الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَ
أي إلى ترك دعوى الرسالة، والإقرار بها، داخلين فِي مِلَّتِنا أي ملة المشركين.
قال الجشمي: الملة الديانة التي يجمع على العمل بها فرقة عظيمة. والأصل فيه تكرر الأمر، من قولهم: طريق ممل ومليل، إذا تكرر سلوكه حتى صار معلما.
ومنه الملل: تكرار الشيء على النفس حتى تضجر منه- انتهى.
قالَ أي شعيب أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ أي: أتجبروننا على ذلك، وإن كنا كارهين له؟ مع أنه لا فائدة في الإكراه، لأن دينكم إن كان حقّا، لم نكن بالإكراه منقادين له، وإن كان باطلا، لم نكن بالإكراه متصفين به، لأنه بالحقيقة صفة القلب، ولا يسري إكراهكم إليه. وكيف لا نكرهه وهو يستلزم غاية القبح والظلم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (7) : آية 89]
قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَاّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (89)
قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً أي اختلفنا عليه باطلا بأن له شريكا إِنْ عُدْنا إلى ترك دعوى الرسالة والإقرار بها، لندخل فِي مِلَّتِكُمْ القائلة بأن له شريكا بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها فأرانا أنه كالإنجاء من النار وَما يَكُونُ أي ينبغي لَنا أَنْ نَعُودَ أي عن دعوى الرسالة والإقرار بها فنصير فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا أي الذي يربّينا بما علم من استعدادنا، لأنه وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أي فعلم استعداد كل واحد في كل وقت، لكن عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا أي ليحفظنا عن المصير إليها رَبُّنا إن قصدوا إكراهنا عليها أو إخراجنا من قريتهم افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ فغلبنا عليهم وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ أي خير الحاكمين، فلا تغلّب الظالمين وإن كثروا، على المظلومين إذا استفتحوك.
تنبيهات:
الأول- اعلم أن ظاهر قوله تعالى أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا وقوله بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها يدل على أن شعيبا عليه السلام كان على ملتهم قبل بعثته. ومعلوم عصمة الأنبياء عن الكبائر، فضلا عن الشرك.
وفي (المواقف وشرحها) : أن الأمة أجمعت على عصمة الأنبياء من الكفر قبل النبوة وبعدها، غير أن الأزارقة من الخوارج جوّزوا عليهم الذنب، وكل ذنب عندهم كفر، فلزمهم تجويز الكفر. وجوّز الشيعة إظهار الكفر تقية عند خوف الهلاك، واحترازا عن إلقاء النفس في التهلكة. ومثله في (شرح التجريد) .
ولما تقرر إجماع الأمة على ما ذكر، كان للعلماء في هذه الآية وجوه:
منها: أن العود المقابل للخروج، هو العود إلى ترك دعوى الرسالة والإقرار بها.
والجار والمجرور حال. أي ليكن منكم الخروج من قريتنا، أو العود إلى ترك دعوى الرسالة والإقرار بها، داخلين في ملتنا. وهذا الوجه اقتصر عليه المهايمي، وسايرناه فيه مع تفسير تتمة الآية.
ومنها: أن العود المذكور إلى ما خرج منه، وهو القرية. والمجرور حال كالسابق. أي ليكن منكم الخروج من قريتنا، أو العود إليها، كائنين في ملتنا. وعدّي (عاد) ب (في) كأن الملة لهم بمنزلة الوعاء المحيط بهم.
ومنها: أن هذا القول جار على ظنهم أنه كان في ملتهم، لسكوته قبل البعثة عن الإنكار عليهم ومنها: أنه صدر عن رؤسائهم تلبيسا على الناس، وإيهاما لأنه كان على دينهم. وما صدر عن شعيب عليه السلام كان على طريق المشاكلة.
ومنها: أن لَتَعُودُنَّ بمعنى لتصيرن. إذ كثيرا ما يرد (عاد) بمعنى (صار) ، فيعمل عمل (كان) . ولا يستدعي الرجوع إلى حالة سابقة، بل عكس ذلك، وهو الانتقال من حال سابقة، إلى حال مؤتنفة مثل (صار) . وكأنهم قالوا- والله أعلم- لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا، أو لتصيرن كفارا مثلنا.
