الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَالْإِقْرَارِ الْبَاطِلِ؛ فَتَقْلِيدُ عَالِمٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَعْذَرُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ تَلْقِينِ الْكَذِبِ وَالشَّهَادَةِ عَلَيْهِ.
فَصْلٌ
وَلَهُمْ حِيلَةٌ أُخْرَى - وَهِيَ أَنَّ الَّذِي يُرِيدُ الْوَقْفَ يُمَلِّكُهُ لِبَعْضِ مَنْ يَثِقُ بِهِ ثُمَّ يَقِفُهُ ذَلِكَ الْمُمَلَّكِ عَلَيْهِ بِحَسَبِ اقْتِرَاحِهِ - وَهَذَا لَا شَكَّ فِي قُبْحِهِ وَبُطْلَانِهِ؛ فَإِنَّ التَّمْلِيكَ الْمَشْرُوعَ الْمَعْقُولَ أَنْ يَرْضَى الْمُمَلِّكِ بِنَقْلِ الْمِلْكِ إلَى الْمُمَلَّكِ بِحَيْثُ يَتَصَرَّفُ فِيهِ بِمَا يَجِبُ مِنْ وُجُوهِ التَّصَرُّفَاتِ، وَهُنَا قَدْ عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى وَالْحَفَظَةُ الْمُوَكَّلُونَ بِالْعَبْدِ وَمَنْ يُشَاهِدُهُمْ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ هَذَا الْمُمَلِّكِ أَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِنَقْلِ الْمِلْكِ إلَى هَذَا، وَلَا خَطَرَ لَهُ عَلَى بَالٍ، وَلَوْ سَأَلَهُ دِرْهَمًا وَاحِدًا فَلَعَلَّهُ كَانَ لَمْ يَسْمَحْ بِهِ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَرْضَ بِتَصَرُّفِهِ فِيهِ إلَّا بِوَقْفِهِ عَلَى الْمُمَلَّكِ خَاصَّةً، بَلْ قَدْ مَلَّكَهُ إيَّاهُ بِشَرْطِ أَنْ يَتَبَرَّعَ عَلَيْهِ بِهِ وَقْفًا إمَّا بِشَرْطٍ مَذْكُورٍ وَإِمَّا بِشَرْطٍ مَعْهُودٍ مُتَوَاطَأٍ عَلَيْهِ، وَهَذَا تَمْلِيكٌ فَاسِدٌ قَطْعًا، وَلَيْسَ بِهِبَةٍ وَلَا صَدَقَةٍ وَلَا هَدِيَّةٍ وَلَا وَصِيَّةٍ وَلَا إبَاحَةٍ، وَلَيْسَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْعُمْرَى وَالرُّقْبَى الْمَشْرُوطِ فِيهَا الْعَوْدُ إلَى الْمُعَمِّرِ، فَإِنَّ هُنَاكَ مَلَّكَهُ التَّصَرُّفَ فِيهِ، وَشَرَطَ الْعَوْدَ، وَهُنَا لَمْ يُمَلِّكْهُ شَيْئًا، وَإِنَّمَا تَكَلَّمَ بِلَفْظِ التَّمْلِيكِ غَيْرَ قَاصِدٍ مَعْنَاهُ، وَالْمَوْهُوبُ لَهُ يُصَدِّقُهُ أَنَّهُمَا لَمْ يَقْصِدَا حَقِيقَةَ الْمِلْكِ، بَلْ هُوَ اسْتِهْزَاءٌ بِآيَاتِ اللَّهِ وَتَلَاعُبٌ بِحُدُودِهِ، وَسَنَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ فِي الْفَصْلِ الَّذِي بَعْدَ هَذَا الطَّرِيقَ الشَّرْعِيَّةَ الْمُغْنِيَةَ عَنْ هَذِهِ الْحِيلَةِ الْبَاطِلَةِ.
