المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[دليل تحريم الحيل وأنواعها] - إعلام الموقعين عن رب العالمين - ط العلمية - جـ ٣

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌[فَصَلِّ الشَّرْطُ الْعُرْفِيُّ كَالشَّرْطِ اللَّفْظِيِّ]

- ‌[رَدُّ السُّنَّةِ الثَّابِتَةِ فِي ضَمَانِ دَيْنِ الْمَيِّتِ الَّذِي لَمْ يُخَلِّفْ وَفَاءً]

- ‌[تَرْكُ السُّنَّةِ الصَّحِيحَة فِي جَمْعِ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ لِلْعُذْرِ]

- ‌[رَدُّ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ فِي الْوِتْرِ بِخَمْسٍ مُتَّصِلَةٍ وَسَبْعٍ مُتَّصِلَةٍ]

- ‌[تَغْيِيرِ الْفَتْوَى وَاخْتِلَافِهَا]

- ‌[الشَّرِيعَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مَصَالِحِ الْعِبَادِ]

- ‌[إنْكَارُ الْمُنْكَرِ وَشُرُوطُهُ]

- ‌[فَصْلٌ قَطْعِ الْأَيْدِي فِي الْغَزْوِ]

- ‌[فَصْلٌ سُقُوطُ الْحَدِّ عَامَ الْمَجَاعَةِ]

- ‌[فَصْلٌ صَدَقَةُ الْفِطْرِ لَا تَتَعَيَّنُ فِي أَنْوَاعٍ]

- ‌[فَصْلٌ رَدُّ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ بَدَلَ الْمُصَرَّاةِ]

- ‌[فَصْلٌ طَوَافُ الْحَائِضِ بِالْبَيْتِ]

- ‌[فَصْلٌ جَمْعُ الطَّلْقَاتِ الثَّلَاثِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ]

- ‌[فَصْلٌ مُوجِبَاتُ الْأَيْمَانِ وَالْإِقْرَارِ وَالنُّذُورِ وَغَيْرِهَا]

- ‌[فَصْلٌ الطَّلَاقُ حَالَ الْغَضَبِ]

- ‌[فَصْلٌ الْيَمِينُ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ]

- ‌[حُكْمِ الْيَمِينِ بِالطَّلَاقِ أَوْ الشَّكِّ فِيهِ]

- ‌[فَصْلٌ اعْتِبَارُ النِّيَّةِ وَالْأَلْفَاظِ فِي الطَّلَاقِ]

- ‌[فَصْلٌ تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ بِشَرْطٍ مُضْمَرٍ]

- ‌[فَصْلٌ الْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ وَبِالْحَرَامِ لَهُ صِيغَتَانِ]

- ‌[مَنْشَأُ أَيْمَانِ الْبَيْعَةِ]

- ‌[فَصْلٌ الْحَلِفُ بِأَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ بِالْأَيْمَانِ اللَّازِمَةِ]

- ‌[فَصَلِّ أَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ فِي تَأْجِيلِ بَعْضِ الْمَهْرِ وَحُكْمُ الْمُؤَجَّلِ]

- ‌[مَهْرُ السِّرِّ وَمَهْرُ الْعَلَنِ]

- ‌[الْأَلْفَاظِ الَّتِي لَمْ يَقْصِدْ الْمُتَكَلِّمُ بِهَا مَعَانِيَهَا]

- ‌[شُرُوطُ الْوَاقِفِينَ]

- ‌[أَنْوَاعُ شُرُوطِ الْوَاقِفِينَ وَحُكْمُهَا]

- ‌[فَصْلٌ اعْتِبَارِ الشَّرْعِ قَصْدُ الْمُكَلَّفِ دُونَ الصُّورَةِ]

- ‌[فَصْلٌ الْأَحْكَامَ تَجْرِي عَلَى الظَّوَاهِرِ]

- ‌[الْأَشْيَاءُ الَّتِي لَا يُؤَاخِذُ اللَّهُ الْمُكَلَّفَ بِهَا]

- ‌[فَصْلٌ الْأَلْفَاظُ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَقَاصِدِ الْمُتَكَلِّمِينَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ]

- ‌[تَحْرِيمِ الْحِيَلِ]

- ‌[فَصْلٌ صِيَغُ الْعُقُودِ]

- ‌[فَصْلٌ الْكَلَامُ عَلَى الْمُكْرَهِ]

- ‌[فَصْلٌ حَقِيقَةُ الْهَازِلِ وَحُكْمُ عُقُودِهِ]

- ‌[فَصْلٌ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ هُوَ أَكْمَلُ مَا تَأْتِي بِهِ شَرِيعَةٌ]

- ‌[فَصْلٌ أَحْكَامُ الدُّنْيَا تَجْرِي عَلَى الْأَسْبَابِ]

- ‌[مَتَى يُعْمَلُ بِالظَّاهِرِ]

- ‌[فَصْلٌ الشَّرْطُ الْمُتَقَدِّمُ وَالْمُقَارِنُ فِي الْعُقُودِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي سَدِّ الذَّرَائِعِ]

- ‌[فَصْلٌ الْأَدِلَّةُ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ فِعْلِ مَا يُؤَدِّي إلَى الْحَرَامِ]

- ‌[فَصْلٌ تَجْوِيزُ الْحِيَلِ يُنَاقِضُ سَدَّ الذَّرِيعَةِ]

- ‌[دَلِيلُ تَحْرِيمِ الْحِيَلِ وَأَنْوَاعِهَا]

- ‌[فَصْلٌ أَكْثَرُ الْحِيَلِ يُنَاقِضُ أُصُولَ الْأَئِمَّةِ]

- ‌[فَصْلٌ حُجَجُ الَّذِينَ جَوَّزُوا الْحِيَلَ]

- ‌[جَوَابُ الَّذِينَ أَبْطَلُوا الْحِيَلَ]

- ‌[فَصْلٌ الْجَوَابُ عَلَى شُبَهِ الَّذِينَ جَوَّزُوا الْحِيَلَ]

- ‌[فَصْلٌ اشْتِقَاقُ الْحِيلَةِ وَبَيَانُ مَعْنَاهَا]

- ‌[فَصْلٌ انْقِسَامُ الْحِيلَة إلَى الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ وَأَمْثِلَتِهَا]

- ‌[فَصْلٌ الْحِيَلُ الَّتِي تُعَدُّ مِنْ الْكَبَائِرِ]

- ‌[إبْطَالُ الْحِيلَةُ عَلَى إسْقَاطِ حَدِّ السَّرِقَةِ]

- ‌[إبْطَالُ حِيلَةٍ لِإِسْقَاطِ الْيَمِينِ عَنْ الْغَاصِب]

- ‌[إبْطَالُ حِيلَةٍ لِإِخْرَاجِ الزَّوْجَةِ مِنْ الْمِيرَاثِ]

- ‌[إبْطَالُ حِيلَةٍ لِإِسْقَاطِ الزَّكَاةِ]

- ‌[إبْطَالُ حِيلَةٍ لِإِسْقَاطِ كَفَّارَةِ الْمُجَامِعُ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ]

- ‌[إبْطَالُ حِيلَةٍ لِإِسْقَاطِ وُجُوبِ قَضَاءِ الْحَجِّ]

- ‌[إبْطَالُ حِيلَةٍ لِإِسْقَاطِ حَقِّ صَاحِبِ الْحَقِّ]

- ‌[إبْطَالُ حِيلَةٍ لِإِسْقَاطِ زَكَاةِ عُرُوضِ التِّجَارَةِ]

- ‌[إبْطَالُ حِيلَةٍ أُخْرَى لِإِبْطَالِ الزَّكَاةِ]

- ‌[إبْطَالُ حِيلَةٍ لِإِبْطَالِ الشَّهَادَةِ]

- ‌[إبْطَالُ حِيلَةٍ لِضَمَانِ الْبَسَاتِينِ]

- ‌[الْحِيلَةُ السُّرَيْجِيَّةُ لِعَدَمِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ أَصْلًا]

- ‌[فَصْلٌ بُطْلَانُ الْحِيلَةِ بِالْخُلْعِ لِفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ]

- ‌[فَصْلٌ الْمُتَأَخِّرُونَ هُمْ الَّذِينَ أَحْدَثُوا الْحِيَلَ]

- ‌[فَصْلٌ إبْطَالُ حِيلَةٍ لِتَصْحِيحِ وَقْفِ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ]

- ‌[فَصْلٌ إبْطَالُ حِيلَةٍ لِتَأْجِيرِ الْوَقْفِ مُدَّةً طَوِيلَةً]

- ‌[فَصْلٌ إبْطَالُ حِيلَةٍ لِإِبْرَارِ مَنْ حَلَفَ أَلَّا يَفْعَلَ مَا لَا يَفْعَلُهُ بِنَفْسِهِ]

- ‌[فَصْلٌ إبْطَالُ حِيلَةٍ لِمَنْ حَلَفَ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا فَفَعَلَ بَعْضَهُ]

- ‌[فَصْلٌ إبْطَالُ حِيلَةٍ لِإِسْقَاطِ حَقِّ الْحَضَانَةِ]

- ‌[فَصْلٌ إبْطَالُ حِيلَةٍ لِجَعْلِ تَصَرُّفَاتِ الْمَرِيضِ نَافِذَةً]

- ‌[فَصْلٌ إبْطَالُ حِيلَةٍ لِتَأْخِيرِ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ]

- ‌[فَصْلٌ إبْطَالُ حِيلَةٍ لِإِسْقَاطِ حَقِّ الشُّفْعَةِ]

- ‌[فَصْلٌ التَّحَيُّلُ عَلَى إبْطَالِ الْقِسْمَةِ]

- ‌[فَصْلٌ التَّحَيُّلُ عَلَى تَصْحِيحِ الْمُزَارَعَةِ لِمَنْ يَعْتَقِدُ فَسَادَهَا]

- ‌[فَصْلٌ إبْطَالُ حِيلَةٍ لِإِسْقَاطِ حَقِّ الْأَبِ فِي الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ]

- ‌[فَصْلٌ إبْطَالُ حِيلَةٍ لِتَجْوِيزِ الْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ]

- ‌[فَصْلٌ إبْطَالُ حِيلَةٍ لِإِسْقَاطِ أَرْشِ الْجِنَايَاتِ]

- ‌[فَصْلٌ إبْطَالُ حِيَلٍ لِإِسْقَاطِ حَدِّ السَّرِقَةِ]

- ‌[فَصْلٌ إبْطَالُ حِيلَةٍ لِإِسْقَاطِ حَدِّ الزِّنَا]

- ‌[فَصْلٌ إبْطَالُ حِيلَةٍ لِإِبْرَارِ مَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ شَيْئًا]

- ‌[فَصْلٌ مِنْ الْحِيَلِ الْبَاطِلَةِ لَوْ حَلَفَ أَنَّهُ لَا يَأْكُلُ هَذَا الشَّحْمَ]

- ‌[فَصْلٌ إبْطَالُ حِيلَةٍ لِتَجْوِيزِ نِكَاحِ الْأَمَةِ مَعَ الطَّوْلِ]

- ‌[فَصْلٌ الْحِيلَةُ فِيمَا إذَا عَلَّى كَافِرٌ بِنَاءَهُ عَلَى مُسْلِمٍ]

- ‌[فَصْلٌ إسْقَاطُ حِيلَةٍ لِإِبْرَاءِ الْغَاصِبِ مِنْ الضَّمَانِ]

- ‌[فَصْلٌ إبْطَالُ حِيَلٍ فِي الْأَيْمَانِ]

- ‌[فَصْلٌ إبْطَالُ حِيَلٍ فِي الظِّهَارِ وَالْإِيلَاءِ وَنَحْوِهِمَا]

- ‌[فَصْلٌ إبْطَالُ حِيلَةٍ لِحُسْبَانِ الدَّيْنِ مِنْ الزَّكَاةِ]

- ‌[فَصْلٌ إبْطَالُ حِيلَةٍ لِتَجْوِيزِ بَيْعِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا]

- ‌[فَصْلٌ إبْطَالُ حِيلَةٍ لِتَجْوِيزِ بَيْعِ شَيْءٍ حَلَفَ أَلَّا يَبِيعَهُ]

- ‌[فَصْلٌ إبْطَالُ حيلة فِي الْإِيمَان]

- ‌[فَصْلٌ إبْطَالُ حِيلَةٍ لِتَجْوِيزِ بَيْعِ أُمِّ الْوَلَدِ]

- ‌[فَصْلٌ إبْطَالُ حِيلَةٍ لِلتَّمَكُّنِ مِنْ رَجْعَةِ الْبَائِنِ بِغَيْرِ عِلْمِهَا]

- ‌[فَصْلٌ الْحِيلَةُ عَلَى وَطْءِ مُكَاتَبَتِهِ]

- ‌[فَصْلٌ حِيلَةِ الْعَقَارِبِ وَإِبْطَالِهَا]

- ‌[فَصْلٌ التَّحَيُّلُ عَلَى جَوَازِ مَسْأَلَةِ الْعِينَةِ]

- ‌[فَصْلٌ مِنْ الْحِيَلِ الْمُحْرِمَة إذَا أَرَادَ أَنْ يَبِيعَ سِلْعَةً بِالْبَرَاءَةِ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ]

- ‌[فَصْلٌ إبْطَالُ حِيلَةٍ لِإِسْقَاطِ الِاسْتِبْرَاءِ]

- ‌[أَقْسَامِ الْحِيَلِ وَمَرَاتِبِهَا]

- ‌[الْقِسْمُ الْأَوَّلُ مِنْ الْحِيَلِ]

- ‌[فَصْلٌ الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ أَنْوَاعِ الْحِيَلِ]

