الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أُمِرُوا أَنْ يُطْعِمُوا مِنْهَا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ؛ فَإِذَا كَانَ أَهْلُ بَلَدٍ أَوْ مَحَلَّةٍ عَادَتُهُمْ اتِّخَاذُ الْأَطْعِمَةِ يَوْمَ الْعِيدِ جَازَ لَهُمْ، بَلْ يُشْرَعُ لَهُمْ أَنْ يُوَاسُوا الْمَسَاكِينَ مِنْ أَطْعِمَتِهِمْ، فَهَذَا مُحْتَمَلٌ يَسُوغُ الْقَوْلُ بِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[فَصْلٌ رَدُّ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ بَدَلَ الْمُصَرَّاةِ]
فَصْلٌ
[هَلْ يَجِبُ فِي الْمُصَرَّاةِ رَدُّ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ؟]
الْمِثَالُ الْخَامِسُ: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَصَّ فِي الْمُصَرَّاةِ عَلَى رَدِّ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ بَدَلَ اللَّبَنِ» ، فَقِيلَ: هَذَا حُكْمٌ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْأَمْصَارِ، حَتَّى فِي الْمِصْرِ الَّذِي لَمْ يَسْمَعْ أَهْلُهُ بِالتَّمْرِ قَطُّ وَلَا رَأَوْهُ؛ فَيَجِبُ إخْرَاجُ قِيمَةِ الصَّاعِ فِي مَوْضِعِ التَّمْرِ، وَلَا يُجْزِئُهُمْ إخْرَاجُ صَاعٍ مِنْ قُوتِهِمْ، وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَجَعَلَ هَؤُلَاءِ التَّمْرَ فِي الْمُصَرَّاةِ كَالتَّمْرِ فِي زَكَاةِ التَّمْرِ لَا يُجْزِئُ سِوَاهُ، فَجَعَلُوهُ تَعَبُّدًا، فَعَيَّنُوهُ اتِّبَاعًا لِلَفْظِ النَّصِّ، وَخَالَفَهُمْ آخَرُونَ، فَقَالُوا: بَلْ يُخْرِجُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ صَاعًا مِنْ قُوتِ ذَلِكَ الْبَلَدِ الْغَالِبِ؛ فَيُخْرِجُ فِي الْبِلَادِ الَّتِي قُوتُهُمْ الْبُرُّ صَاعًا مِنْ بُرٍّ، وَإِنْ كَانَ قُوتُهُمْ الْأُرْزَ فَصَاعًا مِنْ أُرْزٍ، وَإِنْ كَانَ الزَّبِيبُ وَالتِّينُ عِنْدَهُمْ كَالتَّمْرِ فِي مَوْضِعِهِ أَجْزَأَ صَاعٌ مِنْهُ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي الْمَحَاسِنِ الرُّويَانِيِّ وَبَعْضِ أَصْحَابِ أَحْمَدَ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ أَصْحَابُ مَالِكٍ.
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ: رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ أَنَّ الصَّاعَ يَكُونُ مِنْ غَالِبِ قُوتِ الْبَلَدِ، قَالَ صَاحِبُ الْجَوَاهِرِ، بَعْدَ حِكَايَةِ ذَلِكَ: وَوَجْهُهُ أَنَّهُ وَرَدَ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ هَذَا الْحَدِيثِ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ؛ فَيُحْمَلُ تَعْيِينُ صَاعِ التَّمْرِ فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ عَلَى أَنَّهُ غَالِبُ قُوتِ ذَلِكَ الْبَلَدِ. انْتَهَى.
وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا أَقْرَبُ إلَى مَقْصُودِ الشَّارِعِ وَمَصْلَحَةِ الْمُتَعَاقِدِينَ مِنْ إيجَابِ قِيمَةِ صَاعٍ مِنْ التَّمْرِ فِي مَوْضِعِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَكَذَلِكَ حُكْمُ مَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّارِعُ مِنْ الْأَعْيَانِ الَّتِي يَقُومُ غَيْرُهَا مَقَامَهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ أَوْ يَكُونُ أَوْلَى مِنْهَا كَنَصِّهِ عَلَى الْأَحْجَارِ فِي الِاسْتِجْمَارِ، وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْخِرَقَ وَالْقُطْنَ وَالصُّوفَ أَوْلَى مِنْهَا بِالْجَوَازِ، وَكَذَلِكَ نَصُّهُ عَلَى التُّرَابِ فِي الْغُسْلِ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ وَالْأُشْنَانُ أَوْلَى مِنْهُ، هَذَا فِيمَا عُلِمَ مَقْصُودُ الشَّارِعِ مِنْهُ، وَحُصُولُ ذَلِكَ الْمَقْصُودِ عَلَى أَتَمِّ الْوُجُوهِ بِنَظِيرِهِ وَمَا هُوَ أَوْلَى مِنْهُ.
[فَصْلٌ طَوَافُ الْحَائِضِ بِالْبَيْتِ]
فَصْلٌ
[طَوَافُ الْحَائِضِ بِالْبَيْتِ]
الْمِثَالُ السَّادِسُ: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَنَعَ الْحَائِضَ مِنْ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرَ، وَقَالَ:
اصْنَعِي مَا يَصْنَعُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ» فَظَنَّ مَنْ ظَنَّ أَنَّ هَذَا حُكْمٌ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَالْأَزْمَانِ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ حَالِ الْقُدْرَةِ وَالْعَجْزِ، وَلَا بَيْنَ زَمَنِ إمْكَانِ الِاحْتِبَاسِ لَهَا حَتَّى تَطْهُرَ وَتَطُوفَ وَبَيْنَ الزَّمَنِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ فِيهِ ذَلِكَ، وَتَمَسَّكَ بِظَاهِرِ النَّصِّ، وَرَأَى مُنَافَاةَ الْحَيْضِ لِلطَّوَافِ كَمُنَافَاتِهِ لِلصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ؛ إذْ نَهْيُ الْحَائِضِ عَنْ الْجَمِيعِ سَوَاءٌ، وَمُنَافَاةُ الْحَيْضِ لِعِبَادَةِ الطَّوَافِ كَمُنَافَاتِهِ لِعِبَادَةِ الصَّلَاةِ، وَنَازَعَهُمْ فِي ذَلِكَ فَرِيقَانِ؛ أَحَدُهُمَا: صَحَّحَ الطَّوَافَ مَعَ الْحَيْضِ، وَلَمْ يَجْعَلُوا الْحَيْضَ مَانِعًا مِنْ صِحَّتِهِ، بَلْ جَعَلُوا الطَّهَارَةَ وَاجِبَةً تُجْبَرُ بِالدَّمِ وَيَصِحُّ الطَّوَافُ بِدُونِهَا كَمَا يَقُولُهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَأَحْمَدُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَهِيَ أَنَصُّهُمَا عَنْهُ، وَهَؤُلَاءِ لَمْ يَجْعَلُوا ارْتِبَاطَ الطَّهَارَةِ بِالطَّوَافِ كَارْتِبَاطِهَا بِالصَّلَاةِ ارْتِبَاطَ الشَّرْطِ بِالْمَشْرُوطِ، بَلْ جَعَلُوهَا وَاجِبَةً مِنْ وَاجِبَاتِهِ، وَارْتِبَاطَهَا بِهِ كَارْتِبَاطِ وَاجِبَاتِ الْحَجِّ بِهِ يَصِحُّ فِعْلُهُ مَعَ الْإِخْلَالِ بِهَا وَيَجْبُرُهَا الدَّمُ، وَالْفَرِيقُ الثَّانِي جَعَلُوا وُجُوبَ الطَّهَارَةِ لِلطَّوَافِ وَاشْتِرَاطَهَا بِمَنْزِلَةِ وُجُوبِ السُّتْرَةِ وَاشْتِرَاطِهَا، بَلْ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ شُرُوطِ الصَّلَاةِ وَوَاجِبَاتِهَا الَّتِي تَجِبُ وَتُشْتَرَطُ مَعَ الْقُدْرَةِ وَتَسْقُطُ مَعَ الْعَجْزِ، قَالُوا: وَلَيْسَ اشْتِرَاطُ الطَّهَارَةِ لِلطَّوَافِ أَوْ وُجُوبُهَا لَهُ أَعْظَمَ مِنْ اشْتِرَاطِهَا لِلصَّلَاةِ، فَإِذَا سَقَطَتْ بِالْعَجْزِ عَنْهَا فَسُقُوطُهَا فِي الطَّوَافِ بِالْعَجْزِ عَنْهَا أَوْلَى وَأَحْرَى، قَالُوا: وَقَدْ كَانَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَخُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ تَحْتَبِسُ أُمَرَاءُ الْحَجِّ لِلْحُيَّضِ حَتَّى يَطْهُرْنَ وَيَطُفْنَ، وَلِهَذَا «قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي شَأْنِ صَفِيَّةَ وَقَدْ حَاضَتْ أَحَابِسَتُنَا هِيَ؟ قَالُوا: إنَّهَا قَدْ أَفَاضَتْ، قَالَ فَلْتَنْفِرْ إذًا» وَحِينَئِذٍ كَانَتْ الطَّهَارَةُ مَقْدُورَةً لَهَا يُمْكِنُهَا الطَّوَافُ بِهَا، فَأَمَّا فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ الَّتِي يَتَعَذَّرُ إقَامَةُ الرَّكْبِ لِأَجْلِ الْحَيْضِ فَلَا تَخْلُو مِنْ ثَمَانِيَةِ أَقْسَامٍ؛ أَحَدُهَا أَنْ يُقَالَ لَهَا: أَقِيمِي بِمَكَّةَ وَإِنْ رَحَلَ الرَّكْبُ حَتَّى تَطْهُرِي وَتَطُوفِي، وَفِي هَذَا مِنْ الْفَسَادِ وَتَعْرِيضِهَا لِلْمُقَامِ وَحْدَهَا فِي بَلَدِ الْغُرْبَةِ مَعَ لُحُوقِ غَايَةِ الضَّرَرِ لَهَا مَا فِيهِ؛ الثَّانِي أَنْ يُقَالَ: يَسْقُطُ طَوَافُ الْإِفَاضَةِ لِلْعَجْزِ عَنْ شَرْطِهِ.
