الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الطَّلَاقُ وَالْكُفْرُ وَإِنْ كَانَ هَازِلًا لِأَنَّهُ قَاصِدٌ لِلتَّكَلُّمِ بِاللَّفْظِ وَهَزْلُهُ لَا يَكُونُ عُذْرًا لَهُ، بِخِلَافِ الْمُكْرَهِ وَالْمُخْطِئِ وَالنَّاسِي فَإِنَّهُ مَعْذُورٌ مَأْمُورٌ بِمَا يَقُولُهُ أَوْ مَأْذُونٌ لَهُ فِيهِ، وَالْهَازِلُ غَيْرُ مَأْذُونٍ لَهُ فِي الْهَزْلِ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ وَالْعُقُودِ؛ فَهُوَ مُتَكَلِّمٌ بِاللَّفْظِ مَرِيدٌ لَهُ وَلَمْ يَصْرِفْهُ عَنْ مَعْنَاهُ إكْرَاهٌ وَلَا خَطَأٌ وَلَا نِسْيَانٌ وَلَا جَهْلٌ، وَالْهَزْلُ لَمْ يَجْعَلْهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ عُذْرًا صَارِفًا، بَلْ صَاحِبُهُ أَحَقُّ بِالْعُقُوبَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَذَرَ الْمُكْرَهَ فِي تَكَلُّمِهِ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ إذَا كَانَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ، وَلَمْ يَعْذِرْ الْهَازِلَ بَلْ قَالَ:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة: 65]{لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 66] وَكَذَلِكَ رَفَعَ الْمُؤَاخَذَةَ عَنْ الْمُخْطِئِ وَالنَّاسِي.
[فَصْلٌ تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ بِشَرْطٍ مُضْمَرٍ]
فَصْلٌ
[تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ بِشَرْطٍ مُضْمَرٍ]
وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: " أَنْتِ طَالِقٌ " وَقَالَ: أَرَدْت إنْ كَلَّمْت رَجُلًا أَوْ خَرَجْت مِنْ دَارِي، لَمْ يَقَعْ بِهِ الطَّلَاقُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَرَدْت إنْ شَاءَ اللَّهُ، فَفِيهِ وَجْهَانِ لَهُمْ، وَنَصَّ الشَّافِعِيُّ فِيمَا لَوْ قَالَ:" إنْ كَلَّمْت زَيْدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ " ثُمَّ قَالَ: أَرَدْت بِهِ إلَى شَهْرٍ، فَكَلَّمَهُ بَعْدَ شَهْرٍ، لَمْ تَطْلُقْ بَاطِنًا، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ هَذِهِ الصُّورَةِ وَالصُّورَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَهَا، فَإِنَّ التَّقْيِيدَ بِالْغَايَةِ الْمَنْوِيَّةِ كَالتَّقْيِيدِ بِالْمَشِيئَةِ الْمَنْوِيَّةِ، وَهُوَ أَوْلَى بِالْجَوَازِ مِنْ تَخْصِيصِ الْعَامِّ بِالنِّيَّةِ، كَمَا إذَا قَالَ:" نِسَائِي طَوَالِقُ " وَاسْتَثْنَى بِقَلْبِهِ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ، فَإِنَّهُ إذَا صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ بِالنِّيَّةِ فِي إخْرَاجِ مَا يَتَنَاوَلُهُ اللَّفْظُ صَحَّ التَّقْيِيدُ بِالنِّيَّةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى؛ فَإِنَّ اللَّفْظَ لَا دَلَالَةَ لَهُ بِوَضْعِهِ عَلَى عُمُومِ الْأَحْوَالِ وَالْأَزْمَانِ، وَلَوْ دَلَّ عَلَيْهَا بِعُمُومِهِ فَإِخْرَاجُ بَعْضِهَا تَخْصِيصٌ لِلْعَامِّ، وَهَذَا ظَاهِرٌ جِدًّا، وَغَايَتُهُ اسْتِعْمَالُ الْعَامِّ فِي الْخَاصِّ أَوْ الْمُطْلَقِ فِي الْمُقَيَّدِ، وَذَلِكَ غَيْرُ بِدْعٍ لُغَةً وَشَرْعًا وَعُرْفًا، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم:«أَمَّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ لَا مَالَ لَهُ، وَأَمَّا أَبُو الْجَهْمِ فَلَا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ» فَالصَّوَابُ قَبُولُ مِثْلِ هَذَا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ وَفِي الْحُكْمِ أَيْضًا.
[فَصْلٌ الْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ وَبِالْحَرَامِ لَهُ صِيغَتَانِ]
فَصْلٌ
[لِلْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ وَبِالْحَرَامِ صِيغَتَانِ]
قَدْ عُرِفَ أَنَّ الْحَلِفَ بِالطَّلَاقِ لَهُ صِيغَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا: إنْ فَعَلْت كَذَا وَكَذَا فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَالثَّانِيَةُ الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَا أَفْعَلُ كَذَا، وَأَنَّ الْخِلَافَ فِي الصِّيغَتَيْنِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، وَهَكَذَا
الْحَلِفُ بِالْحَرَامِ لَهُ صِيغَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا: إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ، أَوْ مَا أَحَلَّ اللَّهُ عَلَيَّ حَرَامٌ، وَالثَّانِيَةُ: الْحَرَامُ يَلْزَمُنِي لَا أَفْعَلُ كَذَا، فَمَنْ قَالَ فِي " الطَّلَاقِ يَلْزَمُنِي " إنَّهُ لَيْسَ بِصَرِيحٍ وَلَا كِنَايَةَ وَلَا يَقَعُ بِهِ شَيْءٌ فَفِي قَوْلِهِ " الْحَرَامُ يَلْزَمُنِي " أَوْلَى، وَمَنْ قَالَ إنَّهُ كِنَايَةٌ إنْ نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ كَانَ طَلَاقًا وَإِلَّا فَلَا فَهَكَذَا يَقُولُ فِي " الْحَرَامِ يَلْزَمُنِي " إنْ نَوَى بِهِ التَّحْرِيمَ كَانَ كَمَا لَوْ نَوَى بِالطَّلَاقِ التَّطْلِيقَ، فَكَأَنَّهُ الْتَزَمَ أَنْ يُحَرِّمَ كَمَا الْتَزَمَ ذَلِكَ أَنْ يُطَلِّقَ؛ فَهَذَا الْتِزَامٌ لِلتَّحْرِيمِ وَذَلِكَ الْتِزَامٌ لِلتَّطْلِيقِ، وَإِنْ نَوَى بِهِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيَّ يَلْزَمُنِي تَحْرِيمُهُ لَمْ يَكُنْ يَمِينًا وَلَا تَحْرِيمًا وَلَا طَلَاقًا وَلَا ظِهَارًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ بِغَيْرِ لَفْظٍ لَمْ يُوضَعْ لِلطَّلَاقِ وَلَا نَوَاهُ، وَتَلْزَمُهُ كَفَّارَةُ يَمِينِ حُرْمَةٍ لِشِدَّةِ الْيَمِينِ؛ إذْ لَيْسَتْ كَالْحَلِفِ بِالْمَخْلُوقِ الَّتِي لَا تَنْعَقِدُ وَلَا هِيَ مِنْ لَغْوِ الْيَمِينِ وَهِيَ يَمِينٌ مُنْعَقِدَةٌ فَفِيهَا كَفَّارَةُ يَمِينٍ.
وَبِهَذَا أَفْتَى ابْنُ عَبَّاسٍ وَرَفَعَهُ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ فَصَحَّ عَنْهُ بِأَصَحِّ إسْنَادٍ «الْحَرَامُ يَمِينٌ يُكَفِّرُهَا» ثُمَّ قَالَ: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ.
وَهَكَذَا حُكْمُ قَوْلِهِ: " إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ " وَهَذَا أَوْلَى بِكَفَّارَةِ يَمِينٍ مِنْ قَوْلِهِ: " أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ ". وَفِي قَوْلِهِ: " أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ " أَوْ: " مَا أَحَلَّ اللَّهُ عَلَيَّ حَرَامٌ " أَوْ: " أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ " مَذَاهِبُ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَغْوٌ وَبَاطِلٌ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَبِهِ قَالَ مَسْرُوقٌ وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَعَطَاءٌ وَالشَّعْبِيُّ وَدَاوُد وَجَمِيعُ أَهْلِ الظَّاهِرِ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الْمَالِكِيَّةِ اخْتَارَهُ أَصْبَغُ بْنُ الْفَرَجِ.
