الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي
أي لن تطيق رؤيتي، لأن هذه البنية الآدمية في هذه النشأة الدنيوية، لا طاقة لها بذلك، لعدم استعدادها له. بل ما هو أكبر جرما، وأشد خلقا وصلابة- وهو الجبل- لا يثبت لذلك، بل يندكّ. ولذا قال تعالى وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ أي الذي هو أقوى منك فَإِنِ اسْتَقَرَّ أي ثبت مكانه، حين أتجلى له، ولم يتزلزل فَسَوْفَ تَرانِي، أي تثبت لرؤيتي، إذا تجليت عليك، وإلا فلا طاقة. وفيه من التلطيف بموسى، والتكريم له، والتنزل القدسي- ما لا يخفى فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ أي: ظهر له وبان- قاله الزجاج- جَعَلَهُ أي:
التجلي دَكًّا أي مفتّتا، فلم يستقر مكانه. فنبه تعالى على أن الجبل، مع شدته وصلابته، إذا لم يستقر، فالآدميّ مع ضعف بنيته أولى بأن لا يستقر. وفيه تسكين لفؤاد موسى، بأن المانع من الانكشاف الإشفاق عليه، وأما أن المانع محالية الرؤية، فليس في القرآن إشارة إليه وَخَرَّ أي وقع مُوسى صَعِقاً أي مغشيا عليه من هول ما رأى فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ أي من الإقدام على سؤالي الرؤية وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ أي بأنه لا يستقر لرؤيتك أحد في هذه النشأة.
قال في (الانتصاف) : إنما سبح موسى عليه السلام لما تبين له من أن العلم قد سبق بعدم وقوع الرؤية في الدنيا، والله تعالى مقدس عن وقوع خلاف معلومه، وعن الخلف في خبره الحق وقوله الصدق. فلما تبين أن مطلوبه كان خلاف المعلوم، سبح الله، وقدس علمه وخبره عن الخلف. وأما التوبة في حق الأنبياء فلا تستلزم كونها عن ذنب، لأن منصبهم الجليل ينبغي أن يكون منزها مبرأ من كل ما ينحط به. ولا شك أن التوقف في سؤال الرؤية على الإذن كان أكمل. وقد ورد:(سيئات المقربين، حسنات الأبرار) .
تنبيه:
قال المتكلمون: دلت الآية على جواز رؤيته تعالى من وجهين:
الأول- أن سؤال موسى عليه السلام الرؤية يدل على إمكانها. لأن العاقل، فضلا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، لا يطلب المحال. ولا مجال للقول بجهل موسى عليه السلام بالاستحالة، فإن الجاهل بما لا يجوز على الله، لا يصلح للنبوة. إذ الغرض من النبوة هداية الخلق إلى العقائد الحقة، والأعمال الصالحة. ولا ريب في نبوة موسى عليه السلام، وأنه من أولي العزم.
الثاني- أنه تعالى علق الرؤية على استقرار الجبل، وهو أمر ممكن في نفسه،
والمعلق على الممكن ممكن، لأن معنى التعليق الإخبار بوقوع المعلق عند وقوع المعلق به. والمحال لا يثبت على شيء من التقادير الممكنة.
وأما زعم المعتزلة أن الرؤية مجاز عن العلم الضروري، فمعنى قوله أَرِنِي أي: اجعلني عالما بك علما ضروريا- خلاف الظاهر. فإن النظر الموصول ب (إلى) نص في الرّؤية البصرية فلا يترك بالاحتمال، مع أن طلب العلم الضروريّ لمن يخاطبه ويناجيه غير معقول. وكذا زعمهم أن موسى عليه السلام، كان سألها لقومه حيث قالوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة: 55] ، فسأل ليعلموا امتناعها- فإنه خلاف الظاهر، وتكلّف يذهب رونق النظم، فترده ألفاظ الآية. وقد ثبت وقوع رؤيته تعالى في الآخرة، بالكتاب والسنة، أما الكتاب فلقوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ، وأما السنة فلا تحصى أحاديثها ولكن إذا أصيب أحد بداء المكابرة في الحق الصراح، عسر إقناعه مهما قوي الدليل وعظمت الحجة.
قال في فتح البيان: رؤيته تعالى في الآخرة، ثبتت بها الأحاديث المتواترة تواترا لا يخفى على من يعرف السنة المطهرة. والجدال في مثل هذا والمراوغة لا تأتي بفائدة. ومنهج الحق واضح. ولكن الاعتقاد لمذهب نشأ الإنسان عليه، وأدرك عليه أباه، وأهل بلده، مع عدم التنبه لما هو المطلوب من العباد من هذه الشريعة المطهرة- يوقع في التعصب. والمتعصب، وإن كان بصره صحيحا، فبصيرته عمياء، وأذنه عن سماع الحق صماء، يدفع الحق وهو يظن أنه ما دفع غير الباطل، ويحسب أن ما نشأ عليه هو الحق، غفلة منه، وجهلا بما أوجبه الله عليه من النظر الصحيح، وتلقى ما جاء به الكتاب والسنة بالإذعان والتسليم. وما أقل المنصفين بعد ظهور هذه المذاهب في الأصول والفروع، فإنه صار بها باب الحق مرتجّا، وطريق الإنصاف مستوعرة، والأمر لله سبحانه والهداية:
يأبى الفتى إلا اتّباع الهوى
…
ومنهج الحقّ له واضح
- انتهى-.
وهذا تعريض بالمعتزلة، وفي مقدمتهم الزمخشري. وقد انتقل، عفا الله عنه، أخيرا إلى هجاء أهل السنة بما أنشده:
لجماعة سمّوا هواهم سنة
…
وجماعة حمر لعمري موكفه
قد شبّهوه بخلقه وتخوّفوا
…
شنع الورى فتستّروا بالبلكفه