الثَّالِثُ: أَنْ يُقَالَ: إذَا عَلِمَتْ أَوْ خَشِيَتْ مَجِيءَ الْحَيْضِ فِي وَقْتِهِ جَازَ لَهَا تَقْدِيمُهُ عَلَى وَقْتِهِ؛ الرَّابِعُ أَنْ يُقَالَ: إذَا كَانَتْ تَعْلَمُ بِالْعَادَةِ أَنَّ حَيْضَهَا يَأْتِي فِي أَيَّامِ الْحَجِّ وَأَنَّهَا إذَا حَجَّتْ أَصَابَهَا الْحَيْضُ هُنَاكَ سَقَطَ عَنْهَا فَرْضُهُ حَتَّى تَصِيرَ آيِسَةً وَيَنْقَطِعَ حَيْضُهَا بِالْكُلِّيَّةِ، الْخَامِسُ أَنْ يُقَالَ: بَلْ تَحُجُّ فَإِذَا حَاضَتْ وَلَمْ يُمْكِنْهَا الطَّوَافُ وَلَا الْمُقَامُ رَجَعَتْ وَهِيَ عَلَى إحْرَامِهَا تَمْتَنِعُ مِنْ النِّكَاحِ وَوَطْءِ الزَّوْجِ حَتَّى تَعُودَ إلَى الْبَيْتِ فَتَطُوفَ وَهِيَ طَاهِرَةٌ، وَلَوْ كَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ مَسَافَةُ سِنِينَ، ثُمَّ إذَا أَصَابَهَا الْحَيْضُ فِي سَنَةِ الْعَوْدِ رَجَعَتْ كَمَا هِيَ، وَلَا تَزَالُ كَذَلِكَ كُلَّ عَامٍ حَتَّى يُصَادِفَهَا عَامٌ تَطْهُرُ فِيهِ؛ السَّادِسُ أَنْ يُقَالَ: بَلْ تَتَحَلَّلُ إذَا عَجَزَتْ عَنْ الْمُقَامِ حَتَّى تَطْهُرَ كَمَا يَتَحَلَّلُ الْمُحْصَرُ، مَعَ بَقَاءِ الْحَجِّ فِي ذِمَّتِهَا، فَمَتَى قَدَرَتْ عَلَى الْحَجِّ لَزِمَهَا؛ ثُمَّ إذَا أَصَابَهَا
ذَلِكَ أَيْضًا تَحَلَّلَتْ، وَهَكَذَا أَبَدًا حَتَّى يُمْكِنَهَا الطَّوَافُ طَاهِرًا؛ السَّابِعُ أَنْ يُقَالَ: يَجِبُ عَلَيْهَا أَنْ تَسْتَنِيبَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهَا كَالْمَعْضُوبِ، وَقَدْ أَجْزَأَ عَنْهَا الْحَجُّ، وَإِنْ انْقَطَعَ حَيْضُهَا بَعْدَ ذَلِكَ؛ الثَّامِنُ أَنْ يُقَالَ: بَلْ تَفْعَلُ مَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ.
وَيَسْقُطُ عَنْهَا مَا تَعْجِزُ عَنْهُ مِنْ الشُّرُوطِ وَالْوَاجِبَاتِ كَمَا يَسْقُطُ عَنْهَا طَوَافُ الْوَدَاعِ بِالنَّصِّ، وَكَمَا يَسْقُطُ عَنْهَا فَرْضُ السُّتْرَةِ إذَا شَلَّحَتْهَا الْعَبِيدُ أَوْ غَيْرُهُمْ، وَكَمَا يَسْقُطُ عَنْهَا فَرْضُ طَهَارَةِ الْجُنُبِ إذَا عَجَزَتْ عَنْهَا لِعَدَمِ الْمَاءِ أَوْ مَرَضٍ بِهَا، وَكَمَا يَسْقُطُ فَرْضُ اشْتِرَاطِ طَهَارَةِ مَكَانِ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ إذَا عَرَضَ فِيهِ نَجَاسَةٌ تَتَعَذَّرُ إزَالَتُهَا، وَكَمَا يَسْقُطُ شَرْطُ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ فِي الصَّلَاةِ إذَا عَجَزَ عَنْهُ، وَكَمَا يَسْقُطُ فَرْضُ الْقِيَامِ وَالْقِرَاءَةِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ إذَا عَجَزَ عَنْهُ الْمُصَلِّي، وَكَمَا يَسْقُطُ فَرْضُ الصَّوْمِ عَنْ الْعَاجِزِ عَنْهُ إلَى بَدَلِهِ وَهُوَ الْإِطْعَامُ، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ مِنْ الْوَاجِبَاتِ وَالشُّرُوطِ الَّتِي تَسْقُطُ بِالْعَجْزِ عَنْهَا إمَّا إلَى بَدَلٍ أَوْ مُطْلَقًا؛ فَهَذِهِ ثَمَانِيَةُ أَقْسَامٍ لَا مَزِيدَ عَلَيْهَا، وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الشَّرِيعَةَ لَا تَأْتِي بِسِوَى هَذَا الْقِسْمِ الثَّامِنِ؛ فَإِنَّ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ وَإِنْ قَالَهُ مَنْ قَالَ مِنْ الْفُقَهَاءِ فَلَا يَتَوَجَّهُ هَهُنَا؛ لِأَنَّ هَذَا الَّذِي قَالُوهُ مُتَوَجِّهٌ فِيمَنْ أَمْكَنَهَا الطَّوَافُ وَلَمْ تَطُفْ، وَالْكَلَامُ فِي امْرَأَةٍ لَا يُمْكِنُهَا الطَّوَافُ وَلَا الْمُقَامُ لِأَجْلِهِ، وَكَلَامُ الْأَئِمَّةِ وَالْفُقَهَاءِ هُوَ مُطْلَقٌ كَمَا يَتَكَلَّمُونَ فِي نَظَائِرِهِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِمِثْلِ هَذِهِ الصُّوَرِ الَّتِي عَمَّتْ بِهَا الْبَلْوَى، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي زَمَنِ الْأَئِمَّةِ، بَلْ قَدْ ذَكَرُوا أَنَّ الْمُكْرِيَ يَلْزَمُهُ الْمُقَامُ وَالِاحْتِبَاسُ عَلَيْهَا لِتَطْهُرَ ثُمَّ تَطُوفُ، فَإِنَّهُ كَانَ مُمْكِنًا بَلْ وَاقِعًا فِي زَمَنِهِمْ، فَأَفْتَوْا، بِأَنَّهَا لَا تَطُوفُ حَتَّى تَطْهُرَ لِتَمَكُّنِهَا مِنْ ذَلِكَ، وَهَذَا لَا نِزَاعَ فِيهِ وَلَا إشْكَالَ، فَأَمَّا فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ فَغَيْرُ مُمْكِنٍ.
وَإِيجَابُ سَفَرَيْنِ كَامِلَيْنِ فِي الْحَجِّ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ مِنْ الْحَاجِّ وَلَا سَبَبٍ صَدَرَ مِنْهُ يَتَضَمَّنُ إيجَابَ حَجَّتَيْنِ إلَى الْبَيْتِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى إنَّمَا أَوْجَبَ حَجَّةً وَاحِدَةً، بِخِلَافِ مَنْ أَفْسَدَ الْحَجَّ فَإِنَّهُ قَدْ فَرَّطَ بِفِعْلِ الْمَحْظُورِ، وَبِخِلَافِ مَنْ تَرَكَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ أَوْ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَإِنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ مَا يُتِمُّ حَجَّتَهُ، وَأَمَّا هَذِهِ فَلَمْ تُفَرِّطْ وَلَمْ تَتْرُكْ مَا أُمِرَتْ بِهِ فَإِنَّهَا لَمْ تُؤْمَرْ بِمَا لَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَقَدْ فَعَلَتْ مَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ؛ فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْجُنُبِ إذَا عَجَزَ عَنْ الطَّهَارَةِ الْأَصْلِيَّةِ وَالْبَدَلِيَّةِ وَصَلَّى عَلَى حَسَبِ حَالِهِ، فَإِنَّهُ لَا إعَادَةَ عَلَيْهِ فِي أَصَحِّ الْأَقْوَالِ، وَأَيْضًا فَهَذِهِ قَدْ لَا يُمْكِنُهَا السَّفَرُ مَرَّةً ثَانِيَةً فَإِذَا قِيلَ إنَّهَا تَبْقَى مُحْرِمَةً إلَى أَنْ تَمُوتَ، فَهَذَا ضَرَرٌ لَا يَكُونُ مِثْلُهُ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ، بَلْ يُعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الشَّرِيعَةَ لَا تَأْتِي بِهِ.
