الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سبيله وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ أي فيعطيهم من الأجر ما يناسب تقواهم. ففيه شهادة لهم بالانتظام في زمرة الأتقياء، وعدة لهم بأجزل الثواب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (9) : آية 45]
إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45)
إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ أي في ترك الجهاد بهما الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ إذ لا يرجون ثوابه ولا حياته، وهم المنافقون، ولذا قال: وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ أي فيما تدعوهم إليه، أي رسخ فيها الريب فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ أي ليست لهم قدم ثابتة في شيء، فهم قوم حيارى هلكى، لا إلى هؤلاء، ولا إلى هؤلاء.
تنبيهات:
الأول- اعلم أن في تصديره تعالى فاتحة الخطاب ببشارة العفو، دون ما يوهم العتاب، من مراعاة جانبه عليه الصلاة والسلام، وتعهده بحسن المفاوضة، ولطف المراجعة- ما لا يخفى على أولي الألباب.
قال سفيان بن عيينة: انظروا إلى هذا اللطف: بدأ بالعفو قبل ذلك المعفوّ. قال مكّي. (عفا الله عنك)، افتتاح كلام مثل (أصلحك الله وأعزك) . وقال الداودي:
إنها تكرمة.
أقول: ويؤيد ذلك قوله عليّ بن الجهم يخاطب المتوكل وقد أمر بنفيه:
عفا الله عنك ألا حرمة
…
تعوذ بعفوك أن أبعد
ألم تر عبدا عدا طوره
…
ومولى عفا، ورشيدا. هدى
أقلني، أقالك من لم يزل
…
يقيك، ويصرف عنك الردى
وما اشتهر من كون العفو لا يكون إلا عن ذنب- غير صحيح- فالواجب تفسيره في كل مقام بما يناسبه..
قال الشهاب: وهو يستعمل حيث لا ذنب، كما تقول لمن تعظمه: عفا الله عنك، ما صنعت في أمري؟
وفي الحديث: عجبت من يوسف وصبره وكرمه، والله يغفر له
. وقال السخاوندي: هو تعليم لتعظيمه صلى الله عليه وسلم، ولولا تصدير العفو في الخطاب لما قام بصولة العتاب.
وقال القاضي عياض في (الشفا) : وأما قوله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ فأمر لم يتقدم للنبيّ صلى الله عليه وسلم فيه من الله نهي، فيعدّ معصية ولا عدّه الله عليه معصية، بل لم يعده أهل العلم معاتبة، وغلّطوا من ذهب إلى ذلك.
قال نفطويه: وقد حاشاه الله من ذلك، بل ما كان مخيرا في أمرين. قالوا: وقد كان له أن يفعل ما يشاء فيما لم ينزل عليه وحي، وكيف؟ وقد قال الله تعالى:
فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ فلما أذن لهم أعلمه الله بما لم يطلع عليه من سرهم، أنه لو لم يأذن لهم لقعدوا لنفاقهم، وأنه لا حرج عليه فيما فعل، وليس (عفا) هنا بمعنى غفر، بل كما
قال النبيّ صلى الله عليه وسلم «1» : عفا الله لكم عن صدقة الخيل والرقيق. ولم تجب عليهم قط.
أي لم يلزمهم ذلك.
ونحوه للقشيري قال: إنما يقول (العفو لا يكون إلا عن ذنب) من لم يعرف كلام العرب. قال: ومعنى (عفا الله عنك) أي لم يلزمك ذنبا. انتهى.
وقد عدّ ما وقع في الكشاف هنا من قبيح سقطاته.