- ‌[فَصْلٌ الْقِسْمُ الثَّالِثُ مِنْ أَنْوَاعِ الْحِيَلِ]

- ‌[الْمِثَالُ الْأَوَّلُ اسْتَأْجَرَ مِنْهُ دَارًا مُدَّةَ سِنِينَ بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ فَخَافَ أَنْ يَغْدِرَ بِهِ الْمُكْرِي فِي آخِرِ الْمُدَّةِ]

- ‌[الْمِثَالُ الثَّانِي خَوْفُ رَبِّ الدَّارِ غَيْبَةَ الْمُسْتَأْجِرِ وَيَحْتَاجُ إلَى دَارِهِ]

- ‌[الْمِثَالُ الثَّالِثُ أَذِنَ رَبُّ الدَّارِ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَكُونَ فِي الدَّارِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَخَافَ أَنْ لَا يُحْتَسَبَ مِنْ الْأُجْرَةِ]

- ‌[الْمِثَالُ الرَّابِعُ خَوْفُ رَبِّ الدَّارِ مِنْ أَنْ يُؤَخِّرَ الْمُسْتَأْجِرُ تَسْلِيمَهَا]

- ‌[الْمِثَالُ الْخَامِسُ اسْتِئْجَارُ الشَّمْعِ لِيُشْعِلَهُ]

- ‌[الْمِثَالُ السَّادِسُ اشْتِرَاطُ الزَّوْجَةِ دَارَهَا أَوْ بَلَدَهَا وَنَحْوَ ذَلِكَ]

- ‌[الْمِثَالُ السَّابِعُ تَزَوُّجُ الْمَرْأَةِ بِشَرْطِ أَلَّا يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا]

- ‌[الْمِثَالُ الثَّامِنُ إجَارَةُ الْأَرْضِ الْمَشْغُولَةِ بِالزَّرْعِ]

- ‌[الْمِثَالُ التَّاسِعُ اسْتِئْجَار الْأَرْض بِخَرَاجِهَا مَعَ الْأُجْرَةِ]

- ‌[الْمِثَالُ الْعَاشِرُ اسْتِئْجَارُ الدَّابَّةِ بِعَلَفِهَا]

- ‌[الْمِثَالُ الْحَادِيَ عَشَرَ الْإِجَارَةُ مَعَ عَدَمِ مَعْرِفَةِ الْمُدَّة]

- ‌[الْمِثَالُ الثَّانِي عَشَرَ شِرَاء الْوَكِيل مَا وُكِّلَ فِيهِ لِنَفْسِهِ]

- ‌[الْمِثَالُ الثَّالِثَ عَشَرَ الْحِيلَةُ فِي التَّخَلُّصِ مِنْ طَلَاقِ امْرَأَتِهِ]

- ‌[الْمِثَالُ الرَّابِعَ عَشَرَ الْإِحْرَامُ وَقَدْ ضَاقَ الْوَقْتُ]

- ‌[الْمِثَالُ الْخَامِسَ عَشَرَ مَنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ غَيْرَ مُحْرِمٍ]

- ‌[الْمِثَال السَّادِسَ عَشْر الْحِيلَة لِلْبِرِّ فِي يَمِينٍ]

- ‌[الْمِثَالُ السَّابِعَ عَشَر ادِّعَاءُ الْمَرْأَةِ نَفَقَةً مَاضِيَةً]

- ‌[الْمِثَالُ الثَّامِنَ عَشَرَ شِرَاءُ مَعِيبٍ ثُمَّ تَعَيُّبُهُ عِنْد الْمُشْتَرِي]

- ‌[الْمِثَالُ التَّاسِعَ عَشَرَ إبراء الغريم فِي مَرَضِ الْمَوْتِ]

- ‌[الْمِثَالُ الْعِشْرُونَ الْحِيلَةُ لِنَفَاذِ عِتْقِ عَبْدِهِ مَعَ خَوْفِهِ جَحْدَ الْوَرَثَةِ]

- ‌[الْمِثَالُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ إذَا كَانَ لِأَحَدِ الْوَرَثَةِ دَيْنٌ عَلَى الْمَوْرُوثِ وَأَحَبَّ أَنْ يُوفِيَهُ إيَّاهُ وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ بِهِ]

- ‌[الْمِثَالُ الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ إذَا زَوَّجَ عَبْدَهُ مِنْ ابْنَتِهِ]

- ‌[الْمِثَالُ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ إذَا كَانَ مُوَلِّيهِ سَفِيهًا إنْ زَوَّجَهُ طَلَّقَ وَإِنْ سَرَّاهُ أَعْتَقَ وَإِنْ أَهْمَلَهُ فَسَقَ]

- ‌[الْمِثَالُ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ تَزْوِيجُ عَبْدِهِ جَارِيَةً بَعْدَ أَنْ حَلَفَ لَا يُزَوِّجُهُ إيَّاهَا]

- ‌[الْمِثَالُ الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ الشَّرِكَةُ بِالْعُرُوضِ وَالْفُلُوسِ هَلْ تَصِحّ]

- ‌[الْمِثَالُ السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ الصُّلْحُ عَنْ الدَّيْنِ بِبَعْضِهِ]

- ‌[فَصْلٌ فَالْحِيلَةُ عَلَى الصُّلْحِ عَلَى الْإِنْكَارِ]

- ‌[فَصْلٌ الْحِيلَةُ فِي جَوَازِ الصُّلْحِ عَلَى الْإِقْرَارِ]

- ‌[فَصْل الْحِيلَةُ فِي الصُّلْحِ عَنْ الْحَالِ بِبَعْضِهِ مُؤَجَّلًا]

- ‌[الْمِثَالُ السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ اخْتِلَاف الْوَكِيلِ وَالْمُوَكِّلِ فِي ثَمَنِ مَا وَكَّلَهُ فِي شِرَائِهِ]

- ‌[الْمِثَالُ الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ الْحِيلَةُ فِي سُقُوطِ الضَّمَانِ عَنْ الْمُودِعِ]

- ‌[الْمِثَال التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ الْحِيلَةُ فِي تَضْمِينِ الرَّاهِنِ تَلَفَ الْمَرْهُونِ]

- ‌[الْمِثَالُ الثَّلَاثُونَ الْحِيلَةُ فِي سُقُوطِ ضَمَانِ الْمُسْتَعِيرِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهِ]

- ‌[الْمِثَالُ الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَأْجِيلِ الْقَرْضِ وَالْعَارِيَّةِ إذَا أَجَّلَهَا]

- ‌[الْمِثَالُ الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ الْحِيلَةُ فِي جَوَازِ بَيْعِ الرَّهْنِ عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ]

- ‌[الْمِثَالُ الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونَ الْإِقْرَارُ بِالدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ]

- ‌[الْمِثَالُ الرَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ الْحِيلَةُ فِي تَأْجِيلِ الدَّيْنِ عَلَى الْمُعْسِرِ]

- ‌[الْمِثَالُ الْخَامِسُ وَالثَّلَاثُونَ الْحِيلَةُ فِي تَقْدِيمِ بَيِّنَةِ الْخَارِجِ]

- ‌[الْمِثَالُ السَّادِسُ وَالثَّلَاثُونَ الْحِيلَةُ الْمُخَلِّصَةُ مِنْ لَدْغِ الْمُخَادِعِ]

- ‌[الْمِثَالُ السَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ الْحِيلَةُ فِي عَدَمِ سُقُوطِ نَفَقَةِ الْقَرِيبِ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ]

- ‌[الْمِثَالُ الثَّامِنُ وَالثَّلَاثُونَ الْحِيلَةُ فِي جَوَازِ بَيْعِ الْمَاءِ]

- ‌[الْمِثَال التَّاسِعُ وَالثَّلَاثُونَ الْحِيلَةُ فِي عَدَمِ تَسْوِيغِ بَيْعِ الْمُشْتَرِي إلَّا لِمَنْ بَاعَهُ]

- ‌[الْمِثَالُ الْأَرْبَعُونَ الْحِيلَةُ فِي تَجْوِيزِ شَهَادَةِ الْوَكِيلِ لِمُوَكِّلِهِ]

- ‌[الْمِثَالُ الْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ الْحِيلَةُ فِي تَجْوِيزِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ]

- ‌[الْمِثَالُ الثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ الْحِيلَةُ فِي عَدَمِ حِنْثِ الْحَالِفِ]

- ‌[الْمِثَالُ الثَّالِثُ وَالْأَرْبَعُونَ الْحِيلَةُ فِي سُقُوطِ الْقِصَاصِ عَمَّنْ قَتَلَ زَوْجَتَهُ الَّتِي لَاعَنَهَا أَوْ قَتَلَ وَلَدَهَا]

- ‌[الْمِثَالُ الرَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ حَقٌّ وَقَدْ أَبْرَأَهُ مِنْهُ وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ بِالْإِبْرَاءِ ثُمَّ عَادَ فَادَّعَاهُ]

- ‌[الْمِثَالُ الْخَامِسُ وَالْأَرْبَعُونَ الْحِيلَةُ فِي الْمُضَارَبَةِ]

- ‌[الْمِثَالُ السَّادِسُ وَالْأَرْبَعُونَ الْحِيلَةُ فِي تَجْوِيزِ نَظَرِ الْوَاقِفِ عَلَى وَقْفِهِ]

- ‌[الْمِثَالُ السَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ الْحِيلَةُ لِتَجْوِيزِ وَقْفِ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ]

- ‌[الْمِثَالُ الثَّامِنُ وَالْأَرْبَعُونَ الْحِيلَةُ فِي بَيْعِ الشَّيْءِ مَعَ اسْتِثْنَاءِ مَنْفَعَتِهِ مُدَّةً]

- ‌[الْمِثَالُ التَّاسِعُ وَالْأَرْبَعُونَ الْحِيلَةُ فِي إسْقَاطِ نَفَقَةِ الْمُطَلَّقَةِ الْبَائِنَةِ]

- ‌[الْمِثَالُ الْخَمْسُونَ الْحِيلَةُ فِي الشِّرَاءِ]

- ‌[الْمِثَالُ الْحَادِي وَالْخَمْسُونَ الْحِيلَةُ فِي الْوَكَالَةِ الْوَدِيعَةِ]

- ‌[المثال الثَّانِي وَالْخَمْسُونَ إسْلَامُ ذِمِّيٍّ وَعِنْدَهُ خَمْرٌ]

- ‌[الْمِثَالُ الثَّالِثُ وَالْخَمْسُونَ الْحِيَلُ فِي الشُّفْعَةِ]

- ‌[الْمِثَالُ الرَّابِعُ وَالْخَمْسُونَ الْحِيلَةُ فِي جَوَازِ تَعْلِيقِ الْوَكَالَةِ بِالشَّرْطِ]

- ‌[الْمِثَالُ الْخَامِسُ وَالْخَمْسُونَ الْحِيلَةُ فِي إبْطَالِ الشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَى]

- ‌[الْمِثَالُ السَّادِسُ وَالْخَمْسُونَ الْحِيلَةُ فِي الْخَلَاصِ مِنْ الْحِنْثِ]

- ‌[الْمِثَالُ السَّابِعُ وَالْخَمْسُونَ الْحِيلَةُ فِي بِرِّ زَوْجٍ وَزَوْجَتِهِ حَلَفَ كُلٌّ مِنْهُمَا]

- ‌[الْمِثَالُ الثَّامِنُ وَالْخَمْسُونَ أَخَوَانِ زُفَّتْ لِكُلٍّ مِنْهُمَا زَوْجَةُ الْآخَرِ]

- ‌[الْمِثَالُ التَّاسِعُ وَالْخَمْسُونَ الْحِيلَةُ فِي تَخَلُّصِ الْمَرْأَة مِنْ الزَّوْجِ الَّذِي لَا تَرْضَى بِهِ]

- ‌[الْمِثَالُ السِّتُّونَ ضَمَانُ مَا لَا يَجِبُ]

- ‌[الْمِثَالُ الْحَادِي وَالسِّتُّونَ الْحِيلَةُ فِي الْخَلَاصِ مِمَّا سَبَقَ بِهِ اللِّسَانُ]

- ‌[الْمِثَالُ الثَّانِي وَالسِّتُّونَ الْبَيْعُ بِشَرْطِ الْبَرَاءَةِ مِنْ الْعُيُوب]

- ‌[الْمِثَالُ الثَّالِثُ وَالسِّتُّونَ نَفَقَةُ الْمَبْتُوتَةِ وَسُكْنَاهَا]

- ‌[الْمِثَالُ الرَّابِعُ وَالسِّتُّونَ الضَّمَانُ وَأَثَرُهُ]

- ‌[الْمِثَالُ الْخَامِسُ وَالسِّتُّونَ هَلْ يَجُوزُ إبْهَامُ الْإِجَارَةِ]

الفصل: ‌[دليل تحريم الحيل وأنواعها]

لَهُ هَذِهِ الصِّيغَةُ وَلَا يَنْوِي النِّكَاحَ الَّذِي جُعِلَتْ لَهُ هَذِهِ الْكَلِمَةُ بَلْ قَصْدُهُ مَا يُنَافِي مَقْصُودَ الْعَقْدِ أَوْ أَمْرٌ آخَرُ خَارِجٌ عَنْ أَحْكَامِ الْعَقْدِ وَهُوَ عَوْدُ الْمَرْأَةِ إلَى زَوْجِهَا الْمُطَلِّقِ.

