الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يُسَلِّطَ أَعْدَاءَ الدِّينِ عَلَى الْقَدْحِ فِيهِ وَسُوءِ الظَّنِّ بِهِ وَبِمَنْ شَرَعَهُ، وَالثَّامِنُ: أَنَّهُ يُعْمِلُ فِكْرَهُ وَاجْتِهَادَهُ فِي نَقْضِ مَا أَبْرَمَهُ الرَّسُولُ وَإِبْطَالِ مَا أَوْجَبَهُ وَتَحْلِيلِ مَا حَرَّمَهُ، وَالتَّاسِعُ: أَنَّهُ إعَانَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتْ الطَّرِيقُ؛ فَهَذَا يُعِينُ عَلَيْهِ بِحِيلَةٍ ظَاهِرُهَا صَحِيحٌ مَشْرُوعٌ يَتَوَصَّلُ بِهَا إلَيْهِ، وَذَاكَ يُعِينُ عَلَيْهِ بِطَرِيقِهِ الْمُفْضِيَةِ إلَيْهِ بِنَفْسِهَا، فَكَيْفَ كَانَ هَذَا مُعِينًا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَالْمُتَحَيِّلُ الْمُخَادِعُ يُعِينُ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى؟ الْعَاشِرُ: أَنَّ هَذَا ظُلْمٌ فِي حَقِّ اللَّهِ وَحَقِّ رَسُولِهِ وَحَقِّ دِينِهِ وَحَقِّ نَفْسِهِ وَحَقِّ الْعَبْدِ الْمُعَيَّنِ وَحُقُوقِ عُمُومِ الْمُؤْمِنِينَ؛ فَإِنَّهُ يُغْرِي بِهِ وَيَعْلَمُهُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ، وَالْمُتَوَصِّلُ إلَيْهِ بِطَرِيقِ الْمَعْصِيَةِ لَا يَظْلِمُ إلَّا نَفْسَهُ. وَمَنْ تَعَلَّقَ بِهِ ظُلْمُهُ مِنْ الْمُعِينِينَ فَإِنَّهُ لَا يَزْعُمُ أَنَّ ذَلِكَ دِينٌ وَشَرْعٌ وَلَا يَقْتَدِي بِهِ النَّاسُ، فَأَيْنَ فَسَادُ أَحَدِهِمَا مِنْ الْآخَرِ وَضَرَرُهُ مِنْ ضَرَرِهِ؟ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.
[فَصْلٌ حُجَجُ الَّذِينَ جَوَّزُوا الْحِيَلَ]
فَصْلٌ
[حُجَجُ الَّذِينَ جَوَّزُوا الْحِيَلَ] : قَالَ أَرْبَابُ الْحِيَلِ: قَدْ أَكْثَرْتُمْ مِنْ ذَمِّ الْحِيَلِ، وَأَجْلَبْتُمْ بِخَيْلِ الْأَدِلَّةِ وَرَجْلِهَا وَسَمِينِهَا وَمَهْزُولِهَا، فَاسْتَمِعُوا الْآنَ تَقْرِيرَهَا وَاشْتِقَاقَهَا مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَأَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ، وَأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَحَدًا إنْكَارُهَا.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ أَيُّوبَ: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} [ص: 44] فَأَذِنَ لِنَبِيِّهِ أَيُّوبَ أَنْ يَتَحَلَّلَ مِنْ يَمِينِهِ بِالضَّرْبِ بِالضِّغْثِ، وَقَدْ كَانَ نَذَرَ أَنْ يَضْرِبَهَا ضَرَبَاتٍ مَعْدُودَةً، وَهِيَ فِي الْمُتَعَارَفِ الظَّاهِرِ إنَّمَا تَكُونُ مُتَفَرِّقَةً؛ فَأَرْشَدَهُ تَعَالَى إلَى الْحِيلَةِ فِي خُرُوجِهِ مِنْ الْيَمِينِ، فَنَقِيسُ عَلَيْهِ سَائِرَ الْبَابِ، وَنُسَمِّيه وُجُوهُ الْمَخَارِجِ مِنْ الْمَضَائِقِ، وَلَا تُسَمِّيه بِالْحِيَلِ الَّتِي يَنْفِرُ النَّاسُ مِنْ اسْمِهَا.
وَأَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ نَبِيِّهِ يُوسُفَ عليه السلام أَنَّهُ جَعَلَ صُوَاعَهُ فِي رَحْلِ أَخِيهِ يَتَوَصَّلُ بِذَلِكَ إلَى أَخْذِهِ مِنْ إخْوَتِهِ، وَمَدَحَهُ بِذَلِكَ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ بِرِضَاهُ وَإِذْنِهِ، كَمَا قَالَ:{كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76] فَأَخْبَرَ أَنَّ هَذَا كَيْدُهُ لِنَبِيِّهِ وَأَنَّهُ بِمَشِيئَتِهِ، وَأَنَّهُ يَرْفَعُ دَرَجَةَ عَبْدِهِ بِلَطِيفِ الْعِلْمِ وَدَقِيقِهِ الَّذِي لَا يَهْتَدِي إلَيْهِ سِوَاهُ، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل: 50] فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ مَكَرَ بِمَنْ مَكَرَ بِأَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ، وَكَثِيرٌ مِنْ الْحِيَلِ هَذَا شَأْنُهَا، يَمْكُرُ بِهَا عَلَى الظَّالِمِ
وَالْفَاجِرُ وَمَنْ يَعْسُرُ تَخْلِيصُ الْحَقِّ مِنْهُ؛ فَتَكُونُ وَسِيلَةً إلَى نَصْرِ مَظْلُومٍ وَقَهْرِ ظَالِمٍ وَنَصْرِ حَقٍّ وَإِبْطَالِ بَاطِلٍ.
وَاَللَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى أَخْذِهِمْ بِغَيْرِ وَجْهِ الْمَكْرِ الْحَسَنِ. وَلَكِنْ جَازَاهُمْ بِجِنْسِ عَمَلِهِمْ، وَلِيُعَلِّمَ عِبَادَهُ أَنَّ الْمَكْرَ الَّذِي يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى إظْهَارِ الْحَقِّ وَيَكُونُ عُقُوبَةً لِلْمَاكِرِ لَيْسَ قَبِيحًا.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142] وَخِدَاعُهُ لَهُمْ أَنْ يُظْهِرَ لَهُمْ أَمْرًا وَيُبْطِنَ لَهُمْ خِلَافَهُ. فَمَا تُنْكِرُونَ عَلَى أَرْبَابِ الْحِيَلِ الَّذِينَ يُظْهِرُونَ أَمْرًا يَتَوَصَّلُونَ بِهِ إلَى بَاطِنٍ غَيْرِهِ اقْتِدَاءً بِفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى؟ وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَعْمَلَ رَجُلًا عَلَى خَيْبَرَ، فَجَاءَهُمْ بِتَمْرٍ جَنِيبٍ، فَقَالَ: أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا؟ قَالَ: إنَّا لَنَأْخُذُ الصَّاعَ مِنْ هَذَا بِالصَّاعَيْنِ، وَالصَّاعَيْنِ بِالثَّلَاثِ، فَقَالَ: لَا تَفْعَلْ، بِعْ الْجَمِيعَ بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا» وَقَالَ فِي الْمِيزَانِ مِثْلَ ذَلِكَ، فَأَرْشَدَهُ إلَى الْحِيلَةِ عَلَى التَّخَلُّصِ مِنْ الرِّبَا بِتَوَسُّطِ الْعَقْدِ الْآخَرِ، وَهَذَا أَصْلٌ فِي جَوَازِ الْعِينَةِ.
وَهَلْ الْحِيَلُ إلَّا مَعَارِيضُ فِي الْفِعْلِ عَلَى وِزَانِ الْمَعَارِيضِ فِي الْقَوْلِ؟ وَإِذَا كَانَ فِي الْمَعَارِيضِ مَنْدُوحَةٌ عَنْ الْكَذِبِ فَفِي مَعَارِيضِ الْفِعْلِ مَنْدُوحَةٌ عَنْ الْمُحَرَّمَاتِ وَتَخَلُّصٌ مِنْ الْمَضَايِقِ.
