الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْمِثَالُ الْأَوَّلُ: إذَا اسْتَأْجَرَ مِنْهُ دَارًا مُدَّةَ سِنِينَ بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ، فَخَافَ أَنْ يَغْدِرَ بِهِ الْمُكْرِي فِي آخِرِ الْمُدَّةِ وَيَتَسَبَّبَ إلَى فَسْخِ الْإِجَارَة بِأَنْ يَظْهَرَ أَنَّهُ لَمْ تَكُنْ لَهُ وِلَايَةُ الْإِيجَارِ أَوْ أَنَّ الْمُؤَجَّرَ مِلْكٌ لِابْنِهِ أَوْ امْرَأَتِهِ أَوْ أَنَّهُ كَانَ مُؤَجَّرًا قَبْلَ إيجَارِهِ، وَيَتَبَيَّنُ أَنَّ الْمَقْبُوضَ أُجْرَةُ الْمِثْلِ لِمَا اسْتَوْفَاهُ مِنْ الْمُدَّةِ وَيَنْتَزِعُ الْمُؤَجَّرَ لَهُ مِنْهُ؛ فَالْحِيلَةُ فِي التَّخَلُّصِ مِنْ هَذِهِ الْحِيلَةِ أَنْ يُضَمِّنَهُ الْمُسْتَأْجِرُ دَرَكَ الْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ، فَإِذَا اُسْتُحِقَّتْ أَوْ ظَهَرَتْ الْإِجَارَةُ فَاسِدَةً رَجَعَ عَلَيْهِ بِمَا قَبَضَهُ مِنْهُ، أَوْ يَأْخُذُ إقْرَارَ مَنْ يَخَافُ مِنْهُ بِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي الْعَيْنِ وَأَنَّ كُلَّ دَعْوَى يَدَّعِيهَا بِسَبَبِهَا فَهِيَ بَاطِلَةٌ، أَوْ يَسْتَأْجِرُهَا مِنْهُ بِمِائَةِ دِينَارٍ مَثَلًا ثُمَّ يُصَارِفَهُ كُلَّ دِينَارٍ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، فَإِذَا طَالَبَهُ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ طَالَبَهُ هُوَ بِالدَّنَانِيرِ الَّتِي وَقَعَ عَلَيْهَا الْعَقْدُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَخَفْ مِنْ ذَلِكَ، وَلَكِنْ يَخَافُ أَنْ يَغْدِرَ بِهِ فِي آخِرِ الْمُدَّةِ، فَلْيُقَسِّطْ [مَبْلَغَ] الْأُجْرَةِ عَلَى عَدَدِ السِّنِينَ، وَيَجْعَلْ مُعْظَمَهَا لِلسَّنَةِ الَّتِي يَخْشَى غَدْرَهُ فِيهَا.
وَكَذَلِكَ إذَا خَافَ الْمُؤَجِّرُ أَنْ يَغْدِرَ الْمُسْتَأْجِرُ وَيَرْحَلَ فِي آخِرِ الْمُدَّةِ، فَلْيَجْعَلْ مُعْظَمَ الْأُجْرَةِ عَلَى الْمُدَّةِ الَّتِي يَأْمَنُ فِيهَا مِنْ رَحِيلِهِ، وَالْقَدْرَ الْيَسِيرَ مِنْهَا لِآخِرِ الْمُدَّةِ
[الْمِثَالُ الثَّانِي خَوْفُ رَبِّ الدَّارِ غَيْبَةَ الْمُسْتَأْجِرِ وَيَحْتَاجُ إلَى دَارِهِ]
الْمِثَالُ الثَّانِي: أَنْ يَخَافَ رَبُّ الدَّارِ غَيْبَةَ الْمُسْتَأْجِرِ، وَيَحْتَاجُ إلَى دَارِهِ فَلَا يُسَلِّمُهَا أَهْلُهُ إلَيْهِ، فَالْحِيلَةُ فِي التَّخَلُّصِ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُؤَجِّرَهَا رَبُّهَا مِنْ امْرَأَةِ الْمُسْتَأْجِرِ، وَيَضْمَنُ الزَّوْجُ أَنْ تَرُدَّ إلَيْهِ الْمَرْأَةُ الدَّارَ وَتُفْرِغَهَا مَتَى انْقَضَتْ الْمُدَّةُ، أَوْ تَضْمَنُ الْمَرْأَةُ ذَلِكَ إذَا اسْتَأْجَرَ الزَّوْجُ؛ فَمَتَى اسْتَأْجَرَ أَحَدُهُمَا وَضَمِنَ الْآخَرُ الرَّدَّ لَمْ يَتَمَكَّنْ أَحَدُهُمَا مِنْ الِامْتِنَاعِ، وَكَذَلِكَ إنْ مَاتَ الْمُسْتَأْجِرُ فَجَحَدَ وَرَثَتُهُ الْإِجَارَةُ وَادَّعَوْا أَنَّ الدَّارَ لَهُمْ نَفَعَ رَبَّ الدَّارِ كَفَالَةُ الْوَرَثَةِ وَضَمَانُهُمْ رَدَّ الدَّارِ إلَى الْمُؤَجِّرِ، فَإِنْ خَافَ الْمُؤَجِّرُ إفْلَاسَ الْمُسْتَأْجِرِ وَعَدَمَ تَمَكُّنِهِ مِنْ قَبْضِ الْأُجْرَةِ؛ فَالْحِيلَةُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ كَفِيلًا بِأُجْرَةِ مَا سَكَنَ أَبَدًا، وَيُسَمِّيَ أُجْرَةَ كُلِّ شَهْرٍ لِلضَّمِينِ، وَيُشْهِدَ عَلَيْهِ بِضَمَانِهِ
