الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إفْسَادِ هَذَا أَيْضًا فَلْيُشْهِدْ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْمُطَالَبَةَ لَهُ بِهِ إلَّا عِنْدَ تَعَذُّرِ مُطَالَبَةِ الْأَصِيلِ، وَأَنَّهُ مَتَى طَالَبَهُ أَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ بِهِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الْأَصِيلِ كَانَتْ دَعْوَاهُ بَاطِلَةً، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[الْمِثَالُ الْخَامِسُ وَالسِّتُّونَ هَلْ يَجُوزُ إبْهَامُ الْإِجَارَةِ]
[هَلْ يَجُوزُ إبْهَامُ الْإِجَارَةِ؟]
الْمِثَالُ الْخَامِسُ وَالسِّتُّونَ: قَدْ تَدْعُو الْحَاجَةُ إلَى أَنْ يَكُونَ عَقْدُ الْإِجَارَةِ مُبْهَمًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ، فَمِثَالُهُ أَنْ يَقُولَ لَهُ: إنْ رَكِبْت هَذِهِ الدَّابَّةَ إلَى أَرْضِ كَذَا فَلَكَ عَشَرَةٌ وَإِنْ رَكِبْتهَا إلَى أَرْضِ كَذَا فَلَكَ خَمْسَةَ عَشَرَ، أَوْ يَقُولَ: إنْ خِطْت هَذَا الْقَمِيصَ الْيَوْمَ فَلَكَ دِرْهَمٌ، وَإِنْ خِطْته غَدًا فَنِصْفُ دِرْهَمٍ، وَإِنْ زَرَعْت هَذِهِ الْأَرْضَ حِنْطَةً فَأُجْرَتُهَا مِائَةٌ، أَوْ شَعِيرًا فَأُجْرَتُهَا خَمْسُونَ، وَنَحْوُ ذَلِكَ؛ فَهَذَا كُلُّهُ جَائِزٌ صَحِيحٌ، لَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِهِ كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ وَلَا إجْمَاعٌ وَلَا قِيَاسٌ، بَلْ هَذِهِ الْأَدِلَّةُ تَقْتَضِي صِحَّتَهُ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ نِزَاعٌ مُتَأَخِّرٌ، فَالثَّابِتُ عَنْ الصَّحَابَةِ الَّذِي لَا يُعْلَمُ عَنْهُمْ فِيهِ نِزَاعٌ جَوَازُهُ كَمَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ دَفَعَ أَرْضَهُ إلَى مَنْ يَزْرَعُهَا وَقَالَ: إنْ جَاءَ عُمَرُ بِالْبَذْرِ مِنْ عِنْدِهِ فَلَهُ كَذَا، وَإِنْ جَاءُوا بِالْبَذْرِ فَلَهُمْ كَذَا، وَلَمْ يُخَالِفْهُ صَحَابِيٌّ وَاحِدٌ، وَلَا مَحْذُورَ فِي ذَلِكَ، وَلَا خَطَرَ، وَلَا غَرَرَ، وَلَا أَكْلَ مَالٍ بِالْبَاطِلِ، وَلَا جَهَالَةَ تَعُودُ إلَى الْعَمَلِ وَلَا إلَى الْعِوَضِ، فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ إلَّا مُعَيَّنًا، وَالْخِيَرَةُ إلَى الْأَجِيرِ؛ أَيَّ ذَلِكَ أَحَبَّ أَنْ يَسْتَوْفِيَ فَعَلَ، فَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ [لَهُ] أَيُّ ثَوْبٍ أَخَذْته مِنْ هَذِهِ الثِّيَابِ فَقِيمَتُهُ كَذَا، أَوْ أَيُّ دَابَّةٍ رَكِبْتهَا فَأُجْرَتُهَا كَذَا، أَوْ أُجْرَةُ هَذِهِ الْفَرَسِ كَذَا [وَأُجْرَةُ هَذَا الْحِمَارِ كَذَا] ، فَأَيُّهَا شِئْت فَخُذْهُ، أَوْ ثَمَنُ هَذَا الثَّوْبِ مِائَةٌ وَثَمَنُ هَذَا مِائَتَانِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ فِيهِ غَرَرٌ وَلَا جَهَالَةٌ وَلَا رِبًا وَلَا ظُلْمٌ، فَكَيْفَ تَأْتِي الشَّرِيعَةُ بِتَحْرِيمِهِ؟