وَقَدْ «رَأَتْ امْرَأَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ عَبْدَ اللَّهِ عَلَى جَارِيَةٍ لَهُ، فَذَهَبَتْ وَجَاءَتْ بِسِكِّينٍ، فَصَادَفَتْهُ وَقَدْ قَضَى حَاجَتَهُ، فَقَالَتْ: لَوْ وَجَدْتُك عَلَى الْحَالِ الَّتِي كُنْت عَلَيْهَا لَوَجَأْتُك، فَأَنْكَرَ، فَقَالَتْ: فَاقْرَأْ إنْ كُنْت صَادِقًا، فَقَالَ:
شَهِدْت بِأَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ
…
وَأَنَّ النَّارَ مَثْوَى الْكَافِرِينَا
وَأَنَّ الْعَرْشَ فَوْقَ الْمَاءِ طَافٍ
…
وَفَوْقَ الْعَرْشِ رَبُّ الْعَالَمِينَا
وَتَحْمِلُهُ مَلَائِكَةٌ كِرَامٌ
…
مَلَائِكَةُ الْإِلَهِ مُسَوِّمِينَا
فَقَالَتْ: آمَنْتُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَكَذَّبْت بَصَرِي، فَبَلَغَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَضَحِكَ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ» ، وَهَذَا تَحَيُّلٌ مِنْهُ بِإِظْهَارِ الْقِرَاءَةِ لَمَّا أَوْهَمَ أَنَّهُ قُرْآنٌ لِيَتَخَلَّصَ بِهِ مِنْ مَكْرُوهِ الْغِيرَةِ.
وَكَانَ بَعْضُ السَّلَفِ إذَا أَرَادَ أَنْ لَا يُطْعِمَ طَعَامًا لِرَجُلٍ قَالَ: أَصْبَحْت صَائِمًا، يُرِيدُ أَنَّهُ أَصْبَحَ فِيمَا سَلَف صَائِمًا قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ إذَا اقْتَضَاهُ بَعْضُ غُرَمَائِهِ وَلَيْسَ عِنْدَهُ مَا يُعْطِيه قَالَ: أُعْطِيك فِي أَحَدِ الْيَوْمَيْنِ إنْ شَاءَ اللَّهُ، يُرِيدُ بِذَلِكَ يَوْمَيْ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَسَأَلَ رَجُلٌ عَنْ الْمَرْوَزِيِّ وَهُوَ فِي دَارِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، فَكَرِهَ الْخُرُوجَ إلَيْهِ، فَوَضَعَ أَحْمَدُ إصْبَعَهُ فِي كَفِّهِ، فَقَالَ: لَيْسَ الْمَرْوَزِيِّ هَاهُنَا، وَمَا يَصْنَعُ الْمَرْوَزِيِّ هَاهُنَا؟ وَحَضَرَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ مَجْلِسًا، فَلَمَّا أَرَادَ النُّهُوضَ مَنَعُوهُ، فَحَلَفَ أَنَّهُ يَعُودُ، ثُمَّ خَرَجَ وَتَرَكَ نَعْلَهُ كَالنَّاسِي لَهَا، فَلَمَّا خَرَجَ عَادَ وَأَخَذَهَا وَانْصَرَفَ.
وَقَدْ كَانَ لِشُرَيْحٍ فِي هَذَا الْبَابِ فِقْهٌ دَقِيقٌ كَمَا أَعْجَبَ رَجُلًا فَرَسُهُ وَأَرَادَ أَخْذَهَا مِنْهُ، فَقَالَ لَهُ شُرَيْحٌ: إنَّهَا إذَا أُرْبِضَتْ لَمْ تَقُمْ حَتَّى تُقَامَ، فَقَالَ الرَّجُلُ: أُفٍّ أُفٍّ، وَإِنَّمَا أَرَادَ شُرَيْحٌ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي يُقِيمُهَا. وَبَاعَ مِنْ رَجُلٍ نَاقَةً، فَقَالَ لَهُ الْمُشْتَرِي: كَمْ تَحْمِلُ؟ فَقَالَ: احْمِلْ عَلَى الْحَائِطِ مَا شِئْت، فَقَالَ: كَمْ تَحْلِبُ؟ قَالَ: احْلِبْ فِي أَيِّ إنَاءٍ شِئْت، فَقَالَ: كَيْفَ سَيْرُهَا؟ قَالَ: الرِّيحُ لَا تُلْحَقُ، فَلَمَّا قَبَضَهَا الْمُشْتَرِي لَمْ يَجِدْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، فَجَاءَ إلَيْهِ وَقَالَ: مَا وَجَدْت شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: مَا كَذَبْتُك.
قَالُوا: وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الشَّارِعَ جَعَلَ الْعُقُودَ وَسَائِلَ وَطُرُقًا إلَى إسْقَاطِ الْحُدُودِ وَالْمَأْثَمِ، وَلِهَذَا لَوْ وَطِئَ الْإِنْسَانُ امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ وَلَا شُبْهَةٍ لَزِمَهُ الْحَدُّ، فَإِذَا عَقَدَ عَلَيْهَا عَقْدَ النِّكَاحِ ثُمَّ وَطِئَهَا لَمْ يَلْزَمْهُ الْحَدُّ، وَكَانَ الْعَقْدُ حِيلَةً عَلَى إسْقَاطِ الْحَدِّ، بَلْ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ وَاللِّبَاسَ حِيلَةً عَلَى دَفْعِ أَذَى الْجُوعِ وَالْعَطَشِ وَالْبَرْدِ، وَالِاكْتِفَاءَ حِيلَةً إلَى دَفْعِ الصَّائِلِ مِنْ الْحَيَوَانِ وَغَيْرِهِ، وَعَقْدَ التَّبَايُعِ حِيلَةً عَلَى حُصُولِ الِانْتِفَاعِ بِمِلْكِ الْغَيْرِ، وَسَائِرَ الْعُقُودِ حِيلَةً عَلَى التَّوَصُّلِ إلَى مَا لَا يُبَاحُ إلَّا بِهَا، وَشُرِعَ الرَّهْنُ حِيلَةً عَلَى رُجُوعِ صَاحِبِ الدَّيْنِ فِي مَالِهِ مِنْ عَيْنِ الرَّهْنِ إذَا أَفْلَسَ الرَّاهِنُ أَوْ تَعَذَّرَ الِاسْتِيفَاءُ مِنْهُ.
وَقَدْ رَوَى سَلَمَةُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ يَزِيدَ الْوَاسِطِيِّ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ قَالَ: «سَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَعْظَمِ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَقَالَ: لَا أَخْرُجُ مِنْ الْمَسْجِدِ حَتَّى أُخْبِرَكَ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَجْلِسِهِ، فَلَمَّا أَخْرَجَ إحْدَى رِجْلَيْهِ أَخْبَرَهُ بِالْآيَةِ قَبْلَ أَنْ يُخْرِجَ
رِجْلَهُ الْأُخْرَى» ، وَقَدْ بَنَى الْخَصَّافُ كِتَابَهُ فِي الْحِيَلِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ أَنَّ مَنْ حَلَفَ أَنْ لَا يَفْعَلَ شَيْئًا فَأَرَادَ التَّخَلُّصَ مِنْ الْحِنْثِ بِفِعْلِ بَعْضِهِ لَمْ يَكُنْ حَانِثًا، فَإِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ هَذَا الرَّغِيفَ وَلَا يَأْخُذُ هَذَا الْمَتَاعَ فَلْيَدَعْ بَعْضَهُ وَيَأْخُذَ الْبَاقِيَ وَلَا يَحْنَثُ، وَهَذَا أَصْلٌ فِي بَابِهِ فِي التَّخَلُّصِ مِنْ الْأَيْمَانِ.
وَهَذَا السَّلَفُ الطَّيِّبُ قَدْ فَتَحُوا لَنَا هَذَا الْبَابَ، وَنَهَجُوا لَنَا هَذَا الطَّرِيقَ، فَرَوَى قَيْسُ بْنُ الرَّبِيعِ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ إبْرَاهِيمَ فِي رَجُلٍ أَخَذَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: إنَّ لِي مَعَك حَقًّا، فَقَالَ: لَا، فَقَالَ: احْلِفْ لِي بِالْمَشْيِ إلَى بَيْتِ اللَّهِ، فَقَالَ: يَحْلِفُ لَهُ بِالْمَشْيِ إلَى بَيْتِ اللَّهِ، وَيَعْنِي بِهِ مَسْجِدَ حَيِّهِ، وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ أَنَّهُ قَالَ لَهُ رَجُلٌ: إنَّ فُلَانًا أَمَرَنِي أَنْ آتِيَ مَكَانَ كَذَا وَكَذَا، وَأَنَا لَا أَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ، فَكَيْفَ الْحِيلَةُ؟ قَالَ: يَقُولُ وَاَللَّهِ مَا أُبْصِرُ إلَّا مَا سَدَّدَنِي غَيْرِي.
وَذَكَرَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَيْسَرَةَ عَنْ النَّزَّالِ بْنِ سَبْرَةَ قَالَ: جَعَلَ حُذَيْفَةُ يَحْلِفُ لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ عَلَى أَشْيَاءَ بِاَللَّهِ مَا قَالَهَا، وَقَدْ سَمِعْنَاهُ يَقُولُهَا، فَقُلْنَا: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، سَمِعْنَاك تَحْلِفُ لِعُثْمَانَ عَلَى أَشْيَاءَ مَا قُلْتهَا، وَقَدْ سَمِعْنَاك قُلْتهَا، فَقَالَ: إنِّي أَشْتَرِي دِينِي بَعْضَهُ بِبَعْضٍ مَخَافَةَ أَنْ يَذْهَبَ كُلُّهُ، وَذَكَرَ قَيْسُ بْنُ الرَّبِيعِ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ إبْرَاهِيمَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لَهُ: إنِّي أَنَالُ مِنْ رَجُلٍ شَيْئًا فَيَبْلُغُهُ عَنِّي، فَكَيْفَ أَعْتَذِرُ لَهُ؟ فَقَالَ لَهُ إبْرَاهِيمُ: قُلْ وَاَللَّهِ إنَّ اللَّهَ لَيَعْلَمُ مَا قُلْت مِنْ ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ، وَكَانَ إبْرَاهِيمُ يَقُولُ لِأَصْحَابِهِ إذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِ وَهُوَ مُسْتَخْفٍ مِنْ الْحَجَّاجِ: إنْ سُئِلْتُمْ عَنِّي فَاحْلِفُوا بِاَللَّهِ لَا تَدْرُونَ أَيْنَ أَنَا، وَلَا فِي أَيِّ مَوْضِعٍ أَنَا، وَاعْنُوا لَا تَدْرُونَ أَيْنَ أَنَا مِنْ الْبَيْتِ، وَفِي أَيِّ مَوْضِعٌ مِنْهُ، وَأَنْتُمْ صَادِقُونَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَا يَسُرُّنِي بِمَعَارِيضِ الْكَلَامِ حُمُرُ النَّعَمِ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ حُمَيْدٍ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ عَنْ أُمِّهِ أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ - وَكَانَتْ مِنْ الْمُهَاجِرَاتِ الْأُوَلِ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: رَخَّصَ فِي الْكَذِبِ فِي ثَلَاثٍ: فِي الرَّجُلِ يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ، وَالرَّجُلِ يَكْذِبُ لِامْرَأَتِهِ، وَالْكَذِبِ فِي الْحَرْبِ» .
وَقَالَ مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيُّ عَنْ أَبِيهِ: حَدَّثَنِي نُعَيْمُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ عَنْ سُوَيْد بْنِ غَفْلَةَ أَنَّ عَلِيًّا كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ فِي الْجَنَّةِ لَمَّا قَتَلَ الزَّنَادِقَةَ نَظَرَ فِي الْأَرْضِ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ إلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ قَالَ: صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، ثُمَّ قَامَ فَدَخَلَ بَيْتَهُ، فَأَكْثَرَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ، فَدَخَلْت عَلَيْهِ فَقُلْت: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَشَيْءٌ عَهِدَ إلَيْك رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمْ شَيْءٌ رَأَيْته؟ فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ مِنْ بَأْسٍ أَنْ أَنْظُرَ إلَى السَّمَاءِ؟ قُلْت: لَا، قَالَ: فَهَلْ عَلَيَّ مِنْ بَأْسٍ أَنْ أَنْظُرَ إلَى الْأَرْضِ؟ قُلْت:
لَا، قَالَ فَهَلْ عَلَيَّ مِنْ بَأْسٍ أَنْ أَقُولَ صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؟ قُلْت: لَا، قَالَ: فَإِنِّي رَجُلُ مَكَائِدٌ.
وَقَالَ حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ: ثنا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي مِسْكِينٍ قَالَ: كُنْت عِنْدَ إبْرَاهِيمَ وَامْرَأَتُهُ تُعَاتِبُهُ فِي جَارِيَتِهِ وَبِيَدِهَا مِرْوَحَةٌ، فَقَالَ: أُشْهِدُكُمْ بِأَنَّهَا لَهَا، فَلَمَّا خَرَجْنَا قَالَ: عَلَامَ شَهِدْتُمْ؟ قُلْنَا: أَشْهَدْتَنَا أَنَّكَ جَعَلْت الْجَارِيَةَ لَهَا، قَالَ: أَمَا رَأَيْتُمُونِي أُشِيرُ إلَى الْمِرْوَحَةِ؟ .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ؛ لَا بَأْسَ بِالْحِيَلِ فِيمَا يَحِلُّ وَيَجُوزُ، وَإِنَّمَا الْحِيَلُ شَيْءٌ يَتَخَلَّصُ بِهِ الرَّجُلُ مِنْ الْحَرَامِ، وَيَخْرُجُ بِهِ إلَى الْحَلَالِ، فَمَا كَانَ مِنْ هَذَا وَنَحْوِهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَإِنَّمَا يُكْرَهُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَحْتَالَ الرَّجُلُ فِي حَقِّ الرَّجُلِ حَتَّى يُبْطِلَهُ، أَوْ يَحْتَالَ فِي بَاطِلٍ حَتَّى يُوهِمَ أَنَّهُ حَقٌّ، أَوْ يَحْتَالَ فِي شَيْءٍ حَتَّى يُدْخِلَ فِيهِ شُبْهَةً، وَأَمَّا مَا كَانَ عَلَى السَّبِيلِ الَّذِي قُلْنَا فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ.
قَالُوا: وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2] قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ: مَخْرَجًا مِمَّا ضَاقَ عَلَى النَّاسِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذِهِ الْحِيَلَ مَخَارِجُ مِمَّا ضَاقَ عَلَى النَّاسِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْحَالِفَ يَضِيقُ عَلَيْهِ إلْزَامُ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ لَهُ بِالْحِيلَةِ مَخْرَجٌ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ تَشْتَدُّ بِهِ الضَّرُورَةُ إلَى نَفَقَةٍ وَلَا يَجِدُ مَنْ يُقْرِضُهُ فَيَكُونُ لَهُ مِنْ هَذَا الضِّيقِ مَخْرَجٌ بِالْعِينَةِ وَالتَّوَرُّقِ وَنَحْوِهِمَا، فَلَوْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ لَهَلَكَ وَلَهَلَكَتْ عِيَالُهُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى لَا يُشَرِّعُ ذَلِكَ، وَلَا يَضِيقُ عَلَيْهِ شَرْعُهُ الَّذِي وَسِعَ جَمِيعَ خَلْقِهِ؛ فَقَدْ دَارَ أَمْرُهُ بَيْنَ ثَلَاثَةٍ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهَا: إمَّا إضَاعَةُ نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ، وَإِمَّا الرِّبَا صَرِيحًا، وَإِمَّا الْمَخْرَجُ مِنْ هَذَا الضِّيقِ بِهَذِهِ الْحِيلَةِ، فَأَوْجَدُونَا أَمْرًا رَابِعًا نَصِيرُ إلَيْهِ.
وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ يَنْزِعُهُ الشَّيْطَانُ فَيَقَعُ بِهِ الطَّلَاقِ فَيَضِيقُ عَلَيْهِ جِدًّا مُفَارَقَةُ امْرَأَتِهِ وَأَوْلَادِهِ وَخَرَابُ بَيْتِهِ، فَكَيْفَ يُنْكِرُ فِي حِكْمَةِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ أَنْ نَتَحَيَّلَ لَهُ بِحِيلَةٍ تُخْرِجُهُ مِنْ هَذَا الْإِصْرِ وَالْغُلِّ؟ وَهَلْ السَّاعِي فِي ذَلِكَ إلَّا مَأْجُورٌ غَيْرُ مَأْزُورٍ كَمَا قَالَهُ إمَامُ الظَّاهِرِيَّةِ فِي وَقْتِهِ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ وَأَبُو ثَوْرٍ وَبَعْضُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَحَمَلُوا أَحَادِيثَ التَّحْرِيمِ عَلَى مَا إذَا شَرَطَ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ أَنَّهُ نِكَاحُ تَحْلِيلٍ؟ قَالُوا: وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: أَرْسَلَتْ امْرَأَةٌ إلَى رَجُلٍ، فَزَوَّجَتْهُ نَفْسَهَا لِيُحِلَّهَا لِزَوْجِهَا، فَأَمَرَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَنْ يُقِيمَ مَعَهَا وَلَا يُطَلِّقَهَا، وَأَوْعَدَهُ أَنْ يُعَاقِبَهُ إنْ طَلَّقَهَا، فَهَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ صَحَّحَ نِكَاحَهُ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِاسْتِئْنَافِهِ، وَهُوَ حُجَّةٌ فِي صِحَّةِ نِكَاحِ الْمُحَلَّلِ وَالنِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ.
وَذَكَرَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى بَأْسًا بِالتَّحْلِيلِ، إذَا لَمْ يَعْلَمْ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ.
قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: وَهُوَ قَوْلُ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ. وَصَحَّ عَنْ عَطَاءٍ فِيمَنْ نَكَحَ امْرَأَةً مُحَلِّلًا ثُمَّ رَغِبَ فِيهَا فَأَمْسَكَهَا، قَالَ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: لَا بَأْسَ بِالتَّحْلِيلِ إذَا لَمْ يَأْمُرْ بِهِ الزَّوْجُ.
وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: إنْ تَزَوَّجَهَا ثُمَّ فَارَقَهَا لِتَرْجِعَ إلَى زَوْجِهَا وَلَمْ يَعْلَمْ الْمُطَلِّقُ وَلَا هِيَ بِذَلِكَ وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ إحْسَانًا مِنْهُ فَلَا بَأْسَ أَنْ تَرْجِعَ إلَى الْأَوَّلِ، فَإِنْ بَيَّنَ الثَّانِي ذَلِكَ لِلْأَوَّلِ بَعْدَ دُخُولِهِ بِهَا لَمْ يَضُرَّهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ: الْمُحَلِّلُ الَّذِي يَفْسُدُ نِكَاحُهُ هُوَ الَّذِي يَعْقِدُ عَلَيْهِ فِي نَفْسِ عَقْدِ النِّكَاحِ أَنَّهُ إنَّمَا يَتَزَوَّجُهَا ثُمَّ يُطَلِّقُهَا، فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ فَعَقْدُهُ صَحِيحٌ لَا دَاخِلَةَ فِيهِ، سَوَاءٌ شَرَطَ ذَلِكَ عَلَيْهِ قَبْلَ الْعَقْدِ أَوْ لَمْ يَشْرُطْ، نَوَى ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَنْوِهِ، قَالَ أَبُو ثَوْرٍ: وَهُوَ مَأْجُورٌ.
وَرَوَى بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ [مِثْلُ هَذَا سَوَاءٌ. وَرَوَى أَيْضًا مُحَمَّدٌ وَأَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ] : إذَا نَوَى الثَّانِي وَهِيَ تَحْلِيلُهَا لِلْأَوَّلِ لَمْ تَحِلَّ لَهُ بِذَلِكَ. وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ زُفَرَ وَأَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ إنْ اُشْتُرِطَ عَلَيْهِ فِي نَفْسِ الْعَقْدِ أَنَّهُ إنَّمَا تَزَوَّجَهَا لِيُحِلَّهَا لِلْأَوَّلِ فَإِنَّهُ نِكَاحٌ صَحِيحٌ، وَيَبْطُلُ الشَّرْطُ، وَلَهُ أَنْ يُقِيمَ مَعَهَا؛ فَهَذِهِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.
قَالُوا: وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] وَهَذَا زَوْجٌ، وَقَدْ عَقَدَ بِمَهْرٍ وَوَلِيٍّ وَرِضَاهَا وَخُلُوِّهَا مِنْ الْمَوَانِعِ الشَّرْعِيَّةِ، وَهُوَ رَاغِبٌ فِي رَدِّهَا إلَى الْأَوَّلِ؛ فَيَدْخُلُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَا نِكَاحَ إلَّا نِكَاحُ رَغْبَةٍ» وَهَذَا نِكَاحُ رَغْبَةٍ فِي تَحْلِيلِهَا لِلْمُسْلِمِ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا شَرَطَ فِي عَوْدِهَا إلَى الْأَوَّلِ مُجَرَّدَ ذَوْقِ الْعُسَيْلَةِ بَيْنَهُمَا، وَغَيَّا الْحِلَّ بِذَلِكَ فَقَالَ:«لَا، حَتَّى تَذُوقَ عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَهَا» فَإِذَا تَذَاوَقَا الْعُسَيْلَةَ حَلَّتْ لَهُ بِالنَّصِّ.
قَالُوا: وَأَمَّا نِكَاحُ الدُّلْسَةِ فَنَعَمْ هُوَ بَاطِلٌ، وَلَكِنْ مَا هُوَ نِكَاحُ الدُّلْسَةِ؟ فَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِهِ أَنْ تُدَلِّسَ لَهُ الْمَرْأَةُ بِغَيْرِهَا، أَوْ تُدَلِّسَ لَهُ أَنَّهَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَلَمْ تَنْقَضِ لِتَسْتَعْجِلَ عَوْدَهَا إلَى الْأَوَّلِ.
وَأَمَّا لَعْنُهُ لِلْمُحَلِّلِ فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُرِدْ كُلَّ مُحَلِّلٍ وَمُحَلَّلٍ لَهُ؛ فَإِنَّ الْوَلِيَّ مُحَلِّلٌ لِمَا كَانَ حَرَامًا قَبْلَ الْعَقْدِ، وَالْحَاكِمُ الْمُزَوِّجُ مُحَلِّلٌ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، وَالْبَائِعُ لِأُمَّتِهِ مُحَلِّلٌ لِلْمُشْتَرِي وَطْأَهَا، فَإِنْ قُلْنَا:" الْعَامُّ إذَا خَصَّ صَارَ مُجْمَلًا " بَطَلَ الِاحْتِجَاجُ بِالْحَدِيثِ، وَإِنْ قُلْنَا:" هُوَ حُجَّةٌ فِيمَا عَدَا مَحَلَّ التَّخْصِيصِ " فَذَلِكَ مَشْرُوطٌ بِبَيَانِ الْمُرَادِ مِنْهُ، وَلَسْنَا نَدْرِي الْمُحَلِّلَ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا النَّصِّ، أَهُوَ الَّذِي نَوَى التَّحْلِيلَ أَوْ شَرَطَهُ قَبْلَ الْعَقْدِ أَوْ شَرَطَهُ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ؟ أَوْ الَّذِي أَحَلَّ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؟ وَوَجَدْنَا كُلَّ مَنْ تَزَوَّجَ مُطَلَّقَةً ثَلَاثًا فَإِنَّهُ مُحَلِّلٌ، وَلَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ التَّحْلِيلَ وَلَمْ يَنْوِهِ؛ فَإِنَّ الْحِلَّ حَصَلَ بِوَطْئِهِ وَعَقْدِهِ؟ وَمَعْلُومٌ قَطْعًا أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي النَّصِّ، فَعُلِمَ أَنَّ النَّصَّ إنَّمَا أَرَادَ بِهِ مَنْ أَحَلَّ الْحَرَامَ بِفِعْلِهِ أَوْ عَقْدِهِ، وَنَحْنُ وَكُلُّ مُسْلِمٍ لَا نَشُكُّ فِي أَنَّهُ أَهْلٌ لِلَعْنَةِ اللَّهِ، أَمَّا مَنْ قَصَدَ الْإِحْسَانَ إلَى أَخِيهِ الْمُسْلِمِ وَرَغِبَ فِي جَمْعِ شَمْلِهِ بِزَوْجَتِهِ، وَلَمِّ شَعْثِهِ وَشَعْثِ أَوْلَادِهِ وَعِيَالِهِ؛ فَهُوَ مُحْسِنٌ، وَمَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ، فَضْلًا عَنْ أَنْ تَلْحَقَهُمْ لَعْنَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