وللعلامة أبي السعود مناقشة معه في ذلك. أوردها لبلوغها الغاية في البلاغة قال رحمه الله: ولقد أخطأ وأساء الأدب، وبئسما فعل فيما قال وكتب، من زعم أن الكلام كناية عن الجناية، وأن معناه أخطأت، وبئسما فعلت، هب أنه كناية، أليس إيثارها على التصريح بالجناية للتلطيف في الخطاب، والتخفيف في العتاب، وهب أن العفو مستلزم لكونه من القبح واستتباع اللائمة، بحيث يصحح هذه المرتبة من المشافهة بالسوء، أو يسوغ إنشاء الاستقباح بكلمة (بئسما) المنبئة عن بلوغ القبح إلى رتبة يتعجب منها. ولا يخفى أنه لم يكن في خروجهم مصلحة للدين، أو منفعة للمسلمين، بل كان فيه فساد وخبال، حسبما نطق به قوله عز وجل لَوْ خَرَجُوا
…
إلخ، وقد كرهه سبحانه كما يفصح عنه قوله تعالى وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ
…
الآية- نعم. كان الأولى تأخير الإذن حتى يظهر كذبهم آثر ذي أثير، ويفتضحوا على رؤوس الأشهاد، ولا يتمكنوا من التمتع بالعيش على الأمن والدعة، ولا يتسنى لهم الابتهاج فيما بينهم، بأنهم غروه صلى الله عليه وسلم، وأرضوه بالأكاذيب. على أنه لم يهنأ لهم عيش، ولا قرّت لهم عين، إذ لم يكونوا على أمن واطمئنان، بل كانوا على خوف من ظهور أمرهم وقد كان. انتهى.
(1)
أخرجه ابن ماجة في: الزكاة، 4- باب زكاة الورق والذهب، حديث رقم 1790 عن عليّ ونصه: إني قد عفوت عنكم عن صدقة الخيل والرقيق
…
إلخ.
قال الخفاجي: وحاول بعضهم توجيه كلام الكشاف بأن مراده أن الأصل فيه ذلك، فأبدله بالعفو تعظيما لشأنه، ولذا قدم العفو على ما يوجب الجناية، فلا خطأ فيه.
قال رحمه الله: ولو اتقى هو والموجّه موضع التهم- كان أولى وأحرى.
انتهى.
الثاني- استدل بالآية على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحكم أحيانا بالاجتهاد، كما بسطه الرازي.
قال السيوطي في (الإكليل) : واستدل بها من قال: إن اجتهاده قد يخطئ ولكن ينبّه عليه بسرعة.
الثالث- قال الرازي: دلت الآية على وجوب الاحتراز عن العجلة، ووجوب التثبت والتأني، وترك الاغترار بظواهر الأمور، والمبالغة في التفحص، حتى يكمنه أن يعامل كل فريق بما يستحقه من التقريب أو الإبعاد.
الرابع- قال أبو السعود: تغيير الأسلوب بأن عبر عن الفريق الأول بالموصول الذي صلته فعل دالّ على الحدوث، وعن الفريق الثاني باسم الفاعل المفيد للدوام- للإيذان بأن ما ظهر من الأولين صدق حادث في أمر خاص غير مصحح لنظمهم في سلك الصادقين. وأن ما صدر من الآخرين، وإن كان كذبا حادثا متعلقا بأمر خاص، لكنه أمر جار على عادتهم المستمرة، ناشئ عن رسوخهم في الكذب. ودقق رحمه الله في بيان لطائف أخر. فلتراجع.
الخامس- قيل: نفي الفعل المستقبل الدالّ على الاستمرار في قوله تعالى لا يَسْتَأْذِنُكَ يفيد نفي الاستمرار. وهذا معنى قول الزمخشريّ: ليس من عادة المؤمنين أن يستأذنوك.
قال النحرير: ولا يبعد حمله على استمرار النفي كما في أكثر المواضع، أي عادتهم عدم الاستئذان.
قال الناصر: وهذا الأدب يجب أن يقتفى مطلقا، فلا يليق بالمرء أن يستأذن أخاه في أن يسدي له معروفا، ولا بالمضيف أن يستأذن ضيفه في أن يقدم إليه طعاما. فإن الاستئذان في أمثال هذه المواطن أمارة التكلف والتكرّه، وصلوات الله على خليله وسلامه، لقد بلغ من كرمه وأدبه مع ضيوفه أنه كان لا يتعاطى شيئا من