل عليه السلام وقوله منه يعني إن ذلك النفخ كان يأمره وإذنه وقيل أدخل النكرة في قوله وروح على سبيل التعظيم والمعنى روح وأي روح من الأرواح القدسية العالية المطهرة وقوله منه إضافته تلك الروح إلى نفسه لأجل التشريف والتكريم (ق) عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من شهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله وأن عيسى عبده ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه والجنة والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل» .
وقوله تعالى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ يعني فصدقوا يا أهل الكتاب بوحدانية الله وأنه لا ولد له وصدقوا رسله فيما جاءكم به من عند الله وصدقوا بأن عيسى عليه السلام من رسل الله فآمنوا به ولا تجعلوه إله وقوله تعالى:
وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ يعني ولا تقولوا الآلهة ثلاثة وذلك أن النصارى يقولون أب وابن وروح القدس وقيل إنهم يقولون إن الله بالجوهر ثلاثة أقانيم وذلك أنهم أثبتوا ذاتا موصوفة بصفات ثلاثة بدليل أنهم يجوزون على تلك الذات الحلول في عيسى وفي مريم فأثبتوا ذواتا متعددة ثلاثة وهذا هو محض الكفر. فلهذا قال الله تعالى ولا تقولوا ثلاثة انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ يعني يكون الانتهاء عن هذا القول خير لكم من القول بالتثليث ثم نزه الله تعالى نفسه عن قول النصارى بالتثليث فقال تعالى: إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ ثم نزه نفسه عن الولد فقال سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ يعني لا ينبغي أن يكون له ولد لأن الولد جزء من الأب وتعالى الله عن التجزئة، وعن صفات الحدوث لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يعني أنه تعالى له ملك السموات والأرض وما فيهما عبيده وملكه وعيسى ومريم من جملة من فيهما فهما عبيده وملكه فإذا كانا عبدين له فكيف يعقل مع هذا أن له ولدا أو زوجة تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا؟ وهذا بيان لتنزيهه مما نسب إليه من الولد والمعنى أن جميع ما في السموات والأرض خلقه