وَعَوْدُ السِّلْعَةِ إلَى الْبَائِعِ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ الثَّمَنِ بِمُبَاشَرَتِهِ لِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ الَّتِي جُعِلَتْ لَهَا حَقَائِقُ وَمَقَاصِدُ مُظْهِرًا لِإِرَادَةِ حَقَائِقِهَا وَمَقَاصِدِهَا وَمُبْطِنًا لِخِلَافِهِ؛ فَالْأَوَّلُ نِفَاقٌ فِي أَصْلِ الدِّينِ، وَهَذَا نِفَاقٌ فِي فُرُوعِهِ، يُوَضِّحُ ذَلِكَ مَا ثَبَتَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: إنَّ عَمِّي طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا، أَيُحِلُّهَا لَهُ رَجُلٌ؟ فَقَالَ: مَنْ يُخَادِعْ اللَّهَ يَخْدَعْهُ.

وَصَحَّ عَنْ أَنَسٍ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمَا سُئِلَا عَنْ الْعِينَةِ، فَقَالَا: إنَّ اللَّهَ لَا يُخْدَعُ، هَذَا مِمَّا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَسَمَّيَا ذَلِكَ خِدَاعًا، كَمَا سَمَّى عُثْمَانُ وَابْنُ عُمَرَ نِكَاحَ الْمُحَلِّلِ نِكَاحَ دُلْسَةٍ، وَقَالَ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ فِي أَهْلِ الْحِيَلِ: يُخَادِعُونَ اللَّهَ كَأَنَّمَا يُخَادِعُونَ الصِّبْيَانَ، فَلَوْ أَتَوْا الْأَمْرَ عِيَانًا كَانَ أَهْوَنَ عَلَيَّ، وَقَالَ شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَاضِي فِي كِتَابِ الْحِيَلِ: هُوَ كِتَابُ الْمُخَادَعَةِ.

[دَلِيلُ تَحْرِيمِ الْحِيَلِ وَأَنْوَاعِهَا]

[دَلِيلُ تَحْرِيمِ الْحِيَلِ]

وَتَلْخِيصُ هَذَا أَنَّ الْحِيَلَ الْمُحَرَّمَةَ مُخَادَعَةٌ لِلَّهِ، وَمُخَادَعَةُ اللَّهِ حَرَامٌ: أَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى فَإِنَّ الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ - وَهُمْ أَعْلَمُ الْأُمَّةِ بِكَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَعَانِيهِ - سَمَّوْا ذَلِكَ خِدَاعًا، وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَإِنَّ اللَّهَ ذَمَّ أَهْلَ الْخِدَاعِ، وَأَخْبَرَ أَنَّ خِدَاعَهُمْ إنَّمَا هُوَ لِأَنْفُسِهِمْ، وَأَنَّ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضًا، وَأَنَّهُ تَعَالَى خَادِعُهُمْ، فَكُلُّ هَذَا عُقُوبَةٌ لَهُمْ، وَمَدَارُ الْخِدَاعِ عَلَى أَصْلَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا: إظْهَارُ فِعْلٍ لِغَيْرِ مَقْصُودِهِ الَّذِي جَعَلَ لَهُ، الثَّانِي: إظْهَارُ قَوْلٍ لِغَيْرِ مَقْصُودِهِ الَّذِي وُضِعَ لَهُ، وَهَذَا مُنْطَبِقٌ عَلَى الْحِيَلِ الْمُحَرَّمَةِ، وَقَدْ عَاقَبَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُتَحَيِّلِينَ عَلَى إسْقَاطِ نَصِيبِ الْمَسَاكِينِ وَقْتَ الْجِدَادِ بِجَدِّ جَنَّتِهِمْ عَلَيْهِمْ وَإِهْلَاكِ ثِمَارِهِمْ، فَكَيْفَ بِالْمُتَحَيِّلِ عَلَى إسْقَاطِ فَرَائِضِ اللَّهِ وَحُقُوقِ خَلْقِهِ؟ وَلَعَنَ أَصْحَابَ السَّبْتِ وَمَسَخَهُمْ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ عَلَى احْتِيَالِهِمْ عَلَى فِعْلِ مَا حَرَّمَهُ عَلَيْهِمْ.

قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ} [البقرة: 65] قَالَ: رَمَوْا الْحِيتَانَ فِي السَّبْتِ، ثُمَّ أَرْجَئُوهَا فِي الْمَاءِ، فَاسْتَخْرَجُوهَا بَعْدَ ذَلِكَ، فَطَبَخُوهَا فَأَكَلُوهَا، وَاَللَّهِ أَوْخَمُ أَكْلَةٍ أَكْلَةٌ أَسْرَعَتْ فِي الدُّنْيَا عُقُوبَةً وَأَسْرَعَتْ عَذَابًا فِي الْآخِرَةِ، وَاَللَّهِ مَا كَانَتْ لُحُومُ الْحِيتَانِ تِلْكَ بِأَعْظَمَ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ دِمَاءِ قَوْمٍ مُسْلِمِينَ، إلَّا أَنَّهُ عَجَّلَ لِهَؤُلَاءِ وَأَخَّرَ لِهَؤُلَاءِ.

وَقَوْلُهُ: " رَمَوْهَا فِي السَّبْتِ " يَعْنِي احْتَالُوا عَلَى وُقُوعِهَا فِي الْمَاءِ يَوْمَ السَّبْتِ كَمَا بَيَّنَ غَيْرُهُ أَنَّهُمْ حَفَرُوا لَهَا حِيَاضًا ثُمَّ فَتَحُوهَا عَشِيَّةَ الْجُمُعَةِ، وَلَمْ يَرِدْ أَنَّهُمْ بَاشَرُوا رَمْيَهَا يَوْمَ

ص: 128

السَّبْتِ؛ إذْ لَوْ اجْتَرَءُوا عَلَى ذَلِكَ لَاسْتَخْرَجُوهَا، قَالَ شَيْخُنَا: وَهَؤُلَاءِ لَمْ يَكْفُرُوا بِالتَّوْرَاةِ وَبِمُوسَى، وَإِنَّمَا فَعَلُوا ذَلِكَ تَأْوِيلًا وَاحْتِيَالًا ظَاهِرُهُ ظَاهِرُ الِاتِّقَاءِ وَحَقِيقَتُهُ حَقِيقَةُ الِاعْتِدَاءِ، وَلِهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - مُسِخُوا قِرَدَةً لِأَنَّ صُورَةَ الْقِرْدِ فِيهَا شَبَهٌ مِنْ صُورَةِ الْإِنْسَانِ، وَفِي بَعْضِ مَا يُذْكَرُ مِنْ أَوْصَافِهِ شَبَهٌ مِنْهُ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لَهُ فِي الْحَدِّ وَالْحَقِيقَةِ، فَلَمَّا مَسَخَ أُولَئِكَ الْمُعْتَدُونَ دِينَ اللَّهِ بِحَيْثُ لَمْ يَتَمَسَّكُوا إلَّا بِمَا يُشْبِهُ الدِّينَ فِي بَعْضِ ظَاهِرِهِ دُونَ حَقِيقَتِهِ مَسَخَهُمْ اللَّهُ قِرَدَةً تُشْبِهُ الْإِنْسَانَ فِي بَعْضِ ظَاهِرِهِ دُونَ الْحَقِيقَةِ، جَزَاءً وِفَاقًا.

وَيُقَوِّي ذَلِكَ أَنَّ بَنِي إسْرَائِيلَ أَكَلُوا الرِّبَا وَأَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، وَهُوَ أَعْظَمُ مِنْ أَكْلِ الصَّيْدِ فِي يَوْمٍ بِعَيْنِهِ، وَلَمْ يُعَاقِبْ أُولَئِكَ بِالْمَسْخِ كَمَا عُوقِبَ بِهِ مَنْ اسْتَحَلَّ الْحَرَامَ بِالْحِيلَةِ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ لَمَّا كَانُوا أَعْظَمَ جُرْمًا كَانَتْ عُقُوبَتُهُمْ أَعْظَمَ، فَإِنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْمُنَافِقِينَ يَفْعَلُونَ مَا يَفْعَلُونَ وَلَا يَعْتَرِفُونَ بِالذَّنْبِ بَلْ قَدْ فَسَدَتْ عَقِيدَتُهُمْ وَأَعْمَالُهُمْ، بِخِلَافِ مَنْ أَكَلَ الرِّبَا وَأَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَالصَّيْدَ الْمُحَرَّمَ عَالِمًا بِتَحْرِيمِهِ فَإِنَّهُ يَقْتَرِنُ بِمَعْصِيَتِهِ اعْتِرَافُهُ بِالتَّحْرِيمِ وَخَشْيَتُهُ لِلَّهِ وَاسْتِغْفَارُهُ وَتَوْبَتُهُ يَوْمًا مَا، وَاعْتِرَافُهُ بِأَنَّهُ مُذْنِبٌ عَاصٍ، وَانْكِسَارُ قَلْبِهِ مِنْ ذُلِّ الْمَعْصِيَةِ، وَازْدِرَاؤُهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَرَجَاؤُهُ لِمَغْفِرَةِ رَبِّهِ لَهُ، وَعَدُّ نَفْسِهِ مِنْ الْمُذْنِبِينَ الْخَاطِئِينَ، وَهَذَا كُلُّهُ إيمَانٌ يُفْضِي بِصَاحِبِهِ إلَى خَيْرٍ، بِخِلَافِ الْمَاكِرِ الْمُخَادِعِ الْمُحْتَالِ عَلَى قَلْبِ دِينِ اللَّهِ، وَلِهَذَا حَذَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أُمَّتَهُ مِنْ ارْتِكَابِ الْحِيَلِ فَقَالَ:«لَا تَرْتَكِبُوا مَا ارْتَكَبَتْ الْيَهُودُ فَتَسْتَحِلُّوا مَحَارِمَ اللَّهِ بِأَدْنَى الْحِيَلِ» وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ جَعَلَ هَذِهِ الْقَرْيَةَ أَوْ هَذِهِ الْفَعْلَةِ الَّتِي فَعَلَهَا بِأَهْلِهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ.

فَحَقِيقٌ بِمَنْ اتَّقَى اللَّهَ وَخَافَ نَكَالَهُ أَنْ يَحْذَرَ اسْتِحْلَالَ مَحَارِمِ اللَّهِ بِأَنْوَاعِ الْمَكْرِ وَالِاحْتِيَالِ، وَأَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ لَا يُخَلِّصُهُ مِنْ اللَّهِ مَا أَظْهَرَهُ مَكْرًا وَخَدِيعَةً مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، وَأَنْ يَعْلَمَ أَنَّ لِلَّهِ يَوْمًا تَكِعُّ فِيهِ الرِّجَالُ، وَتُنْسَفُ فِيهِ الْجِبَالُ، وَتَتَرَادَفُ فِيهِ الْأَهْوَالُ، وَتَشْهَدُ فِيهِ الْجَوَارِحُ وَالْأَوْصَالُ، وَتُبْلَى فِيهِ السَّرَائِرُ، وَتَظْهَرُ فِيهِ الضَّمَائِرُ، وَيَصِيرُ الْبَاطِلُ فِيهِ ظَاهِرًا، وَالسِّرُّ عَلَانِيَةً، وَالْمَسْتُورُ مَكْشُوفًا، وَالْمَجْهُولُ مَعْرُوفًا، وَيُحَصَّلُ وَيَبْدُو مَا فِي الصُّدُورِ، كَمَا يُبَعْثَرُ وَيَخْرُجُ مَا فِي الْقُبُورِ، وَتَجْرِي أَحْكَامُ الرَّبِّ تَعَالَى هُنَالِكَ عَلَى الْقُصُودِ وَالنِّيَّاتِ، كَمَا جَرَتْ أَحْكَامُهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ عَلَى ظَوَاهِرِ الْأَقْوَالِ وَالْحَرَكَاتِ، يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ بِمَا فِي قُلُوبِ أَصْحَابِهَا مِنْ النَّصِيحَةِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَكِتَابِهِ وَمَا فِيهَا مِنْ الْبِرِّ وَالصِّدْقِ وَالْإِخْلَاصِ لِلْكَبِيرِ الْمُتَعَالِ، وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ بِمَا فِي قُلُوبِ أَصْحَابِهَا مِنْ الْخَدِيعَةِ وَالْغِشِّ وَالْكَذِبِ وَالْمَكْرِ وَالِاحْتِيَالِ، هُنَالِكَ يَعْلَمُ الْمُخَادِعُونَ أَنَّهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ كَانُوا يَخْدَعُونَ، وَبِدِينِهِمْ كَانُوا يَلْعَبُونَ، وَمَا يَمْكُرُونَ إلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ.

ص: 129

[الْأَعْمَالُ تَابِعَةٌ لِمَقَاصِدِ عَامِلِهَا]

وَقَدْ فَصَّلَ قَوْلُهُ: «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِامْرِئٍ مَا نَوَى» الْأَمْرَ فِي هَذِهِ الْحِيَلِ وَأَنْوَاعِهَا.

فَأَخْبَرَ أَنَّ الْأَعْمَالَ تَابِعَةٌ لِمَقَاصِدِهَا وَنِيَّاتِهَا، وَأَنَّهُ لَيْسَ لِلْعَبْدِ مِنْ ظَاهِرِ قَوْلِهِ وَعَمَلِهِ إلَّا مَا نَوَاهُ وَأَبْطَنَهُ لَا مَا أَعْلَنَهُ وَأَظْهَرَهُ، وَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ مَنْ نَوَى التَّحْلِيلَ كَانَ مُحَلِّلًا، وَمَنْ نَوَى الرِّبَا بِعَقْدِ التَّبَايُعِ كَانَ رَابِيًا، وَمَنْ نَوَى الْمَكْرَ وَالْخِدَاعَ كَانَ مَاكِرًا مُخَادِعًا.

