الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
محمودة، وملاك كل خير وسعادة، به يحصل كل كمال، وأصله الصدق في عهد الله تعالى الذي هو نتيجة الوفاء بميثاق الفطرة أو نفسه، كما قال: رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [الأحزاب: 23] في عقد العزيمة، ووعد الخليقة. كما قال في إسماعيل: إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ [مريم: 54] . وإذا روعي في المواطن كلها، حتى الخاطر والفكر والنية والقول والعمل، صدقت المنامات والواردات، والأحوال والمقامات والمواهب والمشاهدات، كأنه أصل شجرة الكمال، وبذر ثمرة الأحوال.
انتهى.
ولما أوجب تعالى الكون مع الصادقين، أشار تعالى إلى أن النفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم واجب كفاية، فلا يجوز تخلف الجميع، ولا يلزم النفر للناس كافة، فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (9) : آية 120]
ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَاّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120)
ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ أي المتيسر لهم ملازمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ أي عند توجهه إلى الغزو وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ أي لا يضنوا بأنفسهم عما يصيب نفسه. أي لا يختاروا إبقاء أنفسهم على نفسه في الشدائد.
قال الزمخشري: أمروا بأن يصحبوه على البأساء والضراء، وأن يكابدوا معه الأهوال برغبة ونشاط واغتباط، وأن يلقوا أنفسهم من الشدائد ما تلقاه نفسه، علما بأنها أعز نفس عند الله وأكرمها عليه، فإذا تعرضت، مع كرامتها وعزتها، للخوض في شدة وهول، وجب على سائر الأنفس أن تتهافت فيما تعرضت له، ولا يكترث لها أصحابها، ولا يقيموا لها وزنا، وتكون أخف شيء عليهم وأهونه، فضلا عن أن يربئوا بأنفسهم عن متابعتها ومصاحبتها، ويضنوا بها على ما سمح بنفسه عليه. وهذا نهي بليغ، مع تقبيح لأمرهم، وتوبيخ لهم عليه، وتهييج لمتابعته بأنفة وحمية. انتهى.
روي أن أبا ذر رضي الله عنه، أبطأ به بعيره، فحمل متاعه على ظهره، واتبع أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ماشيا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى سواده: كن أبا ذر! فقال الناس:
هو ذاك! فقال: رحم الله أبا ذر، يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده.
وروي أن أبا خيثمة الأنصاري رضي الله عنه، بلغ بستانه، وكانت له امرأة حسناء فرشت له في الظل، وبسطت له الحصير، وقربت إليه الرطب، والماء البارد. فنظر فقال: ظل ظليل، ورطب يانع، وماء بارد، وامرأة حسناء، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الضح والريح، ما هذا بخير! فقام فرحل ناقته، وأخذ سيفه ورمحه، ومرّ كالريح.
فمدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفه إلى الطريق، فإذا براكب يزهاه السراب، فقال: كن أبا خيثمة! فكأنه، ففرح به رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستغفر له.
قال السهيليّ في (الروض) : كن أبا ذر، كن أبا خيثمة، لفظه لفظ الأمر، ومعناه كما تقول: أسلم، أي سلمك الله- انتهى-.
وكذا قال غيره من المتقدمين كالفارسي وذكره المطرزي في قول الحريري:
كن أبا زيد.
وفي شعر ابن هلال:
ومعذّر قال الإله لحسنه:
…
كن فتنة للعالمين فكأنها
ولم يزيدوا في بيانه على هذا. وهو تركيب بديع غريب. ومعناه ساقه الله إلينا، وجعله إياه، ليكون هو القادم علينا. فأقيم فيه العلة مقام المعلول في الجملة الدعائية الإنشائية، على حد
قوله في الحديث «1» : أبل، وأخلق.
أي عمرك الله، ومتعك الله بلباسك لتبلى وتخلق. وقولهم: أسلم. أي سلمك الله لتسلم. ثم لما أقيم مقامه أبقي مسندا إلى فاعله، وإن كان المطلوب منه هو الله، وهو قريب من قولهم (لا أرينّك ها هنا) أي لا تجلس حتى أراك. وهو تمثيل أو كناية. كذا في (العناية) .
ذلِكَ إشارة إلى ما دل عليه قوله ما كانَ من النهي عن التخلف أو وجوب المشابهة بِأَنَّهُمْ أي بسبب أنهم لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ أي شيء من العطش وَلا نَصَبٌ أي تعب من السير لا سيما مع العطش وَلا مَخْمَصَةٌ أي مجاعة
(1) الحديث أخرجه البخاري في: الجهاد، 188- باب من تكلم بالفارسية والرطانة، والحديث رقم 1455.