الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فائدة:
في منشأ هذا التعطيل وبيّن رضي الله عنه، في فتوى أخرى له في الصفات، مورد هذا التعطيل.
حيث قال رضي الله عنه:
ثم أصل هذه المقالة إنما هو مأخوذ عن تلامذة اليهود والمشركين، وضلّال الصابئين، فإن أول من حفظ عنه أنه قال هذه المقالة- أعني أن الله ليس على العرش حقيقة وإنما اسْتَوى استولى ونحو ذلك- أول ما ظهرت هذه المقالة من جعد بن درهم وأخذها عنه الجهم بن صفون وأظهرها. فتنسب مقالة الجهمية إليه، والجعد أخذ مقالته عن أبان بن سمعان وأخذها أبان من طالوت ابن أخت لبيد بن أعصم، وأخذها طالوت من لبيد بن أعصم اليهودي الساحر الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم. وكان الجعد هذا- فيما قيل- من أهل حرّان، وكان فيهم خلق كثير من الصابئة، والفلاسفة، بقايا أهل دين النمروذ الكنعانيين، الذين صنف بعض المتأخرين في سحرهم وكانوا يعبدون الكواكب، ويبنون لها الهياكل، ومذهبهم في الرب أنه ليس له إلا صفات سلبية أو إضافية، أو مركبة منهما، وهم الذين بعث إبراهيم الخليل عليه السلام إليهم، فيكون الجعد قد أخذها عن الصابئة الفلاسفة، وأخذها الجهم أيضا- فيما ذكره الإمام أحمد وغيره- من السمنية بعض فلاسفة الهند، وهم الذين يجحدون من العلوم ما سوى الحسّيات، فهذه أسانيد الجهم ترجع إلى اليهود والصائبين والمشركين. والفلاسفة الضالون هم إما من الصابئين، وإما من المشركين. ثم لما عرّبت الكتب الرومية في حدود المائة الثانية، زاد البلاء مع ما ألقى الشيطان في قلوب الضلال، ابتداء من جنس ما ألقاه في قلوب أشباههم. ولما كان في حدود المائة الثانية، انتشرت هذه المقالة التي كان السلف يسمونها مقالة الجهمية، بسبب بشر ابن غياث المريسي وطبقته، وكلام الأئمة- مثل مالك رضي الله عنه وسفيان بن عيينة وأبي يوسف والشافعيّ وأحمد وإسحاق والفضيل بن عياض وبشر الحافي وغيرهم- في بشر المريسي هذا كثير في ذمه وتضليله. وهذه التأويلات الموجودة اليوم بأيدي الناس، مثل أكثر التأويلات التي ذكرها أبو بكر بن فورك في كتاب (التأويلات) وذكرها أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي في كتابه الذي سماه (تأسيس التقديس) ويوجد كثير منها في كلام خلق غير هؤلاء، مثل أبي علي الجبائي وعبد الجبار بن أحمد الهمدانيّ وأبي الحسين البصري وابن عقيل وأبي حامد
الغزالي وغيرهم، وهي بعينها التأويلات التي ذكرها بشر المريسي في كتابه. وإن كان قد يوجد في كلام هؤلاء رد التأويل وإبطاله أيضا، ولهم كلام حسن في أشياء، فإنما بيّنت أن عين تأويلاتهم هي عين تأويلات المريسي. وعلمنا ذلك بكتاب (الرد) الذي صنفه عثمان بن سعيد الدارمي أحد الأئمة المشاهير في زمن البخاري، صنف كتابا سماه (نقض عثمان بن سعيد، على الكاذب العنيد، فيما افترى على الله في التوحيد) حكى فيه هذه التأويلات بأعيانها عن بشر المريسي، بكلام يقتضي أن المريسي أقعد بها، وأعلم بالمعقول والمنقول من هؤلاء المتأخرين الذين اتصلت إليهم من جهته، ثم ردها عثمان بن سعيد بكلام، إذا طالعه العاقل الذكيّ، علم حقيقة ما كان عليه السلف فتبين له ظهور الحجة لطريقهم، وضعف حجة من خالفهم. ثم إذا رأى الأئمة- أئمة الهدى- قد أجمعوا على ذم المريسية، وأكثرهم كفّروهم، أو ضللوهم، وعلم أن هذا القول الساري في هؤلاء المتأخرين، هو مذهب المريسي- تبين له الهدى لمن يريد الله هدايته، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ثم قال رضي الله عنه:
ومذهب السلف بين التعطيل وبين التمثيل، فلا يمثلون صفات الله بصفات خلقه، كما لا يمثلون ذاته بذات خلقه، ولا ينفون عنه ما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله، فيعطلون أسماءه الحسنى، وصفاته العليا، ويحرفون الكلم عن مواضعه، ويلحدون في أسماء الله وآياته. وكل واحد من فريقي التعطيل والتمثيل، فهو جامع بين التعطيل والتمثيل، أما المعطلون، فإنهم لم يفهموا من أسماء الله وصفاته إلا ما هو اللائق بالمخلوق. ثم شرعوا في نفي تلك المفهومات، فقد جمعوا بين التمثيل والتعطيل، مثلوا أولا، وعطلوا آخرا، وهذا تشبيه وتمثيل منهم للمفهوم من أسمائه وصفاته، بالمفهوم من أسماء خلقه وصفاتهم، وتعطيل لما يستحقه هو سبحانه من الأسماء والصفات اللائقة بالله سبحانه وتعالى. فإنه إذا قال القائل: لو كان الله فوق العرش للزم إما أن يكون أكبر من العرش أو أصغر أو مساويا، وكل ذلك محال، ونحو ذلك من الكلام، فإنه لم يفهم من كون الله على العرش إلا ما يثبت لأي جسم كان، على أي جسم كان، وهذا اللازم تابع لهذا المفهوم، أما استواء يليق بجلال الله، ويختص به، فلا يلزمه شيء من اللوازم الثلاثة، كما يلزم سائر الأجسام. وصار هذا مثل قول الممثل: إذا كان للعالم صانع، فإما أن يكون جوهرا أو عرضا، إذ لا يعقل موجود إلا هذان. أو قوله: إذا كان مستويا على العرش، فهو مماثل لاستواء الإنسان على السرير أو الفلك، إذ لا يعلم الاستواء إلا هكذا. فإن كليهما مثّل، وكلاهما عطّل
حقيقة ما وصف الله به نفسه، وامتاز الأول بتعطيل كل مسمى للاستواء الحقيقي، وامتاز الثاني بإثبات (استواء) هو من خصائص المخلوقين، والقول الفاصل هو ما عليه الأمة الوسط، من أن الله مستو على عرشه استواء يليق بجلاله ويختص به، فكما أنه موصوف بأنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وأنه سميع بصير، ونحو ذلك، ولا يجوز أن نثبت للعلم والقدرة خصائص الأعراض التي لعلم المخلوقين وقدرهم، فكذلك هو سبحانه فوق العرش، ولا نثبت لفوقيته خصائص فوقية المخلوق على المخلوق ولوازمها.
واعلم أنه ليس في العقل الصحيح، ولا في النقل الصريح، ما يوجب مخالفة الطريقة السلفية أصلا، لكن هذا الموضع لا يتسع للجواب عن الشبهات الواردة عن الحق، فمن كان في قلبه شبهة وأحبّ حلها، فذلك سهل يسير- انتهى كلامه-.
ومن أحاط عقله بهذه الغرر، علم براءة ساحة السلف مما رموا به من التجسيم.
وفي هذه النفائس من الفوائد ما يشفع لدى الواقف بطوله.
الثالث: يطلق العرش على معان: السرير، ومنه آية وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ [النمل: 23] ، والملك، يقال: ثل عرشهم. وسقف البيت، ومنه آية: وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها [البقرة: 259] ، وحديث (كالقنديل المعلق بالعرش) . أو البناء، ومنه وَما كانُوا يَعْرِشُونَ [الأعراف: 137] ، أي يبنون. ومنه: العريش، وهو ما يستظل به. والعرش المضاف إلى الله تعالى لا يحدّ.
قال في القاموس: العرش، عرش الله تعالى، ولا يحدّ- انتهى-.
وقال الراغب: عرش الله عز وجل مما لا يعلمه البشر إلا بالاسم على الحقيقة، ولذا لم يصح في صفته حديث، وكل ما روي في ذلك فليس من مرويات الصحاح.
