الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مَا هُوَ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَرَمْيِ النُّشَّاب وَسِبَاقِ الْخَيْلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَإِذَا رَأَيْت الْفُسَّاقَ قَدْ اجْتَمَعُوا عَلَى لَهْوٍ وَلَعِبٍ أَوْ سَمَاعِ مُكَاء وَتَصْدِيَةٍ فَإِنْ نَقَلْتَهُمْ عَنْهُ إلَى طَاعَةِ اللَّهِ فَهُوَ الْمُرَادُ، وَإِلَّا كَانَ تَرْكُهُمْ عَلَى ذَلِكَ خَيْرًا مِنْ أَنْ تُفْرِغَهُمْ لِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ فَكَانَ مَا هُمْ فِيهِ شَاغِلًا لَهُمْ عَنْ ذَلِكَ، وَكَمَا إذَا كَانَ الرَّجُلُ مُشْتَغِلًا بِكُتُبِ الْمُجُونِ وَنَحْوِهَا وَخِفْت مِنْ نَقْلِهِ عَنْهَا انْتِقَالَهُ إلَى كُتُبِ الْبِدَعِ وَالضَّلَالِ وَالسِّحْرِ فَدَعْهُ وَكُتُبَهُ الْأُولَى، وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ؛ وَسَمِعْت شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ وَنَوَّرَ ضَرِيحَهُ يَقُولُ: مَرَرْت أَنَا وَبَعْضُ أَصْحَابِي فِي زَمَنِ التَّتَارِ بِقَوْمٍ مِنْهُمْ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ مَنْ كَانَ مَعِي، فَأَنْكَرْت عَلَيْهِ، وَقُلْت لَهُ: إنَّمَا حَرَّمَ اللَّهُ الْخَمْرَ لِأَنَّهَا تَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ، وَهَؤُلَاءِ يَصُدُّهُمْ الْخَمْرُ عَنْ قَتْلِ النُّفُوسِ وَسَبْيِ الذُّرِّيَّةِ وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ فَدَعْهُمْ.
[فَصْلٌ قَطْعِ الْأَيْدِي فِي الْغَزْوِ]
فَصْلٌ
[النَّهْيُ عَنْ قَطْعِ الْأَيْدِي فِي الْغَزْوِ]
الْمِثَالُ الثَّانِي: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: «نَهَى أَنْ تُقْطَعَ الْأَيْدِي فِي الْغَزْوِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، فَهَذَا حَدٌّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ نَهَى عَنْ إقَامَتِهِ فِي الْغَزْوِ خَشْيَةَ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ مَا هُوَ أَبْغَضُ إلَى اللَّهِ مِنْ تَعْطِيلِهِ أَوْ تَأْخِيرِهِ مِنْ لُحُوقِ صَاحِبِهِ بِالْمُشْرِكِينَ حَمِيَّةً وَغَضَبًا كَمَا قَالَهُ عُمَرُ وَأَبُو الدَّرْدَاءِ وَحُذَيْفَةُ وَغَيْرُهُمْ، وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَغَيْرُهُمْ مِنْ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ عَلَى أَنَّ الْحُدُودَ لَا تُقَامُ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ، وَذَكَرَهَا أَبُو الْقَاسِمِ الْخِرَقِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ فَقَالَ: لَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى مُسْلِمٍ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ، وَقَدْ «أَتَى بِشْرُ بْنُ أَرْطَاةَ بِرَجُلٍ مِنْ الْغُزَاةِ قَدْ سَرَقَ مِجَنَّهُ فَقَالَ: لَوْلَا أَنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لَا تُقْطَعُ الْأَيْدِي فِي الْغَزْوِ لَقَطَعْت يَدَك» ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَقْدِسِيُّ: وَهُوَ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، رَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ الْأَحْوَصِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَرَ كَتَبَ إلَى النَّاسِ أَنْ لَا يَجْلِدَنَّ أَمِيرُ جَيْشٍ وَلَا سَرِيَّةٍ وَلَا رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ حَدًّا وَهُوَ غَازٍ حَتَّى يَقْطَعَ الدَّرْبَ قَافِلًا لِئَلَّا تَلْحَقَهُ حَمِيَّةُ الشَّيْطَانِ فَيَلْحَقَ بِالْكُفَّارِ. وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مِثْلُ ذَلِكَ.