وَيَكْفِي هَذَا الْحَدِيثُ وَحْدَهُ فِي إبْطَالِ الْحِيَلِ، وَلِهَذَا صَدَّرَ بِهِ حَافِظُ الْأُمَّةِ مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ إبْطَالَ الْحِيَلِ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَبْطَلَ ظَاهِرَ هِجْرَةِ مُهَاجِرِ أُمِّ قَيْسٍ بِمَا أَبْطَنَهُ وَنَوَاهُ مِنْ إرَادَةِ أُمِّ قَيْسٍ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ حَتَّى يَتَفَرَّقَا، إلَّا أَنْ تَكُونَ صَفْقَةَ خِيَارٍ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُفَارِقَهُ خَشْيَةَ أَنْ يَسْتَقِيلَهُ» .

" فَاسْتَدَلَّ بِهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَقَالَ: فِيهِ إبْطَالُ الْحِيَلِ، وَقَدْ أَشْكَلَ هَذَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ بِفِعْلِ ابْنِ عُمَرَ؛ فَإِنَّهُ كَانَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَلْزَمَ الْبَيْعُ مَشَى خُطُوَاتٍ، وَلَا إشْكَالَ بِحَمْدِ اللَّهِ فِي الْحَدِيثِ، وَهُوَ مِنْ أَظْهَرِ الْأَدِلَّةِ عَلَى بُطْلَانِ التَّحَيُّلِ لِإِسْقَاطِ حَقِّ مَنْ لَهُ حَقٌّ؛ فَإِنَّ الشَّارِعَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ أَثْبَتَ خِيَارَ الْمَجْلِسِ فِي الْبَيْعِ حِكْمَةً وَمَصْلَحَةً لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَلِيَحْصُلَ تَمَامُ الرِّضَى الَّذِي شَرَطَهُ تَعَالَى فِيهِ؛ فَإِنَّ الْعَقْدَ قَدْ يَقَعُ بَغْتَةً مِنْ غَيْرِ تَرَوٍّ وَلَا نَظَرٍ فِي الْقِيمَةِ، فَاقْتَضَتْ مَحَاسِنُ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ الْكَامِلَةِ أَنْ يَجْعَلَ لِلْعَقْدِ حَرِيمًا يَتَرَوَّى فِيهِ الْمُتَبَايِعَانِ، وَيُعِيدَانِ النَّظَرَ، وَيَسْتَدْرِكُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَيْبًا كَانَ خَفِيًّا.

فَلَا أَحْسَنَ مِنْ هَذَا الْحُكْمِ، وَلَا أَرْفَقَ لِمَصْلَحَةِ الْخَلْقِ؛ فَلَوْ مَكَّنَ أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ الْغَابِنَ لِلْآخَرِ مِنْ النُّهُوضِ فِي الْحَالِ وَالْمُبَادَرَةِ إلَى التَّفَرُّقِ لَفَاتَتْ مَصْلَحَةُ الْآخَرِ، وَمَقْصُودُ الْخِيَارِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ، وَهَبْ أَنَّك أَنْتَ اخْتَرْت إمْضَاءَ الْبَيْعِ فَصَاحِبُكَ لَمْ يَتَّسِعْ لَهُ وَقْتٌ يَنْظُرُ فِيهِ وَيَتَرَوَّى، فَنُهُوضُك حِيلَةٌ عَلَى إسْقَاطِ حَقِّهِ مِنْ الْخِيَارِ، فَلَا يَجُوزُ حَتَّى يُخَيِّرَهُ؛ فَلَوْ فَارَقَ الْمَجْلِسَ لِغَيْرِ هَذِهِ الْحَاجَةِ أَوْ صَلَاةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَلَمْ يَقْصِدْ إبْطَالَ حَقِّ الْآخَرِ مِنْ الْخِيَارِ لَمْ يَدْخُلْ فِي هَذَا التَّحْرِيمِ، وَلَا يُقَالُ: هُوَ ذَرِيعَةٌ إلَى إسْقَاطِ حَقِّ الْآخَرِ مِنْ الْخِيَارِ؛ لِأَنَّ بَابَ سَدِّ الذَّرَائِعِ مَتَى فَاتَتْ بِهِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ أَوْ تَضَمَّنَ مَفْسَدَةً رَاجِحَةً لَمْ يُلْتَفَتْ إلَيْهِ.

فَلَوْ مَنَعَ الْعَاقِدَ مِنْ التَّفَرُّقِ حَتَّى يَقُومَ الْآخَرُ لَكَانَ فِي ذَلِكَ إضْرَارٌ بِهِ وَمَفْسَدَةٌ رَاجِحَةٌ؛ فَاَلَّذِي جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ فِي ذَلِكَ أَكْمَلُ شَيْءٍ وَأَوْفَقُهُ لِلْمَصْلَحَةِ وَالْحِكْمَةِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.

ص: 130

وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ: «لَا تَرْتَكِبُوا مَا ارْتَكَبَتْ الْيَهُودُ فَتَسْتَحِلُّوا مَحَارِمَ اللَّهِ بِأَدْنَى الْحِيَلِ» .

أَيْ أَسْهَلِهَا وَأَقْرَبِهَا، وَإِنَّمَا ذَكَرَ أَدْنَى الْحِيَلِ لِأَنَّ الْمُطَلِّقَ ثَلَاثًا مَثَلًا مِنْ أَسْهَلِ الْحِيَلِ عَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَ بَعْضَ التُّيُوسِ الْمُسْتَعَارَةِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ وَيَسْتَعِيرَهُ لِيَنْزُوَ عَلَى امْرَأَتِهِ نَزْوَةً وَقَدْ طَيَّبَهَا لَهُ، بِخِلَافِ الطَّرِيقِ الشَّرْعِيِّ الَّتِي هِيَ نِكَاحُ الرَّغْبَةِ فَإِنَّهَا يَصْعُبُ مَعَهَا عَوْدُهَا إلَى الْأَوَّلِ جِدًّا، وَكَذَلِكَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُقْرِضَ أَلْفًا بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، فَمِنْ أَدْنَى الْحِيَلِ أَنْ يُعْطِيَهُ أَلْفًا إلَّا دِرْهَمًا بِاسْمِ الْقَرْضِ وَيَبِيعَهُ خِرْقَةً تُسَاوِي دِرْهَمًا بِخَمْسِمِائَةٍ، وَلَوْ أَرَادَ ذَلِكَ بِالطَّرِيقِ الشَّرْعِيِّ لَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ حِيلَةُ الْيَهُودِ بِنَصْبِ الشِّبَاكِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَأَخْذِ مَا وَقَعَ فِيهَا يَوْمَ السَّبْتِ مِنْ أَسْهَل الْحِيَلِ.

وَكَذَلِكَ إذَابَتُهُمْ الشَّحْمَ وَبَيْعُهُ وَأَكْلُ ثَمَنِهِ.

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ: ثنا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ ثنا أَبُو بَكْرٍ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إذَا ضَنَّ النَّاسُ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ، وَتَبَايَعُوا بِالْعِينَةِ، وَاتَّبَعُوا أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَتَرَكُوا الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؛ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بَلَاءً فَلَا يَرْفَعُهُ حَتَّى يُرَاجِعُوا دِينَهُمْ» .

وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إلَى حَيْوَةَ بْنِ شُرَيْحٍ الْمِصْرِيِّ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْخُرَاسَانِيِّ أَنَّ عَطَاءً الْخُرَاسَانِيَّ حَدَّثَهُ أَنَّ نَافِعًا حَدَّثَهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ.

قَالَ شَيْخُنَا رضي الله عنه: وَهَذَانِ إسْنَادَانِ حَسَنَانِ؛ أَحَدُهُمَا يَشُدُّ الْآخَرَ وَيُقَوِّيه، فَأَمَّا رِجَالُ الْأَوَّلِ فَأَئِمَّةٌ مَشَاهِيرُ، وَلَكِنْ يُخَافُ أَنْ لَا يَكُونَ الْأَعْمَشُ سَمِعَهُ مِنْ عَطَاءٍ أَوْ أَنَّ عَطَاءً لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ ابْنِ عُمَرَ؛ فَالْإِسْنَادُ الثَّانِي يُبَيِّنُ أَنَّ لِلْحَدِيثِ أَصْلًا مَحْفُوظًا عَنْ ابْنِ عُمَرَ؛ فَإِنَّ عَطَاءً الْخُرَاسَانِيَّ ثِقَةٌ مَشْهُورٌ، وَحَيْوَةَ بْنَ شُرَيْحٍ كَذَلِكَ وَأَفْضَلُ. وَأَمَّا إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَشَيْخٌ رَوَى عَنْهُ أَئِمَّةُ الْمِصْرِيِّينَ مِثْلُ حَيْوَةَ بْنِ شُرَيْحٍ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَيَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ وَغَيْرِهِمْ.

قَالَ: فَقَدْ رَوَيْنَا مِنْ طَرِيقٍ ثَالِثٍ مِنْ حَدِيثِ السَّرِيِّ بْنِ سَهْلٍ الْجُنَيْدِ سَابُورِيٍّ بِإِسْنَادٍ مَشْهُورٍ إلَيْهِ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رُشَيْدٍ ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَنْ لَيْثٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَقَدْ أَتَى عَلَيْنَا زَمَانٌ وَمَا مِنَّا رَجُلٌ يَرَى أَنَّهُ أَحَقُّ بِدِينَارِهِ وَدِرْهَمِهِ مِنْ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ. وَلَقَدْ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إذَا ضَنَّ النَّاسُ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ، وَتَبَايَعُوا بِالْعِينَةِ، وَتَرَكُوا الْجِهَادَ، وَاتَّبَعُوا أَذْنَابَ الْبَقَرِ؛ أَدْخَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ عَنْهُمْ حَتَّى يَتُوبُوا وَيُرَاجِعُوا دِينَهُمْ»

وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ لِلْحَدِيثِ أَصْلًا عَنْ عَطَاءٍ، وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ الْمَعْرُوفُ بِمُطَيَّنٍ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ لَهُ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْعِينَةِ، فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ لَا يُخْدَعُ، هَذَا مِمَّا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ.

وَرَوَى أَيْضًا فِي كِتَابِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: اتَّقُوا هَذِهِ الْعِينَةَ، لَا تَبِعْ دَرَاهِمَ بِدَرَاهِمَ وَبَيْنَهُمَا حَرِيرَةٌ، وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ رَجُلًا بَاعَ مِنْ رَجُلٍ حَرِيرَةً بِمِائَةٍ، ثُمَّ اشْتَرَاهَا بِخَمْسِينَ، فَسَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: دَرَاهِمُ بِدَرَاهِمَ مُتَفَاضِلَةً دَخَلَتْ بَيْنَهُمَا

ص: 131

حَرِيرَةٌ.

وَسُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ الْعِينَةِ - يَعْنِي بَيْعَ الْحَرِيرَةِ - فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ لَا يُخْدَعُ، هَذَا مِمَّا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَرَوَى ابْنُ بَطَّةَ بِإِسْنَادِهِ إلَى الْأَوْزَاعِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَسْتَحِلُّونَ الرِّبَا بِالْبَيْعِ» .

يَعْنِي الْعِينَةَ، وَهَذَا الْمُرْسَلُ صَالِحٌ لِلِاعْتِضَادِ بِهِ وَالِاسْتِشْهَادِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ وَحْدَهُ الِاعْتِمَادُ.

قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ ثنا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ عَنْ امْرَأَتِهِ: " أَنَّهَا دَخَلَتْ عَلَى عَائِشَةَ هِيَ وَأُمُّ وَلَدِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ وَامْرَأَةٍ أُخْرَى فَقَالَتْ لَهَا أُمُّ وَلَدِ زَيْدٍ: إنِّي بِعْت مِنْ زَيْدٍ غُلَامًا بِثَمَانِ مِائَةٍ نَسِيئَةً، وَاشْتَرَيْته بِسِتِّ مِائَةٍ نَقْدًا، فَقَالَتْ: أَبْلَغِي زَيْدًا أَنْ قَدْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، إلَّا أَنْ يَتُوبَ، بِئْسَمَا شَرَيْت، وَبِئْسَمَا اشْتَرَيْت ".

رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَعَمِلَ بِهِ، وَهَذَا حَدِيثٌ فِيهِ شُعْبَةُ، وَإِذَا كَانَ شُعْبَةُ فِي حَدِيثٍ فَاشْدُدْ يَدَيْك بِهِ، فَمَنْ جَعَلَ شُعْبَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ فَقَدْ اسْتَوْثَقَ لِدِينِهِ.