[الْمِثَالُ الثَّالِثُ أَذِنَ رَبُّ الدَّارِ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَكُونَ فِي الدَّارِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَخَافَ أَنْ لَا يُحْتَسَبَ مِنْ الْأُجْرَةِ]
الْمِثَالُ الثَّالِثُ: أَنْ يَأْذَنَ رَبُّ الدَّارِ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَكُونَ فِي الدَّارِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ أَوْ يَعْلِفَ الدَّابَّةَ بِقَدْرِ حَاجَتِهَا، وَخَافَ أَنْ لَا يَحْتَسِبَ لَهُ ذَلِكَ مِنْ الْأُجْرَةِ؛ فَالْحِيلَةُ فِي اعْتِدَادِهِ بِهِ عَلَيْهِ أَنْ يُقَدِّرَ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الدَّابَّةُ أَوْ الدَّارُ، وَيُسَمِّي لَهُ قَدْرًا مَعْلُومًا، وَيَحْسِبَهُ مِنْ الْأُجْرَةِ، وَيُشْهِدَ عَلَى الْمُؤَجِّرِ أَنَّهُ قَدْ وَكَّلَهُ فِي صَرْفِ ذَلِكَ الْقَدْرِ فِيمَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ الدَّارُ أَوْ الدَّابَّةُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَلْ تُجَوِّزُونَ لِمَنْ لَهُ دَيْنٌ عَلَى رَجُلٍ أَنْ يُوَكِّلَهُ فِي الْمُضَارَبَةِ بِهِ أَوْ الصَّدَقَةِ بِهِ أَوْ إبْرَاءِ نَفْسِهِ مِنْهُ أَوْ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ شَيْئًا، وَيَبْرَأَ الْمَدِينُ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ؟
قِيلَ: هَذَا مِمَّا اُخْتُلِفَ فِيهِ وَفِي صُورَةِ الْمُضَارَبَةِ بِالدَّيْنِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ؛ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ قَبْضَ الْإِنْسَانِ مِنْ نَفْسِهِ وَإِبْرَائِهِ لِنَفْسِهِ مِنْ دَيْنِ الْغَرِيمِ بِفِعْلِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ مَتَى أَخْرَجَ الدَّيْنَ وَضَارَبَ بِهِ فَقَدْ صَارَ الْمَالُ أَمَانَةً وَبَرِئَ مِنْهُ؛ وَكَذَلِكَ إذَا اشْتَرَى بِهِ شَيْئًا أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَهُوَ الرَّاجِحُ فِي الدَّلِيلِ، وَلَيْسَ فِي الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ مَا يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ ذَلِكَ، وَلَا يَقْتَضِي تَجْوِيزُهُ مُخَالَفَةَ قَاعِدَةٍ مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرْعِ، وَلَا وُقُوعًا فِي مَحْظُورٍ مِنْ رِبًا وَلَا قِمَارٍ وَلَا بَيْعِ غَرَرٍ، وَلَا مَفْسَدَةَ فِي ذَلِكَ بِوَجْهٍ مَا؛ فَلَا يَلِيقُ بِمَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ الْمَنْعُ مِنْهُ، وَتَجْوِيزُهُ مِنْ مَحَاسِنِهَا وَمُقْتَضَاهَا.
