الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[غافر: 36- 37] . كذّب موسى في قوله: إن الله فوق السموات. وقال أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ [الملك: 16] فالسماوات فوقها العرش، فلما كان العرش فوق السموات قال: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ، لأنه مستو على العرش الذي هو فوق السموات، وكل ما علا فهو سماء، والعرش أعلى السموات، وليس إذا قال: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ، يعني جميع السماء، وإنما أراد العرش الذي هو أعلى السموات. ألا ترى أن الله ذكر السموات فقال وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً [نوح: 16] ، فلم يرد أن القمر يملؤهن، وأنه فيهن جميعا. ورأينا المسلمين جميعا يرفعون أيديهم، إذا دعوا، نحو السماء، لأن الله على العرش الذي هو فوق السموات، فلولا أن الله على العرش لم يرفعوا أيديهم نحو العرش، كما لا يحطّونها، إذا دعوا، إلى الأرض.
ثم قال:
فصل
وقد قال قائلون من المعتزلة والجهمية والحرورية: إن معنى قوله الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى أنه استولى وملك وقهر، وأن الله عز وجل في كل مكان، وجحدوا أن يكون الله على عرشه، كما قال أهل الحق. وذهبوا في الاستواء إلى (القدرة) ، فلو كان هذا كما ذكروه، كان لا فرق بين العرش والأرض السابعة، لأن الله قادر على كل شيء، فالله قادر على الأرض، وعلى الحشوش، وعلى كل ما في العالم.
فلو كان الله مستويا على العرش بمعنى (الاستيلاء) ، وهو عز وجل مستول على الأشياء كلها، لكان مستويا على العرش، وعلى الأرض، وعلى السماء، وعلى الحشوش والأقذار لأنه قادر على الأشياء، مستول عليها، وإذا كان قادرا على الأشياء كلها، ولم يجز عند أحد من المسلمين أن يقول إن الله مستو على الحشوش والأخلية، لم يجز أن يكون الاستواء على العرش (الاستيلاء) ، الذي هو عامّ في الأشياء كلها، ووجب أن يكون معنى الاستواء يختص العرش دون الأشياء كلها.
وذكر دلالات من القرآن والحديث والإجماع والعقل- انتهى-.
قلت: وكلام أبي الحسن الأشعري الأخير مأخوذ من كتاب ردّ الإمام أحمد على الجهمية، حيث قال في كتابه المذكور:
ومما أنكرت الجهمية الضّلال أن يكون الله سبحانه على العرش، فقلنا: لم
أنكرتم ذلك؟ إن الله سبحانه على العرش، وقد قال سبحانه الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه: 5] ، وقال: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ، الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً [الفرقان: 59] ، قالوا: هو تحت الأرضين السابعة كما هو على العرش، فهو على العرش، وفي السموات، وفي الأرض، وفي كل مكان، لا يخلو منه مكان، ولا يكون في مكان دون مكان. وتلوا آيات من القرآن وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ [الأنعام: 3] ، فقلنا: قد عرف المسلمون أماكن كثيرة، وليس فيها من عظمة الله شيء، فقالوا: أي مكان؟ فقلنا: أحشاؤكم وأجواف الخنازير والحشوش والأماكن القذرة ليس فيها من عظمة الرب سبحانه شيء، وقد أخبرنا أنه في السماء، فقال سبحانه: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ
…
[الملك: 16] الآية، وقال: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر: 10]، وقال وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ [الأنبياء: 19] ، وقال: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ [آل عمران: 55]، وقال: بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ [النساء: 158]، وقال: يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [النحل: 50]، وقال: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ [المعارج: 4]، وقال: وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ [الأنعام: 18]- فهذا أخبر الله أنه في السماء، ووجدنا كل شيء أسفل مذموما. قال الله تعالى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء: 145] . وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ [فصلت: 29]، وقلنا لهم: أليس تعلمون أن إبليس كان مكانه، والشياطين مكانهم؟ فلم يكن الله ليجتمع هو وإبليس، ولكن إنما معنى قوله تبارك وتعالى: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ [الأنعام: 3] يقول: هو إله من في السموات، وإله من في الأرض، وهو على العرش! وقد أحاط بعلمه ما دون العرش، لا يخلو من علم الله مكان، ولا يكون علم الله في مكان دون مكان، وذلك قوله:
لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً [الطلاق: 12] .
قال: ومن الاعتبار في ذلك: لو أن رجلا كان في يده قدح من قوارير صاف، وفيه شيء، كان بصر ابن آدم قد أحاط بالقدح من غير أن يكون ابن آدم في القدح، فالله سبحانه- وله المثل الأعلى- قد أحاط بجميع خلقه، من غير أن يكون في شيء من خلقه. وخصلة أخرى: لو أن رجلا بني دارا بجميع مرافقها، ثم أغلق بابها وخرج منها، كان ابن آدم لا يخفى عليه كم بيتا في داره، وكم سعة كل بيت، من غير أن يكون صاحب الدار في جوف الدار. فالله سبحانه- وله المثل الأعلى- قد أحاط
بجميع ما خلق، وقد علم كيف هو، وما هو، من غير أن يكون في شيء مما خلق.
قال أحمد رضي الله عنه: ومما تأول الجهمية من قول الله سبحانه: ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ
…
) إلى أن قال:
…
إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ قالوا: إن الله عز وجل معنا وفينا. فقلنا: لم قطعتم الخبر من أوله؟ إن الله يقول: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ يعني أن الله بعلمه رابعهم، ولا خمسة إلا هو سادسهم، ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم بعلمه فيهم، يفتح الخبر بعلمه، ويختمه بعلمه- انتهى-.