قال البيهقي في كتاب (الأسماء والصفات) : وأقاويل أهل التفسير على أن العرش هو السرير، وأنه جسم مجسم، خلقه الله تعالى، وأمر ملائكته بحمله، وتعبّدهم بتعظيمه والطواف به، كما خلق في الأرض بيتا، وأمر بني آدم بالطواف به واستقباله في الصلاة، وفي أكثر الآيات دلالة على صحة ما ذهبوا إليه، وفي الأخبار والآثار الواردة في معناه دليل على صحة ذلك- انتهى-.
وقال الحافظ الذهبي في كتاب (العلوّ) : اعلم أن الله عز وجل، قد أخبرنا، وهو أصدق القائلين، بأن عرش بلقيس عرش عظيم، فقال: وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ [النمل: 23]
ثم ختم الآية بقوله: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [النمل: 26] ، فكان عرشها عظيما بالنسبة إليها، وما نحيط الآن علما بتفاصيل عرشها ولا بمقداره ولا بماهيته. ثم قال: فما الظن بما أعد الله تعالى من السّرر والقصور في الجنة لعباده، فما الظن بالعرش العظيم الذي اتخذه العلي العظيم لنفسه في ارتفاعه وسعته وقوائمه وماهيته وحملته الحافّين من حوله، وحسنه ورونقه وقيمته؟ اسمع وتعقل ما يقال، والجأ إلى الإيمان بالغيب، فليس الخبر كالمعاينة، فالقرآن مشحون، بذكر العرش، وكذلك الآثار، بما يمتنع أن يكون المراد به (الملك) . فدع المكابرة والمراء، فإن المراء في القرآن كفر. آمنا بالله وأشهد بأنّا مسلمون. لا إله إلا الله الحليم الكريم. لا إله إلا الله رب العرش العظيم. لا إله إلا الله رب السموات السبع ورب العرش الكريم.
الحمد لله رب العالمين. انتهى كلام الذهبيّ رحمه الله تعالى-.
الرابع- سئل الشيخ تقيّ الدين بن تيمية، عليه الرحمة والرضوان، عن العرش:
هل هو كري أم لا، فإذا كان كريّا والله من ورائه محيط به بائن عنه، فما فائدة توجه العبد إلى الله سبحانه حين الدعاء والعبادة، فيقصد العلوّ دون غيره، إذ لا فرق حينئذ بين قصد جهة العلوّ وغيرها من الجهات التي تحيط بالداعي، ومع هذا نجد في قلوبنا قصدا يطلب العلوّ، لا يلتفت يمنة ولا يسرة. فأخبرنا عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا وقد فطرنا عليها.
فأجاب رحمه الله بقوله:
إنّ لقائل أن يقول: لم يثبت بدليل يعتمد عليه أن العرش فلك من الأفلاك المستديرة الكرّية، وإنما ذكره طائفة من المتأخرين الذين نظروا في علم الهيئة، فرأوا أن الأفلاك تسعة، وأن التاسع، وهو الأطلس، محيط بها، وهو الذي يحركها الحركة الشرقية، وإن كان لكل فلك حركة تخصه، ثم سمعوا في أخبار الأنبياء ذكر عرش الله سبحانه وكرسيّه والسماوات السبع، فقالوا (بطريق الظن) : إن العرش هو الفلك التاسع، لاعتقادهم أنه ليس وراء ذلك شيء، إما مطلقا وإما أنه ليس وراءه مخلوق. ثم إن منهم من رأى أنه هو الذي يحرك الأفلاك كلها، فجعلوه مبدأ الحوادث، وربما سماه بعضهم الروح أو النفس. وجعله بعضهم هو اللوح المحفوظ، وبعض الناس ادعى أنه علم ذلك بطريق الكشف، وذلك غير صحيح، بل أخذه من هؤلاء المتفلسفة، كما فعل أصحاب (رسائل إخوان الصفاء) . والأخبار تدل على أن العرش مباين لغيره من المخلوقات، وأنه قبل السموات والأرض.
فقد ثبت في صحيح
البخاري «1» أنه صلى الله عليه وسلم قال: «كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، وخلق السموات والأرض، وأن له قوائم»
- كما
في حديث «2» أبي سعيد: فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش.
