الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْآخَرِ؛ فَكَانَ الْعَمَلُ بِهِ وَاجِبًا، وَهَذَا كَمَا لَوْ تَعَارَضَ دَلِيلُ الْفِرَاشِ وَدَلِيلُ الشَّبَهِ، فَإِنَّا نُعْمِلُ دَلِيلَ الْفِرَاشِ وَلَا نَلْتَفِتُ إلَى الشَّبَهِ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ، فَأَيْنَ فِي هَذَا مَا يُبْطِلُ الْمَقَاصِدَ وَالنِّيَّاتِ وَالْقَرَائِنَ الَّتِي لَا مُعَارِضَ لَهَا؟ وَهَلْ يَلْزَمُ مِنْ بُطْلَانِ الْحُكْمِ بِقَرِينَةٍ قَدْ عَارَضَهَا مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهَا بُطْلَانُ الْحُكْمِ بِجَمِيعِ الْقَرَائِنِ؟ وَسَيَأْتِي دَلَالَةُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَقْوَالُ الصَّحَابَةِ وَجُمْهُورِ الْأَئِمَّةِ عَلَى الْعَمَلِ بِالْقَرَائِنِ وَاعْتِبَارِهَا فِي الْأَحْكَامِ
وَأَمَّا إنْفَاذُهُ لِلْحُكْمِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَهُمَا كَاذِبٌ فَلَيْسَ فِي الْمُمْكِنِ شَرْعًا غَيْرُ هَذَا، وَهَذَا شَأْنُ عَامَّةِ الْمُتَدَاعِينَ، لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُحِقًّا وَالْآخَرُ مُبْطِلًا، وَيَنْفُذُ حُكْمُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا تَارَةً بِإِثْبَاتِ حَقِّ الْمُحِقِّ وَإِبْطَالِ بَاطِلِ الْمُبْطِلِ، وَتَارَةً بِغَيْرِ ذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَ الْمُحِقِّ دَلِيلٌ.
وَأَمَّا حَدِيثُ رُكَانَةَ لَمَّا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ أَلْبَتَّةَ وَأَحْلَفَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ إنَّمَا أَرَادَ وَاحِدَةً فَمِنْ أَعْظَمِ الْأَدِلَّةِ عَلَى صِحَّةِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ، وَأَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الْعُقُودِ بِنِيَّاتِ أَصْحَابِهَا وَمَقَاصِدِهِمْ وَإِنْ خَالَفَتْ ظَوَاهِرَ أَلْفَاظِهِمْ؛ فَإِنَّ لَفْظَ أَلْبَتَّةَ يَقْتَضِي أَنَّهَا قَدْ بَانَتْ مِنْهُ وَانْقَطَعَ التَّوَاصُلُ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُمَا بِالنِّكَاحِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُ عَلَيْهَا رَجْعَةٌ، بَلْ بَانَتْ مِنْهُ أَلْبَتَّةَ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُ أَلْبَتَّةَ لُغَةً وَعُرْفًا، وَمَعَ هَذَا فَرَدَّهَا عَلَيْهِ، وَقَبِلَ قَوْلَهُ أَنَّهَا وَاحِدَةٌ مَعَ مُخَالَفَةِ الظَّوَاهِرِ اعْتِمَادًا عَلَى قَصْدِهِ وَنِيَّتِهِ، فَلَوْلَا اعْتِبَارُ الْقُصُودِ فِي الْعُقُودِ لَمَا نَفَعَهُ قَصْدُهُ الَّذِي يُخَالِفُ ظَاهِرَ لَفْظِهِ مُخَالَفَةً ظَاهِرَةً بَيِّنَةً؛ فَهَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ لِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ، وَقَدْ قُبِلَ مِنْهُ فِي الْحُكْمِ، وَدِينُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ، فَلَمْ يَقْضِ عَلَيْهِ بِمَا أَظْهَرَ مِنْ لَفْظِهِ لَمَّا أَخْبَرَهُ بِأَنَّ نِيَّتَهُ وَقَصْدَهُ كَانَ خِلَافَ ذَلِكَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: " إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَبْطَلَ فِي حُكْمِ الدُّنْيَا اسْتِعْمَالَ الدَّلَالَةِ الَّتِي لَا يُوجَدُ أَقْوَى مِنْهَا " يَعْنِي دَلَالَةَ الشَّبَهِ فَإِنَّمَا أَبْطَلَهَا بِدَلَالَةٍ أَقْوَى مِنْهَا وَهِيَ اللِّعَانُ، كَمَا أَبْطَلَهَا مَعَ قِيَامِ دَلَالَةِ الْفِرَاشِ، وَاعْتَبَرَهَا حَيْثُ لَمْ يُعَارِضْهَا مِثْلُهَا وَلَا أَقْوَى مِنْهَا فِي إلْحَاقِ الْوَلَدِ بِالْقَافَةِ وَهِيَ دَلَالَةُ الشَّبَهِ، فَأَيْنَ فِي هَذَا إلْغَاءُ الدَّلَالَاتِ وَالْقَرَائِنِ مُطْلَقًا؟
[فَصْلٌ أَحْكَامُ الدُّنْيَا تَجْرِي عَلَى الْأَسْبَابِ]
[أَحْكَامُ الدُّنْيَا تَجْرِي عَلَى الْأَسْبَابِ]
وَأَمَّا قَوْلُهُ: " إنَّهُ لَمْ يَحْكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ بِحُكْمِ الْكُفْرِ مَعَ الدَّلَالَةِ الَّتِي لَا أَقْوَى مِنْهَا وَهِيَ خَبَرُ اللَّهِ تَعَالَى عَنْهُمْ وَشَهَادَتُهُ عَلَيْهِمْ
فَجَوَابُهُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُجْرِ أَحْكَامَ الدُّنْيَا عَلَى عِلْمِهِ فِي عِبَادِهِ، وَإِنَّمَا أَجْرَاهَا عَلَى الْأَسْبَابِ الَّتِي نَصَبَهَا أَدِلَّةً عَلَيْهَا وَإِنْ عَلِمَ سبحانه وتعالى أَنَّهُمْ مُبْطِلُونَ فِيهَا مُظْهِرُونَ لِخِلَافِ مَا يُبْطِنُونَ، وَإِذَا أَطْلَعَ اللَّهُ رَسُولَهُ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُنَاقِضًا لِحُكْمِهِ الَّذِي شَرَعَهُ وَرَتَّبَهُ
عَلَى تِلْكَ الْأَسْبَابِ كَمَا رَتَّبَ عَلَى الْمُتَكَلِّمِ بِالشَّهَادَتَيْنِ حُكْمَهُ وَأَطْلَعَ رَسُولَهُ وَعِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى أَحْوَالِ كَثِيرٍ مِنْ الْمُنَافِقِينَ وَأَنَّهُمْ لَمْ يُطَابِقْ قَوْلُهُمْ اعْتِقَادَهُمْ.
وَهَذَا كَمَا أَجْرَى حُكْمَهُ عَلَى الْمُتَلَاعِنَيْنِ ظَاهِرًا ثُمَّ أَطْلَعَ رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ عَلَى حَالِ الْمَرْأَةِ بِشَبَهِ الْوَلَدِ لِمَنْ رُمِيَتْ بِهِ، وَكَمَا قَالَ:«إنَّمَا أَقْضِي بِنَحْوِ مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْت لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ» .
وَقَدْ يُطْلِعُهُ اللَّهُ عَلَى حَالِ آخِذِ مَا لَا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُهُ، وَلَا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ مِنْ إنْفَاذِ الْحُكْمِ. وَأَمَّا الَّذِي قَالَ:" يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلَامًا أَسْوَدَ " فَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْقَذْفِ لَا صَرِيحًا وَلَا كِنَايَةً، وَإِنَّمَا أَخْبَرَهُ بِالْوَاقِعِ مُسْتَفْتِيًا عَنْ حُكْمِ هَذَا الْوَلَدِ: أَيَسْتَلْحِقُهُ مَعَ مُخَالَفَةِ لَوْنِهِ لِلَوْنِهِ أَمْ يَنْفِيه فَأَفْتَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَقَرَّبَ لَهُ الْحُكْمَ بِالشَّبَهِ الَّذِي ذَكَرَهُ؛ لِيَكُونَ أَذْعَنَ لِقَبُولِهِ، وَانْشِرَاحِ الصَّدْرِ لَهُ، وَلَا يَقْبَلُهُ عَلَى إغْمَاضٍ.
