الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإيمان والمغفرة والرزق الكريم.
وهل المراد من قوله مِنْ بَعْدُ هو من بعد الهجرة الأولى، أو من بعد الحديبية. وهي الهجرة الثانية، أو من بعد نزول هذه الآية، أو من بعد يوم بدر؟ أقول- واللفظ الكريم يعمها كلها، والتخصيص بأحدهما تخصيص بلا مخصص.
وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ أي في حكمته وقسمته، أو في اللوح، أو في القرآن، لأن (كتاب الله) يطلق على كل منها إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فيقضي بين عباده بما شاء من أحكامه التي هي منتهى الصواب والحكمة والصلاح.
تنبيهات:
الأول إن هذه الآية ناسخة للميراث بالموالاة والمناصرة عند من فسر ما تقدم من قوله بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وما بعده بالتوارث.
أخرج أبو داود «1» من حديث ابن عباس قال: كان الرجل يحالف الرجل، ليس بينهما نسب، فيرث أحدهما من الآخر، فنسخ ذلك آية الأنفال فقال: وَأُولُوا الْأَرْحامِ
…
إلخ إلا أن في إسناده من فيه مقال.
وأما من فسر الموالاة المتقدمة بالنصرة والمعونة والتعظيم، فيجعل هذه الآية إخبارا منه سبحانه وتعالى بأن القرابات بعضهم أولى ببعض. وذلك أن تلك الآية، لما كانت محتملة للولاية بسبب الميراث، بيّن الله تعالى في هذه الآية أن ولاية الإرث إنما تحصل بسبب القرابة، إلا ما خصه الدليل، فيكون المقصود من الآية إزالة هذا الوهم.
قال الرازي: وهذا أولى. لأن تكثير النسخ، من غير ضرورة وحاجة، لا يجوز.
الثاني- استدل بالآية من ورّث ذوي الأرحام، وهم من ليسوا بعصبات، ولا ذوي سهام. قال: ويعضده
حديث «2» : (الخال وارث من لا وارث له)
وأجاب من منع توريثهم بأن المراد من الآية من ذكر الله من ذوي السهام والعصبات. ومن
الحديث: (من كان وارثه الخال فلا وارث له)
. وردّ بأنها عامة فلا موجب للتخصيص، وبأن معنى الحديث: من كان لا وارث له غيره،
لحديث: (أنا عماد من لا عماد له) .
(1) أخرجه أبو داود في: الفرائض، 16- باب نسخ ميراث العقد بميراث الأرحام، حديث رقم 2921. [.....]
(2)
أخرجه أبو داود في: الفرائض، 8- باب في ميراث ذوي الأرحام، حديث رقم 2899 و 2900 عن المقدام الكندي.
ثم إن الذين أثبتوا ميراثهم اختلفوا في أنهم هل يرثون بالقرب، أو بالتنزيل، وهل يرث القريب مع البعيد، وهل يفضل الذكر على الأنثى أو لا؟ والآية محتملة.
أفاده بعض مفسري الزيدية.
قال ابن كثير: ليس المراد بقوله: وَأُولُوا الْأَرْحامِ خصوصية ما يطلقه علماء الفرائض على القرابة الذين لا فرض لهم ولا عصبة، بل يدلون بوارث كالخالة والخال، والعمة وأولاد البنات وأولاد الأخوات ونحوهم، كما يزعمه بعضهم، ويحتج بالآية، ويعتقد ذلك صريحا في المسألة. بل الحق أن الآية عامة، تشمل جميع القرابات كما نص عليه ابن عباس ومجاهد وعكرمة والحسن وقتادة وغير واحد وعلى هذا فتشمل ذوي الأرحام بالاسم الخاص، ومن لم يورّثهم يحتج بأدلة، من أقواها
حديث «1» : (إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث)
قالوا: فلو كان ذا حق لكان ذا فرض في كتاب الله مسمى، فلما لم يكن كذلك، لم يكن وارثا.
انتهى.
ولا يخفى ضعف هذا الاستدلال، إذ لا يلزم من ثبوت الحق تعيين الفرض.
على أن معنى الحديث، أعطى كل ذي حق حقه مفصلا ومجملا، وقد أعطاهم حق الأولوية العامة، ووكل بيان ما يفهم من إجمال الإرث بعمومها لاستنباط الراسخين وفهمهم على قاعدة عمومات التنزيل.
وقد رأيت في هذه المسألة مقالة بديعة أوردها الحسن الصابئ في (تاريخ الوزراء) في أخبار وزارة أبي الحسن بن الفرات، نأثرها هنا، لأنها جمعت فأوعت، قال رحمه الله:
ونسخة ما كتب به أبو خازم إلى بدر المعتضدي جواب كتابة إليه في أمر المواريث: وصل كتاب الأمير، يذكر أنه احتيج إلى كتابي بالذي أراه واجبا من مال المواريث لبيت المال، ومالا أراه واجبا منه، وتلخيص ذلك وتبيينه- وأنا أذكر للأمير الذي حضرني من الجواب في هذه المسألة والحجة فيما سأل عنه ليقف على ذلك إن شاء الله-.