وَقَالَ عَلْقَمَةُ: كُنَّا فِي جَيْشٍ فِي أَرْضِ الرُّومِ، وَمَعَنَا حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ، وَعَلَيْنَا الْوَلِيدُ بْنُ عُقْبَةَ، فَشَرِبَ الْخَمْرَ، فَأَرَدْنَا أَنْ نَحِدَّهُ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ: أَتَحُدُّونَ أَمِيرَكُمْ وَقَدْ دَنَوْتُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ فَيَطْمَعُوا فِيكُمْ؟ .
وَأَتَى سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ بِأَبِي مِحْجَنٍ يَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ وَقَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ، فَأَمَرَ بِهِ إلَى الْقَيْدِ، فَلَمَّا الْتَقَى النَّاسُ قَالَ أَبُو مِحْجَنٍ:
كَفَى حُزْنًا أَنْ تُطْرَدَ الْخَيْلُ بِالْقَنَا
…
وَأُتْرَكَ مَشْدُودًا عَلَيَّ وَثَاقِيَا
فَقَالَ لِابْنَةِ حَفْصَةَ امْرَأَةِ سَعْدٍ: أَطْلِقِينِي وَلَكِ وَاَللَّهِ عَلَيَّ إنْ سَلَّمَنِي اللَّهُ أَنْ أَرْجِعَ حَتَّى أَضَعَ رِجْلِي فِي الْقَيْدِ، فَإِنْ قُتِلْتُ اسْتَرَحْتُمْ مِنِّي، قَالَ: فَحَلَّتْهُ حَتَّى الْتَقَى النَّاسُ وَكَانَتْ بِسَعْدٍ جِرَاحَةٌ فَلَمْ يَخْرُجْ يَوْمَئِذٍ إلَى النَّاسِ، قَالَ: وَصَعِدُوا بِهِ فَوْقَ الْعُذَيْبِ يَنْظُرُ إلَى النَّاسِ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْخَيْلِ خَالِدَ بْنَ عُرْفُطَةَ، فَوَثَبَ أَبُو مِحْجَنٍ عَلَى فَرَسٍ لِسَعْدٍ يُقَالُ لَهَا الْبَلْقَاءُ، ثُمَّ أَخَذَ رُمْحًا ثُمَّ خَرَجَ فَجَعَلَ لَا يَحْمِلُ عَلَى نَاحِيَةٍ مِنْ الْعَدُوِّ إلَّا هَزَمَهُمْ، وَجَعَلَ النَّاسُ يَقُولُونَ: هَذَا مَلَكٌ، لِمَا يَرَوْنَهُ يَصْنَعُ، وَجَعَلَ سَعْدٌ يَقُولُ: الصَّبْرُ صَبْرُ الْبَلْقَاءِ، وَالظَّفَرُ ظَفَرُ أَبِي مِحْجَنٍ، وَأَبُو مِحْجَنٍ فِي الْقَيْدِ، فَلَمَّا هُزِمَ الْعَدُوُّ رَجَعَ أَبُو مِحْجَنٍ حَتَّى وَضَعَ رِجْلَيْهِ فِي الْقَيْدِ، فَأَخْبَرَتْ ابْنَةُ حَفْصَةَ سَعْدًا بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ، فَقَالَ سَعْدٌ: لَا وَاَللَّهِ لَا أَضْرِبُ الْيَوْمَ رَجُلًا أَبْلَى لِلْمُسْلِمِينَ مَا أَبْلَاهُمْ، فَخَلَّى سَبِيلَهُ، فَقَالَ أَبُو مِحْجَنٍ: قَدْ كُنْت أَشْرَبُهَا إذْ يُقَامُ عَلَيَّ الْحَدُّ وَأَطْهُرُ مِنْهَا، فَأَمَّا إذْ بَهْرَجَتْنِي فَوَاَللَّهِ لَا أَشْرَبُهَا أَبَدًا؛ وَقَوْلُهُ:" إذْ بَهْرَجْتَنِي " أَيْ أَهْدَرْتَنِي بِإِسْقَاطِ الْحَدِّ عَنِّي، وَمِنْهُ " بَهْرَجَ دَمَ ابْنِ الْحَارِثِ " أَيْ أَبْطَلَهُ، وَلَيْسَ فِي هَذَا مَا يُخَالِفُ نَصًّا وَلَا قِيَاسًا وَلَا قَاعِدَةً مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرْعِ وَلَا إجْمَاعًا، بَلْ لَوْ ادَّعَى أَنَّهُ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ كَانَ أَصْوَبَ.