وَأَيْضًا فَهَذِهِ امْرَأَةُ أَبِي إِسْحَاقَ وَهُوَ أَحَدُ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ الْكِبَارِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِامْرَأَتِهِ وَبِعَدَالَتِهَا، فَلَمْ يَكُنْ لِيَرْوِيَ عَنْهَا سُنَّةً يُحَرِّمُ بِهَا عَلَى الْأُمَّةِ وَهِيَ عِنْدَهُ غَيْرُ ثِقَةٍ وَلَا يَتَكَلَّمُ فِيهَا بِكَلِمَةٍ، بَلْ يُحَابِيهَا فِي دِينِ اللَّهِ، هَذَا لَا يُظَنُّ بِمَنْ هُوَ دُونَ أَبِي إِسْحَاقَ، وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذِهِ امْرَأَةٌ مِنْ التَّابِعِينَ قَدْ دَخَلَتْ عَلَى عَائِشَةَ وَسَمِعَتْ مِنْهَا وَرَوَتْ عَنْهَا، وَلَا يُعْرَفُ أَحَدٌ قَدَحَ فِيهَا بِكَلِمَةٍ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْكَذِبَ وَالْفِسْقَ لَمْ يَكُنْ ظَاهِرًا فِي التَّابِعِينَ بِحَيْثُ تُرَدُّ بِهِ رِوَايَتُهُمْ. وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ مَعْرُوفَةٌ، وَاسْمُهَا الْعَالِيَةُ، وَهِيَ جَدَّةُ إسْرَائِيلَ، كَمَا رَوَاهُ حَرْبٌ مِنْ حَدِيثِ إسْرَائِيلَ: حَدَّثَنِي أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ جَدَّتِهِ الْعَالِيَةِ يَعْنِي جَدَّةَ إسْرَائِيلَ؛ فَإِنَّهُ إسْرَائِيلُ بْنُ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، وَالْعَالِيَةُ امْرَأَةُ أَبِي إِسْحَاقَ وَجَدَّةُ يُونُسَ، وَقَدْ حَمَلَا عَنْهَا هَذِهِ السُّنَّةَ - وَإِسْرَائِيلُ أَعْلَمُ بِجَدَّتِهِ وَأَبُو إِسْحَاقَ أَعْلَمُ بِامْرَأَتِهِ. وَأَيْضًا فَلَمْ يُعْرَفْ أَحَدٌ قَطُّ مِنْ التَّابِعِينَ أَنْكَرَ عَلَى الْعَالِيَةِ هَذَا الْحَدِيثَ وَلَا قَدَحَ فِيهَا مِنْ أَجْلِهِ، وَيَسْتَحِيلُ فِي الْعَادَةِ أَنْ تَرْوِيَ حَدِيثًا بَاطِلًا وَيَشْتَهِرَ فِي الْأُمَّةِ وَلَا يُنْكِرُهُ عَلَيْهَا مُنْكِرٌ وَأَيْضًا فَلَوْ لَمْ يَأْتِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَثَرٌ لَكَانَ مَحْضُ الْقِيَاسِ وَمَصَالِحُ الْعِبَادِ وَحِكْمَةُ الشَّرِيعَةِ تَحْرِيمَهَا أَعْظَمَ مِنْ تَحْرِيمِ الرِّبَا؛ فَإِنَّهَا رِبَا مُسْتَحَلٌّ بِأَدْنَى الْحِيَلِ.

ص: 132

وَأَيْضًا فَإِنَّ فِي الْحَدِيثِ قِصَّةً، وَعِنْدَ الْحُفَّاظِ إذَا كَانَ فِيهِ قِصَّةٌ دَلَّهُمْ عَلَى أَنَّهُ مَحْفُوظٌ.

قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: حَدَّثَتْنِي امْرَأَتِي الْعَالِيَةُ، قَالَتْ: دَخَلْت عَلَى عَائِشَةَ فِي نِسْوَةٍ، فَقَالَتْ: مَا حَاجَتُكُنَّ؟ فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ سَأَلَهَا أُمُّ مَحَبَّةٍ، فَقَالَتْ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ هَلْ تَعْرِفِينَ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَتْ: فَإِنِّي بِعْته جَارِيَةً لِي بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ إلَى الْعَطَاءِ، وَإِنَّهُ أَرَادَ بَيْعَهَا فَابْتَعْتهَا مِنْهُ بِسِتِّمِائَةِ دِرْهَمٍ نَقْدًا، فَأَقْبَلَتْ عَلَيْهَا وَهِيَ غَضْبَى، فَقَالَتْ: بِئْسَمَا شَرَيْت، وَبِئْسَمَا اشْتَرَيْت، أَبْلَغِي زَيْدًا أَنَّهُ قَدْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ إلَّا أَنْ يَتُوبَ، وَأَفْحَمَتْ صَاحِبَتَنَا فَلَمْ تَكَلَّمْ طَوِيلًا، ثُمَّ إنَّهَا سَهُلَ عَلَيْهَا فَقَالَتْ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَرَأَيْت إنْ لَمْ آخُذْ إلَّا رَأْسَ مَالِي؟ فَتَلَتْ عَلَيْهَا: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} [البقرة: 275]

وَأَيْضًا فَهَذَا الْحَدِيثُ إذَا انْضَمَّ إلَى تِلْكَ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ أَفَادَتْ بِمَجْمُوعِهَا الظَّنَّ الْغَالِبَ إنْ لَمْ تُفِدْ الْيَقِينَ.

وَأَيْضًا فَإِنَّ آثَارَ الصَّحَابَةِ كَمَا تَقَدَّمَ مُوَافِقَةٌ لِهَذَا الْحَدِيثِ، مُشْتَقَّةٌ مِنْهُ، مُفَسِّرَةٌ لَهُ.

وَأَيْضًا فَكَيْفَ يَلِيقُ بِالشَّرِيعَةِ الْكَامِلَةِ الَّتِي لَعَنَتْ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ، وَبَالَغَتْ فِي تَحْرِيمِهِ، وَآذَنَتْ صَاحِبَهُ بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، أَنْ تُبِيحَهُ بِأَدْنَى الْحِيَلِ مَعَ اسْتِوَاءِ الْمَفْسَدَةِ؟ وَلَوْلَا أَنَّ عِنْدَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها عِلْمًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا تَسْتَرِيبُ فِيهِ وَلَا تَشُكُّ بِتَحْرِيمِ مَسْأَلَةِ الْعِينَةِ لَمَا أَقْدَمَتْ عَلَى الْحُكْمِ بِإِبْطَالِ جِهَادِ رَجُلٍ مِنْ الصَّحَابَةِ بِاجْتِهَادِهَا، لَا سِيَّمَا إنْ كَانَتْ قَصَدَتْ أَنَّ الْعَمَلَ يَبْطُلُ بِالرِّدَّةِ، وَاسْتِحْلَالُ الرِّبَا رِدَّةٌ، وَلَكِنَّ عُذْرَ زَيْدٍ أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ هَذَا مُحَرَّمٌ، كَمَا عُذِرَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِإِبَاحَتِهِ بَيْعَ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَصْدُهَا هَذَا، بَلْ قَصَدَتْ أَنَّ هَذَا مِنْ الْكَبَائِرِ الَّتِي يُقَاوِمُ إثْمُهَا ثَوَابَ الْجِهَادِ وَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ عَمِلَ حَسَنَةً وَسَيِّئَةً بِقَدْرِهَا فَكَأَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ شَيْئًا، وَلَوْ كَانَ هَذَا اجْتِهَادًا مِنْهَا لَمْ تَمْنَعْ زَيْدًا مِنْهُ، وَلَمْ تَحْكُمْ بِبُطْلَانِ جِهَادِهِ، وَلَمْ تَدْعُهُ إلَى التَّوْبَةِ؛ فَإِنَّ الِاجْتِهَادَ لَا يُحَرِّمُ الِاجْتِهَادَ، وَلَا يُحْكَمُ بِبُطْلَانِ عَمَلِ الْمُسْلِمِ الْمُجْتَهِدِ بِمُخَالَفَتِهِ لِاجْتِهَادِ نَظِيرِهِ، وَالصَّحَابَةُ - وَلَا سِيَّمَا أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ - أَعْلَمُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَأَفْقَهُ فِي دِينِهِ مِنْ ذَلِكَ.

وَأَيْضًا فَإِنَّ الصَّحَابَةَ كَعَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ أَفْتَوْا بِتَحْرِيمِ مَسْأَلَةِ الْعِينَةِ، وَغَلَّظُوا فِيهَا هَذَا التَّغْلِيظَ فِي أَوْقَاتٍ وَوَقَائِعَ مُخْتَلِفَةٍ؛ فَلَمْ يَجِئْ عَنْ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا التَّابِعِينَ الرُّخْصَةُ فِي ذَلِكَ، فَيَكُونُ إجْمَاعًا.

ص: 133

فَإِنْ قِيلَ: فَزَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ قَدْ خَالَفَ عَائِشَةَ وَمَنْ ذَكَرْتُمْ، فَغَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّهَا مَسْأَلَةٌ ذَاتُ قَوْلَيْنِ لِلصَّحَابَةِ، وَهِيَ مِمَّا يَسُوغُ فِيهَا الِاجْتِهَادُ.

قِيلَ: لَمْ يَقُلْ زَيْدٌ قَطُّ إنَّ هَذَا حَلَالٌ، وَلَا أَفْتَى بِهَا يَوْمًا مَا، وَمَذْهَبُ الرَّجُلِ لَا يُؤْخَذُ مِنْ فِعْلِهِ؛ إذْ لَعَلَّهُ فَعَلَهُ نَاسِيًا أَوْ ذَاهِلًا أَوْ غَيْرَ مُتَأَمِّلٍ وَلَا نَاظِرٍ أَوْ مُتَأَوِّلًا أَوْ ذَنْبًا يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْهُ وَيَتُوبُ أَوْ يُصِرُّ عَلَيْهِ وَلَهُ حَسَنَاتٌ تُقَاوِمُهُ، فَلَا يُؤَثِّرُ شَيْئًا.

قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: الْعِلْمُ عِلْمُ الرِّوَايَةِ، يَعْنِي أَنْ يَقُولَ: رَأَيْت فُلَانًا يَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا؛ إذْ لَعَلَّهُ قَدْ فَعَلَهُ سَاهِيًا، وَقَالَ إيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ: لَا تَنْظُرْ إلَى عَمَلِ الْفَقِيهِ، وَلَكِنْ سَلْهُ يَصْدُقْكَ، وَلَمْ يُذْكَرْ عَنْ زَيْدٍ أَنَّهُ أَقَامَ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَعْدَ إنْكَارِ عَائِشَةَ، وَكَثِيرًا مَا يَفْعَلُ الرَّجُلُ الْكَبِيرَ الشَّيْءَ مَعَ ذُهُولِهِ عَمَّا فِي ضِمْنِهِ مِنْ مَفْسَدَةٍ فَإِذَا نُبِّهَ انْتَبَهَ، وَإِذَا كَانَ الْفِعْلُ مُحْتَمِلًا لِهَذِهِ الْوُجُوهِ وَغَيْرِهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقْدِمَ عَلَى الْحُكْمِ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ: مَذْهَبُ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ جَوَازُ الْعِينَةِ، لَا سِيَّمَا وَأُمُّ وَلَدِهِ قَدْ دَخَلَتْ عَلَى عَائِشَةَ تَسْتَفْتِيهَا فَأَفْتَتْهَا بِأَخْذِ رَأْسِ مَالِهَا، وَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا لَمْ يَكُونَا جَازِمَيْنِ بِصِحَّةِ الْعَقْدِ وَجَوَازِهِ، وَأَنَّهُ مِمَّا أَبَاحَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ.

وَأَيْضًا فَبَيْعُ الْعِينَة إنَّمَا يَقَعُ غَالِبًا مِنْ مُضْطَرٍّ إلَيْهَا، وَإِلَّا فَالْمُسْتَغْنِي عَنْهَا لَا يَشْغَلُ ذِمَّتَهُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ فِي مُقَابِلَةِ أَلْفٍ بِلَا ضَرُورَةٍ وَحَاجَةٍ تَدْعُو إلَى ذَلِكَ، وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ:«نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الْمُضْطَرِّ، وَبَيْعِ الْغَرَرِ، وَبَيْعِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ أَنْ تُدْرِكَ» .

وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْهُ قَالَ: " سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ عَضُوضٌ يَعَضُّ الْمُوسِرُ عَلَى مَا فِي يَدَيْهِ، وَلَمْ يُؤَثِّرْ بِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237] وَيَنْهَرُ الْأَشْرَارُ، وَيُسْتَذَلُّ الْأَخْيَارُ، وَيُبَايِعُ الْمُضْطَرُّونَ، وَقَدْ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الْمُضْطَرِّ، وَعَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ، وَبَيْعِ الثَّمَرِ قَبْلَ أَنْ يُطْعِمَ» .

وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَوَاهُ سَعِيدٌ عَنْ هُشَيْمٍ عَنْ كَوْثَرِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ مَكْحُولٍ: بَلَغَنِي عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ حَدَّثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ بَعْدَ زَمَانِكُمْ هَذَا زَمَانًا عَضُوضًا، يَعَضُّ الْمُوسِرُ عَلَى مَا فِي يَدَيْهِ، وَلَمْ يُؤْمَرْ بِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 39] وَيَنْهَدُ شِرَارُ خَلْقِ اللَّهِ، يُبَايِعُونَ كُلَّ مُضْطَرٍّ، أَلَا أَنَّ بَيْعَ الْمُضْطَرِّ حَرَامٌ، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخُونُهُ، إنْ كَانَ عِنْدَك خَيْرٌ فَعُدْ بِهِ عَلَى أَخِيك وَلَا تَزِدْهُ هَلَاكًا إلَى هَلَاكِهِ» وَهَذَا مِنْ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ، فَإِنَّ عَامَّةَ الْعِينَةُ إنَّمَا تَقَعُ مِنْ رَجُلٍ مُضْطَرٍّ إلَى نَفَقَةٍ يَضِنُّ بِهَا عَلَيْهِ الْمُوسِرُ بِالْقَرْضِ حَتَّى يَرْبَحَ عَلَيْهِ فِي الْمِائَةِ مَا أَحَبَّ، وَهَذَا الْمُضْطَرُّ إنْ أَعَادَ السِّلْعَةَ

ص: 134

إلَى بَائِعِهَا فَهِيَ الْعِينَةُ، وَإِنْ بَاعَهَا لِغَيْرِهِ فَهُوَ التَّوَرُّقُ، وَإِنْ رَجَعَتْ إلَى ثَالِثٍ يَدْخُلُ بَيْنَهُمَا فَهُوَ مُحَلِّلُ الرِّبَا، وَالْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ يَعْتَمِدُهَا الْمُرَابُونَ، وَأَخَفُّهَا التَّوَرُّقُ، وَقَدْ كَرِهَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَقَالَ: هُوَ أُخَيَّةُ الرِّبَا وَعَنْ أَحْمَدَ فِيهِ رِوَايَتَانِ، وَأَشَارَ فِي رِوَايَةِ الْكَرَاهَةِ إلَى أَنَّهُ مُضْطَرٌّ، وَهَذَا مِنْ فِقْهِهِ رضي الله عنه، قَالَ: فَإِنَّ هَذَا لَا يَدْخُلُ فِيهِ إلَّا مُضْطَرٌّ، وَكَانَ شَيْخُنَا رحمه الله يَمْنَعُ مِنْ مَسْأَلَةِ التَّوَرُّقِ، وَرُوجِعَ فِيهَا مِرَارًا وَأَنَا حَاضِرٌ، فَلَمْ يُرَخِّصْ فِيهَا، وَقَالَ: الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ حُرِّمَ الرِّبَا مَوْجُودٌ فِيهَا بِعَيْنِهِ مَعَ زِيَادَةِ الْكُلْفَةِ بِشِرَاءِ السِّلْعَةِ وَبَيْعِهَا وَالْخَسَارَةِ فِيهَا؛ فَالشَّرِيعَةُ لَا تُحَرِّمُ الضَّرَرَ الْأَدْنَى وَتُبِيحُ مَا هُوَ أَعْلَى مِنْهُ قَدْ تَقَدَّمَ الِاسْتِدْلَال عَلَى تَحْرِيمِ الْعِينَةِ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ، وَلَا شَرْطَانِ فِي بَيْعٍ» وَبِقَوْلِهِ: «مَنْ بَاعَ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ فَلَهُ أَوْكَسُهُمَا أَوْ الرِّبَا» وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُ وُقُوعُهُ إلَّا عَلَى الْعِينَةِ.