ثم قال الإمام أحمد في آخر كتابه المذكور: وقلنا للجهمية: زعمتم أن الله في كل مكان، لا يخلو منه مكان، فقلنا لهم: أخبرونا عن قول الله جل ثناؤه: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا [الأعراف: 143] . لم تجلى، إذا كان فيه بزعمكم؟
ولو كان فيه، كما تزعمون، لم يكن يتجلى لشيء. لكن الله تعالى على العرش، وتجلى لشيء لم يكن فيه، ورأى الجبل شيئا لم يكن يراه قط قبل ذلك.
وقلنا للجهمية: الله نور؟ فقالوا: نور كله. فقلنا: قال الله عز وجل:
وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها [الزمر: 69] . فقد أخبر جل ثناؤه أن له نورا، قلنا:
أخبرونا، حين زعمتم أن الله في كل مكان، وهو نور، فلم لا يضيء البيت المظلم من النور الذي هو فيه إذا زعمتم أن الله في كل مكان؟ وما بال السراج إذا أدخل البيت المظلم يضيء؟ فعند ذلك تبين كذبهم على الله. فرحم الله من عقل عن الله، ورجع عن القول الذي يخالف الكتاب والسنة، وقال بقول العلماء، وهو قول المهاجرين والأنصار، وترك دين الشيطان، ودين جهم وشيعته- انتهى-.
وقال الإمام الحافظ ابن عبد البر في كتاب (التمهيد) في شرح حديث «1» (ينزل ربنا كل ليلة
…
) الحديث- ما نصه: هذا الحديث ثابت من جهة النقل، صحيح الإسناد، لا يختلف أهل الحديث في صحته، وفيه دليل على أن الله تعالى
(1)
أخرجه البخاري في: الدعوات، 14- باب الدعاء نصف الليل، حديث رقم 629 ونصه: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر. يقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، ومن يستغفرني فأغفر له؟» وأخرجه مسلم في: صلاة المسافرين وقصرها، حديث 168.
في السماء، على العرش من فوق سبع سموات، كما قالت الجماعة. وهو حجتهم على المعتزلة والجهمية في قولهم:(إن الله في كل مكان، وليس على العرش) والدليل على صحة ما قاله أهل الحق في ذلك قوله تعالى: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه: 5]، ثم ساق عدة آيات في ذلك- وقال: هذه الآيات كلها واضحات في إبطال قول المعتزلة. وأما ادعاؤهم المجاز في الاستواء، وقولهم في تأويل اسْتَوى استولى، فلا معنى له، لأنه غير ظاهر في اللغة. ومعنى الاستيلاء في اللغة المغالبة، والله تعالى لا يغالبه أحد، وهو الواحد الصمد. ومن حق الكلام أن يحمل على حقيقته، حتى تتفق الأمة أنه أريد به المجاز، إذ لا سبيل إلى اتباع ما أنزل إلينا من ربنا تعالى، إلا على ذلك، وإنما يوجه كلام الله عز وجل على الأشهر والأظهر من وجوهه، ما لم يمنع من ذلك ما يجب له التسليم. ولو ساغ ادعاء المجاز لكل مدع، ما ثبت شيء من العبادات. وجلّ الله أن يخاطب إلا بما تفهمه العرب من معهود مخاطباتها مما يصح معناه عند السامعين. والاستواء معلوم في اللغة مفهوم، وهو العلوّ والارتفاع على الشيء، والاستقرار والتمكن فيه. قال أبو عبيدة في قوله الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه: 5] ، قال: علا، قال: تقول العرب: استويت فوق الدابة واستويت فوق البيت. وقال غيره: استوى أي استقر، واحتج بقوله تعالى:
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ، وَاسْتَوى [القصص: 14] ، انتهى شبابه واستقر، فلم يكن في شبابه مزيد.
قال ابن عبد البر: الاستواء: الاستقرار في العلوّ، وبهذا خاطبنا الله تعالى في كتابه فقال: لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ [الزخرف: 13]، وقال تعالى: وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ [هود: 44]، وقال تعالى:
فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ [المؤمنون: 28]، وقال الشاعر:
فأوردتهم ماء بفيفاء قفرة
…
وقد حلّق النجم اليمانيّ فاستوى
وهذا لا يجوز أن يتأوّل فيه أحد (استولى)، لأن النجم لا يستولي. وقد ذكر النضر بن شميل- وكان ثقة مأمونا جليلا في علم الديانة واللغة- قال: حدثني الخليل- وحسبك بالخليل- قال: أتيت أبا ربيعة الأعرابي، وكان من أعلم ما رأيت، فإذا هو على سطح، فسلمنا، فرد علينا السلام، وقال:(استووا) فبقينا متحيرين ولم ندر ما قال، فقال لنا أعرابيّ إلى جانبه: إنه أمركم أن ترفّعوا، فقال الخليل: هو من قول الله ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ [البقرة: 29]، فصعدنا إليه. قال: وأما من نزع منهم
بحديث يرويه عبد الله بن داود الواسطي عن إبراهيم بن عبد الصمد عن عبد الوهاب ابن مجاهد عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه: 5] قال: استولى على جميع بريته، فلا يخلو منه مكان- فالجواب:
أن هذا حديث منكر على ابن عباس رضي الله عنهما، ونقلته مجهولة وضعفاء، فأما عبد الله بن داود الواسطي وعبد الوهاب بن مجاهد فضعيفان. وإبراهيم بن عبد الصمد مجهول لا يعرف. وهم لا يقبلون أخبار الآحاد، فكيف يسوغ لهم الاحتجاج بمثل هذا الحديث، لو عقلوا وأنصفوا؟ أما سمعوا الله سبحانه حيث يقول: وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً [غافر: 36- 37] ؟ فدل على أن موسى عليه الصلاة والسلام كان يقول: إلهي في السماء وفرعون يظنه كاذبا. قال الشاعر:
فسبحان من لا يقدر الخلق قدره
…
ومن هو فوق العرش فرد موحّد
مليك على عرش السماء مهيمن
…
لعزّته تعنو الوجوه وتسجد
وهذا الشعر لأميّة بن أبي الصّلت. وفيه يقول في وصف الملائكة:
وساجدهم لا يرفع الدهر رأسه
…
يعظّم ربّا فوقه ويمجّد
قال: فإن احتجوا بقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ [الزخرف: 84]، وبقوله تعالى: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ [الأنعام: 3]، وبقوله تعالى: ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ [المجادلة: 7]، وزعموا أن الله سبحانه في كل مكان بنفسه وذاته- تبارك وتعالى جدّه- قيل: لا خلاف بيننا وبينكم وبين سائر الأمة أنه ليس في الأرض دون السماء بذاته، فوجب حمل هذه الآيات على المعنى الصحيح المجمع عليه، وذلك أنه في السماء إله معبود من أهل السماء، وفي الأرض إله معبود من أهل الأرض، وكذا قال أهل العلم بالتفسير. وظاهر هذا التنزيل يشهد أنه على العرش، فالاختلاف في ذلك ساقط، وأسعد الناس به من ساعده الظاهر. وأما قوله في الآية الأخرى:
وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ فالإجماع والاتفاق قد بيّن أن المراد أنه معبود من أهل الأرض.
فتدبر هذا فإنه قاطع.
ومن الحجة أيضا في أنه عز وجل على العرش فوق السموات السبع، أن الموحدين أجمعين من العرب والعجم، إذا كربهم أمر، أو نزلت بهم شدة، رفعوا
وجوههم إلى السماء، ونصبوا أيديهم رافعين مشيرين بها إلى السماء، يستغيثون الله ربهم تبارك وتعالى، وهذا أشهر وأعرف عند الخاصة والعامة من أن يحتاج فيه إلى أكثر من حكايته. لأنه اضطراري لم يخالفهم عليه أحد، ولا أنكره عليهم مسلم،
وقد قال صلى الله عليه وسلم للأمة التي أراد مولاها عتقها «1» ، إن كانت مؤمنة. فاختبرها رسول الله صلى الله على وآله وسلّم بأن قال لها: أين الله؟ فأشارت إلى السماء. ثم قال لها: من أنا؟
قالت: أنت رسول الله. قال: أعتقها فإنها مؤمنة
. فاكتفى رسول الله صلى الله عليه وسلم منها برفع رأسها إلى السماء، واستغنى بذلك عما سواه.
قال: وأما احتجاجهم بقوله تعالى: ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ فلا حجة لهم في ظاهر هذه الآية، لأن علماء الصحابة والتابعين الذين حمل عنهم التأويل في القرآن قالوا تأويل هذه الآية: هو على العرش، وعلمه في كل مكان، وما خالفهم في ذلك أحد يحتج بقوله. وذكر سنيد عن مقاتل بن حيان عن الضحاك بن مزاحم في قوله تعالى: ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ قال: هو على عرشه، وعلمه معهم أينما كانوا. قال: وبلغني عن سفيان الثوري مثله. قال سنيد:
حدثنا حماد بن زيد عن عاصم بن بهدلة عن زرّ بن حبيش عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: الله فوق العرش، وعلمه في كل مكان، لا يخفى عليه شيء من أعمالكم.
ثم ساق من طريق يزيد بن هارون عن حماد بن سلمة عن عاصم بن بهدلة عن زر عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام، وما بين كل سماء إلى الأخرى خمسمائة عام، وما بين السماء السابعة إلى الكرسي مسيرة خمسمائة عام، وما بين الكرسي إلى الماء مسيرة خمسمائة عام، والعرش على الماء، والله على العرش، ويعلم أعمالكم. وذكر هذا الكلام أو قريبا منه في كتاب (الاستذكار) .
وقال شيخ الإسلام تقيّ الدين بن تيمية رحمه الله تعالى في (الرسالة المدنية) : إذا وصف الله نفسه بصفة أو وصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم، أو وصفه بها المؤمنون
(1)
أخرجه مسلم في صحيحه: في المساجد ومواضع الصلاة، حديث 33 وهو قطعة من حديث طويل ونصها: عن معاوية بن الحكم السّلميّ قال: وكانت لي جارية ترعى غنما لي قبل أحد والجوّانيّة (موضع في شمال المدينة) فاطلعت ذات يوم فإذا الذئب قد ذهب بشاة من غنمها. وأنا رجل من بني آدم. آسف كما يأسفون. لكني صككتها صكة. فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعظّم ذلك عليّ. قلت: يا رسول الله! أفلا أعتقها؟ قال «ائتني بها» فأتيته بها فقال لها «أين الله» ؟ قالت: في السماء. قال «من أنا» ! قالت أنا رسول الله. قال «أعتقها فإنها مؤمنة» .
الذين اتفق المسلمون على هدايتهم ودرايتهم- فصرفها عن ظاهرها اللائق بجلاله سبحانه، وحقيقتها المفهومة منها، إلى باطن يخالف الظاهر، ومجاز يخالف الحقيقة، لا بد فيه من أربعة أشياء:
أحدها: أن ذلك اللفظ مستعمل بالمعنى المجازي، لأن الكتاب والسنة وكلام السلف جاءوا باللسان العربي، ولا يجوز أن يراد منه خلاف لسان العرب، أو خلاف الألسنة كلها، فلا بد أن يكون ذلك المعنى المجازي مما يراد به اللفظ، وإلا فيمكن كل مبطل أن يفسر أي لفظ بأي معنى ناسخ له، وإن لم يكن له أصل في اللغة.