فَصْلٌ
وَأَمَّا التَّقْدِيرُ الثَّانِي - وَهُوَ سُقُوطُ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ - فَهَذَا مَعَ أَنَّهُ لَا قَائِلَ بِهِ فَلَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِهِ؛ فَإِنَّهُ رُكْنُ الْحَجِّ الْأَعْظَمِ، وَهُوَ الرُّكْنُ الْمَقْصُودُ لِذَاتِهِ، وَالْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ وَتَوَابِعُهُ مُقَدِّمَاتٌ لَهُ.
فَصْلٌ
وَأَمَّا التَّقْدِيرُ الثَّالِثُ - وَهُوَ أَنْ تُقَدِّمَ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ عَلَى وَقْتِهِ إذَا خَشِيَتْ الْحَيْضَ فِي وَقْتِهِ - فَهَذَا لَا يُعْلَمُ بِهِ قَائِلٌ، وَالْقَوْلُ بِهِ كَالْقَوْلِ بِتَقْدِيمِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ عَلَى يَوْمِ عَرَفَةَ، وَكِلَاهُمَا مِمَّا لَا سَبِيلَ إلَيْهِ.
فَصْلٌ
وَأَمَّا التَّقْدِيرُ الرَّابِعُ - وَهُوَ أَنْ يُقَالَ يَسْقُطُ عَنْهَا فَرْضُ الْحَجِّ إذَا خَشِيَتْ ذَلِكَ - فَهَذَا وَإِنْ كَانَ أَفْقَهَ مِمَّا قَبْلَهُ مِنْ التَّقْدِيرَاتِ فَإِنَّ الْحَجَّ يَسْقُطُ لِمَا هُوَ دُونَ هَذَا مِنْ الضَّرَرِ - كَمَا لَوْ كَانَ بِالطَّرِيقِ أَوْ بِمَكَّةَ خَوْفٌ، أَوْ أَخْذُ خِفَارَةٍ مُجْحِفَةٍ أَوْ غَيْرِ مُجْحِفَةٍ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهَا مَحْرَمٌ - وَلَكِنَّهُ مُمْتَنِعٌ لِوَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا: أَنَّ لَازِمَهُ سُقُوطُ الْحَجِّ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ النِّسَاءِ أَوْ أَكْثَرِهِنَّ؛ فَإِنَّهُنَّ يَخَفْنَ مِنْ الْحَيْضِ وَخُرُوجِ الرَّكْبِ قَبْلَ الطُّهْرِ، وَهَذَا بَاطِلٌ؛ فَإِنَّ الْعِبَادَاتِ لَا تَسْقُطُ بِالْعَجْزِ عَنْ بَعْضِ شَرَائِطِهَا وَلَا عَنْ بَعْضِ أَرْكَانِهَا، وَغَايَةُ هَذِهِ أَنْ تَكُونَ قَدْ عَجَزَتْ عَنْ شَرْطٍ أَوْ رُكْنٍ، وَهَذَا لَا يُسْقِطُ الْمَقْدُورُ عَلَيْهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» وَلِهَذَا وَجَبَتْ الصَّلَاةُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، وَمَا عَجَزَ عَنْهُ مِنْ فُرُوضِهَا أَوْ شُرُوطِهَا سَقَطَ عَنْهُ؛ وَالطَّوَافُ وَالسَّعْيُ إذَا عَجَزَ عَنْهُ مَاشِيًا فَعَلَهُ رَاكِبًا اتِّفَاقًا، وَالصَّبِيُّ يَفْعَلُ عَنْهُ وَلِيُّهُ مَا يَعْجِزُ عَنْهُ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ فِي الْكَلَامِ فِيمَنْ تَكَلَّفَتْ وَحَجَّتْ وَأَصَابَهَا هَذَا الْعُذْرُ: فَمَا يَقُولُ صَاحِبُ هَذَا التَّقْدِيرِ حِينَئِذٍ؟ فَإِمَّا أَنْ يَقُولَ: تَبْقَى مُحْرِمَةً حَتَّى تَعُودَ إلَى الْبَيْتِ، أَوْ يَقُولَ: تَتَحَلَّلُ كَالْمُحْصَرِ وَبِالْجُمْلَةِ فَالْقَوْلُ بِعَدَمِ وُجُوبِ الْحَجِّ عَلَى مَنْ تَخَافُ الْحَيْضَ لَا يَعْلَمُ بِهِ قَائِلٌ، وَلَا تَقْتَضِيه الشَّرِيعَةُ؛ فَإِنَّهَا لَا تُسْقِطُ مَصْلَحَةُ الْحَجِّ الَّتِي هِيَ مِنْ أَعْظَمِ الْمَصَالِحِ لِأَجْلِ الْعَجْزِ عَنْ أَمْرٍ غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا فِي الْحَجِّ أَوْ شَرْطًا فِيهِ؛ فَأُصُولُ الشَّرِيعَةِ تُبْطِلُ هَذَا الْقَوْلَ.
فَصْلٌ
وَأَمَّا التَّقْدِيرُ الْخَامِسُ - وَهِيَ أَنْ تَرْجِعَ وَهِيَ عَلَى إحْرَامِهَا مُمْتَنِعَةً مِنْ النِّكَاحِ وَالْوَطْءِ إلَى أَنْ تَعُودَ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ، ثُمَّ إذَا أَصَابَهَا الْحَيْضُ رَجَعَتْ كَذَلِكَ، وَهَكَذَا كُلَّ عَامٍ - فَمِمَّا تَرُدُّهُ أُصُولُ الشَّرِيعَةِ وَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ الرَّحْمَةِ وَالْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ وَالْإِحْسَانِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلُ عَلَى الْأُمَّةِ عَلَى مِثْلَ هَذَا الْحَرَجِ، وَلَا مَا هُوَ قَرِيبٌ مِنْهُ.
فَصْلٌ
وَأَمَّا التَّقْدِيرُ السَّادِسُ - وَهُوَ أَنَّهَا تَتَحَلَّلُ كَمَا يَتَحَلَّلُ الْمُحْصِرُ - فَهَذَا أَفْقَهُ مِنْ التَّقْدِيرِ
الَّذِي قَبْلَهُ؛ فَإِنَّ هَذِهِ مَنَعَهَا خَوْفُ الْمُقَامِ إتْمَامَ النُّسُكِ، فَهِيَ كَمَنْ مَنَعَهَا عَدُوٌّ عَنْ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ بَعْدَ التَّعْرِيفِ، وَلَكِنَّ هَذَا التَّقْدِيرَ ضَعِيفٌ، فَإِنَّ الْإِحْصَارَ أَمْرٌ عَارِضٌ لِلْحَاجِّ بِمَنْعِهِ مِنْ الْوُصُولِ إلَى الْبَيْتِ فِي وَقْتِ الْحَجِّ، وَهَذِهِ مُتَمَكِّنَةٌ مِنْ الْبَيْتِ وَمِنْ الْحَجِّ مِنْ غَيْرِ عَدُوٍّ وَلَا مَرَضٍ وَلَا ذَهَابِ نَفَقَةٍ، وَإِذَا جُعِلَتْ هَذِهِ كَالْمُحْصَرِ أَوْجَبْنَا عَلَيْهَا الْحَجَّ مَرَّةً ثَانِيَةً مَعَ خَوْفِ وُقُوعِ الْحَيْضِ مِنْهَا، وَالْعُذْرُ الْمُوجِبُ بِالْإِحْصَارِ إذَا كَانَ قَائِمًا بِهِ مَنَعَ مِنْ فَرْضِ الْحَجِّ بِنِدَاءٍ كَإِحَاطَةِ الْعَدُوِّ بِالْبَيْتِ وَتَعَذُّرِ النَّفَقَةِ، وَهَذِهِ عُذْرُهَا لَا يُسْقِطُ فَرْضَ الْحَجِّ عَلَيَّ ابْتِدَاءٍ؛ فَلَا يَكُونُ عُرُوضُهُ مُوجِبًا لِلتَّحَلُّلِ كَالْإِحْصَارِ؛ فَلَازِمٌ هَذَا التَّقْدِيرُ أَنَّهَا إذَا عَلِمَتْ أَنَّ هَذَا الْعُذْرَ يُصِيبُهَا أَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهَا أَنْ يُسْقِطَ عَنْهَا فَرْضَ الْحَجِّ فَهُوَ رُجُوعٌ إلَى التَّقْدِيرِ الرَّابِعِ
فَصْلٌ
وَأَمَّا التَّقْدِيرُ السَّابِعُ - وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: يَجِبُ عَلَيْهَا أَنْ تَسْتَنِيبَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهَا إذَا خَافَتْ الْحَيْضَ، وَتَكُونُ كَالْمَعْضُوبِ الْعَاجِزِ عَنْ الْحَجِّ بِنَفْسِهِ فَمَا أَحْسَنَهُ مِنْ تَقْدِيرٍ لَوْ عُرِفَ بِهِ قَائِلٌ؛ فَإِنَّ هَذِهِ عَاجِزَةٌ عَنْ إتْمَامِ نُسُكِهَا، وَلَكِنْ هُوَ بَاطِلٌ أَيْضًا؛ فَإِنَّ الْمَعْضُوبَ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ الِاسْتِنَابَةُ هُوَ الَّذِي يَكُونُ آيِسًا مِنْ زَوَالِ عُذْرِهِ، فَلَوْ كَانَ يَرْجُو زَوَالَ عُذْرِهِ كَالْمَرَضِ الْعَارِضِ وَالْحَبْسِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ، وَهَذِهِ لَا تَيْأَسُ مِنْ زَوَالِ عُذْرِهَا؛ لِجَوَازِ أَنْ تَبْقَى إلَى زَمَنِ الْيَأْسِ وَانْقِطَاعِ الدَّمِ أَوْ أَنَّ دَمَهَا يَنْقَطِعُ قَبْلَ سِنِّ الْيَأْسِ لِعَارِضٍ يَفْعَلُهَا أَوْ يُغَيِّرُ فِعْلَهَا؛ فَلَيْسَتْ كَالْمَعْضُوبِ حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا.
