الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قبل زماننا وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أي فنشأنا على طريقتهم، احتجاجا بالتقليد، وتعويلا عليه، فقد قطعنا العذر بما بيّنا من الآيات أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ أي أتؤاخذنا بما فعل آباؤنا من الشرك، وأسسوا من الباطل، أو بفعل آبائنا الذين أبطلوا تأثير العقول، وأقوال الرسل؟ والاستفهام للإنكار، أي أنت حكيم لا تأخذ الأبناء بفعل الآباء، وقد سلكنا طريقهم والحجة عليهم بما شرعوا لنا من الباطل. والمعنى:
أزلنا الشبهتين بأن الإقرار بالربوبية والتوحيد، هو في أصل فطرتكم، فلم لم ترجعوا إليه عند دعوة العقول والرسل؟ والفطرة أكبر دليل، فهي تسد باب الاعتذار بوجه ما.
لا سيما والتقليد عند قيام الدلائل، والقدرة على الاستدلال بها، مما لا مساغ له أصلا.
تنبيهات
الأول- وافق الإمام ابن كثير، في هذا المقام أيضا الجشمي في تفسيره، قال:
ويروي أصحاب الحديث عن أسلافهم من الآثار موقوفة ومرفوعة، ويجعلون ذلك تأويلا للآية، وهو أنه تعالى مسح ظهر آدم، فأخرج منه ذريته، أمثال الذر، فقال:
ألست بربكم؟ فقالوا: بلى طائعين. ثم أعادهم في صلب آدم. وإن تأويل الآية على ذلك.
قال: وقد ذكر مشايخنا رحمهم الله أن ذلك فاسد، وأن ظاهر الآية يخالف ذلك، وذكروا في الرواية ما نذكره. قالوا: فمما يدل على فساده وجوه:
منها: أنه لو كان حال كما ذكروا، لذكرناه، لأن مثل ذلك الأمر العظيم لا ينساه العاقل، خصوصا إذا كان إشهادا عليه، ليعمل به.
ومنها: ما ذكره شيخنا أبو عليّ، أن ظهر آدم لا يسع هذا الجمع العظيم، وهذا شنيع من الكلام.
ومنها: أنه ذكر أنه خلقنا من نطفة، وكل ولد ولد من أب ومن نطفة، فلو خلقهم ابتداء لا من شيء، لم يصح ذلك.
ومنها: أن الجزء الواحد، لا يجوز أن يكون حيّا عاقلا، لأن تلك البنية، لا تحمل الحياة، فلا بد من أن يكون مؤلفا من أجزاء، وحينئذ لا يصح أن يكون الجميع في ظهر آدم.
ومنها: أنه يفتح باب التناسخ، والقول بالرجعة، لأن لهم أن يقولوا: إذا جاز الإعادة ثمة، لم ينكر التناسخ.
ومنها: أنه لا بد أن يكون فيه فائدة، وفائدته أن يذكره ليجري على تلك الطريقة، وإذا لم يذكره بطلت فائدته.
ومنها: أن الاعتراف لا يصح إلا وقد تقدم حال لهم عرفوا ذلك، فكيف يصح في ابتداء الخلق، إلى غير ذلك مما لا يقبله العقل.
ثم قال: قال مشايخنا رحمهم الله: والآية ظاهرها بخلاف قولهم من وجوه:
منها: أنه قال: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ ولم يقل (من آدم) . وقال:
مِنْ ظُهُورِهِمْ ولم يقل (من ظهره) . وقال: ذُرِّيَّتَهُمْ ولم يقل (ذريته) .
ومنها: أنه قال: أَنْ تَقُولُوا يعني فعل ذلك، لكيلا تقولوا: إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ. وأي غفلة أعظم من أن جميع العقلاء لا يذكرون شيئا من ذلك.
ومنها: أنه قال: إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا ولم يكن لهم يومئذ أب مشرك. وكل ذلك يبين فساد ما قالوا. ولم يصحح أحد من مشايخنا هذه الرواية، ولا قبلها، بل ردها. غير أبي بكر أحمد بن عليّ، فإنه جوّز ذلك من غير قطع على صحته. غير أنه قال: ليس ذلك بتأويل الآية، وذكر أن فائدة ذلك أن يجروا على الأعراق الكريمة في شكر النعمة، والإقرار بالربوبية. كما قال: إنهم ولدوا على الفطرة. قال: وأخرجهم كالذر ثم الهمهم حتى قالوا بلى. انتهى ما قاله الجشمي.