قَالَ الشَّيْخُ فِي الْمُغْنِي: وَهَذَا اتِّفَاقٌ لَمْ يَظْهَرْ خِلَافُهُ. قُلْت: وَأَكْثَرُ مَا فِيهِ تَأْخِيرُ الْحَدِّ لِمَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ إمَّا مِنْ حَاجَةِ الْمُسْلِمِينَ إلَيْهِ أَوْ مِنْ خَوْفِ ارْتِدَادِهِ وَلُحُوقِهِ بِالْكُفَّارِ، وَتَأْخِيرُ الْحَدِّ لِعَارِضٍ أَمْرٌ وَرَدَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ، كَمَا يُؤَخَّرُ عَنْ الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ وَعَنْ وَقْتِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَالْمَرَضِ؛ فَهَذَا تَأْخِيرٌ لِمَصْلَحَةِ الْمَحْدُودِ؛ فَتَأْخِيرُهُ لِمَصْلَحَةِ الْإِسْلَامِ أَوْلَى. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا تَصْنَعُونَ بِقَوْلِ سَعْدٍ: " وَاَللَّهِ لَا أَضْرِبُ الْيَوْمَ رَجُلًا أَبْلَى لِلْمُسْلِمِينَ مَا أَبْلَاهُمْ " فَأَسْقَطَ عَنْهُ الْحَدَّ؟ قِيلَ: قَدْ يَتَمَسَّكُ بِهَذَا مَنْ يَقُولُ: لَا حَدَّ عَلَى مُسْلِمٍ فِي دَارِ الْحَرْبِ " كَمَا يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَلَا حُجَّةَ فِيهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ سَعْدًا رضي الله عنه اتَّبَعَ فِي ذَلِكَ سُنَّةَ اللَّهِ تَعَالَى؛ فَإِنَّهُ لَمَّا رَأَى تَأْثِيرَ أَبِي مِحْجَنٍ فِي الدِّينِ وَجِهَادِهِ وَبَذْلِهِ نَفْسَهُ لِلَّهِ مَا رَأَى دَرَأَ عَنْهُ الْحَدَّ؛ لِأَنَّ مَا أَتَى بِهِ مِنْ الْحَسَنَاتِ غَمَرَتْ هَذِهِ السَّيِّئَةَ الْوَاحِدَةَ وَجَعَلَتْهَا كَقَطْرَةٍ بِحَاسَّةٍ وَقَعَتْ فِي بَحْرٍ، وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ شَامَ مِنْهُ مَخَايِلَ التَّوْبَةِ النَّصُوحِ وَقْتَ الْقِتَالِ؛ إذْ لَا يَظُنُّ مُسْلِمٌ إصْرَارَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ
الَّذِي هُوَ مَظِنَّةُ الْقُدُومِ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ يَرَى الْمَوْتَ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ بِتَسْلِيمِ نَفْسِهِ وَوَضْعِ رِجْلِهِ فِي الْقَيْدِ اخْتِيَارًا قَدْ اسْتَحَقَّ أَنْ يُوهَبَ لَهُ حَدُّهُ كَمَا «قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلرَّجُلِ الَّذِي قَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَصَبْت حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَيَّ، فَقَالَ: هَلْ صَلَّيْت مَعَنَا هَذِهِ الصَّلَاةَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: اذْهَبْ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَك حَدَّك» وَظَهَرَتْ بَرَكَةُ هَذَا الْعَفْوِ وَالْإِسْقَاطِ فِي صِدْقِ تَوْبَتِهِ، فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَشْرَبُهَا أَبَدًا، وَفِي رِوَايَةٍ «أَبَدَ الْأَبَدِ» وَفِي رِوَايَةٍ «قَدْ كُنْت آنَفُ أَنْ أَتْرُكَهَا مِنْ أَجْلِ جَلَدَاتِكُمْ، فَأَمَّا إذْ تَرَكْتُمُونِي فَوَاَللَّهِ لَا أَشْرَبُهَا أَبَدًا» وَقَدْ بَرِئَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ بِبَنِي جَذِيمَةَ، وَقَالَ:«اللَّهُمَّ إنِّي أَبْرَأُ إلَيْك مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ» وَلَمْ يُؤَاخِذْهُ بِهِ لِحُسْنِ بَلَائِهِ وَنَصْرِهِ لِلْإِسْلَامِ.