ثُمَّ قَوَاعِدُ الْفِقْهِ وَأَدِلَّتُهُ لَا تُحَرِّمُ مِثْلَ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْعُقُودَ الَّتِي لَمْ يَشْتَرِطْ الْمَحْرَمُ فِي صُلْبِهَا عُقُودٌ صَدَرَتْ مِنْ أَهْلِهَا فِي مَحِلِّهَا مَقْرُونَةً بِشُرُوطِهَا، فَيَجِبُ الْحُكْمُ بِصِحَّتِهَا؛ لِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ وَهُمَا تَامَّانِ، وَأَهْلِيَّةُ الْعَاقِدِ لَا نِزَاعَ فِيهَا، وَمَحَلِّيَّةُ الْعَقْدِ قَابِلَةٌ، فَلَمْ يَبْقَ إلَّا الْقَصْدُ الْمَقْرُونُ بِالْعَقْدِ، وَلَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي بُطْلَانِ الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ، لِوُجُوهٍ؛ أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُحْتَالَ مَثَلًا إنَّمَا قَصَدَ الرِّبْحَ الَّذِي وُضِعَتْ لَهُ التِّجَارَةُ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَإِذَا حَصَلَ لَهُ الرِّبْحُ حَصَلَ لَهُ مَقْصُودُهُ، وَقَدْ سَلَكَ الطَّرِيقَ الْمُفْضِيَةَ إلَيْهِ فِي ظَاهِرِ الشَّرْعِ، وَالْمُحَلِّلُ غَايَتُهُ أَنَّهُ قَصَدَ الطَّلَاقَ وَنَوَاهُ إذَا وَطِئَ الْمَرْأَةَ، وَهُوَ مِمَّا مَلَّكَهُ الشَّارِعُ إيَّاهُ، فَهُوَ كَمَا لَوْ نَوَى الْمُشْتَرِي إخْرَاجَ الْمَبِيعِ عَنْ مِلْكِهِ إذَا اشْتَرَاهُ، وَسِرُّ ذَلِكَ أَنَّ السَّبَبَ مُقْتَضٍ لِتَأَبُّدِ الْمِلْكِ، وَالنِّيَّةُ لَا تُغَيِّرُ مُوجِبَ السَّبَبِ حَتَّى يُقَالَ: إنَّ النِّيَّةَ تُوجِبُ تَأْقِيتَ الْعَقْدِ، وَلَيْسَتْ هِيَ مُنَافِيَةً لِمُوجِبِ الْعَقْدِ، فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَ. وَلَوْ نَوَى بِعَقْدِ الشِّرَاءِ إتْلَافَ الْمَبِيعِ وَإِحْرَاقَهُ أَوْ إغْرَاقَهُ لَمْ يَقْدَحْ فِي صِحَّةِ الْبَيْعِ، فَنِيَّةُ الطَّلَاقِ أَوْلَى، وَأَيْضًا فَالْقَصْدُ لَا يَقْدَحُ فِي اقْتِضَاءِ السَّبَبِ لِحُكْمِهِ؛ لِأَنَّهُ خَارِجٌ عَمَّا يَتِمُّ بِهِ الْعَقْدُ، وَلِهَذَا لَوْ اشْتَرَى عَصِيرًا وَمِنْ نِيَّتِهِ أَنْ يَتَّخِذَهُ
خَمْرًا أَوْ جَارِيَةً وَمِنْ نِيَّتِهِ أَنْ يُكْرِهَهَا عَلَى الْبِغَاءِ أَوْ يَجْعَلَهَا مُغَنِّيَةً أَوْ سِلَاحًا وَمِنْ نِيَّتِهِ أَنْ يَقْتُلَ بِهِ مَعْصُومًا فَكُلُّ ذَلِكَ لَا أَثَرَ لَهُ فِي صِحَّةِ الْبَيْعِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ عَنْ السَّبَبِ؛ فَلَا يَخْرُجُ السَّبَبُ عَنْ اقْتِضَاءِ حُكْمِهِ.
وَقَدْ ظَهَرَ بِهَذَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا الْقَصْدِ وَبَيْنَ الْإِكْرَاهِ؛ فَإِنَّ الرِّضَا شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ، وَالْإِكْرَاهُ يُنَافِي الرِّضَا، وَظَهَرَ أَيْضًا الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّرْطِ الْمُقَارِنِ؛ فَإِنَّ الشَّرْطَ الْمُقَارِنَ يَقْدَحُ فِي مَقْصُودِ الْعَقْدِ؛ فَغَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ الْعَاقِدَ قَصَدَ مُحَرَّمًا، لَكِنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ، كَمَا لَوْ تَزَوَّجَهَا لِيُضَارَّ بِهَا امْرَأَةً لَهُ أُخْرَى، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ النِّيَّةَ إنَّمَا تَعْمَلُ فِي اللَّفْظِ الْمُحْتَمِلِ لِلْمَنْوِيِّ وَغَيْرِهِ، مِثْلَ الْكِنَايَاتِ، وَمِثْلَ أَنْ يَقُولَ: اشْتَرَيْت كَذَا؛ فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ لِنَفْسِهِ وَلِمُوَكَّلِهِ، فَإِذَا نَوَى أَحَدَهُمَا صَحَّ، فَإِذَا كَانَ السَّبَبُ ظَاهِرًا مُتَعَيِّنًا لِمُسَبِّبِهِ لَمْ يَكُنْ لِلنِّيَّةِ الْبَاطِنَةِ أَثَرٌ فِي تَغْيِيرِ حُكْمِهِ.
يُوَضِّحُهُ أَنَّ النِّيَّةَ لَا تُؤَثِّرُ فِي اقْتِضَاءِ الْأَسْبَابِ الْحِسِّيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِمُسَبِّبَاتِهَا وَلَا تُؤَثِّرُ النِّيَّةُ فِي تَغْيِيرِهَا، يُوَضِّحُهُ أَنَّ النِّيَّةَ إمَّا أَنْ تَكُونَ بِمَنْزِلَةِ الشَّرْطِ أَوْ لَا تَكُونَ، فَإِنْ كَانَتْ بِمَنْزِلَةِ الشَّرْطِ لَزِمَ أَنَّهُ إذَا نَوَى أَنْ لَا يَبِيعَ مَا اشْتَرَاهُ وَلَا يَهَبُهُ وَلَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ، أَوْ نَوَى أَنْ يُخْرِجَهُ عَنْ مِلْكِهِ، أَوْ نَوَى أَنْ لَا يُطَلِّقَ الزَّوْجَةَ أَوْ يَبِيتَ عِنْدَهَا كُلَّ لَيْلَةٍ أَوْ لَا يُسَافِرَ عَنْهَا، بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَشْتَرِطَ ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ، وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ بِمَنْزِلَةِ الشَّرْطِ فَلَا تَأْثِيرَ لَهُ حِينَئِذٍ.
وَأَيْضًا فَنَحْنُ لَنَا ظَوَاهِرُ الْأُمُورِ، وَإِلَى اللَّهِ سَرَائِرُهَا وَبَوَاطِنُهَا؛ وَلِهَذَا يَقُولُ الرُّسُلُ لِرَبِّهِمْ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إذَا سَأَلَهُمْ:{مَاذَا أُجِبْتُمْ} [المائدة: 109] فَيَقُولُونَ: {لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ} [المائدة: 109] كَانَ لَنَا ظَوَاهِرُهُمْ، وَأَمَّا مَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ ضَمَائِرُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ فَأَنْتَ الْعَالِمُ بِهِ.
قَالُوا: فَقَدْ ظَهَرَ عُذْرُنَا، وَقَامَتْ حُجَّتُنَا، فَتَبَيَّنَ أَنَّا لَمْ نَخْرُجْ فِيمَا أَصَّلْنَاهُ - مِنْ اعْتِبَارِ الظَّاهِرِ، وَعَدَمِ الِالْتِفَاتِ إلَى الْقُصُودِ فِي الْعُقُودِ، وَإِلْغَاءِ الشُّرُوطِ الْمُتَقَدِّمَةِ الْخَالِي عَنْهَا الْعَقْدُ، وَالتَّحَيُّلُ عَلَى التَّخَلُّصِ مِنْ مَضَايِقِ الْأَيْمَانِ وَمَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ الرِّبَا وَغَيْرِهِ - عَنْ كِتَابِ رَبِّنَا وَسُنَّةِ نَبِيِّنَا وَأَقْوَالِ السَّلَفِ الطَّيِّبِ.
وَلَنَا بِهَذِهِ الْأُصُولِ رَهْنٌ عِنْدَ كُلِّ طَائِفَةٍ مِنْ الطَّوَائِفِ الْمُنْكِرَةِ عَلَيْنَا.