[مِمَّا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الْحِيَلِ]

وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الْحِيَلِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: «صَيْدُ الْبَرِّ لَكُمْ حَلَالٌ، مَا لَمْ تَصِيدُوهُ أَوْ يُصَدْ لَكُمْ» رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِهَا مَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ عَنْ «يَحْيَى بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: سَأَلْت أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ: الرَّجُلُ مِنَّا يُقْرِضُ أَخَاهُ الْمَالَ فَيُهْدِي إلَيْهِ، فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إذَا أَقْرَضَ أَحَدُكُمْ قَرْضًا فَأُهْدِيَ إلَيْهِ أَوْ حَمَلَهُ عَلَى الدَّابَّةِ فَلَا يَرْكَبْهَا وَلَا يَقْبَلْهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ قَبْلَ ذَلِكَ» رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ عَنْ عُتْبَةَ بْنِ حُمَيْدٍ الضَّبِّيَّ عَنْ يَحْيَى.

قَالَ شَيْخُنَا رضي الله عنه: وَهَذَا يَحْيَى بْنُ يَزِيدَ الْهُنَائِيُّ مِنْ رِجَالِ مُسْلِمٍ، وَعُتْبَةُ بْنُ حُمَيْدٍ مَعْرُوفٌ بِالرِّوَايَةِ عَنْ الْهُنَائِيِّ.

قَالَ أَبُو حَاتِمٍ مَعَ تَشَدُّدِهِ: هُوَ صَالِحُ الْحَدِيثِ، وَقَالَ أَحْمَدُ: لَيْسَ بِالْقَوِيِّ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ ثِقَةٌ فِي حَدِيثِهِ عَنْ الشَّامِيِّينَ

، وَرَوَاهُ سَعِيدٌ فِي سُنَنِهِ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ، لَكِنْ قَالَ: عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ الْهُنَائِيِّ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي يَحْيَى الْهُنَائِيِّ عَنْ أَنَسٍ يَرْفَعُهُ:«إذَا أَقْرَضَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَأْخُذْ هَدِيَّةً» قَالَ شَيْخُنَا: وَأَظُنُّهُ هُوَ ذَاكَ انْقَلَبَ اسْمُهُ. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَدِمْت الْمَدِينَةَ، فَلَقِيت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ، فَقَالَ لِي: إنَّك بِأَرْضٍ الرِّبَا فِيهَا فَاشٍ، فَإِذَا كَانَ لَك عَلَى رَجُلٍ حَقٌّ فَأَهْدَى إلَيْك

ص: 135

حِمْلَ تِبْنٍ أَوْ حِمْلَ شَعِيرٍ أَوْ حِمْلَ قَتٍّ فَلَا تَأْخُذْهُ فَإِنَّهُ رِبًا، وَفِي سُنَنِ سَعِيدٍ هَذَا الْمَعْنَى عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَجَاءَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَيْضًا وَأَتَى رَجُلٌ عَبْدَ اللَّهَ بْنَ عُمَرَ فَقَالَ: إنِّي أَقْرَضْت رَجُلًا بِغَيْرِ مَعْرِفَةٍ فَأَهْدَى إلَيَّ هَدِيَّةً جَزْلَةً، فَقَالَ: رُدَّ إلَيْهِ هَدِيَّتَهُ أَوْ اُحْسُبْهَا لَهُ، وَقَالَ سَالِمُ بْنُ أَبِي الْجَعْدِ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: إنِّي أَقْرَضْت رَجُلًا يَبِيعُ السَّمَكَ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، فَأَهْدَى إلَيَّ سَمَكَةً قَوَّمْتهَا بِثَلَاثَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا، فَقَالَ: خُذْ مِنْهُ سَبْعَةَ دَرَاهِمَ، ذَكَرَهُمَا سَعِيدٌ، وَذَكَرَ حَرْبٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: إذَا أَسْلَفْت رَجُلًا سَلَفًا فَلَا تَأْخُذْ مِنْهُ هَدِيَّةً وَلَا عَارِيَّةً رُكُوبَ دَابَّةٍ؛ فَنَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هُوَ وَأَصْحَابُهُ الْمُقْرِضَ عَنْ قَبُولِ هَدِيَّةِ الْمُقْتَرِضِ قَبْلَ الْوَفَاءِ؛ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِالْهَدِيَّةِ أَنْ يُؤْجِرَ الِاقْتِضَاءَ - وَإِنْ كَانَ لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ - سَدًّا لِذَرِيعَةِ الرِّبَا، فَكَيْفَ تَجُوزُ الْحِيلَةُ عَلَى الرِّبَا؟ وَمَنْ لَمْ يَسُدَّ الذَّرَائِعَ وَلَمْ يُرَاعِ الْمَقَاصِدَ وَلَمْ يُحَرِّمْ الْحِيَلَ يُبِيحُ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَسُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهَدْيُ أَصْحَابِهِ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْرِيمُ السَّلَفِ وَالْبَيْعِ لِأَنَّهُ يُتَّخَذُ حِيلَةً إلَى الرِّبَا.

[دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى تَحْرِيمِ الْحِيَلِ]

وَيَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الْحِيَلِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ، وَهُوَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم:«لَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ وَلَا يُفَرَّقُ بَيْن مُجْتَمِعٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ» وَهَذَا نَصٌّ فِي تَحْرِيمِ الْحِيلَةِ الْمُفْضِيَةِ إلَى إسْقَاطِ الزَّكَاةِ أَوْ تَنْقِيصِهَا بِسَبَبِ الْجَمْعِ وَالتَّفْرِيقِ، فَإِذَا بَاعَ بَعْضَ النِّصَابِ قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلِ تَحَيُّلًا عَلَى إسْقَاطِ الزَّكَاةِ فَقَدْ فَرَّقَ بَيْنَ الْمُجْتَمِعِ، فَلَا تَسْقُطُ الزَّكَاةُ عَنْهُ بِالْفِرَارِ مِنْهَا، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِهَا قَوْله تَعَالَى:{وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر: 6] قَالَ الْمُفَسِّرُونَ مِنْ السَّلَفِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ: لَا تُعْطِ عَطَاءً تَطْلُبُ أَكْثَرَ مِنْهُ، وَهُوَ أَنْ تُهْدِيَ لِيُهْدَى إلَيْك أَكْثَرُ مِنْ هَدِيَّتِك.

وَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ صُوَرَ الْعُقُودِ غَيْرُ كَافِيَةٍ فِي حِلِّهَا وَحُصُولِ أَحْكَامِهَا إلَّا إذَا لَمْ يَقْصِدْ بِهَا قَصْدًا فَاسِدًا، وَكُلُّ مَا لَوْ شَرَطَهُ فِي الْعَقْدِ كَانَ حَرَامًا فَاسِدًا فَقَصْدُهُ حَرَامٌ فَاسِدٌ، وَاشْتِرَاطُهُ إعْلَانُ إظْهَارٍ لِلْفَسَادِ، وَقَصْدُهُ وَنِيَّتُهُ غِشٌّ وَخِدَاعٌ وَمَكْرٌ؛ فَقَدْ يَكُونُ أَشَدَّ فَسَادًا مِنْ الِاشْتِرَاطِ ظَاهِرًا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، وَالِاشْتِرَاطُ الظَّاهِرُ أَشَدُّ فَسَادًا مِنْهُ مِنْ جِهَةِ إعْلَانِ الْمُحَرَّمِ وَإِظْهَارِهِ.

[مِمَّا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الْحِيَلِ أَيْضًا]

وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى التَّحْرِيمِ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَجْمَعُوا عَلَى تَحْرِيمِ هَذِهِ الْحِيَلِ

ص: 136

وَإِبْطَالِهَا، وَإِجْمَاعُهُمْ حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ، بَلْ هِيَ مِنْ أَقْوَى الْحُجَجِ وَآكَدِهَا، وَمَنْ جَعَلَهُمْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ فَقَدْ اسْتَوْثَقَ لِدِينِهِ.

بَيَانُ الْمُقَدِّمَةِ الْأُولَى أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ خَطَبَ النَّاسَ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: لَا أُوتَى بِمُحَلِّلٍ وَلَا مُحَلَّلٍ لَهُ إلَّا رَجَمْتُهُمَا، وَأَقَرَّهُ سَائِرُ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ، وَأَفْتَى عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَحِلُّ بِنِكَاحِ التَّحْلِيلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَعْيَانِهِمْ كَأُبَيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ نَهَوْا الْمُقْرِضَ عَنْ قَبُولِ هَدِيَّةِ الْمُقْتَرِضِ، وَجَعَلُوا قَبُولَهَا رِبًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ تَحْرِيمُ مَسْأَلَةِ الْعِينَةِ، وَالتَّغْلِيظُ فِيهَا، وَأَفْتَى عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّ الْمَبْثُوثَةَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ تَرِثُ، وَوَافَقَهُمْ سَائِرُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارُ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ وَبَيْعَةُ الرِّضْوَانِ وَمَنْ عَدَاهُمْ.

وَهَذِهِ وَقَائِعُ مُتَعَدِّدَةٌ لِأَشْخَاصٍ مُتَعَدِّدَةٍ فِي أَزْمَانٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَالْعَادَةُ تُوجِبُ اشْتِهَارَهَا وَظُهُورَهَا بَيْنَهُمْ، لَا سِيَّمَا وَهَؤُلَاءِ أَعْيَانُ الْمُفْتِينَ مِنْ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ كَانَتْ تَضْبِطُ أَقْوَالَهُمْ، وَتَنْتَهِي إلَيْهِمْ فَتَاوِيهمْ، وَالنَّاسُ عُنُقٌ وَاحِدٌ إلَيْهِمْ مُتَلَقُّونَ لِفَتَاوِيهِمْ، وَمَعَ هَذَا فَلَمْ يُحْفَظْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ الْإِنْكَارُ وَلَا إبَاحَةُ الْحِيَلِ مَعَ تَبَاعُدِ الْأَوْقَاتِ وَزَوَالِ أَسْبَابِ السُّكُوتِ، وَإِذَا كَانَ هَذَا قَوْلَهُمْ فِي التَّحْلِيلِ وَالْعِينَةِ وَهَدِيَّةِ الْمُقْتَرِضِ إلَى الْمُقْرِضِ فَمَاذَا يَقُولُونَ فِي التَّحَيُّلِ لِإِسْقَاطِ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ، بَلْ لِإِسْقَاطِ حُقُوقِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَإِخْرَاجِ الْأَبْضَاعِ وَالْأَمْوَالِ عَنْ مِلْكِ أَرْبَابِهَا، وَتَصْحِيحِ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ وَالتَّلَاعُبِ بِالدِّينِ؟ وَقَدْ صَانَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَرَوْا فِي وَقْتِهِمْ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ أَوْ يُفْتِي بِهِ، كَمَا صَانَهُمْ عَنْ رُؤْيَةِ الْجَهْمِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْحُلُولِيَّةِ وَالِاتِّحَادِيَّة وَأَضْرَابِهِمْ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا عَنْهُمْ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْحِيَلِ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى قَوْلِهِمْ فِيمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهَا.

وَأَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ فَكُلُّ مَنْ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِالْآثَارِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ وَمَسَائِلِهِ ثُمَّ أَنْصَفَ لَمْ يَشُكَّ أَنَّ تَقْرِيرَ هَذَا الْإِجْمَاعِ مِنْهُمْ عَلَى تَحْرِيمِ الْحِيَلِ وَإِبْطَالِهَا وَمُنَافَاتِهَا لِلدِّينِ أَقْوَى مِنْ تَقْرِيرِ إجْمَاعِهِمْ عَلَى الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُدَّعَى فِيهِ إجْمَاعُهُمْ، كَدَعْوَى إجْمَاعِهِمْ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ غُسْلِ الْجُمُعَةِ، وَعَلَى الْمَنْعِ مِنْ بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ، وَعَلَى الْإِلْزَامِ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ.