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ «سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: إذَا حَرَّمَ امْرَأَتَهُ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ، لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ» ، وَصَحَّ عَنْ مَسْرُوقٍ أَنَّهُ قَالَ: مَا أُبَالِي أَحَرَّمْت امْرَأَتِي أَوْ قَصْعَةً مِنْ ثَرِيدٍ، وَصَحَّ عَنْ الشَّعْبِيِّ فِي تَحْرِيمِ الْمَرْأَةِ: لَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيَّ مِنْ نَعْلِي.
وَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ: مَا أُبَالِي أَحَرَّمْت امْرَأَتِي أَوْ حَرَّمْت مَاءَ النَّهْرِ.
وَقَالَ الْحَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ: إنَّ رَجُلًا جَعَلَ امْرَأَتَهُ عَلَيْهِ حَرَامًا، فَسَأَلَ عَنْ ذَلِكَ حُمَيْدٍ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَقَالَ لَهُ حُمَيْدٍ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} [الشرح: 7]{وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح: 8] وَأَنْتَ رَجُلٌ تَلْعَبُ فَاذْهَبْ فَالْعَبْ.
فَصْلٌ
الْمَذْهَبُ الثَّانِي: أَنَّهَا ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَابْنِ عُمَرَ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، وَقَضَى فِيهَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ بِالثَّلَاثِ فِي عَدِيِّ بْنِ قَيْسٍ الْكِلَابِيِّ وَقَالَ لَهُ: وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَئِنْ مَسِسْتَهَا قَبْلَ أَنْ تَتَزَوَّجَ غَيْرَك لَأَرْجُمَنَّك، وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهَا لَا تُحَرَّمُ عَلَيْهِ إلَّا بِالثَّلَاثِ، فَكَانَ وُقُوعُ الثَّلَاثِ مِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِهَا حَرَامًا عَلَيْهِ.
الْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: أَنَّهَا بِهَذَا الْقَوْلِ حَرَامٌ عَلَيْهِ، صَحَّ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَالْحَسَنِ وَخِلَاسِ بْنِ عَمْرٍو وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَقَتَادَةَ، وَلَمْ يَذْكُرْ هَؤُلَاءِ طَلَاقًا، بَلْ أَمَرُوهُ بِاجْتِنَابِهَا فَقَطْ.
وَصَحَّ ذَلِكَ أَيْضًا عَنْ عَلِيٍّ عليه السلام، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَنْهُ رِوَايَتَانِ، أَوْ يَكُونَ أَرَادَ تَحْرِيمَ الثَّلَاثِ، وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ لَفْظَهُ إنَّمَا اقْتَضَى التَّحْرِيمَ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِعَدَدِ الطَّلَاقِ؛ فَحُرِّمَتْ عَلَيْهِ بِمُقْتَضَى تَحْرِيمِهِ.
الْمَذْهَبُ الرَّابِعُ: الْوَقْفُ فِيهَا، صَحَّ ذَلِكَ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ أَيْضًا، وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: يَقُولُ رِجَالٌ فِي " الْحَلَالُ حَرَامٌ " إنَّهَا حَرَامٌ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، وَيَنْسُبُونَهُ إلَى عَلِيٍّ، وَاَللَّهِ مَا قَالَ ذَلِكَ عَلِيٌّ، إنَّمَا قَالَ: مَا أَنَا بِمُحِلِّهَا وَلَا بِمُحَرِّمِهَا عَلَيْك، إنْ شِئْت فَتَقَدَّمْ وَإِنْ شِئْت فَتَأَخَّرْ. وَحُجَّةُ هَؤُلَاءِ أَنَّ التَّحْرِيمَ لَيْسَ بِطَلَاقٍ، وَهُوَ لَا يَمْلِكُ تَحْرِيمَ الْحَلَالِ، وَإِنَّمَا يَمْلِكُ إنْشَاءَ السَّبَبِ الَّذِي يُحَرِّمُ بِهِ وَهُوَ الطَّلَاقُ، وَهَذَا لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي الطَّلَاقِ، وَلَا هُوَ مِمَّا ثَبَتَ لَهُ عُرْفُ الشَّرْعِ فِي تَحْرِيمِ الزَّوْجَةِ، فَاشْتَبَهَ الْأَمْرُ فِيهِ.