فَصْلٌ
فَإِذَا بَطَلَتْ هَذِهِ التَّقْدِيرَاتُ تَعَيَّنَ التَّقْدِيرُ الثَّامِنُ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: تَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ، وَتَكُونُ هَذِهِ ضَرُورَةً مُقْتَضِيَةً لِدُخُولِ الْمَسْجِدِ مَعَ الْحَيْضِ وَالطَّوَافِ مَعَهُ وَلَيْسَ فِي هَذَا مَا يُخَالِفُ قَوَاعِدَ الشَّرِيعَةِ، بَلْ يُوَافِقُ كَمَا تَقَدَّمَ؛ إذْ غَايَتُهُ سُقُوطُ الْوَاجِبِ أَوْ الشَّرْطِ بِالْعَجْزِ عَنْهُ، وَلَا وَاجِبَ فِي الشَّرِيعَةِ مَعَ عَجْزٍ، وَلَا حَرَامَ مَعَ ضَرُورَةٍ.
فَإِنْ قِيلَ: فِي ذَلِكَ مَحْذُورَانِ؛ أَحَدُهُمَا: دُخُولُ الْحَائِضِ الْمَسْجِدَ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «لَا أُحِلُّ الْمَسْجِدَ لِحَائِضٍ وَلَا جُنُبٍ» فَكَيْفَ بِأَفْضَلِ الْمَسَاجِدِ؟
الثَّانِي: طَوَافُهَا فِي حَالِ الْحَيْضِ وَقَدْ مَنَعَهَا الشَّارِعُ مِنْهُ كَمَا مَنَعَهَا مِنْ الصَّلَاةِ، فَقَالَ:«اصْنَعِي مَا يَصْنَعُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ» فَاَلَّذِي مَنَعَهَا مِنْ الصَّلَاةِ مَعَ الْحَيْضِ هُوَ الَّذِي مَنَعَهَا مِنْ الطَّوَافِ مَعَهُ.
فَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الضَّرُورَةَ تُبِيحُ دُخُولَ الْمَسْجِدِ لِلْحَائِضِ وَالْجُنُبِ؛ فَإِنَّهَا لَوْ خَافَتْ الْعَدُوَّ أَوْ مَنْ يَسْتَكْرِهُهَا عَنْ الْفَاحِشَةِ أَوْ أَخْذِ مَالِهَا وَلَمْ تَجِدْ مَلْجَأً إلَّا دُخُولَ الْمَسْجِدِ جَازَ لَهَا دُخُولُهُ مَعَ الْحَيْضِ، وَهَذِهِ تَخَافُ مَا هُوَ قَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهَا تَخَافُ إنْ أَقَامَتْ بِمَكَّةَ أَنْ يُؤْخَذَ مَالُهَا إنْ كَانَ لَهَا مَالٌ، وَإِلَّا أَقَامَتْ بِغُرْبَةٍ ضَرُورَةً، وَقَدْ تَخَافُ فِي إقَامَتِهَا مِمَّنْ يَتَعَرَّضُ لَهَا، وَلَيْسَ لَهَا مَنْ يَدْفَعُ عَنْهَا.
الْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ طَوَافَهَا بِمَنْزِلَةِ مُرُورِهَا فِي الْمَسْجِدِ، وَيَجُوزُ لِلْحَائِضِ الْمُرُورُ فِيهِ إذَا أَمِنَتْ التَّلْوِيثَ، وَهِيَ فِي دَوَرَانِهَا حَوْلَ الْبَيْتِ بِمَنْزِلَةِ مُرُورِهَا وَدُخُولِهَا مِنْ بَابٍ وَخُرُوجِهَا مِنْ آخَرَ؛ فَإِذَا جَازَ مُرُورُهَا لِلْحَاجَةِ فَطَوَافُهَا لِلْحَاجَةِ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ مِنْ حَاجَةِ الْمُرُورِ أَوْلَى بِالْجَوَازِ.
يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ دَمَ الْحَيْضِ فِي تَلْوِيثِهِ الْمَسْجِدَ كَدَمِ الِاسْتِحَاضَةِ، وَالْمُسْتَحَاضَةُ يَجُوزُ لَهَا دُخُولُ الْمَسْجِدِ لِلطَّوَافِ إذَا تَلَجَّمَتْ اتِّفَاقًا، وَذَلِكَ لِأَجْلِ الْحَاجَةِ، وَحَاجَةُ هَذِهِ أَوْلَى.
يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ مَنْعَهَا مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ لِلطَّوَافِ كَمَنْعِ الْجُنُبِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَوَّى بَيْنَهُمَا فِي تَحْرِيمِ الْمَسْجِدِ عَلَيْهِمَا، وَكِلَاهُمَا يَجُوزُ لَهُ الدُّخُولُ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَسِرُّ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ» هَلْ ذَلِكَ لِأَنَّ الْحَائِضَ مَمْنُوعَةٌ مِنْ الْمَسْجِدِ وَالطَّوَافُ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ، أَوْ أَنَّ عِبَادَةَ الطَّوَافِ لَا تَصِحُّ مَعَ الْحَيْضِ كَالصَّلَاةِ، أَوْ لِمَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ، أَوْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَمْرَيْنِ؟ فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ تَقَادِيرَ، فَإِنْ قِيلَ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ لَمْ يُمْنَعْ صِحَّةُ الطَّوَافِ مَعَ الْحَيْضِ كَمَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَنْ وَافَقَهُ وَكَمَا هُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، وَعَلَى هَذَا فَلَا يَمْتَنِعُ الْإِذْنُ لَهَا فِي دُخُولِ الْمَسْجِدِ لِهَذِهِ الْحَاجَةِ الَّتِي تَلْتَحِقُ بِالضَّرُورَةِ، وَيُقَيَّدُ بِهَا مُطْلَقُ نَهْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلَيْسَ بِأَوَّلِ مُطْلَقٍ قُيِّدَ بِأُصُولِ الشَّرِيعَةِ وَقَوَاعِدِهَا، وَإِنْ قِيلَ بِالْمَعْنَى الثَّانِي فَغَايَتُهُ أَنْ تَكُونَ الطَّهَارَةُ شَرْطًا مِنْ شُرُوطِ الطَّوَافِ، فَإِذَا عَجَزَتْ عَنْهَا سَقَطَ اشْتِرَاطُهَا كَمَا لَوْ انْقَطَعَ دَمُهَا وَتَعَذَّرَ عَلَيْهَا الِاغْتِسَالُ وَالتَّيَمُّمُ فَإِنَّهَا تَطُوفُ عَلَى حَسَبِ حَالِهَا كَمَا تُصَلِّي بِغَيْرِ طَهُورٍ.