وقد استدل من قال إنه مقبب، بما
رواه أبو داود «3» من قوله عليه الصلاة والسلام (وإن الله تعالى على عرشه، وإن عرشه على سماواته، وسماواته فوق أرضه هكذا- وقال بأصابعه مثل القبة)
-. وهذا لا يدل على أنه فلك من الأفلاك، ولا مستدير مثل ذلك، لكن لفظ (القبة) يستلزم استدارة من العلوّ، لا من جميع الجوانب، إلا بدليل منفصل. ولفظ (الفلك) يستدل به على الاستدارة مطلقا، كما قال ابن عباس في كُلٌّ فِي فَلَكٍ [الأنبياء: 33] : في فلكة مثل فلكة المغزل وأما لفظ (القبة) فإنه لا يتعرض لهذا المعنى، لا ينفي ولا إثبات، لكن يدل على الاستدارة من العلوّ.
واعلم أن العرش، وسواء كان هذا الفلك التاسع، أو جسما محيطا به، أو كان فوقه من جهة وجه الأرض، محيط به، أو قيل فيه غير ذلك، فيجب أن يعلم أن العالم العلويّ والسفليّ بالنسبة إلى الخالق تعالى في غاية الصغر، كما قال تعالى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ، سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ
[الزمر: 67] .
وفي الصحيحين «4» عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يقبض الله تبارك وتعالى الأرض
(1) أخرجه البخاري في: بدء الخلق، 1- باب ما جاء في قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ، حديث 1506 عن عمران بن حصين.
(2)
أخرجه البخاري في: الأنبياء، 25- باب قوله تعالى: وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، حديث رقم 1193، ونصه: عن أبي سعيد الخدريّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال «الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش. فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور» .
(3)
أخرجه أبو داود في: السنّة، 18- باب في الجهمية، حديث رقم 4726، ونصه: عن جبير بن مطعم قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابيّ فقال: يا رسول الله! جهدت الأنفس وضاعت العيال ونهكت الأموال وهلكت الأنعام، فاستسق الله لنا فإنا نستشفع بك على الله ونستشفع بالله عليك. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ويحك! أتدري ما تقول» ؟ وسبّح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه. ثم قال: «ويحك! إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه.
شأن الله أعظم من ذلك. ويحك! أتدري ما الله؟ إن عرشه على سماواته لهكذا» وقال بأصابعه مثل القبة عليه «وإنه ليئطّ أطيط الرحل بالراكب»
. (4) أخرجه البخاري في: التفسير، 39- سورة الزمر، 2- باب وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ، حديث رقم 2039 عن أبي هريرة.
وأخرجه مسلم في: صفات المنافقين وأحكامهم، حديث 23.
يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه ثم يقول: أنا الملك. أين ملوك الأرض؟»
وفي الصحيحين «1» عن عبد الله بن عمر، عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال:«يطوي الله عز وجل السماوات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك. أين الجبارون، أين المتكبرون؟» ثم يطوي الأرضين بشماله، ثم يقول: أنا الملك. أين الجبارون، أين المتكبرون؟»
وفي لفظ «2» : ويتميل رسول الله صلى الله عليه وسلم على يمينه وعلى شماله، حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفله شيء.
وفي رواية أخرى قال: قرأ على المنبر وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ
…
الآية- قال: مطويّة في كفه، يرمي بها كما يرمي الغلام بالكرة
، ففي هذه الأحاديث وغيرها، المتفق على صحتها، ما يبيّن أن السماوات والأرض وما بينهما بالنسبة إلى عظمته عز وجل، أصغر من أن تكون، مع قبضه لها، إلا كالشيء الصغير في يد أحدنا، حتى يدحوها كما تدحى الكرة.
ثم قال في الجواب: فما وصف الله تعالى من نفسه وأسمائه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم سميناه كما سماه، ولم نتكلف علم ما سواه، فلا نجحد ما وصف، ولا نتكلف معرفة ما لم يصف. وإذ كان كذلك، فهو قادر على أن يقبضها ويدحوها كالكرة. في ذلك من الإحاطة بها ما لا يخفى، وإن شاء لم يفعل.. وبكل حال فهو مباين لها، ليس بمجانب لها. ومن المعلوم أن الواحد منا- ولله المثل الأعلى- إذا كان عنده خردلة، إن شاء قبضها، فأحاطت بها قبضته، وإن شاء لم يقبضها، بل جعلها تحته، فهو في الحالين مباين لها، وسواء قدر أن العرش هو محيط بالمخلوقات، كإحاطة الكرة بما فيها أم قيل إنه فوقها وليس محيطا بها كوجه الأرض الذي نحن عليها بالنسبة إلى جوفها، وكالقبة بالنسبة إلى ما تحتها، أو غير ذلك- فعلى التقدير يكون العرش فوق المخلوقات، والخالق سبحانه فوقه، والعبد في توجهه إليه عز وجل، يقصد العلوّ، دون التحت.