الْمَذْهَبُ الْخَامِسُ: إنْ نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ فَهُوَ طَلَاقٌ، وَإِلَّا فَهُوَ يَمِينٌ، وَهَذَا قَوْلُ طَاوُسٍ وَالزُّهْرِيِّ وَالشَّافِعِيِّ وَرِوَايَةٌ عَنْ الْحَسَنِ، وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ كِنَايَةٌ فِي الطَّلَاقِ، فَإِنْ نَوَاهُ بِهِ كَانَ طَلَاقًا، وَإِنْ لَمْ يَنْوِهِ كَانَ يَمِينًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1] إلَى قَوْلِهِ: {تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] .
الْمَذْهَبُ السَّادِسُ: أَنَّهُ إنْ نَوَى بِهَا الثَّلَاثَ فَثَلَاثٌ، وَإِنْ نَوَى وَاحِدَةً فَوَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ، وَإِنْ نَوَى يَمِينًا فَهُوَ يَمِينٌ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا فَهِيَ كَذِبَةٌ لَا شَيْءَ فِيهَا، قَالَهُ سُفْيَانُ وَحَكَاهُ النَّخَعِيُّ عَنْ أَصْحَابِهِ، وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ اللَّفْظَ يَحْتَمِلُ لِمَا نَوَاهُ مِنْ ذَلِكَ فَيَتْبَعُ نِيَّتَهُ.
الْمَذْهَبُ السَّابِعُ: مِثْلُ هَذَا، إلَّا أَنَّهُ إنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا فَهُوَ يَمِينٌ يُكَفِّرُهَا، وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ، وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ ظَاهِرٌ قَوْله تَعَالَى:{قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] فَإِذَا نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ لَمْ يَكُنْ يَمِينًا، فَإِذَا طَلَّقَ وَلَمْ يَنْوِ الطَّلَاقَ كَانَ يَمِينًا.
الْمَذْهَبُ الثَّامِنُ: مِثْلُ هَذَا أَيْضًا، إلَّا أَنَّهُ إنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا فَوَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ إعْمَالًا لِلَفْظِ التَّحْرِيمِ.
الْمَذْهَبُ التَّاسِعُ: أَنَّ فِيهِ كَفَّارَةَ الظِّهَارِ، وَصَحَّ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَأَبِي قِلَابَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ وَعُثْمَانَ التَّيْمِيِّ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ تَشْبِيهَ الْمَرْأَةِ بِأُمِّهِ الْمُحَرَّمَةِ عَلَيْهِ ظِهَارًا، وَجَعَلَهُ مُنْكَرًا مِنْ الْقَوْلِ وَزُورًا، فَإِذَا كَانَ التَّشْبِيهُ بِالْمُحَرَّمَةِ يَجْعَلُهُ مُظَاهِرًا فَإِذَا صَرَّحَ بِتَحْرِيمِهَا كَانَ أَوْلَى بِالظِّهَارِ.
وَهَذَا أَقْيَسُ الْأَقْوَالِ وَأَفْقَهُهَا، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ لِلْمُكَلَّفِ التَّحْرِيمَ وَالتَّحْلِيلَ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ إلَيْهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا جَعَلَ لَهُ مُبَاشَرَةَ الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا التَّحْرِيمُ وَالتَّحْلِيلُ، فَالسَّبَبُ إلَى الْعَبْدِ، وَحُكْمُهُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى؛ فَإِذَا قَالَ " أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي " أَوْ قَالَ " أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ " فَقَدْ قَالَ الْمُنْكَرَ مِنْ الْقَوْلِ وَالزُّورَ، وَكَذَبَ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْهَا كَظَهْرِ أُمِّهِ، وَلَا جَعَلَهَا عَلَيْهِ حَرَامًا، فَأَوْجَبَ عَلَيْهِ بِهَذَا الْقَوْلِ مِنْ الْمُنْكَرِ وَالزُّورِ أَغْلَظَ الْكَفَّارَتَيْنِ، وَهِيَ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ.