[سُقُوطُ الْحَدِّ عَنْ التَّائِبِ]
وَمَنْ تَأَمَّلَ الْمُطَابَقَةَ بَيْنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْعِقَابِ وَارْتِبَاطِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ عَلِمَ فِقْهَ هَذَا الْبَابِ، وَإِذَا كَانَ اللَّهُ لَا يُعَذِّبُ تَائِبًا فَهَكَذَا الْحُدُودُ لَا تُقَامُ عَلَى تَائِبٍ، وَقَدْ نَصَّ اللَّهُ عَلَى سُقُوطِ الْحَدِّ عَنْ الْمُحَارِبِينَ بِالتَّوْبَةِ الَّتِي وَقَعَتْ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ مَعَ عَظِيمِ جُرْمِهِمْ، وَذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلَى سُقُوطِ مَا دُونَ الْحِرَابِ بِالتَّوْبَةِ الصَّحِيحَةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَقَدْ رَوَيْنَا فِي سُنَنِ النَّسَائِيّ مِنْ حَدِيثِ سِمَاكٍ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ عَنْ أَبِيهِ «أَنَّ امْرَأَةً وَقَعَ عَلَيْهَا فِي سَوَادِ الصُّبْحِ وَهِيَ تَعْمَدُ إلَى الْمَسْجِدِ بِمَكْرُوهٍ عَلَى نَفْسِهَا، فَاسْتَغَاثَتْ بِرَجُلٍ مَرَّ عَلَيْهَا، وَفَرَّ صَاحِبُهَا، ثُمَّ مَرَّ عَلَيْهَا ذَوُو عَدَدٍ، فَاسْتَغَاثَتْ بِهِمْ، فَأَدْرَكُوا الرَّجُلَ الَّذِي كَانَتْ اسْتَغَاثَتْ بِهِ فَأَخَذُوهُ، وَسَبَقَهُمْ الْآخَرُ، فَجَاءُوا يَقُودُونَهُ إلَيْهَا، فَقَالَ: أَنَا الَّذِي أَغَثْتُك، وَقَدْ ذَهَبَ الْآخَرُ قَالَ: فَأَتَوْا بِهِ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّهُ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهَا، وَأَخْبَرَ الْقَوْمُ أَنَّهُمْ أَدْرَكُوهُ يَشْتَدُّ، فَقَالَ: إنَّمَا كُنْت أَغَثْتهَا عَلَى صَاحِبِهَا فَأَدْرَكَنِي هَؤُلَاءِ فَأَخَذُونِي، فَقَالَتْ: كَذَبَ، هُوَ الَّذِي وَقَعَ عَلَيَّ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم: انْطَلَقُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ النَّاس فَقَالَ: لَا تَرْجُمُوهُ وَارْجُمُونِي، فَأَنَا الَّذِي فَعَلْت بِهَا الْفِعْلَ، فَاعْتَرَفَ، فَاجْتَمَعَ ثَلَاثَةٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهَا، وَاَلَّذِي أَغَاثَهَا، وَالْمَرْأَةُ، فَقَالَ: أَمَّا أَنْتَ فَقَدْ غُفِرَ لَك وَقَالَ لِلَّذِي أَغَاثَهَا قَوْلًا حَسَنًا، فَقَالَ عُمَرُ: اُرْجُمْ الَّذِي اعْتَرَفَ بِالزِّنَى، فَأَبَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم؛ فَقَالَ: لِأَنَّهُ قَدْ تَابَ إلَى اللَّهِ» رَوَاهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ كَثِيرٍ الْحَرَّانِيِّ: ثنا عَمْرُو بْنُ حَمَّادِ بْنِ طَلْحَةَ حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ بْنُ نَصْرٍ عَنْ سِمَاكٍ، وَلَيْسَ فِيهِ بِحَمْدِ اللَّهِ إشْكَالٌ.
فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم بِرَجْمِ الْمُغِيثِ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ وَلَا إقْرَارٍ؟
اعْتِبَارُ الْقَرَائِنِ وَشَوَاهِدُ الْأَحْوَالِ] قِيلَ: هَذَا مِنْ أَدَلِّ الدَّلَائِلِ عَلَى اعْتِبَارِ الْقَرَائِنِ وَالْأَخْذِ بِشَوَاهِدِ الْأَحْوَالِ فِي التُّهَمِ، وَهَذَا يُشْبِهُ إقَامَةَ الْحُدُودِ بِالرَّائِحَةِ وَالْقَيْءِ كَمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ، وَإِقَامَةَ حَدِّ الزِّنَا بِالْحَبَلِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ عُمَرُ وَذَهَبَ إلَيْهِ فُقَهَاءُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَحْمَدُ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ، وَكَذَلِكَ الصَّحِيحُ أَنَّهُ يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الْمُتَّهَمِ بِالسَّرِقَةِ إذَا وُجِدَ الْمَسْرُوقُ عِنْدَهُ، فَهَذَا الرَّجُلُ لَمَّا أُدْرِكَ وَهُوَ يَشْتَدُّ هَرَبًا وَقَالَتْ الْمَرْأَةُ: هَذَا هُوَ الَّذِي فَعَلَ بِي، وَقَدْ تَعْتَرِفُ بِأَنَّهُ دَنَا مِنْهَا وَأَتَى إلَيْهَا وَادَّعَى أَنَّهُ كَانَ مُغِيثًا لَا مُرِيبًا، وَلَمْ يَرَ أُولَئِكَ الْجَمَاعَةُ غَيْرَهُ، كَانَ فِي هَذَا أَظْهَرُ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّهُ صَاحِبُهَا، وَكَانَ الظَّنُّ الْمُسْتَفَادُ مِنْ ذَلِكَ لَا يُقْصَرُ عَنْ الظَّنِّ الْمُسْتَفَادِ مِنْ شَهَادَةِ الْبَيِّنَةِ، وَاحْتِمَالُ الْغَلَطِ وَعَدَاوَةِ الشُّهُودِ كَاحْتِمَالِ الْغَلَطِ أَوْ عَدَاوَةِ الْمَرْأَةِ هَهُنَا، بَلْ ظَنُّ عَدَاوَةِ الْمَرْأَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فِي غَايَةِ الِاسْتِبْعَادِ؛ فَنِهَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ هَذَا ظَاهِرٌ لَا يَسْتَبْعِدُ ثُبُوتَ الْحَدِّ بِمِثْلِهِ شَرْعًا كَمَا يُقْتَلُ فِي الْقَسَامَةِ بِاللَّوْثِ الَّذِي لَعَلَّهُ دُونَ هَذَا فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ؛ فَهَذَا الْحُكْمُ مِنْ أَحْسَنِ الْأَحْكَامِ وَأَجْرَاهَا عَلَى قَوَاعِدِ الشَّرْعِ، وَالْأَحْكَامُ الظَّاهِرَةُ تَابِعَةٌ لِلْأَدِلَّةِ الظَّاهِرَةِ مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْأَقَارِيرِ وَشَوَاهِدِ الْأَحْوَالِ، وَكَوْنُهَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ قَدْ تَقَعُ غَيْرَ مُطَابَقَةٍ وَلَا تَنْضَبِطُ أَمْرٌ لَا يَقْدَحُ فِي كَوْنِهَا طُرُقًا