وتمام هذا البحث بأن يقال: لا يخلو إما أن يكون العرش كريا كالأفلاك،
(1) أخرجه البخاري في: التوحيد، 19- باب قوله تعالى: لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ، حديث رقم 2600.
وأخرجه مسلم في: صفات المنافقين وأحكامهم، حديث 24 و 25. وهذا لفظ مسلم.
(2)
نصه في مسلم: حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفله شيء منه، حتى إني لأقول: أساقط هو برسول الله؟
وليس فيه (ويتميل رسول الله صلى الله عليه وسلم على يمينه وعلى شماله) .
[.....]
ويكون محيطا بها، وإما أن يكون فوقها، وليس بكري. فإن كان الأول، فمن المعلوم- باتفاق من يعلم هذا- أن الأفلاك مستديرة كرية، وأن الجهة العليا هي جهة المحيط، وهو المحدود، وأن الجهة السفلى هي المركز، وليس للأفلاك إلا جهتان:
العلوّ والسفل فقط. وأما الجهات الست فهي للحيوان، فإن له ست جوانب: يؤم جهة فتكون أمامه، ويخلف أخرى فتكون خلفه، وجهة تحاذي شماله، وجهة تحاذي يمينه، وجهة تحاذي رأسه، وجهة تحاذي رجليه. وليس لهذه الجهات في نفسها صفة لازمة، بل هي بحسب النسبة والإضافة، فيكون يمين هذا ما يكون يسار هذا، ويكون فوق هذا ما يكون تحت هذا، لكن جهة العلو والسفل للأفلاك لا تتغير، فالمحيط هو للعلوّ، والمركز هو السفل، مع أن وجه الأرض التي وضعها الله تعالى للأنام، وأرساها بالجبال، هو الذي على الناس والبهائم وغيرهما. فأما الناحية الأخرى منها فالبحر محيط بها، وليس هناك شيء من الآدميين وما يتبعهم. ولو قدر أن هناك أحدا، لكان على ظهر الأرض، ولم يكن من في هذه الجهة تحت من في هذه الجهة، ولا من في هذه تحت من في هذه. كما أن الأفلاك محيطة بالمركز، وليس أحد جانبي الفلك تحت الآخر، ولا القطب الشماليّ تحت الجنوبيّ، ولا بالعكس، وإن كان الشماليّ هو الظاهر لنا بحسب بعد الناس عن خط الاستواء، فما كان بعده عن خط الاستواء ثلاثين درجة مثلا، كان ارتفاع القطب عنده ثلاثين درجة، وهو الذي يسمى عرض البلد. فكما أن جوانب الأرض المحيطة بها، وجوانب الفلك المستدير ليس بعضها فوق بعض ولا تحته، فكذلك من يكون على الأرض لا يقال إنه تحت أولئك، وإنما هذا خيال يتخيله الإنسان، وهو (تحت) إضافي. كما لو كانت نملة تمشي تحت سقف، فالسقف فوقها، وإن كانت رجلاها تحاذيانه، وكذلك من علق منكوسا، فإنه تحت السماء، وإن كانت رجلاه تلي السماء وكذلك قد يتوهم الإنسان إذا كان في أحد جانبي الأرض أو الفلك، أن الجانب الآخر تحته. وهذا أمر لا يتنازع فيه اثنان ممن يقول إن الأفلاك مستديرة. وهذا كما أنه قول أهل الهيئة والحساب، فهو الذي عليه علماء المسلمين، كما ذكره أبو الحسين المناوي وأبو محمد بن حزم وأبو الفرج بن الجوزي وغيرهم. وهو المأخوذ من قول ابن عباس وغيره. ومن ظن أن من يكون في الفلك من ناحية يكون تحته من في الفلك من الناحية الأخرى في نفس الأمر، فهو متوهم عندهم. فإذا كان الأمر كذلك، فإذا قدر أن العرش مستدير محيط بالمخلوقات كان هو أعلاها وسقفها وهو فوقها مطلقا، فلا يتوجه إليه وإلى ما فوقه الإنسان إلا من العلوّ. ومن توجه إلى الفلك الثامن أو التاسع مثلا من غير جهة العلوّ،