الناس مختلفون في توريث الأقارب، فروي عن زيد بن ثابت أنه جعل التركة- إذا لم يكن للمتوفى من يرثه من عصبة وذي سهم- لجماعة من المسلمين وبيت
(1) أخرجه أبو داود في: الوصايا، 6- باب ما جاء في الوصية للوارث، حديث رقم 2870.
مالهم. وكذلك يقول في الفصل بعد السّهمان المسماة، إذا لم تكن عصبة. ولم يرو ذلك عن أحد من الصحابة سوى زيد بن ثابت. وقد خالفه عمر بن الخطاب، وعلي ابن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وجعلوا ما يفضل من السّهمان ردا على أصحاب السهام من القرابة، وجعلوا المال لذي الرحم إذا لم يكن وارث سواه. والسنّة تعاضد ما روي عنهم، وتخالف ما روي عن زيد بن ثابت وتأويل القرآن يوجب ما ذهبوا إليه. وليس لأحد أن يقول في خلاف السنة والتنزيل بالرأي. قال الله تعالى:
وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. فصيّر القريب أولى من البعيد، وإلى هذا ذهب عمر وعليّ وعبد الله رضي الله عنهم ومن تابعهم من الأئمة، وعليه اعتمدوا، وبه تمسكوا- والله أعلم.
ولو كان في هذه المسألة ما يدل عليه شاهد من الكتاب والسنة، لكان الواجب تقليد الأفضل والأكثر من السابقين الأولين، وترك قبول من سواهم ممن لا يلحق بدرجتهم بسابقته. وإذا ردّ أمر الناس إلى التخيير من أقاويل السلف فهل يحيل أو يشكل على أحد أن زيدا لا يفي علمه بعلم عمر وعليّ وعبد الله؟ وإذا فضلوا في السابقة والهجرة، فمن أين وجب أن يؤخذ بما روي عن زيد بن ثابت، واطّراح ما روي عنهم، وقد استدلوا مع ذلك بالكتاب فيما ذهبوا إليه، وبالسنة فيما أفتوا به؟
والرواية ثابتة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بتوريث من لا فرض له في الكتاب من القرابة. فمن ذلك ما ذكر لنا
عن معاوية بن صالح عن راشد بن سعد عن أبي عامر الهرويّ عن المقدام ابن معدي كرب عن النبيّ صلى الله عليه وسلم «1» أنه قال: الخال وارث من لا وارث له يرث ماله، ويعقل عنه. وكذلك بلغنا عن شريك بن عبد الله عن ليث عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مثله. وعن ابن جريج عن عمر بن سلم عن طاوس عن عائشة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال مثل ذلك.
وذكر عن عبادة بن أبي عباد عن محمد بن إسحاق عن يعقوب بن عتبة عن محمد بن يحيا بن حبان عن عمه واسع بن حبان قال: توفي ثابت بن أبي الدحداح، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم لعاصم بن عدي: أله فيكم نسب؟. قال: فدفع تركته إلى ابن أخته
فقد أوجب عليه السلام، بما نقلته عنه هذه الرواية، توريث من لا سهم له من القرابة مع عدم أصحاب السّهمان المبينة في الكتاب. وأعطى الجدة السدس من الميراث، ولا فرض لها، وفي ذلك الاتفاق، وفيما صير لها من السدس، دليل على أن من لا سهم له من القرابة في معناها؟ إذا بطلت السهام، ولم يكن من أهلها، وأنه أولى بالميراث من الأجنبيّ.
(1) أخرجه أبو داود في: الفرائض، 8- باب في ميراث ذوي الأرحام، حديث رقم 2899 و 2900.
والمرويّ عن زيد بن ثابت أنه جعل الفضل عن سهام الفرائض، وكل المال، إذا سقطت السهام بعد أهلها، لجماعة المسلمين. فجعلهم كلهم وارثا، وجعل ما يصير لهم من ذلك- في خلاف مال الفيء المصروف إلى الشحنة وأرزاق المقاتلة وإلى المصالح إذا كان ذلك- يكون فبما روي عنه للناس كافة، وعددهم لا يحصى، فغير ممكن أن يقسم ذلك فيهم وهم متفرقون في أقطار الأرض، مشارقها ومغاربها. وإذا امتنع ذلك وخرج إلى ما ليس بممكن، فسد وثبت ما قلناه من قول أكابر الأئمة، وقد تأول بعض المتأولين قوله الله تعالى: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ فقال فيه: كان الناس يتوارثون بالحلف دون القرابة. فلما أوجب الله المواريث لأهلها من الأقارب، منع الحليف بما فرض من السهمان فغلطوا وصرفوا حكم الآية إلى الخصوص، فذلك غير واجب مع عدم الدليل، لأن مخرجها في السمع مخرج العموم.