فَإِذَا وَازَنْت بَيْنَ هَذَا الْإِجْمَاعِ وَتِلْكَ الْإِجْمَاعَاتِ ظَهَرَ لَك التَّفَاوُتُ، وَانْضَمَّ إلَى هَذَا أَنَّ التَّابِعِينَ مُوَافِقُونَ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ؛ فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ السَّبْعَةَ وَغَيْرَهُمْ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ الَّذِينَ

ص: 137

أَخَذُوا عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَغَيْرِهِ مُتَّفِقُونَ عَلَى إبْطَالِ الْحِيَلِ، وَكَذَلِكَ أَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَكَذَلِكَ أَصْحَابُ فُقَهَاءِ الْبَصْرَةِ كَأَيُّوبَ وَأَبِي الشَّعْثَاءِ وَالْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ، وَكَذَلِكَ أَصْحَابُ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَهَذَا فِي غَايَةِ الْقُوَّةِ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ، فَإِنَّهُ انْضَمَّ إلَى كَثْرَةِ فَتَاوِيهِمْ بِالتَّحْرِيمِ فِي أَفْرَادِ هَذَا الْأَصْلِ وَانْتِشَارِهَا أَنَّ عَصْرَهُمْ انْصَرَمَ، وَبُقَعُ الْإِسْلَامِ مُتَّسِعَةٌ، وَقَدْ دَخَلَ النَّاسُ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا، وَقَدْ اتَّسَعَتْ الدُّنْيَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَعْظَمَ اتِّسَاعٍ، وَكَثُرَ مَنْ كَانَ يَتَعَدَّى الْحُدُودَ، وَكَانَ الْمُقْتَضِي لِوُجُودِ هَذِهِ الْحِيَلِ مَوْجُودًا فَلَمْ يُحْفَظْ عَنْ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ أَفْتَى بِحِيلَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْهَا أَوْ أَمَرَ بِهَا أَوْ دَلَّ عَلَيْهَا، بَلْ الْمَحْفُوظُ عَنْهُمْ النَّهْيُ وَالزَّجْرُ عَنْهَا؛ فَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْحِيَلُ مِمَّا يَسُوغُ فِيهَا الِاجْتِهَادُ لَأَفْتَى بِجَوَازِهَا رَجُلٌ مِنْهُمْ، وَلَكَانَتْ مَسْأَلَةُ نِزَاعٍ كَغَيْرِهَا، بَلْ أَقْوَالُهُمْ وَأَعْمَالُهُمْ وَأَحْوَالُهُمْ مُتَّفِقَةٌ عَلَى تَحْرِيمِهَا وَالْمَنْعِ مِنْهَا، وَمَضَى عَلَى أَثَرِهِمْ أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ فِي الْإِنْكَارِ.

قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ سَعِيدٍ الدَّيْدَانِيِّ: لَا يَجُوزُ شَيْءٌ فِي الْحِيَلِ، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ الْمَيْمُونِيِّ وَقَدْ سَأَلَهُ عَمَّنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ ثُمَّ احْتَالَ لِإِبْطَالِهَا، فَقَالَ: نَحْنُ لَا نَرَى الْحِيلَةَ، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ: إذَا حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ ثُمَّ احْتَالَ بِحِيلَةٍ فَصَارَ إلَيْهَا فَقَدْ صَارَ إلَى ذَلِكَ الَّذِي حَلَفَ عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ، وَقَالَ: مَنْ احْتَالَ بِحِيلَةٍ فَهُوَ حَانِثٌ، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ وَأَبِي الْحَارِثِ وَقَدْ ذَكَرَ قَوْلَ أَصْحَابِ الْحِيَلِ فَأَنْكَرَهُ، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ إسْمَاعِيلَ بْنِ سَعِيدٍ وَقَدْ سَأَلَ عَمَّنْ احْتَالَ فِي إبْطَالِ الشُّفْعَةِ، فَقَالَ: لَا يَجُوزُ شَيْءٌ مِنْ الْحِيَلِ فِي إبْطَالِ حَقِّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ وَغَيْرِهِ فِي الرَّجُلِ يَحْلِفُ وَيَنْوِي غَيْرَ ذَلِكَ: فَالْيَمِينُ عَلَى نِيَّةِ مَا يَحْلِفُهُ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مَظْلُومًا، فَإِذَا كَانَ مَظْلُومًا حَلَفَ عَلَى نِيَّتِهِ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ مِنْ نِيَّةِ الَّذِي حَلَفَهُ شَيْءٌ، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْخَالِقِ بْنِ مَنْصُورٍ: مَنْ كَانَ عِنْدَهُ كِتَابُ الْحِيَلِ فِي بَيْتِهِ يُفْتِي بِهِ فَهُوَ كَافِرٌ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم

[مَنْ ذَكَرُوا الْحِيَلَ لَمْ يَذْكُرُوا أَنَّ كُلَّهَا جَائِزٌ]

قُلْت: وَاَلَّذِينَ ذَكَرُوا الْحِيَلَ لَمْ يَقُولُوا إنَّهَا كُلَّهَا جَائِزٌ، وَإِنَّمَا أَخْبَرُوا أَنَّ كَذَا حِيلَةٌ وَطَرِيقٌ إلَى كَذَا، ثُمَّ قَدْ تَكُونُ الطَّرِيقُ مُحَرَّمَةً، وَقَدْ تَكُونُ مَكْرُوهَةً، وَقَدْ يُخْتَلَفُ فِيهَا، فَإِذَا قَالُوا: الْحِيلَةُ فِي فَسْخِ الْمَرْأَةِ النِّكَاحَ أَنْ تَرْتَدَّ ثُمَّ تُسْلِمَ، وَالْحِيلَةُ فِي سُقُوطِ الْقِصَاصِ عَمَّنْ قَتَلَ أُمَّ امْرَأَتِهِ أَنْ يَقْتُلَ امْرَأَتَهُ إذَا كَانَ لَهَا وَلَدٌ مِنْهُ، وَالْحِيلَةُ فِي سُقُوطِ الْكَفَّارَةِ عَمَّنْ أَرَادَ الْوَطْءَ

ص: 138

فِي رَمَضَانَ أَنْ يَتَغَدَّى ثُمَّ يَطَأَ بَعْدَ الْغَدَاءِ، وَالْحِيلَةُ لِمَنْ أَرَادَتْ أَنْ تَفْسَخَ نِكَاحَ زَوْجِهَا أَنْ تُمَكِّنَ ابْنَهُ مِنْ الْوُقُوعِ عَلَيْهَا، وَالْحِيلَةُ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَفْسَخَ نِكَاحَ امْرَأَتِهِ وَيُحَرِّمَهَا عَلَيْهِ عَلَى التَّأْبِيدِ أَنْ يَطَأَ حَمَاتَهُ أَوْ يُقَبِّلَهَا، وَالْحِيلَةُ لِمَنْ أَرَادَ سُقُوطَ حَدِّ الزِّنَا عَنْهُ أَنْ يَسْكَرَ ثُمَّ يَزْنِيَ، وَالْحِيلَةُ لِمَنْ أَرَادَ سُقُوطَ الْحَجِّ عَنْهُ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ أَنْ يُمَلِّكَ مَالَهُ لِابْنِهِ أَوْ زَوْجَتِهِ عِنْدَ خُرُوجِ الرَّكْبِ فَإِذَا بَعُدَ اسْتَرَدَّ مَالَهُ، وَالْحِيلَةُ لِمَنْ أَرَادَ حِرْمَانَ وَارِثِهِ مِيرَاثَهُ أَنْ يُقِرَّ بِمَالِهِ كُلِّهِ لِغَيْرِهِ عِنْدَ الْمَوْتِ وَالْحِيلَةُ لِمَنْ أَرَادَ إبْطَالَ الزَّكَاةِ وَإِسْقَاطَ فَرْضِهَا عَنْهُ بِالْكُلِّيَّةِ أَنْ يُمَلِّكَ مَالَهُ عِنْدَ الْحَوْلِ لِابْنِهِ أَوْ امْرَأَتِهِ أَوْ أَجْنَبِيٍّ سَاعَةً مِنْ زَمَانٍ ثُمَّ يَسْتَرِدَّهُ مِنْهُ، وَيَفْعَلُ هَكَذَا كُلَّ عَامٍ، فَيَبْطُلُ فَرْضُ الزَّكَاةِ عَنْهُ أَبَدًا، وَالْحِيلَةُ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَمْلِكَ مَالَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ رِضَاهُ أَنْ يُفْسِدَهُ عَلَيْهِ أَوْ يُغَيِّرَ صُورَتَهُ فَيَمْلِكَهُ، فَيَذْبَحَ شَاتَه، وَيَشُقَّ قَمِيصَهُ، وَيَطْحَنَ حَبَّهُ وَيَخْبِزَهُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ.

وَالْحِيلَةُ لِمَنْ أَرَادَ قَتْلَ غَيْرِهِ وَلَا يُقْتَلُ بِهِ أَنْ يَضْرِبَهُ بِدَبُّوسٍ أَوْ مِرْزَبَّةِ حَدِيدٍ يَنْثُرُ دِمَاغُهُ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ قِصَاصٌ، وَالْحِيلَةُ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَزْنِيَ بِامْرَأَةٍ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ أَنْ يَسْتَأْجِرَهَا لِكَنْسِ بَيْتِهِ أَوْ لِطَيِّ ثِيَابِهِ أَوْ لِغَسْلِهَا أَوْ لِنَقْلِ مَتَاعٍ مِنْ مَكَان إلَى مَكَان ثُمَّ يَزْنِيَ بِهَا مَا شَاءَ مَجَّانًا بِلَا حَدٍّ وَلَا غَرَامَةٍ، أَوْ يَسْتَأْجِرَهَا لِنَفْسِ الزِّنَا، وَالْحِيلَةُ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُسْقِطَ عَنْهُ حَدَّ السَّرِقَةِ أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّ الْمَالَ لَهُ وَأَنَّ لَهُ فِيهِ شَرِكَةً فَيَسْقُطُ عَنْهُ الْقَطْعُ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ، أَوْ يَنْقُبُ الدَّارَ ثُمَّ يَدَعُ غُلَامَهُ أَوْ ابْنَهُ أَوْ شَرِيكَهُ يَدْخُلُ وَيُخْرِجُ مَتَاعَهُ أَوْ يَدَعُهُ عَلَى ظَهْرِ دَابَّةٍ تَخْرُجُ بِهِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ.

وَالْحِيلَةُ لِمَنْ أَرَادَ سُقُوطَ حَدِّ الزِّنَا عَنْهُ بَعْدَ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ عَلَيْهِ أَرْبَعَةُ عُدُولٍ غَيْرِ مُتَّهَمِينَ أَنْ يُصَدِّقَهُمْ فَيَسْقُطَ عَنْهُ الْحَدُّ بِمُجَرَّدِ تَصْدِيقِهِمْ، وَالْحِيلَةُ لِمَنْ أَرَادَ قَطْعَ يَدِ غَيْرِهِ، وَلَا يُقْطَعُ بِهَا أَنْ يُمْسِكَ هُوَ وَآخَرُ السِّكِّينَ أَوْ السَّيْفَ وَيَقْطَعَانِهَا مَعًا، وَالْحِيلَةُ لِمَنْ أَرَادَتْ التَّخَلُّفَ عَنْ زَوْجِهَا فِي السَّفَرِ أَنْ تُقِرَّ لِغَيْرِهِ بِدَيْنٍ، وَالْحِيلَةُ لِمَنْ أَرَادَ الصَّيْدَ فِي الْإِحْرَامِ أَنْ يَنْصِب الشِّبَاكَ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ ثُمَّ يَأْخُذَ مَا وَقَعَ فِيهَا حَالَ إحْرَامِهِ بَعْدَ أَنْ يُحِلَّ.

فَهَذِهِ الْحِيَلُ وَأَمْثَالُهَا لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُفْتِيَ بِهَا فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَنْ اسْتَحَلَّ الْفَتْوَى بِهَذِهِ فَهُوَ الَّذِي كَفَّرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ، حَتَّى قَالُوا: إنَّ مَنْ أَفْتَى بِهَذِهِ الْحِيَلِ فَقَدْ قَلَبَ الْإِسْلَامَ ظَهْرًا لِبَطْنٍ، وَنَقَضَ عُرَى الْإِسْلَامِ عُرْوَةً عُرْوَةً، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْحِيَلِ: مَا نَقَمُوا عَلَيْنَا مِنْ أَنَّا عَمَدْنَا إلَى أَشْيَاءَ كَانَتْ حَرَامًا عَلَيْهِمْ فَاحْتَلْنَا فِيهَا حَتَّى صَارَتْ حَلَالًا، وَقَالَ آخَرُ مِنْهُمْ: إنَّا نَحْتَالُ لِلنَّاسِ مُنْذُ كَذَا وَكَذَا سَنَةً فِي تَحْلِيلِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ.