وَأَسْبَابًا لِلْأَحْكَامِ، وَالْبَيِّنَةُ لَمْ تَكُنْ مُوجِبَةً بِذَاتِهَا لِلْحَدِّ، وَإِنَّمَا ارْتِبَاطُ الْحَدِّ بِهَا ارْتِبَاطُ الْمَدْلُولِ بِدَلِيلِهِ، فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ دَلِيلٌ يُقَاوِمُهَا أَوْ أَقْوَى مِنْهَا لَمْ يُلْغِهِ الشَّارِعُ، وَظُهُورُ الْأَمْرِ بِخِلَافِهِ لَا يَقْدَحُ فِي كَوْنِهِ دَلِيلًا كَالْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ.
وَأَمَّا سُقُوطُ الْحَدِّ عَنْ الْمُعْتَرِفِ فَإِذَا لَمْ يَتَّسِعْ لَهُ نِطَاقُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه فَأَحْرَى أَنْ لَا يَتَّسِعَ لَهُ نِطَاقُ كَثِيرٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ، وَلَكِنْ اتَّسَعَ لَهُ نِطَاقُ الرَّءُوفِ الرَّحِيمِ، فَقَالَ: إنَّهُ قَدْ تَابَ إلَى اللَّهِ، وَأَبَى أَنْ يَحُدَّهُ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْحَسَنَةَ الَّتِي جَاءَ بِهَا مِنْ اعْتِرَافِهِ طَوْعًا وَاخْتِيَارًا خَشْيَةً مِنْ اللَّهِ وَحْدَهُ، وَإِنْقَاذًا لِرَجُلٍ مُسْلِمٍ مِنْ الْهَلَاكِ، وَتَقْدِيمَ حَيَاةِ أَخِيهِ عَلَى حَيَاتِهِ وَاسْتِسْلَامِهِ لِلْقَتْلِ أَكْبَرُ مِنْ السَّيِّئَةِ الَّتِي فَعَلَهَا، فَقَاوَمَ هَذَا الدَّوَاءَ لِذَلِكَ الدَّاءِ، وَكَانَتْ الْقُوَّةُ صَالِحَةً، فَزَالَ الْمَرَضُ، وَعَادَ الْقَلْبُ إلَى حَالِ الصِّحَّةِ، فَقِيلَ: لَا حَاجَةَ لَنَا بِحَدِّك، وَإِنَّمَا جَعَلْنَاهُ طُهْرَةً وَدَوَاءً؛ فَإِذَا تَطَهَّرْت بِغَيْرِهِ فَعَفْوُنَا يَسَعُك، فَأَيُّ حُكْمٍ أَحْسَنُ مِنْ هَذَا الْحُكْمِ وَأَشَدُّ مُطَابَقَةً لِلرَّحْمَةِ وَالْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ؟ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.
وَقَدْ رَوَيْنَا فِي سُنَنِ النَّسَائِيّ مِنْ حَدِيثِ الْأَوْزَاعِيِّ: ثنا أَبُو عَمَّارٍ شَدَّادٌ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو أُمَامَةَ «أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَيَّ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ قَالَ: إنِّي أَصَبْت حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَيَّ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أَصَبْت حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَيَّ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَأُقِيمَتْ الصَّلَاةُ، فَلَمَّا سَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي