الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[حُكْمِ الْيَمِينِ بِالطَّلَاقِ أَوْ الشَّكِّ فِيهِ]
الْبَابُ الثَّالِثُ فِي حُكْمِ الْيَمِينِ بِالطَّلَاقِ أَوْ الشَّكِّ فِيهِ
وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ اخْتِلَافَ الْعُلَمَاءِ فِي الْيَمِينِ بِالطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ وَالْمَشْيِ وَغَيْرِ ذَلِكَ: هَلْ يَلْزَمُ أَمْ لَا؟ فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ وَشُرَيْحٌ وَطَاوُسٌ: لَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، وَلَا يَقْضِي بِالطَّلَاقِ عَلَى مَنْ حَلَفَ بِهِ بِحِنْثٍ، وَلَا يُعْرَفُ لِعَلِيٍّ فِي ذَلِكَ مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، هَذَا لَفْظُهُ بِعَيْنِهِ؛ فَهَذِهِ فَتْوَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَلِفِ بِالْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فَتَاوِيهِمْ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ الْمُعَلَّقِ بِالشَّرْطِ، وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ الْحَالِفَ لَمْ يَقْصِدْ وُقُوعَ الطَّلَاقِ.
وَإِنَّمَا قَصَدَ مَنْعَ نَفْسِهِ بِالْحَلِفِ مِمَّا لَا يُرِيدُ وُقُوعَهُ، فَهُوَ كَمَا لَوْ خَصَّ مَنْعَ نَفْسِهِ بِالْتِزَامِ التَّطْلِيقِ وَالْإِعْتَاقِ وَالْحَجِّ وَالصَّوْمِ وَصَدَقَةِ الْمَالِ، وَكَمَا لَوْ قَصَدَ مَنْعَ نَفْسِهِ بِالْتِزَامِ مَا يَكْرَهُهُ مِنْ الْكُفْرِ، فَإِنَّ كَرَاهَتَهُ لِذَلِكَ كُلِّهِ وَإِخْرَاجَهُ مَخْرَجَ الْيَمِينِ بِمَا لَا يُرِيدُ وُقُوعَهُ مَنَعَ مِنْ ثُبُوتِ حُكْمِهِ، وَهَذِهِ عِلَّةٌ صَحِيحَةٌ فَيَجِبُ طَرْدُهَا فِي الْحَلِفِ بِالْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ إذْ لَا فَرْقَ أَلْبَتَّةَ، وَالْعِلَّةُ مَتَى تَخَصَّصَتْ بِدُونِ فَوَاتِ شَرْطٍ أَوْ وُجُودِ مَانِعٍ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى فَسَادِهَا، كَيْفَ وَالْمَعْنَى الَّذِي مَنَعَ لُزُومَ الْحَجِّ وَالصَّدَقَةِ وَالصَّوْمِ بَلْ لُزُومَ الْإِعْتَاقِ وَالتَّطْلِيقِ بَلْ لُزُومَ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّة هُوَ فِي الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ أَوْلَى؟
أَمَّا الْعِبَادَاتُ الْمَالِيَّةُ وَالْبَدَنِيَّةُ فَإِذَا مَنَعَ لُزُومُهَا قَصْدَ الْيَمِينِ وَعَدَمَ قَصْدِ وُقُوعِهَا فَالطَّلَاقُ أَوْلَى، وَكُلُّ مَا يُقَالُ فِي الطَّلَاقِ فَهُوَ بِعَيْنِهِ فِي صُوَرِ الْإِلْزَامِ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ، وَأَمَّا الْحَلِفُ بِالْتِزَامِ التَّطْلِيقِ وَالْإِعْتَاقِ فَإِذَا كَانَ قَصْدُ الْيَمِينِ قَدْ مَنَعَ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ وَهِيَ وُجُوبُ التَّطْلِيقِ وَفِعْلُهُ وَحُصُولُ أَثَرِهِ وَهُوَ الطَّلَاقُ فَلَأَنْ يَقْوَى عَلَى مَنْعِ وَاحِدٍ مِنْ الثَّلَاثَةِ وَهُوَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ وَحْدَهُ أَوْلَى وَأَحْرَى، وَأَمَّا الْحَلِفُ بِالْتِزَامِ الْكُفْرِ الَّذِي يَحْصُلُ بِالنِّيَّةِ تَارَةً وَبِالْفِعْلِ تَارَةً وَبِالْقَوْلِ تَارَةً وَبِالشَّكِّ تَارَةً وَمَعَ هَذَا فَقَصْدُ الْيَمِينِ مَنَعَ مِنْ وُقُوعِهِ، فَلَأَنْ يَمْنَعَ مِنْ وُقُوعِ الطَّلَاقِ أَوْلَى وَأَحْرَى، وَإِذَا كَانَ الْعِتْقُ الَّذِي هُوَ أَحَبُّ الْأَشْيَاءِ إلَى اللَّهِ وَيَسْرِي فِي مِلْكِ الْغَيْرِ وَلَهُ مِنْ الْقُوَّةِ وَسُرْعَةِ النُّفُوذِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِ وَيَحْصُلُ بِالْمِلْكِ وَالْفِعْلِ قَدْ مَنَعَ قَصْدُ الْيَمِينِ مِنْ وُقُوعِهِ كَمَا أَفْتَى بِهِ الصَّحَابَةُ فَالطَّلَاقُ أَوْلَى وَأَحْرَى بِعَدَمِ الْوُقُوعِ، وَإِذَا كَانَتْ الْيَمِينُ بِالطَّلَاقِ قَدْ دَخَلَتْ فِي قَوْلِ الْمُكَلَّفِ:" أَيْمَانُ الْمُسْلِمِينَ تَلْزَمُنِي " عِنْدَ مَنْ أَلْزَمَهُ بِالطَّلَاقِ فَدُخُولُهَا فِي قَوْلِ رَبِّ الْعَالَمِينَ: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] أَوْلَى وَأَحْرَى، وَإِذَا دَخَلَتْ فِي قَوْلِ الْحَالِفِ:" إنْ حَلَفْت يَمِينًا فَعَبْدِي حُرٌّ ".
فَدُخُولُهَا فِي
قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ وَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ» أَوْلَى وَأَحْرَى، وَإِذَا دَخَلَتْ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:«مَنْ حَلَفَ فَقَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَإِنْ شَاءَ فَعَلَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ» فَدُخُولُهَا فِي قَوْلِهِ «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ» أَوْلَى وَأَحْرَى فَإِنَّ الْحَدِيثَ أَصَحُّ وَأَصْرَحُ، وَإِذَا دَخَلَتْ فِي قَوْلِهِ:«مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَاجِرَةٍ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ» فَدُخُولُهَا فِي قَوْله تَعَالَى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89] أَوْلَى وَأَحْرَى بِالدُّخُولِ أَوْ مِثْلِهِ، وَإِذَا دَخَلَتْ فِي قَوْله تَعَالَى:{لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة: 226] فَلَوْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ كَانَ مُولِيًا فَدُخُولُهَا فِي نُصُوصِ الْأَيْمَانِ أَوْلَى وَأَحْرَى لِأَنَّ الْإِيلَاءَ نَوْعٌ مِنْ الْيَمِينِ؛ فَإِذَا دَخَلَ الْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ فِي النَّوْعِ فَدُخُولُهُ فِي الْجِنْسِ سَابِقٌ عَلَيْهِ، فَإِنَّ النَّوْعَ مُسْتَلْزِمٌ الْحَبْسَ، وَلَا يَنْعَكِسُ، وَإِذَا دَخَلَتْ فِي قَوْلِهِ:«يَمِينُك عَلَى مَا يُصَدِّقُك بِهِ صَاحِبُك» فَكَيْفَ لَا تَدْخُلُ فِي بَقِيَّةِ نُصُوصِ الْأَيْمَانِ؟ وَمَا الَّذِي أَوْجَبَ هَذَا التَّخْصِيصَ مِنْ غَيْرِ مُخَصِّصٍ؟ وَإِذَا دَخَلَتْ فِي قَوْلِهِ: «إيَّاكُمْ وَكَثْرَةَ الْحَلِفِ فِي الْبَيْعِ فَإِنَّهُ يُنَفِّقُ ثُمَّ يَمْحَقُ» فَهَلَّا دَخَلَتْ فِي غَيْرِهِ مِنْ نُصُوصِ الْيَمِينِ وَمَا الْفَرْقُ الْمُؤَثِّرُ شَرْعًا أَوْ عَقْلًا أَوْ لُغَةً؟
وَإِذَا دَخَلَتْ فِي قَوْلِهِ: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة: 89] فَهَلَّا دَخَلَتْ فِي قَوْلِهِ: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89] وَإِذَا دَخَلَتْ فِي قَوْلِ الْحَالِفِ " أَيْمَانُ الْبَيْعَةِ تَلْزَمُنِي " وَهِيَ الْأَيْمَانُ الَّتِي رَتَّبَهَا الْحَجَّاجُ فَلِمَ لَا تَكُونُ أَوْلَى بِالدُّخُولِ فِي لَفْظِ الْأَيْمَانِ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ؟ فَإِنْ كَانَتْ يَمِينُ الطَّلَاقِ يَمِينًا شَرْعِيَّةً بِمَعْنَى أَنَّ الشَّرْعَ اعْتَبَرَهَا وَجَبَ أَنْ تُعْطَى حُكْمَ الْأَيْمَانِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ يَمِينًا شَرْعِيَّةً كَانَتْ بَاطِلَةً فِي الشَّرْعِ، فَلَا يَلْزَمُ الْحَالِفَ بِهَا شَيْءٌ كَمَا صَحَّ عَنْ طَاوُسٍ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْهُ:" لَيْسَ الْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ شَيْئًا " وَصَحَّ عَنْ عِكْرِمَةَ مِنْ رِوَايَةِ سُنَيْدِ بْنِ دَاوُد بْنِ عَلِيٍّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْهُ أَنَّهَا مِنْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ لَا يَلْزَمُ بِهَا شَيْءٌ، وَصَحَّ عَنْ شُرَيْحٍ قَاضِي أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهَا لَا يَلْزَمُ بِهَا طَلَاقٌ، وَهُوَ مَذْهَبُ دَاوُد بْنِ عَلِيٍّ وَجَمِيعِ أَصْحَابِهِ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ مَالِكٍ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ فِيمَا إذَا حَلَفَ عَلَيْهَا بِالطَّلَاقِ عَلَى شَيْءٍ لَا تَفْعَلُهُ هِيَ كَقَوْلِهِ: إنْ كَلَّمْت فُلَانًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَقَالَ: لَا تَطْلُقُ إنْ كَلَّمَتْهُ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَكُونُ بِيَدِهَا إنْ شَاءَتْ طَلَّقَتْ وَإِنْ شَاءَتْ أَمْسَكَتْ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، كَقَوْلِهِ: الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي أَوْ لَازِمٌ لِي لَا أَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا، فَإِنَّ لَهُمْ فِيهِ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ إنْ نَوَى وُقُوعَ الطَّلَاقِ بِذَلِكَ لَزِمَهُ، وَإِلَّا فَلَا يَلْزَمُهُ، وَجَعَلَهُ هَؤُلَاءِ كِنَايَةً، وَالطَّلَاقُ يَقَعُ بِالْكِنَايَةِ مَعَ النِّيَّةِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ صَرِيحٌ، فَلَا يَحْتَاجُ إلَى نِيَّتِهِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ الرُّويَانِيِّ، وَوَجْهُهُ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ قَدْ غَلَبَ فِي إرَادَةِ الطَّلَاقِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى نِيَّةٍ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَيْسَ بِصَرِيحٍ وَلَا كِنَايَةٍ، وَلَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ وَإِنْ نَوَاهُ، وَهَذَا اخْتِيَارُ الْقَفَّالِ فِي فَتَاوِيهِ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الطَّلَاقَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ إضَافَتِهِ إلَى الْمَرْأَةِ كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ طَلَّقْتُك، أَوْ قَدْ طَلَّقْتُك، أَوْ يَقُولُ: امْرَأَتِي طَالِقٌ، أَوْ فُلَانَةُ طَالِقٌ، وَنَحْوَ هَذَا، وَلَمْ تُوجَدْ هَذِهِ الْإِضَافَةُ فِي قَوْلِهِ: الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي، وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ طَلِّقِي نَفْسَك فَقَالَتْ أَنْتِ طَالِقٌ فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ بِذَلِكَ طَلَاقٌ، وَقَالَ: خَطَّأَ اللَّهُ نَوْأَهَا، وَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ الْأَئِمَّةُ، فَإِذَا قَالَ " الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي " لَمْ يَكُنْ لَازِمًا لَهُ إلَّا أَنْ يُضِيفَهُ إلَى مَحَلِّهِ، وَلَمْ يُضِفْهُ فَلَا يَقَعُ، وَالْمُوَقِّعُونَ يَقُولُونَ: إذَا الْتَزَمَهُ فَقَدْ لَزِمَهُ، وَمِنْ ضَرُورَةِ لُزُومِهِ إضَافَتُهُ إلَى الْمَحَلِّ، فَجَاءَتْ الْإِضَافَةُ مِنْ ضَرُورَةِ اللُّزُومِ، وَلِمَنْ نَصَرَ قَوْلُ الْقَفَّالِ أَنْ يَقُولَ: إمَّا أَنْ يَكُونَ قَائِلُ هَذَا اللَّفْظِ قَدْ الْتَزَمَ التَّطْلِيقَ أَوْ وُقُوعَ الطَّلَاقِ الَّذِي هُوَ أَثَرُهُ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ لَمْ يَلْزَمْهُ لِأَنَّهُ نَذَرَ أَنْ يُطَلِّقَ، وَلَا تَطْلُقُ الْمَرْأَةُ بِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ قَدْ الْتَزَمَ الْوُقُوعَ فَالْتِزَامُهُ بِدُونِ سَبَبِ الْوُقُوعِ مُمْتَنِعٌ، وَقَوْلُهُ:" الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي " الْتِزَامٌ لِحُكْمِهِ عِنْدَ وُقُوعِ سَبَبِهِ، وَهَذَا حَقٌّ، فَأَيْنَ فِي هَذَا اللَّفْظِ وُجُودُ سَبَبِ الطَّلَاقِ؟ وَقَوْلُهُ:" الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي " لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا؛ إذْ لَمْ يُضِفْ فِيهِ الطَّلَاقَ إلَى مَحَلِّهِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ:" الْعِتْقُ يَلْزَمُنِي "، وَلَمْ يُضِفْ فِيهِ الْعِتْقَ إلَى مَحَلِّهِ بِوَجْهٍ، وَنَظِيرُ هَذَا أَنْ يَقُولَ لَهُ: بِعْنِي أَوْ آجِرْنِي، فَيَقُولُ: الْبَيْعُ يَلْزَمُنِي، أَوْ الْإِجَارَة تَلْزَمُنِي، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ بِذَلِكَ مُوجِبًا لِعَقْدِ الْبَيْعِ أَوْ الْإِجَارَةِ، حَتَّى يُضِيفَهُمَا إلَى مَحَلِّهِمَا، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ:" الظِّهَارُ يَلْزَمُنِي " لَمْ يَكُنْ بِذَلِكَ مُظَاهِرًا حَتَّى يُضِيفَهُ إلَى مَحَلِّهِ.
وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: " الصَّوْمُ يَلْزَمُنِي، أَوْ الْحَجُّ، أَوْ الصَّدَقَةُ " فَإِنَّ مَحَلَّهُ الذِّمَّةُ وَقَدْ أَضَافَهُ إلَيْهَا.
فَإِنْ قِيلَ: وَهَهُنَا مَحَلُّ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ الذِّمَّةُ. [مَحَلُّ الطَّلَاقِ الزَّوْجَةُ] : قِيلَ: هَذَا غَلَطٌ، بَلْ مَحَلُّ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ نَفْسُ الزَّوْجَةِ وَالْعَبْدِ، وَإِنَّمَا الذِّمَّةُ مَحَلُّ وُجُوبِ ذَلِكَ وَهُوَ التَّطْلِيقُ وَالْإِعْتَاقُ، وَحِينَئِذٍ فَيَعُودُ الِالْتِزَامُ إلَى التَّطْلِيقِ وَالْإِعْتَاقِ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ الْوُقُوعَ، وَاَلَّذِي يُوَضِّحُ هَذَا أَنَّهُ لَوْ قَالَ:" أَنَا مِنْكِ طَالِقٌ " لَمْ تَطْلُقْ بِذَلِكَ لِإِضَافَةِ الطَّلَاقِ إلَى غَيْرِ مَحَلِّهِ، وَقِيلَ: تَطْلُقُ إذَا نَوَى طَلَاقَهَا هِيَ بِذَلِكَ، تَنْزِيلًا لِهَذَا اللَّفْظِ مَنْزِلَةَ الْكِنَايَاتِ، فَهَذَا كَشَفَ سِرَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؛ وَمِمَّنْ ذَكَرَ هَذِهِ الْأَوْجُهَ الثَّلَاثَةَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ يُونُسَ فِي شَرْحِ التَّنْبِيهِ، وَأَكْثَرُ أَيْمَانِ الطَّلَاقِ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ، فَكَيْفَ يَحِلُّ لِمَنْ يُؤْمِنُ بِأَنَّهُ مَوْقُوفٌ بَيْنَ