وبعد، فلو كان تأويلها ما ذهبوا إليه، وكانت السهام التي نسخت ما يرثه الحليف قبل نزول الفرائض، لوجب في بدء، وما قالوا إذا كان لا وارث للميت من أصحاب السهام أن يكون الحليفان في التوارث على أول فرضهما، وعلى المقدم من حكمها، لأن الذي منعهما إذا ثبت هذا التأويل (من له سهم) دون (من لا سهم له) ، فإذا ارتفع المانع، رجع الحكم إلى بدئه. ولا اختلاف بين الفريقين أن الحليف لا يرث الحليف اليوم، وإن كان لا وارث سواه، وهذا يدل على فساد تأويلهم، وعلى أن المراد في الآية التي أوجبت الحق للأقارب غير الذي ذهبوا إليه، فإن الله سبحانه إنما أراد بمعناها اختصاص القريب بالإرث دون البعيد. وقد يلزم من ذهب إلى الرواية عن زيد، وترك الرواية عن عمر وعليّ وعبد الله عليهم السلام جانبا، وأسقط التعاقل بين الأجنبي والقريب، أن يجعل ذا الرحم أولى، لأنه لا يفضل الأجنبي بالقرابة.
وترتيب المواريث في الأصل يجري على من تقدمه من فضل غيره في المناسبة، كالأخ للأب والأم، والأخ للأب، وابن العم للأب والأم، وابن العم للأب، واختصاصهما قرابة أولاهما بالميراث عند جمع الجميع. قال الله تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [النساء: 11] ، وولد الولد، من سفل منهم ومن ارتفع، يعمهم هذا الاسم، إلا أن الأقرب منهم، في معنى الآية، أحق من الأبعد. فإذا كان ذلك كذلك، كان القريب أولى من الأجنبي بالتركة للرحم التي تقرّب بها دونه.
وبعد، فإن العلماء نفر يسير لا يعرفون الصواب في هذه المسألة، إلا فيما روي عن الخليفتين عمر وعليّ صلوات الله عليهما، وما روي عن ابن مسعود، ثم لم
يقتصروا في المبالغة والدليل في توريث ذي الرحم، إلا على ما روي عن عبد الله بن العباس، جدّ أمير المؤمنين أطال الله بقاءه، وترجمان القرآن، وبحر العلم، ومن كان إذا تكلم سكت الناس، ومن دعا له النبيّ صلى الله عليه وسلم
فقال «1» : اللهم! فقهه في الدين وعلمه التأويل.
ودعوة النبيّ صلى الله عليه وسلم مستجابة. ومن كان أعلم بتأويل القرآن فاتباعه فيه أوجب. وقد روي عن ابن عباس مثل ذلك من قول عمر وعليّ وعبد الله والجماعة. وما زالت الخلفاء من أجداد أمير المؤمنين، أعزه الله، يستقضون الحكام، فيقضون برد المواريث على الأقارب، ولا ينكرون ذلك على من قضى به من قضاتهم، ولا تردونه متجاوزا للحق فيه، وما عرفت الجماعة بغير هذا الاسم إلا منذ نحو عشرين سنة، وأمير المؤمنين أولى من اتبع آثار السلف، واقتدى بخلفاء الله، ومال إلى أفضل المذهبين، وإلى الله الرغبة في عصمة الأمير، وتسديده، والحمد لله رب العالمين. انتهى.
ونقل أبو الحسن الصابي قبل نسخة أبي الحسن محمد بن جعفر بن ثوابة في المواريث، وفيها نقل ما كتبه عبد الحميد في كتاب مواريث أهل الملة، وأنه حكى فيه أن عمر بن الخطاب وعليّ بن أبي طالب وعبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود رضوان الله عليهم ومن اتبعهم من الأئمة الهادين رحمة الله عليهم، رأوا أن يردّ على أصحاب السهام من القرابة ما يفضل عن السهام المفترضة في كتاب الله تبارك وتعالى من المواريث، إذا لم يكن للمتوفى عصبة يحوز باقي ميراثه، وجعلوا، رضي الله عنهم، تركة من يتوفى ولا عصبة له لذوي رحمه، إن لم يكن له وارث سواهم، ممتثلين في ذلك أمر الله سبحانه إذ يقول: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في توريثه من لا فرض له في كتاب الله تعالى من الخال وابن الأخت والجدة. انتهى.
الثالث- استدل بالآية الإمامية على تقديم الإمام علي كرم الله وجهه على غيره في الإمامة، لاندراجها في عموم الأولوية. والجواب- على فرض صحة هذه الدلالة- أن العباس رضي الله عنه كان أولى بالإمامة، لأنه كان أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من علي رضي الله عنه.
(1)
أخرجه البخاري في: العلم، 17- باب قول النبيّ صلى الله عليه وسلم «اللهم! علمه الكتاب» ، ونصه: اللهم! علمه الكتاب.
وفي: الوضوء، 10- باب وضع الماء عند الخلاء، ونصه: اللهم فقهه في الدين.
وفي: فضائل أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، 24- باب ذكر ابن عباس، ونصه: اللهم! علمه الحكمة.
وفي: الاعتصام بالكتاب والسنة، ونصه: اللهم! علمه الكتاب، والحديث رقم 65
. أما النص الذي أورده المؤلف فلم أعثر عليه.