الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كان جاهلا باتفاق العقلاء، فكيف بالتوجه إلى العرش أو إلى ما فوقه! وغاية ما يقدر أن يكون كريّ الشكل، والله تعالى محيط بالمخلوقات كلها إحاطة تليق بجلاله، فإن السماوات السبع والأرض في يده أصغر من الحمصة في يد أحدنا. وأما قول القائل:
إذا كان كريّا، والله من ورائه محيط بائن عنه، فما الفائدة في التوجه إلى العلوّ دون التحت، ومع هذا نجد في قلوبنا قصد العلوّ؟ فيقال: هذا إنما ورد لتوهم أن نصف الفلك يكون تحت الأرض، وتحت ما على وجه الأرض، من الآدميين والبهائم، وهذا غلط. فلو كان الفلك تحت الأرض من جهة، لكان تحتها من كل جهة، فكان يلزم أن يكون الفلك تحت الأرض مطلقا، وهذا قلب للحقائق إذ الفلك هو فوق الأرض مطلقا، وأهل الهيئة يقولون: لو أن الأرض مخروقة إلى ناحية أرجلنا، وألقي في الخرق شيء ثقيل كالحجر ونحوه، لكان ينتهى إلى المركز، حتى لو ألقي من تلك الناحية حجر آخر، لالتقيا جميعا في المركز، الذي هو النقطة المتوسطة في كرة الأرض. ولو قدر أن إنسانين التقيا في المركز بدل الحجر، لالتقت رجلاهما، ولم يكن أحدهما تحت الآخر، بل كلاهما فوق المركز، وكلاهما تحت الفلك. وإذا كان مطلوب أحد ما فوق الفلك لم يطلبه إلا من الجهة العليا، لأن مطلوبه من تلك الجهة أقرب، لأنه لو قدر أن رجلا أو ملكا يصعد إلى السماء، كان صعوده مما يلي رأسه، ولا يقول عاقل إنه يخرق الأرض ثم يصعد من تلك الناحية، أو يذهب يمينا أو شمالا ثم يصعد.
ولو أن رجلا أراد مخاطبة القمر، فإنه لا يخاطبه إلا من الجهة العليا، مع أنه قد يشرق ويغرب، فكيف بما هو فوق كل شيء لا يأفل ولا يغيب سبحانه وتعالى. وكما أن حركة الحجر تطلب مركزها بأقصر طريق، وهو الخط المستقيم، فالطلب الإرادي الذي يقوم بقلوب العباد، كيف يعدل عن الصراط المستقيم؟.
مطلب في حديث الإدلاء
إلى أن قال:
وحدث الإدلاء، الذي رواه أبو هريرة وأبو ذر، قد رواه الترمذي وغيره «1» من
(1)
رواه الترمذي في: التفسير، 57- سورة الحديد، ونصه: عن قتادة، حدثنا الحسن عن أبي هريرة قال: بينما نبيّ الله صلى الله عليه وسلم جالس وأصحابه إذ أتى عليهم سحاب. فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم «هل تدرون ما هذا» ؟ فقالوا: الله ورسوله أعلم. قال «هذا العنان، هذه روايا الأرض، يسوقه الله تبارك وتعالى إلى قوم لا يشكرونه ولا يدعونه» قال «هل تدرون ما فوقكم» ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال «فإنها الرقيع، سقف محفوظ وموج مكفوف» ثم قال «هل تدرون كم بينكم وبينها» ؟ قالوا: الله
حديث الحسن عن أبي هريرة، وهو منقطع، فإن الحسن لم يسمع من أبي هريرة، ولكن يقويه حديث أبي ذر المرفوع. فإن كان ثابتا، فمعناه موافق لهذا. فإن
قوله صلى الله عليه وسلم: لو أدلى أحدكم بحبل لهبط على الله، إنما هو تقدير مفروض
، أي لو وقع الإدلاء الوقع عليه، لكن لا يمكن أن يدلي أحد على الله عز وجل شيئا، لأنه عال بالذات، وإذا أهبط شيء إلى جهة الأرض وقف في المركز. والمقصود بيان إحاطة الخالق سبحانه، كما بيّن أنه يقبض السموات، ويطوي الأرض، ونحو ذلك مما فيه بيان إحاطته تعالى، ولهذا قرأ في تمام الحديث:
هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الحديد: 3] وهذا كله على تقدير صحته، فإن الترمذي لما رواه قال: وفسره بعض أهل العلم بأنه هبط على علم الله. وبعض الحلولية والاتحادية يظن أن فيه ما يدل على زعمه الباطل من أنه سبحانه حالّ بذاته في كل مكان، أو أن وجوده وجود الأمكنة ونحو ذلك.