قال الرازي: تقول العرب. قد عاد إليّ من فلان مكروه، يريدون: قد صار إليّ منه المكروه ابتداء. قال الشاعر:
فإن تكن الأيام أحسن مدة
…
إليّ فقد عادت لهنّ ذنوب
أراد: فقد صارت لهن ذنوب، ولم يرد أن ذنوبا كانت لهن قبل الإحسان- انتهى-.
ومنه
حديث معاذ. قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أعدت فتّانا يا معاذ؟) أي صرت.
ومنه
حديث خزيمة: عاد لها النّقاد مجرنثما. أي صار
.
وفي حديث كعب: وددت أن هذا اللبن يعود قطرانا، أي يصير. فقيل له: لم ذلك؟ قال: تتّبعت قريش أذناب الإبل، وتركوا الجماعات.
قال الشهاب: إلا أنه قيل إنه لا يلائم قوله بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها إلا أن يقال بالتغليب فيه، أو يقال: التنجية لا يلزم أن تكون بعد الوقوع في المكروه. ألا ترى إلى قوله فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ [الأعراف: 83] و [النمل: 57] وأمثاله؟
ومنها: أن العود يطلق، ويراد به الابتداء. حققه الراغب والجار بردي وغير واحد.
وأنشدوا قول الشاعر:
وعاد الرأس منّي كالثّغام
ومعنى الآية: لتدخلنّ في ملتنا، وقوله تعالى: إِنْ عُدْنا أي دخلنا- كذا في تاج العروس-.
ومنها: إبقاء صيغة العود على ظاهرها، من استدعائها رجوع العائد، إلى حال كان عليها قبل. كما يقال: عاد له، بعد ما كان أعرض عنه، إلا أن الكلام من باب التغليب. قال الزمخشري: لما قالوا: لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ فعطفوا على ضميره، الذين دخلوا في الإيمان منهم بعد كفرهم- قالوا لَتَعُودُنَّ فغلبوا الجماعة على الواحد. فجعلوهم عائدين جميعا، إجراء للكلام على حكم التغليب. وعلى ذلك أجرى شعيب عليه السلام جوابه فقال: إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وهو يريد عود قومه، إلا أنه نظم نفسه في جملتهم، وإن كان بريئا من ذلك، إجراء لكلامه على حكم التغليب- انتهى.
ومنها: ما قاله الناصر في (الانتصاف) : إنه يسلم استعمال (العود) بمعنى (الرجوع إلى أمر سابق)، ويجاب عن ذلك بمثل الجواب عن قوله تعالى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ [الظلمات: 257] والإخراج يستدعي دخولا سابقا فيما وقع الإخراج منه، ونحن نعلم أن المؤمن الناشئ في الإيمان لم يدخل قط في ظلمة الكفر، ولا كان فيها. وكذلك الكافر الأصلي لم يدخل قط في نور الإيمان، ولا كان فيه. ولكن لما كان الإيمان والكفر من الأفعال الاختيارية التي خلق الله العبد متيسرا لكل واحد منهما متمكنا منه لو أراده، فعبر عن تمكن المؤمن من الكفر،
ثم عدوله عنه إلى الإيمان، إخبارا بالإخراج من الظلمات إلى النور، توفيقا من الله له، ولطفا به، بل وبالعكس في حق الكافر. وقد مضى نظير هذا النظر عند قوله تعالى:
أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى [البقرة: 16] وهو من المجاز المعبر فيه عن السبب بالمسبب: وفائدة اختياره في هذه المواضع تحقيق التمكن والاختيار، لإقامة حجة الله على عباده- والله أعلم- انتهى.
الثاني: في قوله إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا ردّ إلى الله تعالى مستقيم.
قال الواحدي والذي عليه أهل العلم والسنة في هذه الآية، أن شعيبا وأصحابه قالوا: ما كنا لنرجع إلى ملتكم، بعد أن وقفنا على أنها ضلالة تكسب دخول النار، إلا أن يريد إهلاكنا. فأمورنا راجعة إلى الله، غير خارجة عن قبضته، يسعد من يشاء بالطاعة، ويشقي من يشاء بالمعصية. وهذا من شعيب وقومه استسلام لمشيئة الله.