وَقَوْلُهُمْ: " إنَّهُ يَتَضَمَّنُ إبْرَاءَ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ بِفِعْلِ نَفْسِهِ " كَلَامٌ فِيهِ إجْمَالٌ يُوهِمُ أَنَّهُ هُوَ الْمُسْتَقِلُّ بِإِبْرَاءِ نَفْسِهِ، وَبِالْفِعْلِ الَّذِي بِهِ يَبْرَأُ، وَهَذَا إيهَامٌ؛ فَإِنَّهُ إنَّمَا بَرِئَ بِمَا أَذِنَ لَهُ رَبُّ الدَّيْنِ مِنْ مُبَاشَرَةِ الْفِعْلِ الَّذِي تَضَمَّنَ بَرَاءَتَهُ مِنْ الدَّيْنِ، فَأَيُّ مَحْذُورٍ فِي أَنْ يَفْعَلُ فِعْلًا أَذِنَ لَهُ فِيهِ رَبُّ الدَّيْنِ، وَمُسْتَحِقُّهُ يَتَضَمَّنُ بَرَاءَتَهُ؟ فَكَيْفَ يُنْكِرُ أَنْ يَقَعَ فِي الْأَحْكَامِ الضِّمْنِيَّةِ التَّبَعِيَّةِ مَا لَا يَقَعُ مِثْلُهُ فِي الْمَتْبُوعَاتِ، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُذْكَرَ؟ حَتَّى لَوْ وَكَّلَهُ أَوْ أَذِنَ لَهُ أَنْ يُبَرِّئَ نَفْسَهُ مِنْ الدَّيْنِ جَازَ وَمَلَكَ ذَلِكَ، كَمَا لَوْ وَكَّلَ الْمَرْأَةَ أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا؛ فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ طَلِّقِي نَفْسَك إنْ شِئْت، أَوْ يَقُولَ لِغَرِيمِهِ: أَبْرِي نَفْسَك إنْ شِئْت، وَقَدْ قَالُوا: لَوْ أَذِنَ لِعَبْدِهِ فِي التَّكْفِيرِ بِالْمَالِ مَلَكَ ذَلِكَ عَلَى الصَّحِيحِ، فَلَوْ أَذِنَ لَهُ فِي الْإِعْتَاقِ مَلَكَهُ، فَلَوْ أَعْتَقَ نَفْسَهُ صَحَّ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لَا يَصِحُّ لِمَانِعٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ الْوَلَاءَ لِلْمُعْتِقِ، وَالْعَبْدُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْوَلَاءِ، نَعَمُ الْمَحْذُورُ أَنْ يَمْلِكَ إبْرَاءَ نَفْسِهِ مِنْ الدَّيْنِ بِغَيْرِ رِضَا رَبِّهِ وَبِغَيْرِ إذْنِهِ؛ فَهَذَا هُوَ الْمُخَالِفُ لِقَوَاعِد الشَّرْعِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَالدَّيْنُ لَا يَتَعَيَّنُ، بَلْ هُوَ مُطْلَقٌ كُلِّيٌّ ثَابِتٌ فِي الذِّمَّةِ، فَإِذَا أَخْرَجَ مَالًا وَاشْتَرَى بِهِ أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ لَمْ يَتَعَيَّنْ أَنْ يَكُونَ هُوَ الدَّيْنُ، وَرَبُّ الدَّيْنِ لَمْ يُعَيِّنْهُ، فَهُوَ بَاقٍ عَلَى إطْلَاقِهِ.
