الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قَالُوا: لَا، قَالَ: صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ، فَقَالَ أَبُو قَتَادَةَ: هُمَا عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَصَلَّى عَلَيْهِ» فَرُدَّتْ هَذِهِ السُّنَّةُ بِرَأْيٍ لَا يُقَاوِمُهَا، وَهُوَ أَنَّ الْمَيِّتَ قَدْ خَرِبَتْ ذِمَّتُهُ؛ فَلَا يَصِحُّ ضَمَانُ شَيْءٍ خَرَابٍ فِي مَحَلِّ خَرَابٍ، بِخِلَافِ الْحَيِّ الْقَادِرِ فَإِنَّ ذِمَّتَهُ بِصَدَدِ الْعِمَارَةِ فِي ضَمَانِ دَيْنِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَفَاءٌ فِي الْحَالِ، وَأَمَّا إذَا خَلَّفَ وَفَاءً فَإِنَّهُ يَصِحُّ الضَّمَانُ فِي الْحَالِ تَنْزِيلًا لِذِمَّتِهِ بِمَا خَلَّفَهُ مِنْ الْوَفَاءِ مَنْزِلَةَ الْحَيِّ الْقَادِرِ.
قَالُوا: وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَإِنَّمَا هُوَ إخْبَارٌ عَنْ ضَمَانٍ مُتَقَدِّمٍ عَلَى الْمَوْتِ؛ فَهُوَ إخْبَارٌ مِنْهُ بِالْتِزَامٍ سَابِقٍ، لَا إنْشَاءٌ لِلِالْتِزَامِ حِينَئِذٍ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا تُرَدُّ بِهِ السُّنَّةُ الصَّرِيحَةُ، وَلَا يَصِحُّ حَمْلُهَا عَلَى الْأَخْبَارِ لِوُجُوهٍ؛ أَحَدُهَا: أَنَّ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ: «فَقَالَ أَبُو قَتَادَةَ: أَنَا الْكَفِيلُ بِهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» رَوَاهُ النَّسَائِيّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ. الثَّانِي: أَنَّ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْبُخَارِيِّ «فَقَالَ أَبُو قَتَادَةَ: صَلِّ عَلَيْهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَعَلَيَّ دَيْنُهُ» فَقَوْلُهُ: «وَعَلَيَّ دَيْنُهُ» كَالصَّرِيحِ فِي الِالْتِزَامِ أَوْ صَرِيحٌ فِيهِ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْوَاوَ لِلِاسْتِئْنَافِ، وَلَيْسَ قَبْلَهَا مَا يَصِحُّ أَنْ يُعْطَفَ مَا بَعْدَهَا عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ قَالَ: صَلِّ عَلَيْهِ وَأَنَا أَلْتَزِمُ مَا عَلَيْهِ أَوْ وَأَنَا مُلْتَزِمٌ مَا عَلَيْهِ، الثَّالِثُ: أَنَّ الْحُكْمَ لَوْ اخْتَلَفَ لَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: هَلْ ضَمِنْت ذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ؟ وَلَا سِيَّمَا فَإِنَّ الظَّاهِرَ مِنْهُ الْإِنْشَاءُ، وَأَدْنَى الْأَحْوَالِ أَنْ يَحْتَمِلَهُمَا عَلَى السَّوَاءِ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا بَاطِلًا فِي الشَّرْعِ وَالْآخَرُ صَحِيحًا فَكَيْفَ يُقِرُّهُ عَلَى قَوْلٍ مُحْتَمِلٍ لِحَقٍّ وَبَاطِل وَلَمْ يَسْتَفْصِلْهُ عَنْ مُرَادِهِ بِهِ؟ الرَّابِعُ: أَنَّ الْقِيَاسَ يَقْتَضِي صِحَّةَ الضَّمَانِ وَإِنْ لَمْ يُخَلِّفْ وَفَاءً، فَإِنَّ مَنْ صَحَّ ضَمَانُ دَيْنِهِ إذَا خَلَّفَ وَفَاءً صَحَّ ضَمَانُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ كَالْحَيِّ، وَأَيْضًا فَمَنْ صَحَّ ضَمَانُ دَيْنِهِ حَيًّا صَحَّ ضَمَانُ دَيْنِهِ مَيِّتًا، وَأَيْضًا فَإِنَّ الضَّمَانَ لَا يُوجِبُ الرُّجُوعَ، وَإِنَّمَا يُوجِبُ مُطَالَبَةَ رَبِّ الدَّيْنِ لِلضَّامِنِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُخَلِّفَ الْمَيِّتُ وَفَاءً أَوْ لَمْ يَخْلُفْهُ، وَأَيْضًا فَالْمَيِّتُ أَحْوَجُ إلَى ضَمَانِ دَيْنِهِ الْحَيُّ لِحَاجَتِهِ إلَى تَبْرِيدِ جِلْدِهِ بِبَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ وَتَخْلِيصِهِ مِنْ ارْتِهَانِهِ بِالدَّيْنِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ ذِمَّةَ الْمَيِّتِ وَإِنْ خَرِبَتْ مِنْ وَجْهٍ - وَهُوَ تَعَذُّرُ مُطَالَبَتِهِ - لَمْ تَخْرَبْ مِنْ جِهَةِ بَقَاءِ الْحَقِّ فِيهَا، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«لَيْسَ مِنْ مَيِّتٍ يَمُوتُ إلَّا وَهُوَ مُرْتَهَنٌ بِدَيْنِهِ» وَلَا يَكُونُ مُرْتَهَنًا وَقَدْ خَرِبَتْ ذِمَّتُهُ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَوْ خَرِبَتْ ذِمَّتُهُ لَبَطَلَ الضَّمَانُ بِمَوْتِهِ؛ فَإِنَّ الضَّامِنَ فَرْعُهُ، وَقَدْ خَرِبَتْ ذِمَّةُ الْأَصْلِ، فَلَمَّا اُسْتُدِيمَ الضَّمَانُ وَلَمْ يَبْطُلْ بِالْمَوْتِ عَلِمَ أَنَّ الضَّمَانَ لَا يُنَافِي الْمَوْتَ؛ فَإِنَّهُ لَوْ نَافَاهُ ابْتِدَاءً لَنَافَاهُ اسْتِدَامَةً؛ فَإِنَّ هَذَا مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي لَا يُفَرَّقُ فِيهَا بَيْنَ الدَّوَامِ وَالِابْتِدَاءِ لِاتِّحَادِ سَبَبِ الِابْتِدَاءِ وَالدَّوَامِ فِيهَا؛ فَظَهَرَ أَنَّ الْقِيَاسَ الْمَحْضَ مَعَ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.
[تَرْكُ السُّنَّةِ الصَّحِيحَة فِي جَمْعِ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ لِلْعُذْرِ]
[الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ]
الْمِثَالُ الثَّانِي وَالسَّبْعُونَ: تَرْكُ السُّنَّةِ الثَّابِتَةِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ الْمُحْكَمَةِ فِي جَمْعِ
التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ لِلْعُذْرِ، كَحَدِيثِ أَنَسٍ:«كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ أَنْ تَزِيغَ الشَّمْسُ أَخَّرَ الظُّهْرَ إلَى وَقْتِ الْعَصْرِ، ثُمَّ نَزَلَ فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا» وَفِي لَفْظٍ لَهُ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا أَرَادَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي السَّفَرِ أَخَّرَ الظُّهْرَ حَتَّى يَدْخُلَ وَقْتُ الْعَصْرِ، ثُمَّ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا» وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَكَقَوْلِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ:«كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ إذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ أَنْ تَزِيغَ الشَّمْسُ أَخَّرَ الظُّهْرَ حَتَّى يَجْمَعَ مَعَ الْعَصْرِ فَيُصَلِّيَهُمَا جَمِيعًا، وَإِذَا ارْتَحَلَ بَعْدَ زَيْغِ الشَّمْسِ صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا ثُمَّ سَارَ، وَكَانَ إذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ الْمَغْرِبِ أَخَّرَ الْمَغْرِبَ حَتَّى يُصَلِّيَهَا مَعَ الْعِشَاءِ، وَإِذَا ارْتَحَلَ بَعْدَ الْمَغْرِبِ عَجَّلَ الْعِشَاءَ فَصَلَّاهَا مَعَ الْمَغْرِبِ» وَهُوَ فِي السُّنَنِ وَالْمُسْنَدِ، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَعِلَّتُهُ وَاهِيَةٌ، وَكَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ:«كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إذَا زَاغَتْ الشَّمْسُ وَهُوَ فِي مَنْزِلِهِ جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ يَرْكَبَ، وَإِذَا لَمْ تَزِغْ فِي مَنْزِلِهِ سَارَ حَتَّى إذَا حَانَتْ الْعَصْرُ نَزَلَ فَجَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَإِذَا حَانَتْ لَهُ الْمَغْرِبُ فِي مَنْزِلِهِ جَمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعِشَاءِ، وَإِذَا لَمْ تَحْنِ فِي مَنْزِلِهِ رَكِبَ حَتَّى إذَا كَانَ الْعِشَاءُ نَزَلَ فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا» وَهَذَا مُتَابِعٌ لِحَدِيثِ مُعَاذٍ، وَفِي بَعْضِ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ:«وَإِذَا سَافَرَ قَبْلَ أَنْ تَزُولَ الشَّمْسُ أَخَّرَ الظُّهْرَ حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعَصْرِ فِي وَقْتِ الْعَصْرِ» وَكَقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ وَقَدْ أَخَّرَ الْمَغْرِبَ حَتَّى غَابَ الشَّفَقُ ثُمَّ نَزَلَ فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ إذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ» كَانَتْ هَذِهِ سُنَنٌ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ وَالصَّرَاحَةِ، وَلَا مُعَارِضَ لَهَا؛ فَرُدَّتْ بِأَنَّهَا أَخْبَارُ آحَادٍ
، وَأَوْقَاتُ الصَّلَاةِ ثَابِتَةٌ بِالتَّوَاتُرِ، كَحَدِيثِ إمَامَةِ جِبْرِيلَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَصَلَاتِهِ بِهِ كُلَّ صَلَاةٍ فِي وَقْتِهَا ثُمَّ قَالَ:«الْوَقْتُ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ» فَهَذَا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ بِمَكَّةَ، وَهَكَذَا فَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالسَّائِلِ فِي الْمَدِينَةِ سَوَاءٌ صَلَّى بِهِ كُلَّ صَلَاةٍ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا وَآخِرِهِ وَقَالَ:«الْوَقْتُ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ» وَقَالَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: «وَقْتُ صَلَاةِ الظُّهْرِ مَا لَمْ تَحْضُرْ الْعَصْرُ، وَوَقْتُ صَلَاةِ الْعَصْرِ مَا لَمْ تَصْفَرَّ الشَّمْسُ، وَوَقْتُ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ مَا لَمْ يَسْقُطْ نُورُ الشَّفَقِ، وَوَقْتُ صَلَاةِ الْعِشَاءِ إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ» وَقَالَ: «وَقْتُ كُلِّ صَلَاةٍ مَا لَمْ يَدْخُلْ وَقْتُ الَّتِي تَلِيهَا» وَيَكْفِي لِلسَّائِلِ وَقَدْ سَأَلَهُ عَنْ الْمَوَاقِيتِ ثُمَّ بَيَّنَهَا لَهُ بِفِعْلِهِ: «الْوَقْتُ فِيمَا بَيْنَ هَذَيْنِ» فَهَذَا بَيَانٌ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَهَذِهِ أَحَادِيثُ مُحْكَمَةٌ صَحِيحَةٌ صَرِيحَةٌ فِي تَفْصِيلِ الْأَوْقَاتِ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا بَيْنَ الْأُمَّةِ.
وَجَمِيعُهُمْ احْتَجُّوا بِهَا فِي أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ، فَقَدَّمْتُمْ عَلَيْهَا أَحَادِيثَ مُجْمَلَةً مُحْتَمَلَةً فِي الْجَمْعِ غَيْرَ صَرِيحَةٍ فِيهِ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَا الْجَمْعَ فِي الْفِعْلِ، وَأَنْ يُرَادَ بِهَا الْجَمْعُ فِي الْوَقْتِ، فَكَيْفَ يُتْرَكُ الصَّرِيحُ الْمُبَيِّنُ لِلْمُجْمَلِ الْمُحْتَمَلِ؟ وَهَلْ هَذَا إلَّا تَرْكٌ لِلْمُحْكَمِ وَأَخْذٌ بِالْمُتَشَابِهِ، وَهُوَ عَيْنُ مَا أَنْكَرْتُمُوهُ فِي هَذِهِ الْأَمْثِلَةِ؟