[ادِّعَاءٌ أَنَّ فِي مَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ فُرُوعًا يَنْبَنِي عَلَيْهَا تَجْوِيزُ الْحِيَلِ] : قُلْنَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ رُهُونٌ كَثِيرَةٌ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ، وَقَدْ سَلَّمُوا لَنَا أَنَّ الشَّرْطَ الْمُتَقَدِّمَ عَلَى الْعَقْدِ مُلْغًى، وَسَلَّمُوا لَنَا أَنَّ الْقُصُودَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فِي الْعُقُودِ، وَسَلَّمُوا لَنَا جَوَازَ التَّحَيُّلِ عَلَى
إسْقَاطِ الشُّفْعَةِ، وَقَالُوا: يَجُوزُ التَّحَيُّلُ عَلَى بَيْعِ الْمَعْدُومِ مِنْ الثِّمَارِ فَضْلًا عَمَّا لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ بِأَنْ يُؤَجِّرَهُ الْأَرْضَ وَيُسَاقِيَهُ عَلَى الثَّمَرِ مِنْ كُلِّ أَلْفٍ جُزْءٌ عَلَى جُزْءٍ، وَهَذَا نَفْسُ الْحِيلَةِ عَلَى بَيْعِ الثِّمَارِ قَبْلَ وُجُودِهَا، فَكَيْفَ تُنْكِرُونَ عَلَيْنَا التَّحَيُّلَ عَلَى بَيْعِهَا قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا؟ وَهَلْ مَسْأَلَةُ الْعَيِّنَةِ إلَّا مِلْكَ بَابِ الْحِيَلِ؟ وَهُمْ يُبْطِلُونَ الشَّرِكَةَ بِالْعُرُوضِ ثُمَّ يَقُولُونَ: الْحِيلَةُ فِي جَوَازِهَا أَنْ يَبِيعَ كُلٌّ مِنْهُمَا نِصْفَ عَرْضِهِ لِصَاحِبِهِ، فَيَصِيرَانِ شَرِيكَيْنِ حِينَئِذٍ بِالْفِعْلِ وَيَقُولُونَ: لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُ الْوَكَالَةِ بِالشَّرْطِ، وَالْحِيلَةُ عَلَى جَوَازِهَا أَنْ يُوَكِّلَهُ الْآنَ وَيُعَلِّقَ تَصَرُّفَهُ بِالشَّرْطِ.
وَقَوْلُهُمْ فِي الْحِيَلِ عَلَى عَدَمِ الْحِنْثِ بِالْمَسْأَلَةِ السريجية مَعْرُوفٌ، وَكُلُّ حِيلَةٍ سِوَاهُ مُحَلَّلٌ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ حِيلَةٌ عَلَى أَنْ يَحْلِفَ دَائِمًا بِالطَّلَاقِ وَيَحْنَثَ وَلَا يَقَعُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ أَبَدًا.
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَهُمْ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ إنْكَارًا عَلَيْنَا لِلْحِيَلِ، وَأُصُولُهُمْ تُخَالِفُ أُصُولَنَا فِي ذَلِكَ؛ إذْ عِنْدَهُمْ أَنَّ الشَّرْطَ الْمُتَقَدِّمَ كَالْمُقَارَنِ، وَالشَّرْطَ الْعُرْفِيَّ كَاللَّفْظِيِّ، وَالْقُصُودُ فِي الْعُقُودِ مُعْتَبَرَةٌ، وَالذَّرَائِعُ يَجِبُ سَدُّهَا، وَالتَّغْرِيرُ الْفِعْلِيُّ كَالتَّغْرِيرِ الْقَوْلِيِّ، وَهَذِهِ الْأُصُولُ تَسُدُّ بَابَ الْحِيَلِ سَدًّا مُحْكَمًا. وَلَكِنْ قَدْ عَلَّقْنَا لَهُمْ بِرُهُونٍ نُطَالِبُهُمْ بِفَكَاكِهَا أَوْ بِمُوَافَقَتِهِمْ لَنَا عَلَى مَا أَنْكَرُوهُ عَلَيْنَا، فَجَوَّزُوا التَّحَيُّلَ عَلَى إسْقَاطِ الشُّفْعَةِ، وَقَالُوا: لَوْ تَزَوَّجَهَا وَمِنْ نِيَّتِهِ أَنْ يُقِيمَ مَعَهَا سَنَةً صَحَّ النِّكَاحُ، وَلَمْ تَعْمَلْ هَذِهِ النِّيَّةُ فِي فَسَادِهِ.
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَبَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ مُعْتَرَكُ النِّزَالِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ؛ فَإِنَّهُمْ هُمْ الَّذِينَ شَنُّوا عَلَيْنَا الْغَارَاتِ، وَرَمَوْنَا بِكُلِّ سِلَاحٍ مِنْ الْأَثَرِ وَالنَّظَرِ، وَلَمْ يُرَاعُوا لَنَا حُرْمَةً، وَلَمْ يَرْقُبُوا فِينَا إلًّا وَلَا ذِمَّةً.
وَقَالُوا: لَوْ نَصَبَ شِبَاكًا لِلصَّيْدِ قَبْلَ الْإِحْرَامِ ثُمَّ أَخَذَ مَا وَقَعَ فِيهَا حَالَ الْإِحْرَامِ بَعْدَ الْحِلِّ جَازَ. وَيَا لِلَّهِ الْعَجَبُ، أَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ هَذِهِ الْحِيلَةِ وَحِيلَةِ أَصْحَابِ السَّبْتِ عَلَى الْحِيتَانِ؟ وَقَالُوا: لَوْ نَوَى الزَّوْجُ الثَّانِي أَنْ يُحِلَّهَا لِلْأَوَّلِ وَلَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ جَازَ وَحَلَّتْ لَهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ، وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ النِّيَّةَ لَا تُؤَثِّرْ فِي الْعَقْدِ. وَقَالُوا: لَوْ تَزَوَّجَهَا وَمِنْ نِيَّتِهِ أَنْ يُقِيم مَعَهَا شَهْرًا ثُمَّ يُطَلِّقُهَا صَحَّ الْعَقْدُ، وَلَمْ تَكُنْ نِيَّةُ التَّوْقِيتِ مُؤَثِّرَةً فِيهِ، وَكَلَامُهُمْ فِي بَابِ الْمَخَارِجِ مِنْ الْأَيْمَانِ بِأَنْوَاعٍ الْحِيَلِ مَعْرُوفٌ، وَعَنَّا تَلَقَّوْهُ، وَمِنَّا أَخَذُوهُ. وَقَالُوا: لَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يَشْتَرِيَ مِنْهُ ثَوْبًا فَاتَّهَبَهُ مِنْهُ وَشَرَطَ لَهُ الْعِوَضَ لَا يَحْنَثُ. وَقَالُوا بِجَوَازِ مَسْأَلَةِ التَّوَرُّقِ.
وَهِيَ شَقِيقَةُ مَسْأَلَةِ الْعَيِّنَةِ؛ فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ مَصِيرِ السِّلْعَةِ إلَى الْبَائِعِ وَبَيْنَ مَصِيرِهَا إلَى غَيْرِهِ؟ بَلْ قَدْ يَكُونُ عَوْدُهَا إلَى الْبَائِعِ أَرْفَقُ بِالْمُشْتَرِي وَأَقَلُّ كَلِفَةً عَلَيْهِ وَأَرْفَعُ لِخَسَارَتِهِ وَتَعَنِّيهِ.
فَكَيْفَ
تُحَرِّمُونَ الضَّرَرَ الْيَسِيرَ وَتُبِيحُونَ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ وَالْحَقِيقَةُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَاحِدَةٌ وَهِيَ عَشَرَةٌ بِخَمْسَةَ عَشَرَ وَبَيْنَهُمَا حَرِيرَةٌ رَجَعَتْ فِي إحْدَى الصُّورَتَيْنِ إلَى مَالِكِهَا وَفِي الثَّانِيَةِ إلَى غَيْرِهِ؟
وَقَالُوا: لَوْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ لَا يُزَوِّجُ عَبْدَهُ بِأَمَتِهِ أَبَدًا ثُمَّ أَرَادَ تَزْوِيجَهُ بِهَا وَلَا يَحْنَثُ فَإِنَّهُ يَبِيعُ الْعَبْدَ وَالْجَارِيَةَ مِنْ رَجُلٍ ثُمَّ يُزَوِّجُهُمَا الْمُشْتَرِي ثُمَّ يَسْتَرِدُّهُمَا مِنْهُ.
قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا غَيْرُ مُمْتَنِعٍ عَلَى أَصْلِنَا؛ لِأَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ قَدْ وُجِدَ فِي حَالِ زَوَالِ مِلْكِهِ عَنْهُمَا، وَلَا يَتَعَلَّقُ الْحِنْثُ بِاسْتِدَامَةِ الْعَقْدِ بَعْد أَنْ مَلَكَهُمَا؛ لِأَنَّ التَّزْوِيجَ عِبَارَةٌ عَنْ الْعَقْدِ وَقَدْ انْقَضَى وَإِنَّمَا بَقِيَ حُكْمُهُ فَلَمْ يَحْنَثْ بِاسْتِدَامَةِ حُكْمِهِ.
وَقَالُوا: لَوْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ مَالٌ وَهُوَ مُحْتَاجٌ فَأَحَبَّ أَنْ يَدَعَهُ لَهُ مِنْ زَكَاتِهِ فَالْحِيلَةُ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ الْقَدْرِ ثُمَّ يَقْبِضَهُ مِنْهُ، ثُمَّ قَالُوا: فَإِنْ كَانَ لَهُ شَرِيكٌ فِيهِ فَخَافَ أَنْ يُخَاصِمَهُ فِيهِ فَالْحِيلَةُ أَنْ يَهَبَ الْمَطْلُوبُ لِلطَّالِبِ مَالًا بِقَدْرِ حِصَّةِ الطَّالِبِ مِمَّا لَهُ عَلَيْهِ وَيَقْبِضَهُ مِنْهُ لِلطَّالِبِ ثُمَّ يَتَصَدَّقُ الطَّالِبُ عَلَى الْمَطْلُوبِ بِمَا وَهَبَهُ لَهُ وَيَحْتَسِبُ بِذَلِكَ مِنْ زَكَاتِهِ ثُمَّ يَهَبُ الْمَطْلُوبُ مَالَهُ عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ وَلَا يَضْمَنُ الطَّالِبُ لِشَرِيكِهِ شَيْئًا؛ لِأَنَّ هِبَةَ الدَّيْنِ لِمَنْ فِي ذِمَّتِهِ بَرَاءَةٌ.
وَإِذَا أَبْرَأَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ الْغَرِيمَ مِنْ نَصِيبِهِ لَمْ يَضْمَنْ لِشَرِيكِهِ شَيْئًا، وَإِنَّمَا يَضْمَنُ إذَا حَصَلَ الدَّيْنُ فِي ضَمَانِهِ.
وَقَالُوا: لَوْ أَجَّرَهُ الْأَرْضَ بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ وَشَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ خَرَاجَهَا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْخَرَاجَ عَلَى الْمَالِكِ لَا عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ، وَالْحِيلَةُ فِي جَوَازِهِ أَنْ يُؤَجِّرَهُ إيَّاهَا بِمَبْلَغٍ يَكُونُ زِيَادَتُهُ بِقَدْرِ الْخَرَاجِ ثُمَّ يَأْذَنُ لَهُ أَنْ يَدْفَعَ فِي خَرَاجِهَا ذَلِكَ الْقَدْرَ الزَّائِدَ عَلَى أُجْرَتِهَا.
قَالُوا: لِأَنَّهُ مَتَى زَادَ مِقْدَارُ الْخَرَاجِ عَلَى الْأُجْرَةِ حَصَلَ ذَلِكَ دَيْنًا عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ، وَقَدْ أَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إلَى مُسْتَحِقِّ الْخَرَاجِ وَهُوَ جَائِزٌ.
وَقَالُوا: وَنَظِيرُ هَذَا أَنْ يُؤَجِّرَهُ دَابَّةً وَيَشْتَرِطَ عَلَفَهَا عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ لَمْ يَجُزْ وَالْحِيلَةُ فِي جَوَازِهِ هَكَذَا سَوَاءٌ، يَزِيدُ فِي الْأُجْرَةِ وَيُوَكِّلَهُ أَنْ يَعْلِفَ الدَّابَّةَ بِذَلِكَ الْقَدْرِ الزَّائِدِ.
وَقَالُوا: لَا يَصِحُّ اسْتِئْجَارُ الشَّجَرَةِ لِلثَّمَرَةِ، وَالْحِيلَةُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُؤَجِّرَهُ الْأَرْضَ وَيُسَاقِيَهُ عَلَى الثَّمَرَةِ مِنْ كُلِّ أَلْفِ جُزْءٍ جُزْءٌ مَثَلًا.
وَقَالُوا: لَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ جَارِيَةً مُعَيَّنَةً بِثَمَنٍ مُعَيَّنٍ دَفَعَهُ إلَيْهِ، فَلَمَّا رَآهَا أَرَادَ شِرَاءَهَا لِنَفْسِهِ، وَخَافَ أَنْ يُحَلِّفَهُ أَنَّهُ إنَّمَا اشْتَرَاهَا بِمَالِ الْمُوَكِّلِ لَهُ، وَهُوَ وَكِيلُهُ، فَالْوَجْهُ أَنْ يَعْزِلَ نَفْسَهُ عَنْ الْوَكَالَةِ، ثُمَّ يَشْتَرِيَهَا بِثَمَنٍ فِي ذِمَّتِهِ، ثُمَّ يَنْقُدُ مَا مَعَهُ مِنْ الثَّمَنِ، وَيَصِيرُ لِمُوَكِّلِهِ فِي ذِمَّتِهِ نَظِيرُهُ.
قَالُوا: وَأَمَّا نَحْنُ فَلَا تَأْتِي هَذِهِ الْحِيلَةُ عَلَى أُصُولِنَا؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ لَا يَمْلِكُ عَزْلَ نَفْسِهِ إلَّا بِحَضْرَةِ مُوَكِّلِهِ.
قَالُوا: وَقَدْ قَالَتْ الْحَنَابِلَةُ أَيْضًا: لَوْ أَرَادَ إجَارَةً أَرْضٍ لَهُ فِيهَا زَرْعٌ لَمْ يَجُزْ، وَالْحِيلَةُ فِي جَوَازِهِ أَنْ يَبِيعَهُ الزَّرْعَ ثُمَّ يُؤَجِّرَهُ الْأَرْضَ، فَإِنْ أَرَادَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ الزَّرْعَ جَازَ.
وَقَالُوا: لَوْ شَرَطَ رَبُّ الْمَالِ عَلَى الْمُضَارِبِ ضَمَانَ مَالِ الْمُضَارَبَةِ لَمْ يَصِحَّ، وَالْحِيلَةُ فِي صِحَّتِهِ أَنْ يُقْرِضَهُ الْمَالَ فِي ذِمَّتِهِ ثُمَّ يَقْبِضَهُ الْمُضَارِبُ مِنْهُ، فَإِذَا قَبَضَهُ دَفَعَهُ إلَى مَالِكِهِ الْأَوَّلِ مُضَارَبَةً ثُمَّ يَدْفَعُهُ رَبُّ الْمَالِ إلَى الْمُضَارِبِ بِضَاعَةً فَإِنْ تَوَى.
فَهُوَ مِنْ ضَمَانِ الْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ بِالْقَرْضِ فَتَسْلِيمُهُ إلَى رَبِّ الْمَالِ مُضَارَبَةً كَتَسْلِيمِ مَالٍ لَهُ آخَرَ. وَحِيلَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ أَنْ يُقْرِضَ رَبُّ الْمَالِ الْمُضَارِبَ مَا يُرِيدُ دَفْعُهُ إلَيْهِ، ثُمَّ يُخْرِجُ مِنْ عِنْدِهِ دِرْهَمًا وَاحِدًا، فَيُشَارِكُهُ عَلَى أَنْ يَعْمَلَا بِالْمَالَيْنِ جَمِيعًا عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَهُ اللَّهُ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، فَإِنْ عَمِلَ أَحَدُهُمَا بِالْمَالِ بِإِذْنِ صَاحِبِهِ فَرَبِحَ كَانَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا شَرَطَاهُ، وَإِنْ خَسِرَ كَانَ الْخُسْرَانُ عَلَى قَدْرِ الْمَالَيْنِ، عَلَى رَبِّ الْمَالِ بِقَدْرِ الدِّرْهَمِ وَعَلَى الْمُضَارِبِ بِقَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ، وَإِنَّمَا جَازَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ، وَالْمُلْزَمَ نَفْسَهُ الضَّمَانَ بِدُخُولِهِ فِي الْقَرْضِ.