قِيلَ: هُوَ فِي الذِّمَّةِ مُطْلَقٌ، وَكُلُّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهِ طَابَقَهُ صَحَّ أَنْ يُعَيَّنَ عَنْهُ وَيُجْزِئَ، وَهَذَا كَإِيجَابِ الرَّبِّ تَعَالَى الرَّقَبَةَ الْمُطْلَقَةَ فِي الْكَفَّارَةِ فَإِنَّهَا غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ، وَلَكِنْ أَيُّ رَقَبَةٍ عَيَّنَهَا الْمُكَلَّفُ وَكَانَتْ مُطَابِقَةً لِذَلِكَ الْمُطْلَقِ تَأَدَّى بِهَا الْوَاجِبُ.
وَنَظِيرُهُ هَاهُنَا أَنَّ أَيَّ فَرْدٍ عَيَّنَهُ وَكَانَ مُطَابِقًا لِمَا فِي الذِّمَّةِ تَعَيَّنَ وَتَأَدَّى بِهِ الْوَاجِبُ.
وَهَذَا كَمَا يَتَعَيَّنُ عِنْدَ الْأَدَاءِ إلَى رَبِّهِ، وَكَمَا يَتَعَيَّنُ عِنْدَ التَّوْكِيلِ فِي قَبْضِهِ؛ فَهَكَذَا يَتَعَيَّنُ عِنْدَ تَوْكِيلِهِ لِمَنْ هُوَ فِي ذِمَّتِهِ أَنْ يُعَيِّنَهُ ثُمَّ يُضَارِبَ بِهِ أَوْ يَتَصَدَّقَ أَوْ يَشْتَرِيَ بِهِ شَيْئًا؛ وَهَذَا مَحْضُ الْفِقْهِ وَمُوجَبُ الْقِيَاسِ، وَإِلَّا فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ تَعَيُّنِهِ إذَا وَكَّلَ الْغَيْرَ فِي قَبْضِهِ وَالشِّرَاءِ أَوْ التَّصَدُّقِ بِهِ وَبَيْنَ تَعْيِينِهِ إذَا وَكَّلَ مَنْ هُوَ فِي ذِمَّتِهِ أَنْ
يُعَيِّنَهُ وَيُضَارِبَ أَوْ يَتَصَدَّقَ بِهِ؟ فَهَلْ يُوجِبُ التَّفْرِيقَ فِقْهٌ أَوْ مَصْلَحَةٌ لَهُمَا أَوْ لِأَحَدِهِمَا أَوْ حِكْمَةٌ لِلشَّارِعِ فَيَجِبُ مُرَاعَاتُهَا؟
فَإِنْ قِيلَ: تَجَوَّزُوا عَلَى هَذَا أَنْ يَقُولَ لَهُ: اجْعَلْ الدَّيْنَ عَلَيْك رَأْسَ مَالِ السَّلَمِ فِي كَذَا وَكَذَا.