ولم تزل الأنبياء والأكابر يخافون العاقبة، وانقلاب الأمر. ألا ترى إلى قول الخليل عليه الصلاة والسلام: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ [إبراهيم: 35] ؟ وكان نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم كثيرا ما
يقول «1» : «يا مقلّب القلوب! ثبّت قلبي على دينك» .
وقال الزجاج: المعنى: وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يكون قد سبق في علم الله ومشيئته أن نعود فيها. وتصديق ذلك قوله وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً، يعني أنه تعالى يعلم ما يكون، من قبل أن يكون، وما سيكون. وأنه تعالى كان عالما في الأزل بجميع الأشياء. فالسعيد من سعد في علم الله تعالى. والشقي من شقي في علم الله تعالى.
وقال الناصر في (الانتصاف) : موقع قوله وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً الاعتراف بالقصور عن علم العاقبة، والاطلاع على الأمور الغائبة. فإن العود إلى الكفر جائز في قدرة الله أن يقع من العبد. ولو وقع. فبقدرة الله ومشيئته المغيّبة عن خلقه. فالحذر قائم، والخوف لازم. ونظيره قول إبراهيم عليه السلام وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً، أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ [الأنعام: 80] لما ردّ الأمر إلى المشيئة، وهي مغيّبة، مجّد الله تعالى بالانفراد بعلم الغائبات- والله أعلم.
وقال أبو السعود: معنى وَما يَكُونُ لَنا
…
الآية- أي ما يصح لنا أن نعود فيها في حال من الأحوال، أو في وقت من الأوقات، إلا أن يشاء الله. أي إلا حال
(1) أخرجه الترمذي في: القدر، 7- باب ما جاء أن القلوب بين إصبعي الرحمن.
مشيئة الله تعالى، أو وقت مشيئته تعالى. لعودنا فيها. وذلك مما لا يكاد يكون، كما ينبئ عنه قوله تعالى: رَبُّنا
…
فإن التعرض لعنوان ربوبيته تعالى لهم، مما ينبئ عن استحالة مشيئته تعالى لارتدادهم قطعا، وكذا قوله بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها فإن تنجيته تعالى لهم منها، من دلائل عدم مشيئته لعودهم فيها. وقيل معناه: إلا أن يشاء الله خذلاننا. فيه دليل على أن الكفر بمشيئته تعالى. وأيّا ما كان، فليس المراد بذلك بيان أن العود فيها في حيّز الإمكان، وخطر الوقوع، بناء على كون مشيئته تعالى كذلك، بل بيان استحالة وقوعها. كأنه قيل: وما كان لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا، وهيهات ذلك. بدليل ما ذكر من موجبات عدم مشيئته تعالى له- انتهى-.
ولا يخفى أن إفهام ذلك الاستحالة، هو باعتبار الواقع، وما يقتضيه منصب النبوة. وأما إذا لوحظ مقام الخوف والخشية، الذي هو من أعلى مقامات الخواصّ، فيكون ما ذكرناه أولا أدقّ، وبالقبول أحق.
قال الإمام ابن القيم في (طريق الهجرتين) : قد أثنى الله سبحانه على أقرب عباده إليه بالخوف منه، فقال عن أنبيائه، بعد أن أثنى عليهم ومدحهم إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً [الأنبياء: 90] فالرغب الرجاء، والرهب الخوف والخشية. وقال عن ملائكته الذين قد آمنهم من عذابه يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ [النحل: 50]
وفي الصحيح «1» عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنّي أعلمكم بالله، وأشدكم له خشية» .
وفي لفظ آخر: إنّي أخوفكم لله وأعلمكم بما أتقي
. وكان صلى الله عليه وسلم «2» يصلي ولصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء. وقد قال تعالى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر: 28] ، فكلما كان العبد بالله أعلم، كان له أخوف.
الثالث: قال الفرّاء: أهل عمان يسمون (القاضي) الفاتح والفتاح. لأنه يفتح مواضع الحق، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ما كنت أدري ما قوله: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ حتى سمعت ابنة ذي يزن تقول لزوجها: تعال أفاتحك، أي أحاكمك.
وقال الشهاب: الفتح، بمعنى الحكم، وهي لغة لحمير، أو لمراد، والفتاحة
(1) أخرجه البخاري في: الأدب، 72- باب من لم يواجه الناس بالعتاب، حديث 2343.
(2)
أخرجه النسائي في: السهو، 18- باب البكاء في الصلاة.