وَعَلَى هَذَا فَلَا يُحْتَاجُ إلَى حِيلَةٍ عَلَى فِعْلِهِ، وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ يُبْطِلُ هَذَا الْعَقْدَ، فَالْحِيلَةُ عَلَى جَوَازِهِ أَنْ يَقُولَ: اسْتَأْجَرْتُك لِتَخِيطَهُ الْيَوْمَ بِدِرْهَمٍ، فَإِنْ خِطْته غَدًا فَلَكَ أُجْرَةُ مِثْلِهِ نِصْفُ دِرْهَمٍ، وَكَذَا يَقُولُ: آجَرْتُك هَذِهِ الدَّابَّةَ إلَى أَرْضِ كَذَا بِعَشَرَةٍ، فَإِنْ رَكِبْتهَا إلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا فَعَلَيْك أُجْرَةُ مِثْلِهَا كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ خَافَ أَنْ يَكُونَ يَدُهُ يَدَ عُدْوَانٍ ضَمَّنَهُ فَلْيَقُلْ: فَإِذَا انْقَضَتْ الْمَسَافَةُ الْأُولَى فَهِيَ أَمَانَةٌ عِنْدَك، هَذَا عِنْدَ مَنْ لَمْ يُصَحِّحْ الْإِجَارَةَ الْمُضَافَةَ، وَمَنْ صَحَّحَهَا فَالْحِيلَةُ عِنْدَهُ أَنْ يَقُولَ: فَإِذَا قَطَعْت هَذِهِ الْمَسَافَةَ فَقَدْ آجَرْتُكَهَا إلَى مَسَافَةِ كَذَا وَكَذَا، فَإِذَا انْتَهَتْ آجَرْتُكَهَا إلَى مَسَافَةِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ خَشِيَ الْمُسْتَأْجِرُ أَنْ يَنْقَضِيَ شُغْلُهُ قَبْلَ ذَلِكَ فَيَبْقَى عَقْدُ الْإِجَارَةِ لَازِمًا لَهُ وَقَدْ فَرَغَ شُغْلُهُ فَالْحِيلَةُ أَنْ يَقُولَ: إذَا انْقَضَتْ الْمَسَافَةُ أَوْ الْمُدَّةُ فَقَدْ وَكَّلْتُك فِي إجَارَتِهَا لِمَنْ شِئْت، فَلْيُؤْجِرْهَا لِغَيْرِهِ ثُمَّ يَسْتَأْجِرْهَا مِنْهُ، فَإِنْ خَافَ أَنْ لَا تَتِمَّ هَذِهِ الْحِيلَةُ عَلَى أَصْلِ مَنْ لَا يُجَوِّزُ تَعْلِيقَ الْوَكَالَةِ بِالشَّرْطِ فَلْيُوَكِّلْهُ فِي الْحَالِ وَكَالَةً غَيْرَ مُعَلَّقَةٍ، ثُمَّ يُعَلِّقْ تَصَرُّفَهُ بِالشَّرْطِ، فَيَقُولُ: أَنْتَ وَكِيلِي فِي إجَارَتِهَا، فَإِذَا انْقَضَتْ الْمُدَّةُ فَقَدْ أَذِنْتُ لَكَ فِي إجَارَتِهَا.
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي كِتَابِ إبْطَالِ الْحِيَلِ: إنْ احْتَالَ فِي إجَازَةِ هَذَا الشَّرْطِ فَقَالَ: اسْتَأْجِرْهَا إلَى دِمَشْقَ بِكَذَا، وَمِنْ دِمَشْقَ إلَى الرَّمْلَةِ بِكَذَا، وَمِنْ الرَّمْلَةِ إلَى مِصْرَ بِكَذَا، جَازَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا سَمَّى لِكُلٍّ مِنْ الْمَسَافَتَيْنِ أُجْرَةً مَعْلُومَةً فَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا كَالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ عَلَى حَالِهِ، فَلَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْعَقْدِ.
قُلْت: وَلَكِنْ لَا تَنْفَعُهُ هَذِهِ الْحِيلَةُ إذَا انْقَضَى غَرَضُهُ عِنْدَ الْمَسَافَةِ الْأُولَى، وَيَبْقَى عَقْدُ الْإِجَارَةِ لَازِمًا لَهُ فِيمَا وَرَاءَهَا، فَتَصِيرُ كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَهَا إلَى مِصْرَ فَانْقَضَى غَرَضُهُ فِي الرَّمْلَةِ، فَمَا الَّذِي أَفَادَهُ تَعَدُّدُ الْعُقُودِ، فَوُجُودُ هَذِهِ الْحِيلَةِ وَعَدَمُهَا سَوَاءٌ، فَالْوَجْهُ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[بَيْعُ الْمَقَاثِي وَمَا يَخْرُجُ شَيْئًا فَشَيْئًا] : الْمِثَالُ الْخَامِسُ وَالسِّتُّونَ: يَجُوزُ بَيْعُ الْمَقَاثِي وَالْبَاذِنْجَانِ وَنَحْوِهَا بَعْدَ أَنْ يَبْدُوَ صَلَاحُهَا كَمَا تُبَاعُ الثِّمَارُ فِي رُءُوسِ الْأَشْجَارِ، وَلَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الْبَيْعِ تَلَاحُقُ الْمَبِيعِ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، كَمَا لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ صِحَّةَ بَيْعِ التُّوتِ وَالتِّينِ وَسَائِرِ مَا يَخْرُجُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، هَذَا مَحْضُ الْقِيَاسِ، وَعَلَيْهِ تَقُومُ مَصَالِحُ بَنِي آدَمَ، وَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنْهُ، وَمَنْ مَنَعَ بَيْعَ ذَلِكَ إلَّا لُقَطَةً لُقَطَةً فَمَعَ أَنَّ ذَلِكَ مُتَعَذِّرٌ فِي الْغَالِبِ لَا سَبِيلَ إلَيْهِ إذْ هُوَ فِي غَايَةِ الْحَرَجِ وَالْعُسْرِ فَهُوَ مَجْهُولٌ لَا يَنْضَبِطُ وَلَا مَا هِيَ اللُّقَطَةُ الْمَبِيعَةُ أَهِيَ الْكِبَارُ أَوْ الصِّغَارُ أَوْ الْمُتَوَسِّطُ أَوْ بَعْضُ ذَلِكَ؟ وَتَكُونُ الْمَقْثَأَةُ كَبِيرَةً جِدًّا لَا يُمْكِنُ أَخْذُ اللُّقْطَةِ الْوَاحِدَةِ إلَّا فِي أَيَّامٍ مُتَعَدِّدَةٍ فَيَحْدُثُ كُلَّ يَوْمٍ لُقَطَةٌ أُخْرَى تَخْتَلِطُ بِالْمَبِيعِ وَلَا يُمْكِنُ تَمَيُّزُهَا مِنْهُ وَلَا سَبِيلَ إلَى الِاحْتِرَازِ مِنْ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَجْمَعَ دَوَابَّ الْمِصْرِ كُلَّهَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَمَنْ أَمْكَنَهُ مِنْ الْقَطَّافِينَ ثُمَّ يَقْطَعَ الْجَمِيعَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ وَيُعَرِّضَهُ لِلتَّلَفِ وَالضَّيَاعِ، وَحَاشَا كُلَّ الشَّرَائِعِ - بَلْ غَيْرِهَا مِنْ الشَّرَائِعِ - أَنْ تَأْتِيَ بِمِثْلِ هَذَا، وَإِنَّمَا هَذَا مِنْ الْأَغْلَاطِ الْوَاقِعَةِ بِالِاجْتِهَادِ، وَأَيْنَ حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَلَى الْأُمَّةِ مَا هُمْ أَحْوَجُ النَّاسِ إلَيْهِ ثُمَّ أَبَاحَ لَهُمْ نَظِيرَهُ؟ فَإِنْ كَانَ هَذَا غَرَرًا فَبَيْعُ الثِّمَارِ الْمُتَلَاحِقَةِ الْأَجْزَاءِ غَرَرٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ غَرَرًا فَهَذَا مِثْلُهُ، وَالصَّوَابُ أَنَّ كِلَيْهِمَا لَيْسَ غَرَرًا لَا لُغَةً وَلَا عُرْفًا وَلَا شَرْعًا؛ وَدَعْوَى أَنَّ ذَلِكَ غَرَرٌ دَعْوَى بِلَا بُرْهَانٍ، فَإِنْ ادَّعَى ذَلِكَ عَلَى اللُّغَةِ طُولِبَ بِالنَّقْلِ، وَلَنْ يَجِدَ إلَيْهِ سَبِيلًا، وَإِنْ ادَّعَى ذَلِكَ عَلَى الْعُرْفِ فَالْعُرْفُ شَاهِدٌ بِخِلَافِهِ، وَأَهْلُ الْعُرْفِ لَا يَعُدُّونَ ذَلِكَ غَرَرًا، وَإِنْ ادَّعَاهُ عَلَى الشَّرْعِ طُولِبَ بِالدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ، فَإِنْ بُلِيَ بِمَنْ يَقُولُ هَكَذَا فِي
الْكِتَابِ وَهَكَذَا قَالُوا: فَالْحِيلَةُ فِي الْجَوَازِ أَنْ يَشْتَرِيَ ذَلِكَ بِعُرُوقِهِ، فَإِذَا اسْتَوْفَى ثَمَرَتَهُ تَصَرَّفَ فِي الْعُرُوقِ بِمَا يُرِيدُ. وَالْمَانِعُونَ يُجَوِّزُونَ هَذِهِ الْحِيلَةَ، وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْعُرُوقَ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ الثَّمَرَةُ، فَإِنْ امْتَنَعَ الْبَيْعُ لِأَجْلِ الْغَرَرِ فَالْغَرَرُ لَمْ يَزُلْ بِمِلْكِ الْعُرُوقِ، وَهَذَا فِي غَايَةِ الظُّهُورِ، وَبَيْعُ ذَلِكَ كَبَيْعِ الثِّمَارِ، وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَاخْتَارَهُ شَيْخُنَا.