وكذلك تأويله بالعلم غير مستقيم، بل على تقدير ثبوته، فالمراد به الإحاطة، ونحن لا نتكلم إلا بما نعلم، وما لم نعلمه أمسكنا عنه. وقد فطر الله تعالى الناس على التوجه في الدعاء إلى جهة العلوّ، وقال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً، فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها [الروم: 30] . فجاءت الشريعة بالعبادة والدعاء بما يوافق الفطرة.
وقد ثبت في الصحيحين «1» أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إذ قام أحدكم إلى الصلاة فلا
ورسوله أعلم قال «بينكم وبينها مسير خمسمائة سنة» ثم قال «هل تدرون ما فوق ذلك» ؟ قالوا:
الله ورسوله أعلم. قال «فإن فوق ذلك سماءين، ما بينهما مسيرة خمسمائة سنة» حتى عدّد سبع سموات، ما بين كل سماءين كما بين السماء والأرض. ثم قال «هل تدرون ما فوق ذلك» ؟
قالوا: الله ورسوله أعلم قال «فإن فوق ذلك العرش. وبينه وبين السماء بعد مثل ما بين المساءين» ثم قال «هل تدرون ما الذي تحتكم» ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. فإنها الأرض» ثم قال تدرون ما الذي تحت ذلك» ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال «فإن تحتها الأرض الأخرى، بينهما مسيرة خمسمائة سنة» حتى عدّد سبع أرضين، بين كل أرضين مسيرة خمسمائة سنة. ثم قال «والذي نفس محمد بيده! لو أنكم دليتم رجلا بحبل إلى الأرض السفلى، لهبط على الله» .
ثم قرأ: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ، وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
(قال أبو عيسى) : هذا حديث غريب من هذا الوجه.
قال: ويروى عن أيوب ويونس بن عبيد وعليّ بن زيد قالوا: لم يسمع الحسن من أبي هريرة (أقول) في سماع الحسن من أبي هريرة، انظر تعليق السيد أحمد محمد شاكر على الحديث رقم 7138 من مسند أحمد.
(1)
أخرجه البخاري في: الصلاة، 33- باب حك البزاق باليد من المسجد، حديث 180 عن أنس.
و36- باب ليبزق عن يساره أو تحت قدمه اليسرى، حديث 272 عن أبي سعيد الخدري.
يبصق قبل وجهه، فإن الله تعالى قبل وجهه، ولا عن يمينه فإن عن يمينه ملكا، وليبصق عن يساره أو تحت رجله» .
وفي رواية: إنه أذن أن يبصق في ثوبه.
وفي حديث «1» أبي رزين المشهور: لما أخبر صلى الله عليه وسلم أنه ما من أحد إلا سيخلو به ربه، فقال له أبو رزين: كيف يسعنا يا رسول الله وهو واحد ونحن جمع؟ فقال: سأنبئك بمثل ذلك في آلاء الله تعالى: هذا القمر آية من آيات الله تعالى، كلكم يراه مخليا به، فالله أكبر.
وفي الصحيحين «2» : لينتهينّ أقوام عن رفع أبصارهم في الصلاة، أو لا ترجع إليهم أبصارهم
. واتفق العلماء على أن رفع المصلي بصره إلى السماء منهي عنه.
وروى محمد بن سيرين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع بصره في الصلاة إلى السماء، حتى نزل: الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ [المؤمنون: 2] ، فكان بصره لا يجاوز موضع سجوده
. فهذا مما جاءت به الشريعة تكميلا للفطرة، لأن الداعي المأمور بالذل، لا يناسب حاله أن ينظر إلى ناحية من يدعوه. خلافا للجهمية الذين لا يفرقون بين العرش وقعر البحر، وقد قال تعالى: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ [البقرة: 144] الآية- ثم بين تأويل (الحجر الأسود يمين الله في الأرض فمن صافحه وقبله فكأنما صافح الله تعالى وقبل يمينه) وقال: قد ظنوا أن هذا وأمثاله محتاج إلى التأويل، وهذا وهم، لأنه لو كان هذا اللفظ ثابتا عن النبي صلى الله عليه وسلم فإنه صريح في أن الحجر ليس هو من صفاته تعالى، وتقييده بالأرض يدل على أنه ليس هو يده على الإطلاق، فلا تكون اليد حقيقة. وقوله:(فكأنما صافح الله تعالى) إلخ صريح في أن المصافح ليس مصافحا له تعالى، لأن المشبّه ليس هو المشبه به.