فَأَيْنَ فِي هَذَا مَا يُبْطِلُ حَدَّ الْقَذْفِ بِقَوْلِ مَنْ يُشَاتِمُ غَيْرَهُ: أَمَّا أَنَا فَلَسْت بِزَانٍ، وَلَيْسَتْ أُمِّي بِزَانِيَةٍ. وَنَحْوِ هَذَا مِنْ التَّعْرِيضِ الَّذِي هُوَ أَوْجَعُ وَأَنْكَى مِنْ التَّصْرِيحِ، وَأَبْلَغُ فِي الْأَذَى، وَظُهُورُهُ عِنْدَ كُلِّ سَامِعٍ بِمَنْزِلَةِ ظُهُورِ الصَّرِيحِ، فَهَذَا لَوْنٌ وَذَلِكَ لَوْنٌ، وَقَدْ حَدَّ عُمَرُ بِالتَّعْرِيضِ فِي الْقَذْفِ، وَوَافَقَهُ الصَّحَابَةُ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ رحمه الله " إنَّهُ اسْتَشَارَ الصَّحَابَةَ فَخَالَفَهُ بَعْضُهُمْ " فَإِنَّهُ يُرِيدُ مَا رَوَاهُ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الرِّجَالِ عَنْ أُمِّهِ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ رَجُلَيْنِ اسْتَبَّا فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ: وَاَللَّهِ مَا أَنَا بِزَانٍ وَلَا أُمِّي بِزَانِيَةٍ، فَاسْتَشَارَ فِي ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه. فَقَالَ قَائِلٌ: مَدَحَ أَبَاهُ وَأُمَّهُ، وَقَالَ آخَرُونَ: قَدْ كَانَ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ مَدْحٌ غَيْرُ هَذَا، نَرَى أَنْ تَجْلِدَهُ الْحَدَّ، فَجَلَدَهُ عُمَرُ الْحَدَّ ثَمَانِينَ، وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَائِلَ الْأَوَّلَ خَالَفَ عُمَرُ؛ فَإِنَّهُ لَمَّا قِيلَ لَهُ إنَّهُ قَدْ كَانَ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ مَدْحٌ غَيْرُ هَذَا فُهِمَ أَنَّهُ أَرَادَ الْقَذْفَ فَسَكَتَ، وَهَذَا إلَى الْمُوَافَقَةِ أَقْرَبُ مِنْهُ إلَى الْمُخَالَفَةِ.
وَقَدْ صَحَّ عَنْ عُمَرَ مِنْ وُجُوهٍ أَنَّهُ حَدَّ فِي التَّعْرِيضِ، فَرَوَى مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُمَرَ كَانَ يَحُدُّ فِي التَّعْرِيضِ بِالْفَاحِشَةِ، وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ صَفْوَانَ وَأَيُّوبَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ حَدَّ فِي التَّعْرِيضِ.
وَذَكَرَ أَبُو عُمَرَ أَنَّ عُثْمَانَ كَانَ يَحُدُّ فِي التَّعْرِيضِ وَذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَكَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَرَى الْحَدَّ فِي التَّعْرِيضِ، وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَهُوَ مَحْضُ الْقِيَاسِ، كَمَا يَقَعُ الطَّلَاقُ وَالْعِتْقُ وَالْوَقْفُ وَالظِّهَارُ بِالصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ، وَاللَّفْظُ إنَّمَا وُضِعَ لِدَلَالَتِهِ عَلَى الْمَعْنَى؛ فَإِذَا ظَهَرَ الْمَعْنَى غَايَةَ الظُّهُورِ لَمْ يَكُنْ فِي تَغْيِيرِ اللَّفْظِ كَثِيرُ فَائِدَةٍ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: " مَنْ حَكَمَ عَلَى النَّاسِ بِخِلَافِ مَا ظَهَرَ عَلَيْهِمْ لَمْ يَسْلَمْ مِنْ خِلَافِ التَّنْزِيلِ وَالسُّنَّةِ " فَإِنَّهُ يُشِيرُ بِذَلِكَ إلَى قَبُولِ تَوْبَةِ الزِّنْدِيقِ، وَحَقْنِ دَمِهِ بِإِسْلَامِهِ وَقَبُولِ تَوْبَةِ الْمُرْتَدِّ وَإِنْ