وَقَالُوا: لَا تَجُوزُ الْمُضَارَبَةُ عَلَى الْعَرْضِ، فَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ عَرْضٌ فَأَرَادَ أَنْ يُضَارِبَ عَلَيْهِ فَالْحِيلَةُ فِي جَوَازِهِ أَنْ يَبِيعَهُ الْعَرْضَ وَيَقْبِضَ ثَمَنَهُ فَيَدْفَعَهُ إلَيْهِ مُضَارَبَةً ثُمَّ يَشْتَرِي الْمُضَارِبُ ذَلِكَ الْمَتَاعَ بِالْمَالِ.
وَقَالُوا: لَوْ حَلَّفَتْهُ امْرَأَتُهُ أَنَّ كُلَّ جَارِيَةٍ يَشْتَرِيهَا فَهِيَ حُرَّةٌ، فَالْحِيلَةُ فِي جَوَازِ الشِّرَاءِ وَلَا تَعْتِقُ أَنْ يَعْنِي بِالْجَارِيَةِ السَّفِينَةَ وَلَا تَعْتِقُ، وَإِنْ لَمْ تَحْضُرْهُ هَذِهِ النِّيَّةُ وَقْتَ الْيَمِينِ فَالْحِيلَةُ أَنْ يَشْتَرِيَهَا صَاحِبَهُ وَيَهَبُهُ إيَّاهَا ثُمَّ يَهَبُهُ نَظِيرَ الثَّمَنِ.
وَقَالُوا: لَوْ حَلَّفَتْهُ أَنَّ كُلَّ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا عَلَيْهَا فَهِيَ طَالِقٌ، وَخَافَ مِنْ هَذِهِ الْيَمِينِ عِنْدَ مَنْ يُصَحِّحُ هَذَا التَّعْلِيقَ فَالْحِيلَةُ أَنْ يَنْوِيَ كُلَّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا عَلَى طَلَاقِكِ: أَيْ يَكُونُ طَلَاقُكِ صَدَاقُهَا، أَوْ كُلَّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا عَلَى رَقَبَتِكِ: أَيْ تَكُونُ رَقَبَتُكِ صَدَاقُهَا، فَهِيَ طَالِقٌ، فَلَا يَحْنَثُ بِالتَّزْوِيجِ عَلَى غَيْرِ هَذِهِ الصِّفَةِ.
وَقَالُوا: لَوْ أَرَادَ أَنْ يَصْرِفَ دَنَانِيرَ بِدَرَاهِمَ وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَ الصَّيْرَفِيِّ مَبْلَغُ الدَّرَاهِمِ وَأَرَادَ أَنْ
يَصْبِرَ عَلَيْهِ بِالْبَاقِي لَمْ يَجُزْ، وَالْحِيلَةُ فِيهِ أَنْ يَأْخُذَ مَا عِنْدَهُ مِنْ الدَّرَاهِمِ بِقَدْرِ صَرْفِهِ ثُمَّ يُقْرِضَهُ إيَّاهَا فَيَصْرِفُ بِهَا الْبَاقِي، فَإِنْ لَمْ يُوفِ فَعَلَ ذَلِكَ مِرَارًا حَتَّى يَسْتَوْفِيَ صَرْفَهُ، وَيَصِيرَ مَا أَقْرَضَهُ دَيْنًا عَلَيْهِ، لَا أَنَّهُ عِوَضُ الصَّرْفِ.
وَقَالُوا: لَوْ أَرَادَ أَنْ يَبِيعَهُ دَرَاهِمَ بِدَنَانِيرَ إلَى أَجَلٍ لَمْ يَجُزْ، وَالْحِيلَةُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ مَتَاعًا وَيَنْقُدَهُ ثَمَنَهُ وَيَقْبِضَ الْمَتَاعَ، ثُمَّ يَشْتَرِيَ الْبَائِعُ مِنْهُ ذَلِكَ الْمَتَاعَ بِدَنَانِيرَ إلَى أَجَلٍ، وَالتَّأْجِيلُ جَائِزٌ فِي ثَمَنِ الْمَتَاعِ.
وَقَالُوا: لَوْ مَاتَ رَبُّ الْمَالِ بَعْدَ أَنْ قَبَضَ الْمُضَارِبُ الْمَالَ انْتَقَلَ إلَى وَرَثَتِهِ، فَلَوْ اشْتَرَى الْمُضَارِبُ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ مَتَاعًا ضَمِنَ؛ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ بَعْدَ بُطْلَانِ الشَّرِكَةِ. وَالْحِيلَةُ فِي تَخَلُّصِ الْمُضَارِبِ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَشْهَدَ رَبُّ الْمَالِ أَنَّ حِصَّتَهُ مِنْ الْمَالِ الَّذِي دَفَعَهُ إلَيْهِ مُضَارَبَةً لِوَلَدِهِ، وَأَنَّهُ مُقَارِضٌ إلَى هَذَا الشَّرِيكِ بِجَمِيعِ مَا تَرَكَهُ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لِوَلَدِهِ مَا أَحَبَّ فِي حَيَاتِهِ، وَبَعْدَ وَفَاتِهِ. فَيَجُوزُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْهُ كَوْنُهُ مُتَصَرِّفًا فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ وَكَالَةٍ وَلَا وِلَايَةٍ، فَإِذَا أَذِنَ لَهُ فِي التَّصَرُّفِ بَرِئَ مِنْ الضَّمَانِ، وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْحِيلَةُ إنَّمَا تَتِمُّ إذَا كَانَ الْوَرَثَةُ أَوْلَادًا صِغَارًا.
وَقَالُوا: لَوْ صَالَحَ عَنْ الْمُؤَجَّلِ بِبَعْضِهِ حَالًّا لَمْ يَصِحَّ، وَالْحِيلَةُ فِي تَصْحِيحِهِ أَنْ يَفْسَخَا الْعَقْدَ الَّذِي وَقَعَ عَلَى الْمُؤَجَّلِ وَيَجْعَلَاهُ بِذَلِكَ الْقَدْرِ الْحَالِّ.
وَقَالُوا: لَوْ لَبِسَ الْمُتَوَضِّئُ أَحَدَ الْخُفَّيْنِ قَبْلَ غَسْلِ الرِّجْلِ الْأُخْرَى ثُمَّ غَسَلَ الْأُخْرَى وَلَبِسَ عَلَيْهَا لَمْ يَجُزْ الْمَسْحُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْبَسْ عَلَى كَمَالِ الطَّهَارَةِ، وَالْحِيلَةُ فِي جَوَازِ الْمَسْحِ أَنْ يَخْلَعَ هَذِهِ الْفَرْدَةَ الثَّانِيَةَ ثُمَّ يَلْبَسَهَا.
قَالُوا: وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِخِدْمَةِ عَبْدِهِ أَوْ بِمَا فِي بَطْنِ أَمَتِهِ جَازَ، فَلَوْ أَرَادَ الْوَرَثَةُ شِرَاءَ خِدْمَةِ الْعَبْدِ أَوْ مَا فِي بَطْنِ الْأَمَةِ مِنْ الْمُوصَى لَهُ لَمْ يَجُزْ، وَالْحِيلَةُ فِي جَوَازِهِ أَنْ يُصَالِحُوهُ عَنْ الْمُوصَى بِهِ عَلَى مَا يَبْذُلُونَهُ لَهُ فَيَجُوزُ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ الْبَيْعُ فَإِنَّ الصُّلْحَ يَجُوزُ فِيهِ مَا لَا يَجُوزُ فِي الْبَيْعِ.
قَالُوا: وَلَا تَجُوزُ الشَّرِكَةُ بِالْعُرُوضِ، فَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا عَرْضٌ يُسَاوِي خَمْسَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَلِلْآخَرِ عَرْضٌ يُسَاوِي أَلْفًا فَأَحَبَّا أَنْ يَشْتَرِكَا فِي الْعَرْضَيْنِ، فَالْحِيلَةُ أَنْ يَشْتَرِيَ صَاحِبُ الْعَرْضِ الَّذِي قِيمَتُهُ خَمْسَةَ آلَافٍ مِنْ الْآخَرِ خَمْسَةَ أَسْدَاسِ عَرْضِهِ بِسُدُسِ عَرْضِهِ هُوَ؛ فَيَصِيرُ لِلَّذِي يُسَاوِي عَرْضُهُ أَلْفًا سُدُسَ جَمِيعِ الْمَالِ، وَلِلْآخَرِ خَمْسَةَ أَسْدَاسِهِ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ مَالَيْهِمَا