الْمَذْهَبُ الْعَاشِرُ: أَنَّهَا تَطْلِيقَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَقَوْلِ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ شَيْخِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ تَطْلِيقَ التَّحْرِيمِ لَا يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ بِالثَّلَاثِ، بَلْ يَصْدُقُ بِأَقَلِّهِ، وَالْوَاحِدَةُ مُتَيَقَّنَةٌ؛ فَحُمِلَ اللَّفْظُ عَلَيْهَا لِأَنَّهَا الْيَقِينُ؛ فَهُوَ نَظِيرُ التَّحْرِيمِ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ.
الْمَذْهَبُ الْحَادِيَ عَشَرَ: أَنَّهُ يَنْوِي مَا أَرَادَهُ مِنْ ذَلِكَ فِي إرَادَةِ أَصْلِ الطَّلَاقِ وَعَدَدِهِ، وَإِنْ نَوَى تَحْرِيمًا بِغَيْرِ طَلَاقٍ فَيَمِينٌ مُكَفِّرَةٌ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ اللَّفْظَ صَالِحٌ لِذَلِكَ كُلِّهِ؛ فَلَا يَتَعَيَّنُ وَاحِدٌ مِنْهَا إلَّا بِالنِّيَّةِ، فَإِنْ نَوَى تَحْرِيمًا مُجَرَّدًا كَانَ امْتِنَاعًا مِنْهَا بِالتَّحْرِيمِ كَامْتِنَاعِهِ بِالْيَمِينِ، وَلَا تُحَرَّمُ عَلَيْهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ.
الْمَذْهَبُ الثَّانِي عَشَرَ: أَنَّهُ يَنْوِي أَيْضًا فِي أَصْلِ الطَّلَاقِ وَعَدَدِهِ، إلَّا أَنَّهُ إنْ نَوَى وَاحِدَةً كَانَتْ بَائِنَةً، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ طَلَاقًا فَهُوَ مُولٍ، وَإِنْ نَوَى الْكَذِبَ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ، وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ احْتِمَالُ اللَّفْظِ لِمَا ذَكَرَهُ، إلَّا أَنَّهُ إنْ نَوَى وَاحِدَةً كَانَتْ بَائِنَةً؛ لِاقْتِضَاءِ التَّحْرِيمِ لِلْبَيْنُونَةِ وَهِيَ صُغْرَى وَكُبْرَى، وَالصُّغْرَى هِيَ الْمُتَحَقِّقَةُ فَاعْتُبِرَتْ دُونَ
الْكُبْرَى، وَعَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى إنْ نَوَى الْكَذِبَ دُيِّنَ وَلَمْ يُقْبَلْ فِي الْحُكْمِ، بَلْ يَكُونُ مُولِيًا، وَلَا يَكُونُ مُظَاهِرًا عِنْدَهُ نَوَاهُ أَوْ لَمْ يَنْوِهِ، وَلَوْ صَرَّحَ بِهِ فَقَالَ " أَعْنِي بِهِ الظِّهَارَ " لَمْ يَكُنْ مُظَاهِرًا.
الْمَذْهَبُ الثَّالِثَ عَشَرَ: أَنَّهُ يَمِينٌ يُكَفِّرُهُ مَا يُكَفِّرُ الْيَمِينَ عَلَى كُلِّ حَالٍ، صَحَّ ذَلِكَ أَيْضًا عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَعِكْرِمَةَ وَعَطَاءٍ وَمَكْحُولٍ وَقَتَادَةَ وَالْحَسَنِ وَالشَّعْبِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَنَافِعٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ وَخَلْقٍ سِوَاهُمْ، وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ فَرْضَ تَحِلَّةِ الْأَيْمَانِ عَقِبَ تَحْرِيمِ الْحَلَالِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَنَاوَلَهُ يَقِينًا؛ فَلَا يَجُوزُ جَعْلُ تَحِلَّةِ الْأَيْمَانِ لِغَيْرِ الْمَذْكُورِ قَبْلَهَا وَيَخْرُجُ الْمَذْكُورُ عَنْ حُكْمِ التَّحِلَّةِ الَّتِي قُصِدَ ذِكْرُهَا لِأَجْلِهِ.