فَصْلٌ
وَأَمَّا الْمَحْذُورُ الثَّانِي - وَهُوَ طَوَافُهَا مَعَ الْحَيْضِ وَالطَّوَافُ كَالصَّلَاةِ - فَجَوَابُهُ مِنْ وُجُوهٍ؛ أَحَدُهَا: أَنْ يُقَالَ: لَا رَيْبَ أَنَّ الطَّوَافَ تَجِبُ فِيهِ الطَّهَارَةُ وَسَتْرُ الْعَوْرَةِ كَمَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ «لَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ» وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31]
وَفِي السُّنَنِ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا «الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ إلَّا أَنَّ اللَّهَ أَبَاحَ فِيهِ الْكَلَامَ، فَمَنْ تَكَلَّمَ فِيهِ فَلَا يَتَكَلَّمُ إلَّا بِخَيْرٍ» وَلَا رَيْبَ أَنَّ وُجُوبَ الطَّهَارَةِ وَسَتْرَ الْعَوْرَةِ فِي الصَّلَاةِ آكَدُ مِنْ وُجُوبِهَا فِي الطَّوَافِ؛ فَإِنَّ الصَّلَاةَ بِلَا طَهَارَةٍ مَعَ الْقُدْرَةِ بَاطِلَةٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَكَذَلِكَ صَلَاةُ الْعُرْيَانِ، وَأَمَّا طَوَافُ الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ وَالْمُحْدِثِ وَالْعُرْيَانِ بِغَيْرِ عُذْرٍ فَفِي صِحَّتِهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ وَإِنْ حَصَلَ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي هَذَا الْحَالِ، بَلْ وَكَذَلِكَ أَرْكَانُ الصَّلَاةِ وَوَاجِبَاتُهَا آكَدُ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ وَوَاجِبَاتِهِ، فَإِنَّ وَاجِبَاتِ الْحَجِّ إذَا تَرَكَهَا عَمْدًا لَمْ يَبْطُلْ حَجُّهُ، وَوَاجِبَاتُ الصَّلَاةِ إذَا تَرَكَهَا عَمْدًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَإِذَا نَقَصَ مِنْ الصَّلَاةِ رَكْعَةً عَمْدًا لَمْ تَصِحَّ، وَلَوْ طَافَ سِتَّةَ أَشْوَاطٍ صَحَّ وَوَجَبَ عَلَيْهِ دَمٌ عِنْد أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ، وَلَوْ نَكَّسَ الصَّلَاةَ لَمْ تَصِحَّ، وَلَوْ نَكَّسَ الطَّوَافَ فَفِيهِ خِلَافٌ، وَلَوْ صَلَّى مُحْدِثًا لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ، وَلَوْ طَافَ مُحْدِثًا أَوْ جُنُبًا صَحَّ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَغَايَةُ الطَّوَافِ أَنْ يُشَبَّهَ بِالصَّلَاةِ.
وَإِذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَغَايَةُ هَذِهِ إذَا طَافَتْ مَعَ الْحَيْضِ لِلضَّرُورَةِ أَنْ تَكُونَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ طَافَتْ عُرْيَانَةً لِلضَّرُورَةِ؛ فَإِنَّ نَهْيَ الشَّارِعِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ عَنْ الْأَمْرَيْنِ وَاحِدٌ، بَلْ السِّتَارَةُ فِي الطَّوَافِ آكَدُ مِنْ وُجُوهٍ؛ أَحَدُهَا: أَنَّ طَوَافَ الْعُرْيَانِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَطَوَافَ الْحَائِضِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ بِالسُّنَّةِ وَحْدَهَا؛ الثَّانِي أَنَّ كَشْفَ الْعَوْرَةِ حَرَامٌ فِي الطَّوَافِ وَخَارِجِهِ؛ الثَّالِثُ: أَنَّ طَوَافَ الْعُرْيَانِ أَقْبَحُ شَرْعًا وَعَقْلًا وَفِطْرَةً مِنْ طَوَافِ الْحَائِضِ وَالْجُنُبِ؛ فَإِذَا صَحَّ طَوَافُهَا مَعَ الْعُرْيِ لِلْحَاجَةِ فَصِحَّةُ طَوَافِهَا مَعَ الْحَيْضِ لِلْحَاجَةِ أَوْلَى وَأَحْرَى، وَلَا يُقَالُ " فَيَلْزَمُكُمْ عَلَى هَذَا أَنْ تَصِحَّ صَلَاتُهَا وَصَوْمُهَا مَعَ الْحَيْضِ لِلْحَاجَةِ " لِأَنَّا نَقُولُ: هَذَا سُؤَالٌ فَاسِدٌ؛ فَإِنَّ الْحَاجَةَ لَا تَدْعُوهَا إلَى ذَلِكَ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ صَلَاتَهَا زَمَنَ الطُّهْرِ مُغْنِيَةً لَهَا عَنْ صَلَاتِهَا فِي الْحَيْضِ وَكَذَلِكَ صِيَامَهَا، وَهَذِهِ لَا يُمْكِنُهَا [أَنْ] تَتَعَوَّضَ فِي حَالِ طُهْرِهَا بِغَيْرِ الْبَيْتِ، وَهَذَا يُبَيِّنُ سِرَّ الْمَسْأَلَةِ وَفِقْهَهَا، وَهُوَ أَنَّ الشَّارِعَ قَسَّمَ الْعِبَادَاتِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْحَائِضِ إلَى قِسْمَيْنِ: قِسْمٍ يُمْكِنُهَا التَّعَوُّض عَنْهُ فِي زَمَنِ الطُّهْرِ فَلَمْ يُوجِبْهُ عَلَيْهَا فِي الْحَيْضِ، بَلْ أَسْقَطَهُ إمَّا مُطْلَقًا كَالصَّلَاةِ وَإِمَّا إلَى بَدَلِهِ زَمَنَ الطُّهْرِ كَالصَّوْمِ. وَقِسْمٍ لَا يُمْكِنُ التَّعَوُّضُ عَنْهُ وَلَا تَأْخِيرُهُ إلَى زَمَنِ الطُّهْرِ فَشَرَعُهُ لَهَا مَعَ الْحَيْضِ أَيْضًا كَالْإِحْرَامِ وَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَتَوَابِعُهُ، وَمِنْ هَذَا جَوَازُ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ لَهَا وَهِيَ حَائِضٌ؛ إذْ لَا يُمْكِنُهَا التَّعَوُّضُ عَنْهَا زَمَنَ الطُّهْرِ؛ لِأَنَّ الْحَيْضَ قَدْ يَمْتَدُّ بِهَا غَالِبُهُ أَوْ أَكْثَرُهُ، فَلَوْ مُنِعَتْ مِنْ الْقِرَاءَةِ لَفَاتَتْ عَلَيْهَا مَصْلَحَتُهَا، وَرُبَّمَا نَسِيَتْ مَا حَفِظَتْهُ زَمَنَ طُهْرِهَا، وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ.
وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَمْنَعْ الْحَائِضَ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَحَدِيثُ «لَا تَقْرَأُ الْحَائِضُ وَالْجُنُبُ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ» لَمْ يَصِحَّ؛ فَإِنَّهُ حَدِيثٌ مَعْلُولٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ، فَإِنَّهُ مِنْ
رِوَايَةِ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ.
قَالَ التِّرْمِذِيُّ: لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ حَدِيث إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، وَسَمِعْت مُحَمَّدَ بْنَ إسْمَاعِيلَ يَقُولُ: إنَّ إسْمَاعِيلَ بْنَ عَيَّاشٍ يَرْوِي عَنْ أَهْلِ الْحِجَازِ وَأَهْلِ الْعِرَاقِ أَحَادِيثَ مَنَاكِيرَ، كَأَنَّهُ يُضَعِّفُ رِوَايَتَهُ عَنْهُمْ فِيمَا يَنْفَرِدُ بِهِ، وَقَالَ: إنَّمَا هُوَ حَدِيثُ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ عَنْ أَهْلِ الشَّامِ، انْتَهَى.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا: إذَا حَدَّثَ عَنْ أَهْلِ بَلَدِهِ فَصَحِيحٌ، وَإِذَا حَدَّثَ عَنْ غَيْرِهِمْ فَفِيهِ نَظَرٌ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ: مَا كَانَ أَحَدٌ أَعْلَمَ بِحَدِيثِ أَهْلِ الشَّامِ مِنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ لَوْ ثَبَتَ فِي حَدِيثِ أَهْلِ الشَّامِ، وَلَكِنَّهُ خَلَطَ فِي حَدِيثِ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَحَدَّثَنَا عَنْهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ ثُمَّ ضَرَبَ عَلَى حَدِيثِهِ؛ فَإِسْمَاعِيلُ عِنْدِي ضَعِيفٌ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ: عَرَضْت عَلَى أَبِي حَدِيثًا حَدَّثَنَاهُ الْفَضْلُ بْنُ زِيَادٍ الضَّبِّيُّ حَدَّثَنَا ابْنُ عَيَّاشٍ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا «لَا تَقْرَأْ الْحَائِضُ وَلَا الْجُنُبُ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ» فَقَالَ أَبِي: هَذَا بَاطِلٌ، يَعْنِي أَنَّ إسْمَاعِيلَ وَهِمَ.
وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ الْحَدِيثُ لَمْ يَبْقَ مَعَ الْمَانِعِينَ حُجَّةٌ إلَّا الْقِيَاسُ عَلَى الْجُنُبِ، وَالْفَرْقُ الصَّحِيحُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْجُنُبِ مَانِعٌ مِنْ الْإِلْحَاقِ، وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ؛ أَحَدُهَا: أَنَّ الْجُنُبَ يُمْكِنُهُ التَّطَهُّرُ مَتَى شَاءَ بِالْمَاءِ أَوْ بِالتُّرَابِ فَلَيْسَ لَهُ عُذْرٌ فِي الْقِرَاءَةِ مَعَ الْجَنَابَةِ بِخِلَافِ الْحَائِضِ، وَالثَّانِي: أَنَّ الْحَائِضَ يُشْرَعُ لَهَا الْإِحْرَامُ وَالْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ وَتَوَابِعُهُ مَعَ الْحَيْضِ بِخِلَافِ الْجُنُبِ، الثَّالِثُ: أَنَّ الْحَائِضَ يُشْرِعُ لَهَا أَنْ تَشْهَدَ الْعِيدَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ وَتَعْتَزِلَ الْمُصَلَّى بِخِلَافِ الْجُنُبِ.
وَقَدْ تَنَازَعَ مَنْ حَرَّمَ عَلَيْهَا الْقِرَاءَةَ: هَلْ يُبَاحُ لَهَا أَنْ تَقْرَأَ بَعْدَ انْقِطَاعِ الدَّمِ وَقَبْلَ الِاغْتِسَالِ؟ عَلَى ثَلَاثِهِ أَقْوَالٍ؛ أَحَدُهَا: الْمَنْعُ مُطْلَقًا وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ؛ لِأَنَّهَا بَعْدَ انْقِطَاعِ الدَّمِ تَصِيرُ كَالْجُنُبِ؛ الثَّانِي: الْجَوَازُ مُطْلَقًا وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى، قَالَ: وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ؛ وَالثَّالِثُ: إبَاحَتُهُ لِلنُّفَسَاءِ وَتَحْرِيمُهُ عَلَى الْحَائِضِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْخَلَّالِ؛ فَالْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، فَإِذَا لَمْ تُمْنَعْ الْحَائِضُ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ لِحَاجَتِهَا إلَيْهِ فَعَدَمُ مَنْعِهَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ عَنْ الطَّوَافِ الَّذِي هِيَ أَشَدُّ حَاجَةً إلَيْهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى
فَصْلٌ
هَذَا إذَا كَانَ الْمَنْعُ مِنْ طَوَافِهَا لِأَجْلِ الْمَنْعِ مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ أَوْ لِأَجْلِ الْحَيْضِ وَمُنَافَاتِهِ لِلطَّوَافِ، فَإِنْ قِيلَ بِالتَّقْدِيرِ الثَّالِثِ وَهُوَ أَنَّهُ لِمَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ بِحَيْثُ إذَا انْفَرَدَ
أَحَدُهُمَا لَمْ يَسْتَقِلَّ بِالتَّحْرِيمِ، أَوْ بِالتَّقْدِيرِ الرَّابِعِ وَهُوَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا عِلَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ كَانَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَيْنِ التَّقْدِيرَيْنِ كَالْكَلَامِ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَلَا يَمْتَنِعُ تَخْصِيصُ الْعِلَّةِ لِفَوَاتِ شَرْطٍ أَوْ لِقِيَامِ مَانِعٍ، وَسَوَاءٌ قِيلَ: إنَّ وُجُودَ الشَّرْطِ وَعَدَمَ الْمَانِعِ مِنْ أَجْزَاءِ الْعِلَّةِ أَوْ هُوَ أَمْرٌ خَارِجٌ عَنْهَا؛ فَالنِّزَاعُ لَفْظِيٌّ فَإِنْ أُرِيدَ بِالْعِلَّةِ التَّامَّةِ فَهُمَا مِنْ أَجْزَائِهَا، وَإِنْ أُرِيدَ مِنْهَا الْمُقْتَضِيَةَ كَانَا خَارِجَيْنِ عَنْهَا.
فَإِنْ قِيلَ: الطَّوَافُ كَالصَّلَاةِ، وَلِهَذَا تُشْتَرَطُ لَهُ الطَّهَارَةُ مِنْ الْحَدَثِ، وَقَدْ أَشَارَ إلَى هَذَا بِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ «الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ» وَالصَّلَاةُ لَا تُشْرَعُ وَلَا تَصِحُّ مَعَ الْحَيْضِ، فَهَكَذَا شَقِيقُهَا وَمُشَبَّهُهَا، لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْبَيْتِ فَلَمْ تَصِحَّ مَعَ الْحَيْضِ كَالصَّلَاةِ، وَعَكْسُهُ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ وَتَوَابِعُهُ.
فَالْجَوَابُ أَنَّ الْقَوْلَ بِاشْتِرَاطِ طَهَارَةِ الْحَدَثِ لِلطَّوَافِ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ نَصٌّ وَلَا إجْمَاعٌ، بَلْ فِيهِ النِّزَاعُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا؛ فَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ لَا يَشْتَرِطُونَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ أَحْمَدُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ فِي الشَّافِي: بَابٌ فِي الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ غَيْرَ طَاهِرٍ، قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ: لَا يَطُوفُ أَحَدٌ بِالْبَيْتِ إلَّا طَاهِرًا، وَالتَّطَوُّعُ أَيْسَرُ، وَلَا يَقِفُ مَشَاهِدَ الْحَجِّ إلَّا طَاهِرًا، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَكَمِ: إذَا طَافَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ وَهُوَ نَاسٍ لِطَهَارَتِهِ حَتَّى رَجَعَ فَإِنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَاخْتَارَ لَهُ أَنْ يَطُوفَ وَهُوَ طَاهِرٌ، وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ إذَا طَافَ جُنُبًا نَاسِيًا صَحَّ طَوَافُهُ وَلَا دَمَ عَلَيْهِ، وَعَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى عَلَيْهِ دَمٌ وَثَالِثَةٌ أَنَّهُ لَا يُجْزِيهِ الطَّوَافُ.
وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ أَصْحَابِهِ أَنَّ هَذَا الْخِلَافَ عَنْهُ إنَّمَا هُوَ فِي الْمُحْدِثِ وَالْجُنُبِ، فَأَمَّا الْحَائِضُ فَلَا يَصِحُّ طَوَافُهَا قَوْلًا وَاحِدًا؛ قَالَ شَيْخُنَا: وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ صَرَّحَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِنَا بِأَنَّ الْخِلَافَ عَنْهُ فِي الْحَيْضِ وَالْجَنَابَةِ.
قَالَ: وَكَلَامُ أَحْمَدَ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَيُبَيِّنُ أَنَّهُ كَانَ مُتَوَقِّفًا فِي طَوَافِ الْحَائِضِ وَفِي طَوَافِ الْجُنُبِ، قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ الْمَيْمُونِيُّ فِي مَسَائِلِهِ: قُلْت لِأَحْمَدَ: مَنْ طَافَ طَوَافَ الْوَاجِبِ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ وَهُوَ نَاسٍ ثُمَّ وَاقَعَ أَهْلَهُ، قَالَ: أُخْبِرُك مَسْأَلَةً فِيهَا وَهُمْ مُخْتَلِفُونَ، وَذَكَر قَوْلَ عَطَاءٍ وَالْحَسَنِ، قُلْت: مَا تَقُولُ أَنْتَ؟ قَالَ: دَعْهَا، أَوْ كَلِمَةً تُشْبِهُهَا.