الثاني- تدل الآية على فساد التقليد في الدين، وتدل على أنه تعالى أزال العذر، وأزاح العلة، وبعدها لا يعذر أحد. ذكره الجشمي.
الثالث- استدل بهذه الآية والأحاديث المتقدمة في معناها، أن معرفته تعالى فطرية ضرورية، قال تعالى: قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ [إبراهيم: 10]، وقال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان: 25] .
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ [المؤمنون: 86- 87] .
وعن عمران بن حصين قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لأبي: «يا حصين: كم تعبد اليوم إلها؟ قال أبي: سبعة ستا في الأرض، وواحدا في السماء؟ قال: فأيهم تعدّ لرغبتك ورهبتك؟ قال: الذي في السماء» - رواه الترمذي «1»
- فالله تعالى فطر الخلق كلهم
(1) أخرجه في: الدعوات، 69- باب حدثنا أحمد بن منيع.
على معرفته فطرة توحيد، حتى من خلق مجنونا مطبقا مصطلما لا يفهم شيئا، ما يحلف إلا به، ولا يلهج لسانه بأكثر من اسمه المقدس، فطرة بالغة.
قال التقي ابن تيمية: إن الإقرار والاعتراف بالخالق فطري ضروري في نفوس الناس. وإن كان بعض الناس قد يحصل له ما يفسد فطرته، حتى يحتاج إلى نظر يحصل له به المعرفة وهذا قول جمهور الناس، وعليه حذاق النظار أن المعرفة تحصل بالضرورة، وقد تحصل بالنظر لمن فسدت فطرته، كما اعترف بذلك خلائق من أئمة المتكلمين.
وقال أيضا: ذهب طوائف من النظار إلى أن معرفة الله واجبة، ولا طريق لها إلا بالنظر فأوجبوا النظر على كل أحد. وهذا القول إنما اشتهر في الأمة عن المعتزلة ونحوهم. ولهذا قال أبو جعفر السمناني وغيره: إيجاب الأشعري النظر في المعرفة بقية بقيت عليه من الاعتزال.
وذكر رحمه الله أن الذي يدل عليه كلامه الأئمة والسلف- وهو أعدل الأقوال- أن النظر يجب في حال دون حال، وعلى شخص دون شخص. فوجوبه من العوارض التي تجب على بعض الناس في بعض الأحوال، لا من اللوازم العامة. والذين أوجبوا النظر ليس معهم ما يدل على عموم وجوبه، إنما يدل على أنه قد يجب، كقوله تعالى: قُلِ انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [يونس: 101] . وقوله فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ [الطارق: 5] ، فإنه خطاب مع المتكبرين الجاحدين، أمروا بالنظر، ليعرفوا الحق، ويقرّوا به، ولا ريب أن النظر يجب على هؤلاء.
قال أبو حيّان التوحيدي في (مقابساته) في المقابسة الثانية والأربعين: قيل لأبي الخير: حدثنا عن معرفة الله، تقدس وعلا، ضرورة هي أم استدلال؟ فإن المتكلمين في هذا اختلفوا اختلافا شديدا، وتنابذوا عليه تنابذا بعيدا، ونحب أن يحصل لنا جواب، فيفسر على حد الاختصار مع البيان.
فقال: هي ضرورة من ناحية العقل، واستدلال من ناحية الحسّ. ولما كان كل مطلوب من العلم إما أن يطلب بالعقل في المعقول، أو بالحس في المحسوس، ساغ أن يظن مرة أن معرفته تعالى اكتساب واستدلال، لأن الحسن يتصفح ويستقوي بمؤازرة العقل ومظاهرته وتحصيله. وأن يظن تارة أنها ضرورة، فإن العقل السليم من الآفة، البريء من العاهة، يحث على الاعتراف بالله تقدس اسمه، ويحظر على صاحبه جحده وإنكاره والتشكك فيه لكن ضرورة لائقة بالعقل. لأن ضرورة العقل ليست