[فَصْلٌ إبْطَالُ حِيلَةٍ لِتَأْجِيرِ الْوَقْفِ مُدَّةً طَوِيلَةً]
فَصْلٌ
[إبْطَالُ حِيلَةً لِتَأْجِيرِ الْوَقْفِ مُدَّةً طَوِيلَةً]
وَمِنْ الْحِيَلِ الْبَاطِلَةِ: تَحَيُّلُهُمْ عَلَى إيجَارِ الْوَقْفِ مِائَةَ سَنَةٍ مَثَلًا، وَقَدْ شَرَطَ الْوَاقِفُ أَلَّا يُؤَجَّرَ أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا؛ فَيُؤَجِّرُهُ الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةَ فِي عُقُودٍ مُتَفَرِّقَةٍ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، وَهَذِهِ الْحِيلَةُ بَاطِلَةٌ قَطْعًا، فَإِنَّهُ إنَّمَا قَصَدَ بِذَلِكَ دَفْعَ الْمَفَاسِدِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى طُولِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ، فَإِنَّهَا مَفَاسِدُ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَكَمْ قَدْ مُلِكَ مِنْ الْوُقُوفِ بِهَذِهِ الطُّرُقِ وَخَرَجَ عَنْ الْوَقْفِيَّةِ بِطُولِ الْمُدَّةِ وَاسْتِيلَاءِ الْمُسْتَأْجِرِ فِيهَا عَلَى الْوَقْفِ هُوَ وَذُرِّيَّتُهُ وَوَرَثَتُهُ سِنِينَ بَعْدَ سِنِينَ؟ وَكَمْ فَاتَ الْبُطُونَ اللَّوَاحِقَ مِنْ مَنْفَعَةِ الْوَقْفِ بِالْإِيجَارِ الطَّوِيلِ؟ وَكَمْ أُوجِرَ الْوَقْفُ بِدُونِ إجَارَةِ مِثْلِهِ لِطُولِ الْمُدَّةِ وَقَبْضِ الْأُجْرَةِ؟ وَكَمْ زَادَتْ أُجْرَةُ الْأَرْضِ أَوْ الْعَقَارُ أَضْعَافَ مَا كَانَتْ وَلَمْ يَتَمَكَّنْ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ مِنْ اسْتِيفَائِهَا؟ وَبِالْجُمْلَةِ فَمَفَاسِدُ هَذِهِ الْإِجَارَةِ تُفَوِّتُ الْعَدَّ، وَالْوَاقِفُ إنَّمَا قَصَدَ دَفْعَهَا، وَخَشِيَ مِنْهَا بِالْإِجَارَةِ الطَّوِيلَةِ، فَصَرَّحَ بِأَنَّهُ لَا يُؤَجَّرُ أَكْثَرَ مِنْ تِلْكَ الْمُدَّةِ الَّتِي شَرَطَهَا،
فَإِيجَارُهُ أَكْثَرَ مِنْهَا سَوَاءٌ كَانَ فِي عَقْدٍ أَوْ عُقُودٍ مُخَالِفَةٌ صَرِيحَةٌ لِشَرْطِهِ، مَعَ مَا فِيهَا مِنْ الْمَفْسَدَةِ بَلْ الْمَفَاسِدِ الْعَظِيمَةِ.
وَيَا لِلَّهِ الْعَجَبَ، هَلْ تَزُولُ هَذِهِ الْمَفَاسِدُ بِتَعَدُّدِ الْعُقُودِ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ؟ وَأَيُّ غَرَضٍ لِلْعَاقِلِ أَنْ يَمْنَعَ الْإِجَارَةَ لِأَكْثَرَ مِنْ تِلْكَ الْمُدَّةِ ثُمَّ يُجَوِّزُهَا فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ، فِي عُقُودٍ مُتَفَرِّقَةٍ؟ وَإِذَا أَجَّرَهُ فِي عُقُودٍ مُتَفَرِّقَةٍ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِ سِنِينَ، أَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: وَفَّى بِشَرْطِ الْوَاقِفِ وَلَمْ يُخَالِفْهُ؟ هَذَا مَنْ أَبْطَلْ الْبَاطِلِ وَأَقْبَحِ الْحِيَلِ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِشَرْطِ الْوَاقِفِ وَمَصْلَحَةِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، وَتَعْرِيضٌ لِإِبْطَالِ هَذِهِ الصَّدَقَةِ، وَأَنْ لَا يَسْتَمِرَّ نَفْعُهَا، وَأَلَّا يَصِلَ إلَى مَنْ بَعْدَ الطَّبَقَةِ الْأُولَى وَمَا قَارَبَهَا، فَلَا يَحِلُّ لِمُفْتٍ أَنْ يُفْتِيَ بِذَلِكَ، وَلَا لِحَاكِمٍ أَنْ يَحْكُمَ بِهِ، وَمَتَى حَكَمَ بِهِ نُقِضَ حُكْمُهُ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِ مَصْلَحَةُ الْوَقْفِ، بِأَنْ يَخْرَبَ وَيَتَعَطَّلَ نَفْعُهُ فَتَدْعُوَ الْحَاجَةُ إلَى إيجَارِهِ مُدَّةً طَوِيلَةً يَعْمُرُ فِيهَا بِتِلْكَ الْأُجْرَةِ، فَهُنَا يَتَعَيَّنُ مُخَالَفَةُ شَرْطِ الْوَاقِفِ تَصْحِيحًا لِوَقْفِهِ وَاسْتِمْرَارًا لِصَدَقَتِهِ، وَقَدْ يَكُونُ هَذَا خَيْرًا مِنْ بَيْعِهِ وَالِاسْتِبْدَالُ بِهِ، وَقَدْ يَكُونُ الْبَيْعُ أَوْ الِاسْتِبْدَالُ خَيْرًا مِنْ الْأُجْرَةِ، وَاَللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنْ الْمُصْلِحِ.