قِيلَ: شَرْطُ صِحَّةِ النَّقْضِ أَمْرَانِ؛ أَحَدُهُمَا أَنْ تَكُونَ الصُّورَةُ الَّتِي تَنْقُضُ بِهَا مُسَاوِيَةً لِسَائِرِ الصُّوَرِ فِي الْمَعْنَى الْمُوجِبِ لِلْحُكْمِ، الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِيهَا مَعْلُومًا بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ، وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ مُنْتَفٍ هَاهُنَا، فَلَا إجْمَاعَ مَعْلُومٌ فِي الْمَسْأَلَةِ وَإِنْ كَانَ قَدْ حُكِيَ وَلَيْسَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ؛ فَإِنَّ الْمَانِعَ مِنْ جَوَازِهَا رَأَى أَنَّهَا مِنْ بَابِ بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ، وَالْمُجَوِّزُ لَهَا يَقُولُ: لَيْسَ عَنْ الشَّارِعِ نَصٌّ عَامٌّ فِي الْمَنْعِ مِنْ بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ، وَغَايَةُ مَا وَرَدَ فِيهِ حَدِيثٌ وَفِيهِ مَا فِيهِ:«أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ» وَالْكَالِئُ: هُوَ الْمُؤَخَّرُ، وَهَذَا كَمَا إذَا كَانَ رَأْسُ مَالِ السَّلَمِ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْمُسْلِمِ، فَهَذَا هُوَ الْمَمْنُوعُ مِنْهُ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ شَغْلَ الذِّمَّتَيْنِ بِغَيْرِ مَصْلَحَةٍ لَهُمَا، وَأَمَّا إذَا كَانَ الدَّيْنُ فِي ذِمَّةِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ فَاشْتَرَى بِهِ شَيْئًا فِي ذِمَّتِهِ فَقَدْ سَقَطَ الدَّيْنُ مِنْ ذِمَّتِهِ وَخَلَفَهُ دَيْنٌ آخَرُ وَاجِبٌ فَهَذَا مِنْ بَابِ بَيْعِ السَّاقِطِ بِالْوَاجِبِ، فَيَجُوزُ كَمَا يَجُوزُ بَيْعُ السَّاقِطِ بِالسَّاقِطِ فِي بَابِ الْمُقَاصَّةِ، فَإِنْ بَنَى الْمُسْتَأْجِرُ أَوْ أَنْفَقَ عَلَى الدَّابَّةِ، وَقَالَ: أَنْفَقْتُ كَذَا وَكَذَا، وَأَنْكَرَ الْمُؤَجِّرُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُؤَجِّرِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ يَدَّعِي بَرَاءَةَ نَفْسِهِ مِنْ الْحَقِّ الثَّابِتِ عَلَيْهِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَلْ يَنْفَعُهُ إشْهَادُ رَبِّ الدَّارِ أَوْ الدَّابَّةِ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ مُصَدَّقٌ فِيمَا يَدَّعِي إنْفَاقَهُ؟ .
قِيلَ: لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَلَا يُصَدَّقُ أَنَّهُ أَنْفَقَ شَيْئًا إلَّا بِبَيِّنَةٍ؛ لِأَنَّ مُقْتَضَى الْعَقْدِ أَلَّا يُقْبَلَ قَوْلُهُ فِي الْإِنْفَاقِ، وَلَكِنْ يَنْتَفِعُ بَعْدَ الْإِنْفَاقِ بِإِشْهَادِ الْمُؤَجِّرِ أَنَّهُ صَادِقٌ فِيمَا يَدَّعِي أَنَّهُ أَنْفَقَهُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ أَنَّهُ بَعْدَ الْإِنْفَاقِ مُدَّعٍ، فَإِذَا صَدَّقَهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ نَفَعَهُ ذَلِكَ، وَقَبْلَ الْإِنْفَاقِ لَيْسَ مُدَّعِيًا، وَلَا يَنْفَعُهُ إشْهَادُ الْمُؤَجِّرِ بِتَصْدِيقِهِ فِيمَا سَوْفَ يَدَّعِيه فِي الْمُسْتَقْبَلِ؛ فَهَذَا شَيْءٌ وَذَاكَ شَيْءٌ آخَرُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الْحِيلَةُ عَلَى أَنْ يُصَدِّقَ الْمُؤَجِّرُ الْمُسْتَأْجِرَ فِيمَا يَدَّعِيه مِنْ النَّفَقَةِ؟
قِيلَ: الْحِيلَةُ أَنْ يُسْلِفَ الْمُسْتَأْجِرُ رَبَّ الدَّارِ أَوْ الْحَيَوَانِ مِنْ الْأُجْرَةِ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ، وَيُشْهِدَ عَلَيْهِ بِقَبْضِهِ، ثُمَّ يَدْفَعَ رَبُّ الدَّارِ إلَى الْمُسْتَأْجِرِ ذَلِكَ الَّذِي قَبَضَهُ مِنْهُ، وَيُوَكِّلَهُ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَى دَارِهِ أَوْ دَابَّتِهِ، فَيَصِيرَ أَمِينَهُ فَيُصَدِّقَهُ عَلَى مَا يَدَّعِيه إذَا كَانَ ذَلِكَ نَفَقَةَ