الْمَذْهَبُ الرَّابِعَ عَشَرَ: أَنَّهُ يَمِينٌ مُغَلَّظَةٌ يَتَعَيَّنُ فِيهَا عِتْقُ رَقَبَةٍ، صَحَّ ذَلِكَ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَجَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ، وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ يَمِينًا مُغَلَّظَةً غَلُظَتْ كَفَّارَتُهَا بِتَحَتُّمِ الْعِتْقِ، وَوَجْهُ تَغْلِيظِهَا تَضَمُّنُهَا تَحْرِيمَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ وَلَيْسَ إلَى الْعَبْدِ، وَقَوْلُ الْمُنْكَرِ وَالزُّورِ إنْ أَرَادَ الْخَبَرَ فَهُوَ كَاذِبٌ فِي إخْبَارِهِ مُعْتَدٍ فِي إقْسَامِهِ؛ فَغَلُظَتْ كَفَّارَتُهُ بِتَحَتُّمِ الْعِتْقِ كَمَا غَلُظَتْ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ بِهِ أَوْ بِصِيَامِ شَهْرَيْنِ أَوْ بِإِطْعَامِ سِتِّينَ مِسْكِينًا.
الْمَذْهَبُ الْخَامِسَ عَشَرَ: أَنَّهُ طَلَاقٌ، ثُمَّ إنَّهَا إنْ كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا فَهُوَ مَا نَوَاهُ مِنْ الْوَاحِدَةِ وَمَا فَوْقَهَا، وَإِنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا فَهُوَ ثَلَاثٌ، وَإِنْ نَوَى أَقَلَّ مِنْهَا، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ، وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ اللَّفْظَ لَمَّا اقْتَضَى التَّحْرِيمَ وَجَبَ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ حُكْمُهُ، وَغَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهَا تُحَرَّمُ بِوَاحِدَةٍ، وَالْمَدْخُولُ بِهَا لَا تُحَرَّمُ إلَّا بِالثَّلَاثِ.
[أَقْوَالُ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْمَسْأَلَةِ]
وَبَعْدُ فَفِي مَذْهَبِ مَالِكٍ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ، هَذَا أَحَدُهَا، وَهُوَ مَشْهُورُهَا، وَالثَّانِي أَنَّهُ ثَلَاثٌ بِكُلِّ حَالٍ نَوَى الثَّلَاثَ أَوْ لَمْ يَنْوِهَا، اخْتَارَهَا عَبْدُ الْمَلِكِ فِي مَبْسُوطِهِ، وَالثَّالِثُ أَنَّهُ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ مُطْلَقًا، حَكَاهُ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ رِوَايَةً عَنْ مَالِكٍ، الرَّابِعُ أَنَّهُ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ، وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، الْخَامِسُ أَنَّهُ مَا نَوَاهُ مِنْ ذَلِكَ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَهُ، وَقَدْ عَرَفْت تَوْجِيهَ هَذِهِ الْأَقْوَالِ.
فَصْلٌ
[تَحْرِيرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فِي الْمَسْأَلَةِ] :
وَأَمَّا تَحْرِيرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فَإِنَّهُ إنْ نَوَى بِهِ الظِّهَارَ كَانَ ظِهَارًا، وَإِنْ نَوَى بِهِ التَّحْرِيمَ كَانَ تَحْرِيمًا لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ إلَّا تَقَدُّمُ الْكَفَّارَةِ، وَإِنْ نَوَى الطَّلَاقَ كَانَ طَلَاقًا وَكَانَ مَا نَوَاهُ، وَإِنْ أَطْلَقَ فَلِأَصْحَابِهِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ؛ أَحَدُهَا: أَنَّهُ صَرِيحٌ فِي إيجَابِ الْكَفَّارَةِ، وَالثَّانِي: لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ شَيْءٌ، وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ فِي حَقِّ الْأَمَةِ صَرِيحٌ فِي التَّحْرِيمِ الْمُوجِبِ لِلْكَفَّارَةِ وَفِي حَقِّ الْحُرَّةِ كِنَايَةٌ، قَالُوا: لِأَنَّ أَصْلَ الْآيَةِ إنَّمَا وَرَدَتْ فِي الْأَمَةِ، قَالُوا: فَلَوْ قَالَ " أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ " وَقَالَ " أَرَدْت بِهَا الظِّهَارَ وَالطَّلَاقَ " فَقَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ: يُقَالُ لَهُ عَيِّنْ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَةَ الْوَاحِدَةَ لَا تَصْلُحُ لِلظِّهَارِ وَالطَّلَاقِ مَعًا، وَقِيلَ: يَلْزَمُهُ مَا بَدَأَ بِهِ مِنْهُمَا، قَالُوا: وَلَوْ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ حَقًّا فَأَنْكَرَهُ فَقَالَ " الْحِلُّ عَلَيْك حَرَامٌ، وَالنِّيَّةُ نِيَّتِي لَا نِيَّتُك، مَا لِي عَلَيْك شَيْءٌ " فَقَالَ: الْحِلُّ عَلَيَّ حَرَامٌ وَالنِّيَّةُ فِي ذَلِكَ نِيَّتُك مَا لَك عِنْدِي شَيْءٌ، كَانَتْ النِّيَّةُ نِيَّةَ الْحَالِفِ لَا الْمُحَلِّفِ؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ إنَّمَا تَكُونُ مِمَّنْ إلَيْهِ الْإِيقَاعُ.