وَاَلَّذِي يَقْضِي مِنْهُ الْعَجَبُ التَّحَيُّلُ عَلَى مُخَالَفَةِ شَرْطِ الْوَاقِفِ وَقَصْدِهِ الَّذِي يَقْطَعُ بِأَنَّهُ قَصْدُهُ مَعَ ظُهُورِ الْمَفْسَدَةِ، وَالْوُقُوفُ مَعَ ظَاهِرِ شَرْطِهِ وَلَفْظِهِ الْمُخَالِفِ لِقَصْدِهِ وَالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمَصْلَحَةِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، بِحَيْثُ يَكُونُ مَرْضَاةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَصْلَحَةِ الْوَاقِفِ وَزِيَادَةِ أَجْرِهِ وَمَصْلَحَةِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ وَحُصُولِ الرِّفْقِ بِهِ مَعَ كَوْنِ الْعَمَلِ أَحَبَّ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، لَا يُغَيِّرُ شَرْطَ الْوَاقِفِ، وَيَجْرِي مَعَ ظَاهِرِ لَفْظِهِ، وَإِنْ ظَهَرَ قَصْدُهُ بِخِلَافِهِ.
وَهَلْ هَذَا إلَّا مِنْ قِلَّةِ الْفِقْهِ؟ بَلْ مِنْ عَدَمِهِ، فَإِذَا تَحَيَّلْتُمْ عَلَى إبْطَالِ مَقْصُودِ الْوَاقِفِ حَيْثُ يَتَضَمَّنُ الْمَفَاسِدَ الْعَظِيمَةَ فَهَلَّا تَحَيَّلْتُمْ عَلَى مَقْصُودِهِ وَمَقْصُودِ الشَّارِعِ حَيْثُ يَتَضَمَّنُ الْمَصَالِحَ الرَّاجِحَةَ بِتَخْصِيصِ لَفْظِهِ أَوْ تَقْيِيدِهِ أَوْ تَقْدِيمِ شَرْطِ اللَّهِ عَلَيْهِ؟ فَإِنَّ شَرْطَ اللَّهِ أَحَقُّ وَأَوْثَقُ، بَلْ يَقُولُونَ هَا هُنَا: نُصُوصُ الْوَاقِفِ كَنُصُوصِ الشَّارِعِ، وَهَذِهِ جُمْلَةٌ مِنْ أَبْطَلْ الْكَلَامِ، وَلَيْسَ لِنُصُوصِ الشَّارِعِ نَظِيرٌ مِنْ كَلَامِ غَيْرِهِ أَبَدًا، بَلْ نُصُوصُ الْوَاقِفِ يَتَطَرَّقُ إلَيْهَا التَّنَاقُضُ وَالِاخْتِلَافُ، وَيَجِبُ إبْطَالُهَا إذَا خَالَفَتْ نُصُوصَ الشَّارِعِ وَإِلْغَاؤُهَا، وَلَا حُرْمَةَ لَهَا حِينَئِذٍ أَلْبَتَّةَ، وَيَجُوزُ - بَلْ يَتَرَجَّحُ - مُخَالَفَتُهَا إلَى مَا هُوَ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْهَا وَأَنْفَعُ لِلْوَاقِفِ وَالْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، وَيَجُوزُ اعْتِبَارُهَا وَالْعُدُولُ عَنْهَا مَعَ تَسَاوِي الْأَمْرَيْنِ، وَلَا يَتَعَيَّنُ الْوُقُوفُ مَعَهَا، وَسَنَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ فِيمَا بَعْدُ، وَنُبَيِّنُ مَا يَحِلُّ الْإِفْتَاءُ بِهِ وَمَا لَا يَحِلُّ مِنْ شُرُوطِ الْوَاقِفِينَ؛ إذْ الْقَصْدُ بَيَانُ بُطْلَانِ هَذِهِ الْحِيلَةِ شَرْعًا وَعُرْفًا وَلُغَةً.