الثاني: أن يكون معه دليل يوجب صرف اللفظ عن حقيقته إلى مجازه، وإلا فإذا كان يستعمل في معنى بطريق الحقيقة، وفي معنى بطريق المجاز، لم يجز حمله على المجازي بغير دليل يوجب الصرف بإجماع العقلاء، ثم ادعى وجوب صرفه عن الحقيقة فلا بدّ من دليل قاطع عقلي أو سمعي يوجب الصرف. وإن ادعى ظهور صرفه عن الحقيقة- فلا بد من دليل مرجح للحمل على المجاز.
الثالث: أنه لا بد من أن يسلم ذلك الدليل الصارف عن معارض. وإلا فإذا قام دليل قرآني أو إيماني يبيّن أن الحقيقة مرادة، امتنع تركها. ثم إن كان هذا الدليل لم يلتفت إلى نقيضه وإن كان ظاهرا فلا بد من الترجيح.
الرابع: أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا تكلم بكلام وأراد به خلاف ظاهره، وضد حقيقته فلا بد أن يبين للأمة أنه لم يرد حقيقته وإنما أراد مجازه، سواء عيّنه أو لم يعيّنه، لا سيما في الخطاب العلميّ الذي أريد منهم فيه الاعتقاد والعلم، دون عمل الجوارح، فإنه سبحانه جعل القرآن نورا وهدى وبيانا للناس وشفاء لما في الصدور، وأرسل الرسول ليبيّن للناس ما نزّل إليهم، وليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، ولِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء: 165] . ثم هذا الرسول الأمي العربي بعث بأفصح اللغات، وأبين الألسنة والعبارات. ثم الأمّة الذين أخذوا عنه كانوا أعمق الناس علما، وأنصحهم للأمة، وأبينهم للسنة، فلا يجوز أن يتكلم هو وهؤلاء بكلام يريدون به خلاف ظاهره، إلا وقد نصب دليلا يمنع من حمله على ظاهره، إما بأن يكون عقليّا ظاهرا مثل قوله: وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النمل: 23] فإن كل أحد يعلم بعقله أن المراد (أوتيت من جنس ما يؤتاه مثلها) . وكذلك قوله:
خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الأنعام: 102] يعلم المستمع أن المراد أن الخالق لا يدخل في هذا العموم. أو سمعيّا ظاهرا مثل الدلالات في الكتاب والسنة التي تصرف بعضها الظواهر.
ولا يجوز أن يحيلهم على دليل خفيّ لا يستنبطه إلا أفراد الناس، سواء كان سمعيّا أو عقليّا، لأنه إذا تكلم بالكلام الذي يفهم منه معنى، وأعاده مرات كثيرة، وخاطب به الخلق كلهم، وفيهم الذكي والبليد، والفقيه وغير الفقيه، وقد أوجب عليهم أن يتدبروا ذلك الخطاب، ويعقلوه ويتفكروا فيه، ويعتقدوا موجبه، ثم أوجب أن لا يقصدوا بهذا الخطاب شيئا من ظاهره، لأن هناك دليلا خفيّا يستنبطه أفراد الناس يدل على أنه لم يرد ظاهره- كان تدليسا أو تلبيسا، وكان نقيض البيان، وضد الهدى، وهو بالألغاز والأحاجيّ أشبه منه بالهدى والبيان. فكيف إذا كانت دلالة ذلك الخطاب على ظاهره، أقوى بدرجات كثيرة من دلالة ذلك الدليل الخفي على أن الظاهر غير مراد، كيف إذا كان ذلك الخفي شبهة ليس لها حقيقة؟ - انتهى-.
الثاني- يتوهم كثير أن القول بالعلوّ والاستواء يلزم منهما القول بالتجسيم، وقد رمى بذلك كثير من المحدّثين، وممن رماهم بذلك الجلال الدواني في شرح العقائد العضدية حيث قال- عفا الله عنه-: وأكثر المجسمة هم الظاهريون المتبعون لظاهر الكتاب والسنة، وأكثرهم المحدّثون. ولابن تيمية أبي العباس وأصحابه ميل عظيم إلى إثبات الجهة، ومبالغة في القدح في نفيها. ورأيت في بعض تصانيفه أنه لا فرق عند بديهة العقل بين أن يقال: هو معدوم، أو يقال: طلبته في جميع الأمكنة فلم أجده، ونسب النافين إلى التعطيل. هذا مع علوّ كعبه في العلوم العقلية والنقلية، كما يشهد به من تتبع تصانيفه.
ومحصل كلام بعضهم في بعض المواضع، أن الشرع ورد بتخصيصه تعالى بجهة (الفوق) ، كما خصص الكعبة بكونها بيت الله تعالى، ولذلك يتوجه إليها في الدعاء. ولا يخفى أنه ليس في هذا القدر غائلة أصلا، لكن بعض أصحاب الحديث من المتأخرين لم يرض بهذا القول، وأنكر كون (الفوق) قبلة الدعاء، بل قال: قبلة الدعاء هو نفسه، كما أن نفس الكعبة قبلة الصلاة، وقد صرح بكونه جهة الله تعالى حقيقة من غير تجوّز انتهى كلام الدواني-.
وتعقبه غير واحد:
منهم: الشيخ إبراهيم الكوراني في حاشيته عليه المسماة (بمجلى المعاني) قال: إن ابن تيمية ليس قائلا بالتجسيم، فقد صرح بأن الله تعالى ليس جسما، في رسالة تكلم فيها على حديث النزول. وقال في رسالة أخرى: من قال إن الله تعالى مثل بدن الإنسان، أو إن الله يماثل شيئا من المخلوقات فهو مفتر على الله سبحانه.
بل هو على مذهب السلف قائل بأن الله تعالى فوق العرش حقيقة، مع نفي اللوازم، ونقل عليه إجماع السلف، صرح به في الرسالة القدرية- انتهى-.
ومنهم: وليّ الله الدهلوي قدس سره، قال في كتابه (حجة الله البالغة) :
واستطال هؤلاء الخائضون على معشر أهل الحديث، وسموهم مجسمة ومشبهة، وقالوا: هم المتسترون بالبلكفة، وقد وضح عليّ وضوحا بيّنا أن استطالتهم هذه ليست بشيء، وأنهم مخطئون في مقالتهم رواية ودراية، وخاطئون في طعنهم أئمة الهدى- انتهى-.
ومنهم: الشهاب الألوسي المفسر، فإنه كتب على كلام الدواني ما نصه: حاشا لله تعالى أن يكون- يعني ابن تيمية- من المجسمة، بل هو أبرأ الناس منهم. نعم يقول بالفوقية، وذلك مذهب السلف، وهو بمعزل عن التجسيم. وجلال الدين وأضرابه أجهل الناس بالأحاديث، وكلام السلف الصالح، كما لا يخفى على العارف المنصف. نقله عنه ابنه في (محاكمة الأحمدين) .
وأقول. إن كل من رمى مثل هذا الإمام بالتجسيم فقد افترى وما درى، إلا أن عذره أنه لم ينقب عن غرر كلامه في فتاويه التي أوضح فيها الحق، وأنار بها مذهب السلف قاطبة. وهاك شذرة من درره. قال رحمه الله في بعض فتاويه:
والأصل في هذا الباب أن كل ما ثبت في كتاب الله تعالى أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وجب التصديق به، مثل علوّ الرب، واستوائه على عرشه، ونحو ذلك. وأما الألفاظ المبتدعة في النفي والإثبات، مثل قول القائل: هو في جهة، أو ليس في جهة، وهو متحيز، أو ليس بمتحيّز، ونحو ذلك من الألفاظ التي تنازع فيها الناس، وليس مع أحدهم نص، لا عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا عن الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان، ولا أئمة المسلمين- هؤلاء لم يقل أحد منهم إن الله تعالى في جهة، ولا قال ليس هو في جهة، ولا قال هو متحيز، ولا قال ليس بمتحيز، بل ولا قال هو جسم أو جوهر، ولا قال ليس بجسم ولا بجوهر. فهذه الألفاظ ليست منصوصة في الكتاب ولا السنة ولا الإجماع، والناطقون بها قد يريدون معنى صحيحا. فإن يريدوا معنى صحيحا يوافق الكتاب والسنة كان ذلك مقبولا منهم. وإن أرادوا معنى فاسدا يخالف الكتاب والسنة كان ذلك المعنى مردودا عليهم. فإذا قال القائل: إن الله تعالى في جهة، قيل: ما تريد بذلك؟ أتريد بذلك أنه سبحانه في جهة موجودة تحصره وتحيط به، مثل أن يكون في جوف السموات، أم تريد بالجهة أمرا عدميّا، وهو
ما فوق العالم شيء من المخلوقات. فإن أردت الجهة الوجودية، وجعلت الله تعالى محصورا في المخلوقات، فهذا باطل، وإن أردت بالجهة العدمية، وأردت الله تعالى وحده فوق المخلوقات، بائن عنها، فهذا حق، وليس في ذلك أن شيئا من المخلوقات حصره، ولا أحاط به، ولا علا عليه، بل هو العالي عليها، المحيط بها، وقد قال تعالى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر: 67] ، الآية-
وقد ثبت في الصحيح «1» عن النبي صلى الله عليه وسلم «أن الله عز وجل يقبض الأرض يوم القيامة، ويطوي السموات بيمينه، ثم يهزهن فيقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض» ؟
وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما السموات السبع، والأرضون السبع، وما فيهن، وما بينهن، في يد الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم. وفي حديث آخر أنه يرميها كما يرمي الصبيان الكرة. فمن يكون جميع المخلوقات بالنسبة إلى قبضته تعالى، إلى هذا الحقر والصغار، كيف تحيط به وتحصره؟ ومن قال إن الله تعالى ليس في جهة، قيل له: ما تريد بذلك؟ فإن أراد بذلك أنه ليس فوق السموات ربّ يعبد، ولا على عرش إله، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم لم يعرج به إلى الله تعالى، والأيدي لا ترفع إلى الله تعالى في الدعاء، ولا تتوجه القلوب إليه- فهذا فرعوني معطل، جاحد لرب العالمين. وإن كان يعتقد أنه مقرّ به فهو جاهل متناقص في كلامه. ومن هنا دخل أهل الحلول والاتحاد وقالوا: إن الله تعالى بذاته في كل مكان، وإن وجود المخلوقات هو وجود الخالق. وإن قال: مرادي بقولي (ليس في جهة) أنه لا تحيط به المخلوقات فقد أصاب في هذا المعنى. وكذلك من قال إن الله تعالى متحيز أو قال ليس بمتحيز: إن أراد بقوله (متحيز) أن المخلوقات تحوزه وتحيط به فقد أخطأ، وإن أراد به منحاز عن المخلوقات، بائن عنها، عال عليها، فقد أصاب. ومن قال:(ليس بمتحيز) ، إن أراد المخلوقات لا تحوزه فقد أصاب، وإن أراد ليس ببائن عنها، بل هو لا داخل فيها، ولا خارج عنها، فقد أخطأ.
والناس في هذا الباب ثلاثة أصناف: أهل الحلول والاتحاد، وأهل النفي والجحود، وأهل الإيمان والتوحيد والسنة.
(1)
أخرجه البخاري في: الرقاق، 44- باب يقبض الله الأرض حديث 2039 ونصه: عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:«يقبض الله الأرض ويطوي السماء بيمينه. ثم يقول. أنا الملك. أين ملوك الأرض؟» .
وأخرجه مسلم في: صفات المنافقين وأحكامهم، حديث 23.
فأهل الحلول يقولون: إنه بذاته في كل مكان، وقد يقولون بالاتحاد والوحدة، فيقولون: وجود المخلوقات وجود الخالق.
وأما أهل النفي والجحود فيقولون: لا هو داخل العالم، ولا خارج، ولا مباين له، وهذا قول متكلمة الجهمية المعطلة، كما أن الأول قول عباد الجهمية. فمتكلمة الجهمية لا يعبدون شيئا، ومتعبّدة الجهمية يعبدون كل شيء، وكلامهم يرجع إلى التعطيل والجحود، الذي هو قول فرعون. وقد علم أن الله تعالى كان قبل أن يخلق السموات والأرض، ثم خلقهما، فإما أن يكون دخل فيهما، وهذا حلول باطل، وإما أن يكونا دخلا فيه، وهو أبطل وأبطل، وإما أن يكون الله سبحانه بائنا عنهما، لم يدخل فيهما، ولم يدخلا فيه، وهذا قول أهل الحق والتوحيد والسنة.
ولأهل الجحود والتعطيل في هذا الباب شبهات يعارضون بها كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما أجمع عليه سلف الأمة وأئمتها، وما فطر الله تعالى عليه عباده، وما دلت عليه الدلائل العقلية الصحيحة، فإن هذه الأدلة كما متفقة على أن الله تعالى فوق مخلوقاته، عال عليها، قد فطر الله تعالى على ذلك العجائز والأعراب والصبيان في الكتاب، كما فطرهم على الإقرار بالخالق تعالى.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح «1» : كل مولود يولد على الفطرة، فأبوه يهودانه أو ينصرانه أو يمجّسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟
ثم قال أبو هريرة رضي الله عنه: اقرءوا إن شئتم فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ [الروم: 30]، وهذا معنى قول عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى:
عليك بدين الأعراب والصبيان في الكتّاب، عليك بما فطرهم الله تعالى عليه، فإن الله سبحانه فطر عباده على الحق، والرسل بعثوا بتكميل الفطرة وتقريرها، لا بتحويل الفطرة وتغييرها. وأما أعداء الرسل كالجهمية الفرعونية ونحوهم، فيريدون أن يغيروا فطرة الله تعالى، ودينه عز وجل، ويوردون على الناس شبهات بكلمات مشتبهات، لا
(1)
أخرجه البخاري في: الجنائز، 79- باب إذا أسلم الصبيّ فمات هل يصلّى عليه، حديث 716 ونصه: أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما من مولود إلا يولد على الفطرة.
فأبواه يهوّدانه أو ينصرانه أو يمجسانه. كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء. هل تحسون فيها من جدعاء» ؟.
ثم يقول أبا هريرة رضي الله عنه: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها، لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ، ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ.
وأخرجه مسلم في: القدر، حديث رقم 22.
يفهم كثير من الناس مقصودهم بها، ولا يحسن أن يجيبهم. وقد بسط الكلام عليهم في غير هذا الموضع. وأصل ضلالهم تكلمهم بكلمات مجملة لا أصل لها في كتاب الله تعالى، ولا سنة رسوله عليه الصلاة والسلام، ولا قالها أحد من أئمة المسلمين.
كلفظ: المتحيز والجسم والجهة ونحو ذلك. فمن كان عارفا بحال شبهاتهم بيّنها، ومن لم يكن عارفا بذلك فليعرض عن كلامهم، ولا يقبل إلا ما جاء به الكتاب والسنة، كما قال تعالى: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ [الأنعام: 68] . ومن تكلم في الله تعالى وأسمائه وصفاته بما يخالف الكتاب والسنة، فهو من الخائضين في آيات الله تعالى بالباطل، وكثير من هؤلاء ينسب إلى أئمة المسلمين ما لم يقولوه. وكثير منهم قرءوا كتبا من كتب الكلام، فيها شبهات أضلتهم، ولم يهتدوا لجوابهم، فإنهم يجدون في تلك الكتب أنه لو كان الله تعالى فوق الخلق للزم التجسيم والتحيز والجهة، وهم لا يعرفون حقائق هذه الألفاظ، ولا ما أراد بها أصحابها، فإن ذكر لفظ (الجسم) في أسماء الله تعالى وصفاته، بدعة لم ينطق بها كتاب ولا سنة، ولا قالها أحد من سلف الأمة وأئمتها، ولم يقل أحد منهم إن الله تعالى جسم ولا أن الله تعالى ليس بجسم، ولا أن الله تعالى جوهر، ولا أن الله تعالى ليس بجوهر. ولفظ الجسم لفظ مجمل، فمعناه في اللغة هو البدن. ومن قال إن الله تعالى مثل بدن الإنسان فهو مفتر على الله عز وجل، بل من قال إن الله تعالى يماثل شيئا من مخلوقاته فهو مفتر على الله ضال، ومن قال إن الله تعالى ليس بجسم، وأراد بذلك أنه لا يماثل شيئا من المخلوقات، فالمعنى صحيح، وإن كان اللفظ بدعة. وأما من قال إن الله تعالى ليس بجسم، وأراد بذلك أنه لا يرى في الآخرة، وأنه لم يتكلم بالقرآن العربي، بل القرآن العربي مخلوق، أو هو تصنيف جبريل عليه السلام، أو نحو ذلك، فهو مفتر على الله تعالى فيما نفاه عنه. وهذا أصل ضلال الجهمية من المعتزلة، ومن وافقهم على مذهبهم، فإنهم يظهرون للناس التنزيه، وحقيقة كلامهم التعطيل، فيقولون: نحن لا نجسّم، بل نقول: الله ليس بجسم، ومرادهم بذلك نفي حقيقة أسمائه وصفاته.