إلى أن قال: فهذا كله بتقدير كرّية العرش، وأما إذا قدر أنه ليس بكري الشكل، بل هو فوق العالم من الجهة التي هي وجه الأرض، وأنه فوق الأفلاك الكريّة، كما أن وجه الأرض الموضوع للأنام، فوق نصف الأرض الكريّ، أو غير ذلك من المقادير التي يقدر فيها أن العرش فوق ما سواه- فعلى كل تقدير لا يتوجه إلى الله تعالى إلا
(1) أخرجه أبو داود في: السنة، 19- باب في الرؤية، حديث 4731.
وأخرجه ابن ماجة في المقدمة، 13- باب فيما أنكرت الجهمية، حديث رقم 180 ونصه: عن أبي رزين قال: قلت: يا رسول الله! أنرى الله يوم القيامة؟ وما آية ذلك في خلقه؟ قال «يا أبا رزين! أليس كلكم يرى القمر مخليا به» ؟ قال قلت: بلى قال «فالله أعظم، وذلك آية في خلقه» .
وكذا في أبي داود.
(2)
أخرجه البخاري في: الأذان، 92- باب رفع البصر إلى السماء في الصلاة، حديث رقم 547 عن أنس. وليس في مسلم.
إلى العلوّ، مع كونه على عرشه مباينا لخلقه. وعلى ما ذكرناه لا يلزم شيء من المحذور والتناقض. وهذا يزيل كل شبهة تنشأ من إعتقاد فاسد، وهو أن يظن أن العرش إذا كان كريّا، والله تعالى فوقه كما تقتضيه ذاته، سبحانه عن مشابهة المخلوقين- وجب (فيما عند الزاعم) أن يكون سبحانه كريا، ثم يعتقد أنه إذا كان كريّا فيصح التوجه إلى ما هو كري كالفلك التاسع من جميع الجهات، وهذا خطأ، فإن القول بأن العرش كري لا يجوز أن يظن أنه مشابه للأفلاك في أشكالها وأقدارها أو في صفاتها، بل قد تبين أن سبحانه أعظم وأكبر من أن تكون المخلوقات عنده أصغر من الحمصة في يد أحدنا. فإذا كانت الحمصة مثلا في يد الإنسان أو تحته أو نحو ذلك، هل يتصور عاقل، إذا استشعر علوّ الإنسان على ذلك وإحاطته، بأن يكون الإنسان كالفلك؟ فالله تعالى- وله المثل الأعلى- أعظم من أن يظن به ذلك. وإنما يظنه الذين لم يقدروا الله حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر: 67] . وإذا لم يكن كريّا.
فالأمر ظاهر مما تقدم، وبهذا يظهر الجواب عن السؤال من وجوه متعددة، والله تعالى أعلم.
وإنما أشبعنا الكلام، في هذا المقام، لأنه من أصول العقائد الدينية، ومهمات المسائل التوحيدية، وقد كثر فيه تعارك الآراء، وتصادم الأهواء، ولم يأت جمهور المتكلمين المؤولين بشيء يعلق بقلب الأذكياء، بل اجتهدوا في إيراد التمحلات التي تأباها فطرة الله أشد الإباء، فبقيت نفوس أنصار السنة المحققين، مائلة إلى مذهب السلف الصالحين، فإن الأئمة منهم، كان عقدهم ما بيناه فلا تكن من الممترين، والحمد لله رب العالمين.
وقوله تعالى: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ أي يغطيه به، يعني أنه تعالى يأتي بالليل على النهار، فيغطيه ويلبسه، حتى يذهب بنوره، ويصير الجو مظلما، بعد ما كان مضيئا. قال الشهاب: وجوز جعل الليل والنهار مغشى على الاستعارة، بأن يجعل غشيان مكان النهار وإظلامه بمنزلة غشيانه للنهار نفسه، فكأنه لفّ عليه لفّ الغشاء، أو شبه تغييب كل منهما، بطريانه عليه، بستر اللباس للابسه- انتهى-.
ولم يذكر العكس للعلم به، أو لأن اللفظ يحتملهما، ولذلك قرئ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ بنصب الليل، ورفع النهار يَطْلُبُهُ حَثِيثاً أي يعقبه سريعا، كالطالب له، لا يفصل بينهما شيء. قال الرازيّ: وإنما وصف سبحانه هذه الحركة بالسرعة،