وَقَالَ الْمَيْمُونِيُّ فِي مَسَائِلِهِ أَيْضًا: قُلْت لَهُ: مَنْ سَعَى وَطَافَ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ ثُمَّ وَاقَعَ أَهْلَهُ، فَقَالَ لِي: مَسْأَلَةٌ النَّاس فِيهَا مُخْتَلِفُونَ، وَذَكَرَ قَوْلَ ابْنِ عُمَرَ، وَمَا يَقُولُ عَطَاءٌ مِمَّا يَسْهُلُ فِيهَا، وَمَا يَقُولُ الْحَسَنُ، وَأَنَّ عَائِشَةَ قَالَ لَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حِينَ حَاضَتْ «افْعَلِي مَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ» ثُمَّ قَالَ لِي: إلَّا أَنَّ هَذَا أَمْرٌ بُلِيَتْ بِهِ نَزَلَ عَلَيْهَا لَيْسَ مِنْ قَبْلِهَا، قُلْت: فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ عَلَيْهَا الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ، فَقَالَ لِي: نَعَمْ كَذَا أَكْبَرُ عِلْمِي، قُلْت: وَمِنْهُمْ مَنْ يَذْهَبُ إلَى أَنَّ عَلَيْهَا دَمًا،
فَذَكَرَ تَسْهِيلَ عَطَاءٍ فِيهَا خَاصَّةً، وَقَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَوَّلًا وَآخِرًا: هِيَ مَسْأَلَةٌ مُشْتَبِهَةٌ فِيهَا مَوْضِعُ نَظَرٍ، فَدَعْنِي حَتَّى أَنْظُرَ فِيهَا، قَالَ ذَلِكَ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: وَإِنْ رَجَعَ إلَى بَلَدِهِ يَرْجِعُ حَتَّى يَطُوفَ، قُلْت: وَالنِّسْيَانُ، قَالَ: النِّسْيَانُ أَهْوَنُ حُكْمًا بِكَثِيرٍ، يُرِيدُ أَهْوَنَ مِمَّنْ يَطُوفُ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ مُتَعَمِّدًا، هَذَا لَفْظُ الْمَيْمُونِيِّ قُلْت: وَأَشَارَ أَحْمَدُ إلَى تَسْهِيلِ عَطَاءٍ إلَى فَتْوَاهُ أَنَّ امْرَأَةً إذَا حَاضَتْ فِي أَثْنَاءِ الطَّوَافِ فَإِنَّهَا تُتِمُّ طَوَافَهَا، وَهَذَا تَصْرِيحٌ مِنْهُ أَنَّ الطَّهَارَةَ لَيْسَتْ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الطَّوَافِ، وَقَدْ قَالَ إسْمَاعِيلُ بْنُ مَنْصُورٍ: ثنا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: حَاضَتْ امْرَأَةٌ وَهِيَ تَطُوفُ مَعَ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، فَحَاضَتْ فِي الطَّوَافِ، فَأَتَمَّتْ بِهَا عَائِشَةُ بَقِيَّةَ طَوَافِهَا هَذَا، وَالنَّاسُ إنَّمَا تَلَقَّوْا مَنْعَ الْحَائِضِ مِنْ الطَّوَافِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَقَدْ دَلَّتْ أَحْكَامُ الشَّرِيعَةِ عَلَى أَنَّ الْحَائِضَ أَوْلَى بِالْعُذْرِ، وَتَحْصِيلُ مَصْلَحَةِ الْعِبَادَةِ الَّتِي تَفُوتُهَا إذَا تَرَكَتْهَا مَعَ الْحَيْضِ مِنْ الْجُنُبِ، وَهَكَذَا إذَا حَاضَتْ فِي صَوْمِ شَهْرَيْ التَّتَابُعِ لَمْ يَنْقَطِعْ تَتَابُعُهَا بِالِاتِّفَاقِ، وَكَذَلِكَ تَقْضِي الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا مِنْ أَوَّلِهَا إلَى آخِرِهَا مَعَ الْحَيْضِ بِلَا كَرَاهَةٍ بِالِاتِّفَاقِ سِوَى الطَّوَافِ؛ وَكَذَلِكَ تَشْهَدُ الْعِيدَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ بِلَا كَرَاهَةٍ، بِالنَّصِّ. وَكَذَلِكَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ إمَّا مُطْلَقًا وَإِمَّا عِنْدَ خَوْفِ النِّسْيَانِ؛ وَإِذَا حَاضَتْ وَهِيَ مُعْتَكِفَةٌ لَمْ يَبْطُلْ اعْتِكَافُهَا بَلْ تُتِمُّهُ فِي رَحْبَةِ الْمَسْجِدِ.
وَسِرُّ الْمَسْأَلَةِ مَا أَشَارَ إلَيْهِ صَاحِبُ الشَّرْعِ بِقَوْلِهِ: «إنَّ هَذَا أَمْرٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ» وَكَذَلِكَ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: هَذَا أَمْرٌ بُلِيَتْ بِهِ نَزَلَ عَلَيْهَا لَيْسَ مِنْ قِبَلِهَا، وَالشَّرِيعَةُ قَدْ فَرَّقَتْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْجُنُبِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ؛ فَهِيَ أَحَقُّ بِأَنْ تُعْذَرَ مِنْ الْجُنُبِ الَّذِي طَافَ مَعَ الْجَنَابَةِ نَاسِيًا أَوْ ذَاكِرًا؛ فَإِذَا كَانَ فِيهِ النِّزَاعُ الْمَذْكُورُ فَهِيَ أَحَقُّ بِالْجَوَازِ مِنْهُ؛ فَإِنَّ الْجُنُبَ يُمْكِنُهُ الطَّهَارَةُ وَهِيَ لَا يُمْكِنُهَا، فَعُذْرُهَا بِالْعَجْزِ وَالضَّرُورَةِ أَوْلَى مِنْ عُذْرِهِ بِالنِّسْيَانِ، فَإِنَّ النَّاسِيَ لِمَا أُمِرَ بِهِ مِنْ الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ يُؤْمَرُ بِفِعْلِهِ إذَا ذَكَرَهُ، بِخِلَافِ الْعَاجِزِ عَنْ الشَّرْطِ وَالرُّكْنِ فَإِنَّهُ لَا يُؤْمَرُ بِإِعَادَةِ الْعِبَادَةِ مَعَهُ إذَا قَدَرَ عَلَيْهِ؛ فَهَذِهِ إذَا لَمْ يُمْكِنْهَا إلَّا الطَّوَافُ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ وَجَبَ عَلَيْهَا مَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ وَسَقَطَ عَنْهَا مَا تَعْجِزُ عَنْهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» وَهَذِهِ لَا تَسْتَطِيعُ إلَّا هَذَا، وَقَدْ اتَّقَتْ اللَّهَ مَا اسْتَطَاعَتْ؛ فَلَيْسَ عَلَيْهَا غَيْرُ ذَلِكَ بِالنَّصِّ وَقَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ، وَالْمُطْلَقُ يُقَيَّدُ بِدُونِ هَذَا بِكَثِيرٍ، وَنُصُوصُ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ الطَّوَافَ لَيْسَ كَالصَّلَاةِ فِي اشْتِرَاطِ الطَّهَارَةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا نَصَّهُ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَكَمِ إذَا طَافَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ وَهُوَ نَاسٍ لِطَهَارَتِهِ حَتَّى رَجَعَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَأَخْتَارُ لَهُ أَنْ يَطُوفَ وَهُوَ طَاهِرٌ، وَإِنْ وَطِئَ فَحَجُّهُ مَاضٍ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ عَطَاءٍ، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ صِحَّةُ الطَّوَافِ بِلَا طَهَارَةٍ
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْفَوَارِقَ بَيْنَ الطَّوَافِ وَالصَّلَاةِ أَكْثَرُ مِنْ الْجَوَامِعِ، فَإِنَّهُ يُبَاحُ فِيهِ الْكَلَامُ وَالْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالْعَمَلُ الْكَثِيرُ، وَلَيْسَ فِيهِ تَحْرِيمٌ وَلَا تَحْلِيلٌ وَلَا رُكُوعٌ وَلَا سُجُودٌ وَلَا قِرَاءَةٌ وَلَا تَشَهُّدٌ، وَلَا تَجِبُ لَهُ جَمَاعَةٌ، وَإِنَّمَا اجْتَمَعَ هُوَ وَالصَّلَاةُ فِي عُمُومِ كَوْنِهِ طَاعَةً وَقُرْبَةً، وَخُصُوصِ كَوْنِهِ مُتَعَلِّقًا بِالْبَيْتِ، وَهَذَا لَا يُعْطِيه شُرُوطَ الصَّلَاةِ كَمَا لَا يُعْطِيه وَاجِبَاتِهَا وَأَرْكَانَهَا.
وَأَيْضًا فَيُقَالُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْأَصْلِ كَوْنُهَا عِبَادَةً مُتَعَلِّقَةً بِالْبَيْتِ وَلَمْ يَذْكُرُوا عَلَى ذَلِكَ حُجَّةً وَاحِدَةً، وَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ مَا تَبَيَّنَ فِيهِ أَنَّ الْوَصْفَ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ هُوَ عِلَّةُ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ أَوْ دَلِيلُ الْعِلَّةِ؛ فَالْأَوَّلُ قِيَاسُ الْعِلَّةِ، وَالثَّانِي قِيَاسُ الدَّلَالَةِ.
وَأَيْضًا فَالطَّهَارَةُ إنَّمَا وَجَبَتْ لِكَوْنِهَا صَلَاةً، سَوَاءٌ تَعَلَّقَتْ بِالْبَيْتِ أَوْ لَمْ تَتَعَلَّقْ، وَلِهَذَا وَجَبَتْ النَّافِلَةُ فِي السَّفَرِ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ، وَوَجَبَتْ حِينَ كَانَتْ مَشْرُوعَةً إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَوَجَبَتْ لِصَلَاةِ الْخَوْفِ إذَا لَمْ يُمْكِنْ الِاسْتِقْبَالُ.