إلى أن قال: فهو سبحانه موصوف بصفات الكمال، منزه عن كل نقص وعيب، ولهذا كان مذهب سلف الأمة وأئمتها أنهم يصفون الله تعالى بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، فيثبتون ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات، وينزهونه عما نزه عنه نفسه من مماثلة المخلوقات، إثبات بلا تمثيل، وتنزيه بلا تعطيل. قال عز شأنه:
لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: 11]، فقوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ رد على الممثلة. وقوله تعالى: وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ رد على المعطلة- انتهى ملخصا-.
قال رضي الله عنه (في جواب على سؤال رفع إليه نصه: الاستواء هل هو حقيقة أو مجاز؟) : ما نصه ملخصا:
القول في الاستواء والنزول كالقول في سائر الصفات التي وصف بها نفسه في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن الله تعالى سمى نفسه بأسماء، ووصف نفسه بصفات، فالقول في بعض هذه الصفات، كالقول في بعض. ومذهب سلف الأمة وأئمتها أن نصف الله تعالى بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل، فلا يجوز نفي صفات الله تعالى التي وصف بها نفسه، ولا يجوز تمثيلها بصفات المخلوقين. ومعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أنه لا يجوز إطلاق النفي على ما أثبته الله تعالى لنفسه من الأسماء الحسنى والصفات، بل هذا جحد للخالق، وتمثيل له بالمعدومات. وقد قال ابن عبد البر:
أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة والإيمان بها، وحملها على الحقيقة لا على المجاز، لأنهم لا ينفون شيئا من ذلك، ولا يجدون فيه صفة محصورة. وأما أهل البدع من الجهمية والمعتزلة والخوارج، فينكرونها ولا يحملونها على الحقيقة، ويزعمون أن من أقرّ بها مشبه، وهم عند من أقرّ بها، نافون للمعبود، لا مثبتون. والحق فيما قاله القائلون، مما نطق به الكتاب والسنة، وهم أئمة الجماعة. هذا الذي حكاه ابن عبد البر.
ومن أنكر أن يكون شيء من هذه الأسماء والصفات حقيقة، فإنما أنكر، لجهله لمسمى الحقيقة، أو لكفره وتعطيله لما يستحقه رب العالمين. وذلك أنه قد يظن أن إطلاق ذلك يقتضي أن يكون المخلوق مماثلا للخالق، فيقال له: هذا باطل، فإن الله موجود حقيقة، والعبد موجود حقيقة، وله تعالى ذات حقيقة، والعبد له ذات حقيقة، وليس ذاته تعالى كذات المخلوقات، وكذلك له علم وسمع وبصر حقيقة، وللعبد سمع وبصر وعلم حقيقة، وليس علمه وسمعه وبصره مثل علم العبد وسمعه وبصره. ولله كلام حقيقة، وليس كلام الخالق مثل كلام المخلوقين. والله استوى على عرشه حقيقة، وللعبد استواء على الفلك حقيقة، وليس استواء الخالق كاستواء المخلوق. فإن الله لا يفتقر إلى شيء، ولا يحتاج إلى شيء، بل هو الغني عن كل شيء، والله تعالى يحمل العرش وحملته، بقدرته ويُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ
أَنْ تَزُولا
[فاطر: 41] . فمن ظن أن معنى قول الأئمة (الله مستو على عرشه حقيقة) يقتضي أن يكون استواؤه مثل استواء العبد على الفلك والأنعام، لزمه أن يكون قولهم: إن الله له علم حقيقة وسمع وبصر حقيقة وكلام حقيقة، يقتضي أن يكون علمه وسمعه وبصره وكلامه مثل علم المخلوقين وسمعهم وبصرهم وكلامهم، فمن ظن أن الحقيقة إنما تتناول صفة العبد المخلوقة دون صفة الخالق، كان في غاية الجهل، فإن صفة الله أكمل وأتم وأحق بهذه الأسماء الحسنى، فلا نسبة بين صفة العبد وصفة الرب، كما لا نسبة بين ذاته وذاته. فكيف يكون العبد مستحقّا للأسماء الحسنى حقيقة، والرب لا يستحق ذلك إلا مجازا؟ ومعلوم أن كل كمال حصل للمخلوق فهو من الخالق سبحانه وتعالى، فله المثل الأعلى. فكل كمال حصل للمخلوق، فالخالق أحق به، وكل نقص ينزه عنه مخلوق، فالحق أحق أن ينزه عنه، ولهذا كان لله المثل الأعلى، فإنه لا يقاس بخلقه، ولا يمثل بهم، ولا تضرب به الأمثال، فلا يشترك هو والمخلوق بمثل ولا في قياس. ومذهب أهل السنة والجماعة إثبات الصفات لله تبارك وتعالى، بل صفات الكمال لازمة لذاته، يمتنع ثبوت ذاته بدون صفات الكمال اللازمة له، بل يمتنع تحقق ذات من الذات عريّة عن جميع الصفات، وهذا كله مبسوط في غير هذا الموضع. فإذا قال: وجود الله، وذات الله، وعلم الله، وقدرة الله، وسمع الله، وبصر الله، وكلام الله، ورحمة الله، وغضب الله، واستواء الله، ونزول الله ومحبة الله، ونحو ذلك، كانت هذه الأسماء كلها حقيقة لله تعالى من غير أن يدخل فيها شيء من المخلوقات، ومن غير أن يماثله فيها شيء من المخلوقات. وإذا قال: وجود العبد وذاته وماهيته وعلمه وقدرته وسمعه وبصره وكلامه واستواؤه ونزوله، كان هذا حقيقة للعبد مختصة به، من غير أن تماثل صفاته صفات الله تعالى. بل أبلغ من ذلك، أن الله أخبر أن في الجنة من المطاعم والمشارب والملابس والمناكح والمساكن ما ذكره في كتابه. كما ذكر أن فيها لبنا وعسلا وخمرا ولحما وحريرا وذهبا وفضة وحورا وقصورا وغير ذلك. وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: ليس في الدنيا مما في الآخرة إلا الأسماء. فتلك الحقائق التي في الجنة ليست مماثلة لهذه الحقائق التي في الدنيا، وإن كانت مشابهة لها من بعض الوجوه، والاسم يتناولهما حقيقة، ومعلوم أن الخالق أبعد عن مشابهة المخلوق، والمخلوق عن مشابهة الخالق. فكيف يجوز أن يظن أن فيما أثبته الله تعالى من أسمائه وصفاته مماثلا لمخلوقاته، وأن يقال ليس ذلك بحقيقة! وهل يكون أحق بهذا الأسماء الحسنى والصفات العليا من رب السموات والأرض، مع أن
مباينتهما للمخلوقات أعظم من مباينة كل مخلوق لكل مخلوق؟ والجاهل يضل بأن يقول: العرب إنما وضعوا لفظ (الاستواء) لاستواء الإنسان على السرير أو الفلك، أو استواء السفينة على الجوديّ، ولنحو ذلك من استواء بعض المخلوقات. فهو كما يقول القائل: إنما وضعوا لفظ السمع والبصر والكلام لما يكون محله حدقة وأجفانا، وأصمخة وآذانا، وشفتين ولسانا، وإنما وضعوا لفظ العلم والرحمة والإرادة لما يكون محله مضغة لحم وفؤاد،
وهذا كله جهل منه. فإن العرب إنما وضعت للإنسان ما أضافت إليه، فإذا قالت سمع العبد وبصره وكلامه وعلمه وإرادته ورحمته مما يختص به، يتناول ذلك خصائص العبد. وإذا قيل سمع الله وبصره وكلامه وعلمه وإرادته ورحمته، كان هذا متناولا لما يختص به الرب، لا يدخل في ذلك شيء من خصائص المخلوقين. وكذلك إذا قيل استواء الرب، فهذا الاستواء المضاف إلى الله كالعلم والسمع والبصر المضاف إلى الله. لا يجوز أن يتناول ذلك شيئا من خصائص المخلوقين وهؤلاء الجهال يمثلون في ابتداء فهمهم صفات الخالق بصفات المخلوق، ثم ينفون ذلك ويعطلونه، فلا يفهمون من ذلك إلا ما يختص بالمخلوق، وينفون مضمون ذلك، فيكونون قد جحدوا ما يستحقه الرب من خصائصه وصفاته، وألحدوا في أسماء الله تعالى وآياته، وخرجوا عن القياس العقلي، والنص الشرعي، فلا يبقى بأيديهم لا معقول صريح، ولا منقول صحيح. ثم لا بد لهم من إثبات بعض ما يثبته أهل الإثبات من الأسماء والصفات: فإذا أثبتوا البعض، ونفوا البعض، قيل لهم: ما الفرق بين ما أثبتموه وما نفيتموه؟ ولم كان هذا حقيقة، ولم يكن هذا حقيقة؟ لم يكن لهم جواب أصلا، وظهر بذلك جهلهم وضلالهم شرعا وعقلا. ونظائر هذا كثيرة، فمن ظن أن أسماء الله تعالى وأسماء صفاته، إذا كانت حقيقة لزم أن يكون مماثلا للمخلوقين، وأن تكون صفاته مماثلة لصفاتهم، كان من أجهل الناس، وكان أول كلامه سفسطة، وآخره زندقة لأنه يقتضي نفي جميع أسماء الله وصفاته، وهذا هو غاية الزندقة والإلحاد. وإن فرق بين صفة وصفة، مع تساويهما في أسباب الحقيقة والمجاز، كان متناقضا في قوله، متهافتا في مذهبه مشابها لمن آمن ببعض الكتاب، وكفر ببعض.
وإذا تأمل اللبيب الفاضل هذه الأمور، تبين له أن مذهب السلف والأئمة في غاية الاستقامة والسداد والصحة والاطّراد، وأنه مقتضى المعقول الصريح، والمنقول الصحيح، وأن من خالفه، كان مع تناقض قوله المختلف الذي يؤفك عنه من أفك خارجا عن موجب العقل والسمع، مخالفا للفطرة والشرع، والله يتم نعمته علينا وعلى سائر إخواننا المسلمين المؤمنين، ويجمع لنا ولهم خير الدنيا والآخرة- انتهى-.