فَصْلٌ
[تَحْرِيرُ مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي الْمَسْأَلَةِ]
وَأَمَّا تَحْرِيمُ مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فَهُوَ أَنَّهُ ظِهَارٌ بِمُطْلَقِهِ وَإِنْ لَمْ يَنْوِهِ، إلَّا أَنْ يَنْوِيَ بِهِ الطَّلَاقَ أَوْ الْيَمِينَ فَيَلْزَمُهُ مَا نَوَاهُ، وَعَنْهُ رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ أَنَّهُ يَمِينٌ بِمُطْلَقِهِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ بِهِ الطَّلَاقَ أَوْ الظِّهَارَ فَيَلْزَمُهُ مَا نَوَاهُ، وَعَنْهُ رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ أَنَّهُ ظِهَارٌ بِكُلِّ حَالٍ، وَلَوْ نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ أَوْ الْيَمِينَ لَمْ يَكُنْ يَمِينًا وَلَا طَلَاقًا، كَمَا لَوْ نَوَى الطَّلَاقَ أَوْ الْيَمِينَ بِقَوْلِهِ " أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي " فَإِنَّ اللَّفْظَيْنِ صَرِيحَانِ فِي الظِّهَارِ، فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَوْ وَصَلَهُ بِقَوْلِهِ " أَعْنِي بِهِ الطَّلَاقَ " فَهَلْ يَكُونُ طَلَاقًا أَوْ ظِهَارًا؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا: يَكُونُ ظِهَارًا كَمَا لَوْ قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي أَعْنِي بِهِ الطَّلَاقَ أَوْ التَّحْرِيمَ؛ إذْ التَّحْرِيمُ صَرِيحٌ فِي الظِّهَارِ، وَالثَّانِيَةُ أَنَّهُ طَلَاقٌ لِأَنَّهُ قَدْ صَرَّحَ بِإِرَادَتِهِ بِلَفْظٍ يَحْتَمِلُهُ، وَغَايَتُهُ أَنَّهُ كِنَايَةٌ فِيهِ، فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ إنْ قَالَ " أَعْنِي بِهِ طَلَاقًا " طَلُقَتْ وَاحِدَةً، وَإِنْ قَالَ " أَعْنِي بِهِ الطَّلَاقَ " فَهَلْ تَطْلُقُ ثَلَاثًا أَوْ وَاحِدَةً؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ مَأْخَذُهُمَا حَمْلُ اللَّازِمِ عَلَى الْجِنْسِ أَوْ الْعُمُومِ، هَذَا تَحْرِيرُ مَذْهَبِهِ وَتَقْرِيرُهُ.
[مَذْهَبُ ابْنِ تَيْمِيَّةَ فِي الْمَسْأَلَةِ]
وَفِي الْمَسْأَلَةِ مَذْهَبٌ آخَرُ وَرَاءَ هَذَا كُلِّهِ، وَهُوَ أَنَّهُ إنْ أَوْقَعَ التَّحْرِيمَ كَانَ ظِهَارًا وَلَوْ نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ، وَإِنْ حَلَفَ بِهِ كَانَ يَمِينًا مُكَفِّرَةً، وَهَذَا اخْتِيَارُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