وَأَيْضًا فَهَذَا الْقِيَاسُ يُنْتَقَضُ بِالنَّظَرِ إلَى الْبَيْتِ؛ فَإِنَّهُ عِبَادَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْبَيْتِ، وَأَيْضًا فَهَذَا قِيَاسٌ مُعَارَضٌ بِمِثْلِهِ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: عِبَادَةٌ مِنْ شَرْطِهَا الْمَسْجِدُ، فَلَمْ تَكُنْ الطَّهَارَةُ شَرْطًا فِيهَا كَالِاعْتِكَافِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125] وَلَيْسَ إلْحَاقُ الطَّائِفِينَ بِالرُّكَّعِ السُّجُودِ أَوْلَى مِنْ إلْحَاقِهِمْ بِالْعَاكِفِينَ، بَلْ إلْحَاقُهُمْ بِالْعَاكِفِينَ أَشْبَهُ؛ فَإِنَّ الْمَسْجِدَ شَرْطٌ فِي كُلِّ مِنْهُمَا بِخِلَافِ الرُّكَّعِ السُّجُودِ.
فَإِنْ قِيلَ: الطَّائِفُ لَا بُدَّ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ، وَالصَّلَاةُ لَا تَكُونُ إلَّا بِطَهَارَةٍ.
قِيلَ: وُجُوبُ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ فِيهِ نِزَاعٌ، وَإِذَا قِيلَ بِوُجُوبِهِمَا لَمْ تَجِبْ الْمُوَالَاةُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الطَّوَافِ، وَلَيْسَ اتِّصَالُهُمَا بِأَعْظَمَ مِنْ اتِّصَالِ الصَّلَاةِ بِالْخُطْبَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَلَوْ خَطَبَ مُحْدِثًا ثُمَّ تَوَضَّأَ وَصَلَّى الْجُمُعَةَ جَازَ؛ فَجَوَازُ طَوَافِهِ مُحْدِثًا ثُمَّ يَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ أَوْلَى بِالْجَوَازِ، وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّهُ إذَا خَطَبَ جُنُبًا جَازَ.
فَصْلٌ [حُكْمُ الطَّهَارَةِ لِلطَّوَافِ]
وَإِذَا ظَهَرَ أَنَّ الطَّهَارَةَ لَيْسَتْ شَرْطًا فِي الطَّوَافِ، فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ وَاجِبَةً وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ سُنَّةً، وَهُمَا قَوْلَانِ لِلسَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَلَكِنْ مَنْ يَقُولُ هِيَ سُنَّةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ يَقُولُ: عَلَيْهَا دَمٌ، وَأَحْمَدُ يَقُولُ: لَيْسَ عَلَيْهَا دَمٌ وَلَا غَيْرُهُ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِيمَنْ طَافَ جُنُبًا وَهُوَ نَاسٍ،
قَالَ شَيْخُنَا: فَإِذَا طَافَتْ حَائِضًا مَعَ عَدَمِ الْعُذْرِ تَوَجَّهَ الْقَوْلُ بِوُجُوبِ الدَّمِ عَلَيْهَا، وَأَمَّا مَعَ الْعَجْزِ فَهُنَا غَايَةُ مَا يُقَالُ عَلَيْهَا دَمٌ؛ وَالْأَشْبَهُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الدَّمُ؛ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ وَاجِبٌ يُؤْمَرُ بِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ لَا مَعَ الْعَجْزِ، فَإِنَّ لُزُومَ الدَّمِ إنَّمَا يَكُونُ مَعَ تَرْكِ الْمَأْمُورِ أَوْ مَعَ فِعْلِ الْمَحْظُورِ، وَهَذِهِ لَمْ تَتْرُكْ مَأْمُورًا فِي هَذِهِ الْحَالِ وَلَا فَعَلَتْ مَحْظُورًا، فَإِنَّهَا إذَا رَمَتْ الْجَمْرَةَ وَقَصَّرَتْ حَلَّ لَهَا مَا كَانَ مَحْظُورًا عَلَيْهَا بِالْإِحْرَامِ غَيْرَ النِّكَاحِ؛ فَلَمْ يَبْقَ بَعْدَ التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ مَحْظُورٌ يَجِبُ بِفِعْلِهِ دَمٌ، وَلَيْسَتْ الطَّهَارَةُ مَأْمُورًا بِهَا مَعَ الْعَجْزِ فَيَجِبُ بِتَرْكِهَا دَمٌ.
فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ طَوَافُهَا مَعَ الْحَيْضِ مُمْكِنًا أُمِرَتْ بِطَوَافِ الْقُدُومِ وَطَوَافِ الْوَدَاعِ، فَلَمَّا سَقَطَ عَنْهَا طَوَافُ الْقُدُومِ وَالْوَدَاعِ عَلَى أَنَّ طَوَافَهَا مَعَ الْحَيْضِ غَيْرُ مُمْكِنٍ.
قِيلَ: لَا رَيْبَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَسْقَطَ طَوَافَ الْقُدُومِ عَنْ الْحَائِضِ، وَأَمَرَ عَائِشَةَ لَمَّا قَدِمَتْ وَهِيَ مُتَمَتِّعَةٌ فَحَاضَتْ أَنْ تَدَعَ أَفْعَالَ الْعُمْرَةِ وَتُحْرِمَ بِالْحَجِّ» فَعُلِمَ أَنَّ الطَّوَافَ مَعَ الْحَيْضِ مَحْظُورٌ لِحُرْمَةِ الْمَسْجِدِ أَوْ لِلطَّوَافِ أَوْ لَهُمَا، وَالْمَحْظُورَاتُ لَا تُبَاحُ إلَّا فِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ، وَلَا ضَرُورَةَ بِهَا إلَى طَوَافِ الْقُدُومِ؛ لِأَنَّهُ سُنَّةٌ بِمَنْزِلَةِ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ، وَلَا إلَى طَوَافِ الْوَدَاعِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ تَمَامِ الْحَجِّ، وَلِهَذَا لَا يُوَدِّعُ الْمُقِيمُ بِمَكَّةَ، وَإِنَّمَا يُوَدِّعُ الْمُسَافِرُ عَنْهَا فَيَكُونُ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ، فَهَذَانِ الطَّوَافَانِ أُمِرَ بِهِمَا الْقَادِرُ عَلَيْهِمَا إمَّا أَمْرَ إيجَابٍ فِيهِمَا أَوْ فِي أَحَدِهِمَا أَوْ اسْتِحْبَابٍ كَمَا هِيَ أَقْوَالٌ مَعْرُوفَةٌ، وَلَيْسَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا رُكْنًا يَقِفُ صِحَّةُ الْحَجِّ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ طَوَافِ الْفَرْضِ فَإِنَّهَا مُضْطَرَّةٌ إلَيْهِ.
وَهَذَا كَمَا يُبَاحُ لَهَا الدُّخُولُ إلَى الْمَسْجِدِ وَاللُّبْثُ فِيهِ لِلضَّرُورَةِ، وَلَا يُبَاحُ لَهَا الصَّلَاةُ، وَلَا الِاعْتِكَافُ فِيهِ وَإِنْ كَانَ مَنْذُورًا، وَلَوْ حَاضَتْ الْمُعْتَكِفَةُ خَرَجَتْ مِنْ الْمَسْجِدِ إلَى فِنَائِهِ فَأَتَمَّتْ اعْتِكَافَهَا وَلَمْ يَبْطُلْ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْعَ الْحَائِضِ مِنْ الطَّوَافِ كَمَنْعِهَا مِنْ الِاعْتِكَافِ، وَإِنَّمَا هُوَ لِحُرْمَةِ الْمَسْجِدِ لَا لِمُنَافَاةِ الْحَيْضِ لِعِبَادَةِ الطَّوَافِ وَالِاعْتِكَافِ، وَلَمَّا كَانَ الِاعْتِكَافُ يُمْكِنُ أَنْ يُفْعَلَ فِي رَحْبَةِ الْمَسْجِدِ وَفِنَائِهِ جُوِّزَ لَهَا إتْمَامُهُ فِيهَا لِحَاجَتِهَا، وَالطَّوَافُ لَا يُمْكِنُ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ، وَحَاجَتُهَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ إلَيْهِ أَعْظَمُ مِنْ حَاجَتِهَا إلَى الِاعْتِكَافِ، بَلْ لَعَلَّ حَاجَتَهَا إلَى ذَلِكَ أَعْظَمُ مِنْ حَاجَتِهَا إلَى دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَاللُّبْثِ فِيهِ لِبَرْدٍ وَمَطَرٍ أَوْ نَحْوِهِ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ فِي فَصْلَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا: فِي اقْتِضَاءِ قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ لَهَا لَا لِمُنَافَاتِهَا، وَقَدْ تَبَيَّنَ ذَلِكَ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ، وَالثَّانِي: فِي أَنَّ كَلَامَ الْأَئِمَّةِ وَفَتَاوِيهِمْ فِي الِاشْتِرَاطِ وَالْوُجُوبِ إنَّمَا هُوَ فِي حَالِ الْقُدْرَةِ وَالسَّعَةِ لَا فِي حَالِ الضَّرُورَةِ وَالْعَجْزِ؛ فَالْإِفْتَاءُ بِهَا لَا يُنَافِي نَصَّ الشَّارِعِ، وَلَا قَوْلَ الْأَئِمَّةِ، وَغَايَةُ الْمُفْتِي بِهَا أَنَّهُ يُقَيِّدُ مُطْلَقَ كَلَامِ الشَّارِعِ بِقَوَاعِد