قَالَ أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرِ بْنِ مَرْوَانَ: كَانَتْ امْرَأَةٌ هَاهُنَا بِمَرْوَ أَرَادَتْ أَنْ تَخْتَلِعَ مِنْ زَوْجِهَا، فَأَبَى زَوْجُهَا عَلَيْهَا، فَقِيلَ لَهَا: لَوْ ارْتَدَدْتِ عَنْ الْإِسْلَامِ لَبِنْتِ مِنْهُ، فَفَعَلْت، فَذَكَرْت ذَلِكَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، فَقَالَ: مَنْ وَضَعَ هَذَا الْكِتَابَ فَهُوَ كَافِرٌ، وَمَنْ سَمِعَ بِهِ وَرَضِيَ بِهِ فَهُوَ

ص: 139

كَافِرٌ، وَمَنْ حَمَلَهُ مِنْ كُورَةٍ إلَى كُورَةٍ فَهُوَ كَافِرٌ، وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ فَرَضِيَ بِهِ فَهُوَ كَافِرٌ، وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ عَنْ شَقِيقِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ: إنَّ ابْنَ الْمُبَارَكِ قَالَ فِي قِصَّةِ بِنْتِ أَبِي رَوْحٍ حَيْثُ أُمِرَتْ بِالِارْتِدَادِ، وَذَلِكَ فِي أَيَّامِ أَبِي غَسَّانَ، فَذَكَرَ شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَهُوَ مُغْضَبٌ: أَحْدَثُوا فِي الْإِسْلَامِ، وَمَنْ كَانَ أَمَرَ بِهَذَا فَهُوَ كَافِرٌ، وَمَنْ كَانَ هَذَا الْكِتَابُ عِنْدَهُ أَوْ فِي بَيْتِهِ لِيَأْمُرَ بِهِ أَوْ هَوِيَهُ وَلَمْ يَأْمُرْ بِهِ فَهُوَ كَافِرٌ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: مَا رَأَى الشَّيْطَانُ كَانَ يُحْسِنُ مِثْلَ هَذَا، حَتَّى جَاءَ هَؤُلَاءِ فَأَفَادَهَا مِنْهُمْ فَأَشَاعَهَا حِينَئِذٍ، أَوْ كَانَ يُحْسِنُهَا وَلَمْ يَجِدْ مَنْ يُمْضِيهَا فِيهِمْ حَتَّى جَاءَ هَؤُلَاءِ.

وَقَالَ إِسْحَاقُ الطَّالَقَانِيُّ: قِيلَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إنَّ هَذَا الْكِتَابَ وَضَعَهُ إبْلِيسُ، قَالَ: إبْلِيسُ مِنْ الْأَبَالِسَةِ، وَقَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: فِي كِتَابِ الْحِيَلِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَعِشْرُونَ أَوْ ثَلَاثُونَ مَسْأَلَةً كُلُّهَا كُفْرٌ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيّ: قَالَ شَرِيكٌ يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَاضِي الْكُوفَةِ وَذُكِرَ لَهُ كِتَابُ الْحِيَلِ، فَقَالَ: مَنْ يُخَادِعْ اللَّهَ يَخْدَعْهُ، وَقَالَ حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ: يَنْبَغِي أَنْ يَكْتُبَ عَلَيْهِ كِتَابُ الْفُجُورِ، وَقَالَ إسْمَاعِيلُ بْنُ حَمَّادٍ: قَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مَعْنٍ يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَاضِي الْكُوفَةِ: كِتَابُكُمْ هَذَا الَّذِي كَتَبْتُمُوهُ فِي الْحِيَلِ كِتَابُ الْفُجُورِ، وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ: سَمِعْت أَيُّوبَ يَقُولُ: وَيْلَهُمْ، مَنْ يُخْدَعُونَ؟ يَعْنِي أَصْحَابَ الْحِيَلِ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ: سَمِعْتُ يَزِيدَ بْنَ هَارُونَ يَقُولُ: لَقَدْ أَفْتَى أَصْحَابُ الْحِيَلِ بِشَيْءٍ لَوْ أَفْتَى بِهِ الْيَهُودِيُّ وَالنَّصْرَانِيُّ كَانَ قَبِيحًا، فَقَالَ: إنِّي حَلَفْتُ أَنِّي لَا أُطَلِّقُ امْرَأَتِي بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ، وَإِنَّهُمْ قَدْ بَذَلُوا لِي مَالًا كَثِيرًا، فَقَالَ لَهُ: قَبِّلْ أُمَّهَا، فَقَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ: وَيْلَهُ، يَأْمُرُهُ أَنْ يُقَبِّلَ امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً؟ وَقَالَ حُبَيْشُ بْنُ مُبَشِّرٍ: سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يَعْنِي الْإِمَامَ أَحْمَدَ عَنْ الرَّجُلِ يَشْتَرِي جَارِيَةً ثُمَّ يُعْتِقُهَا مِنْ يَوْمِهِ وَيَتَزَوَّجُهَا، أَيَطَؤُهَا مِنْ يَوْمِهِ؟ فَقَالَ: كَيْفَ يَطَؤُهَا مِنْ يَوْمِهِ وَقَدْ وَطِئَهَا ذَلِكَ بِالْأَمْسِ؟ هَذَا مِنْ طَرِيقِ الْحِيلَةِ، وَغَضِبَ، وَقَالَ: هَذَا أَخْبَثُ قَوْلٍ، وَقَالَ رَجُلٌ لِلْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ: يَا أَبَا عَلِيٍّ اسْتَفْتَيْت رَجُلًا فِي يَمِينٍ حَلَفَتْ بِهَا فَقَالَ لِي: إنْ فَعَلْتَ كَذَا حَنِثْتَ، وَأَنَا أَحْتَالُ لَك حَتَّى تَفْعَلَ وَلَا تَحْنَثَ، فَقَالَ لَهُ الْفُضَيْلُ: تَعْرِفُ الرَّجُلَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: ارْجِعْ إلَيْهِ فَاسْتَثْبِتْهُ فَإِنِّي أَحْسَبُهُ شَيْطَانًا شُبِّهَ لَك فِي صُورَةِ إنْسَانٍ.

وَإِنَّمَا قَالَ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةُ وَأَمْثَالُهُمْ هَذَا الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْحِيَلِ لِأَنَّ فِيهَا الِاحْتِيَالَ عَلَى تَأْخِيرِ صَوْمِ رَمَضَانَ، وَإِسْقَاطَ فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الْحَجِّ وَالزَّكَاةِ، وَإِسْقَاطَ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ، وَاسْتِحْلَالَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ مِنْ الرِّبَا وَالزِّنَا، وَأَخْذَ أَمْوَالِ النَّاسِ وَسَفْكَ دِمَائِهِمْ،

ص: 140

وَفَسْخَ الْعُقُودِ اللَّازِمَةِ، وَالْكَذِبَ وَشَهَادَةَ الزُّورِ وَإِبَاحَةَ الْكُفْرِ، وَهَذِهِ الْحِيَلُ دَائِرَةٌ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تُنْسَبَ هَذِهِ الْحِيَلُ إلَى أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ، وَمَنْ نَسَبَهَا إلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ فَهُوَ جَاهِلٌ بِأُصُولِهِمْ وَمَقَادِيرِهِمْ وَمَنْزِلَتِهِمْ مِنْ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ هَذِهِ الْحِيَلِ قَدْ تَنْفُذُ عَلَى أُصُولِ إمَامٍ بِحَيْثُ إذَا فَعَلَهَا الْمُتَحَيِّلُ نَفَذَ حُكْمُهَا عِنْدَهُ، وَلَكِنَّ هَذَا أَمْرٌ غَيْرُ الْإِذْنِ فِيهَا وَإِبَاحَتِهَا وَتَعْلِيمِهَا فَإِنَّ إبَاحَتَهَا شَيْءٌ وَنُفُوذَهَا إذَا فُعِلَتْ شَيْءٌ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْفَقِيهِ وَالْمُفْتِي لَا يُبْطِلُهَا أَنْ يُبِيحَهَا وَيَأْذَنَ فِيهَا، وَكَثِيرٌ مِنْ الْعُقُودِ يُحَرِّمُهَا الْفَقِيهُ ثُمَّ يُنْفِذُهَا وَلَا يُبْطِلُهَا، وَلَكِنَّ الَّذِي نَدِينُ اللَّهَ بِهِ تَحْرِيمُهَا وَإِبْطَالُهَا وَعَدَمُ تَنْفِيذِهَا، وَمُقَابَلَةُ أَرْبَابِهَا بِنَقِيضِ مَقْصُودِهِمْ مُوَافَقَةً لِشَرْعِ اللَّهِ تَعَالَى وَحِكْمَتِهِ وَقُدْرَتِهِ.

[لَا يَجُوزُ أَنْ يُنْسَبَ الْقَوْلُ بِجَوَازِ الْحِيَلِ إلَى إمَامٍ] : وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذِهِ الْحِيَلَ لَا تَجُوزُ أَنْ تُنْسَبَ إلَى إمَامٍ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ قَدْحٌ فِي إمَامَتِهِ، وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ الْقَدْحَ فِي الْأُمَّةِ حَيْثُ ائْتَمَّتْ بِمَنْ لَا يَصْلُحُ لِلْإِمَامَةِ، وَهَذَا غَيْرُ جَائِزٍ، وَلَوْ فَرَضَ أَنَّهُ حُكِيَ عَنْ وَاحِدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ بَعْضُ هَذِهِ الْحِيَلِ الْمُجْمَعِ عَلَى تَحْرِيمِهَا فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ الْحِكَايَةُ بَاطِلَةً، أَوْ يَكُونَ الْحَاكِي لَمْ يَضْبِطْ لَفْظَهُ فَاشْتَبَهَ عَلَيْهِ فَتْوَاهُ بِنُفُوذِهَا بِفَتْوَاهُ بِإِبَاحَتِهَا مَعَ بُعْدِ مَا بَيْنَهُمَا، وَلَوْ فُرِضَ وُقُوعُهَا مِنْهُ فِي وَقْتٍ مَا فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَحْمِلْ الْأَمْرَ عَلَى ذَلِكَ لَزِمَ الْقَدْحُ فِي الْإِمَامِ وَفِي جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ الْمُؤْتَمِّينَ بِهِ، وَكِلَاهُمَا غَيْرُ جَائِزٍ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْأُمَّةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْإِذْنُ فِي التَّكَلُّمِ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ لِغَرَضٍ مِنْ الْأَغْرَاضِ، إلَّا الْمُكْرَهَ إذَا اطْمَأَنَّ قَلْبُهُ بِالْإِيمَانِ.

ثُمَّ إنَّ هَذَا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ أَشَدُّ؛ فَإِنَّهُمْ لَا يَأْذَنُونَ فِي كَلِمَاتٍ وَأَفْعَالٍ دُونَ ذَلِكَ بِكَثِيرٍ، وَيَقُولُونَ: إنَّهَا كُفْرٌ، حَتَّى قَالُوا: لَوْ قَالَ الْكَافِرُ لِرَجُلٍ: " إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُسْلِمَ " فَقَالَ لَهُ: " اصْبِرْ سَاعَةً " فَقَدْ كَفَرَ، فَكَيْفَ بِالْأَمْرِ بِإِنْشَاءِ الْكُفْرِ؟ وَقَالُوا: لَوْ قَالَ: " مُسَيْجِدٌ " أَوْ صَغَّرَ لَفْظَ الْمُصْحَفِ كَفَرَ.

فَعَلِمْت أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُحْتَالِينَ الَّذِينَ يُفْتُونَ بِالْحِيَلِ الَّتِي هِيَ كُفْرٌ أَوْ حَرَامٌ لَيْسُوا مُقْتَدِينَ بِمَذْهَبِ أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ، وَأَنَّ الْأَئِمَّةَ أَعْلَمُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَدِينِهِ وَأَتْقَى لَهُ مِنْ أَنْ يُفْتُوا بِهَذِهِ الْحِيَلِ، وَقَدْ قَالَ أَبُو دَاوُد فِي مَسَائِلِهِ: سَمِعْت أَحْمَدَ وَذَكَرَ أَصْحَابَ الْحِيَلِ: يَحْتَالُونَ لِنَقْضِ سُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ الصَّانِعِ: هَذِهِ الْحِيَلُ الَّتِي وَضَعُوهَا عَمَدُوا إلَى السُّنَنِ وَاحْتَالُوا لِنَقْضِهَا، وَالشَّيْءُ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ إنَّهُ حَرَامٌ احْتَالُوا فِيهِ حَتَّى أَحَلُّوهُ، قَالُوا: الرَّهْنُ لَا يَحِلُّ أَنْ يُسْتَعْمَلَ، ثُمَّ قَالُوا: يَحْتَالُ لَهُ حَتَّى يُسْتَعْمَلَ، فَكَيْفَ يَحِلُّ بِحِيلَةٍ مَا حَرَّمَ

ص: 141

اللَّهُ وَرَسُولُهُ؟ وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ فَأَذَابُوهَا فَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا» أَذَابُوهَا حَتَّى أَزَالُوا عَنْهَا اسْمُ الشَّحْمِ، وَقَدْ «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» .

وَقَالَ فِي رِوَايَةِ ابْنِهِ صَالِحٍ: عَجِبْت مِمَّا يَقُولُ أَرْبَابُ الْحِيَلِ فِي الْحِيَلِ فِي الْأَيْمَانِ، يُبْطِلُونَ الْأَيْمَانَ بِالْحِيَلِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل: 91] وَقَالَ: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان: 7] وَكَانَ ابْنُ عُيَيْنَةَ يَشْتَدُّ عَلَيْهِ أَمْرُ هَذِهِ الْحِيَلِ، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ الْمَيْمُونِيِّ وَقَدْ سَأَلَهُ: إنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي رَجُلٍ حَلَفَ عَلَى امْرَأَتِهِ وَهِيَ عَلَى دَرَجَةٍ إنْ صَعِدْت أَوْ نَزَلْت فَأَنْتِ طَالِقٌ، " قَالُوا: تُحْمَلُ حَمْلًا، فَقَالَ: هَذَا هُوَ الْحِنْثُ بِعَيْنِهِ، لَيْسَتْ هَذِهِ حِيلَةٌ، هَذَا هُوَ الْحِنْثُ، وَقَالُوا: إذَا حَلَفَ لَا يَطَأُ بِسَاطًا يَطَأُ بِسَاطَيْنِ، وَإِذَا حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارًا يُحْمَلُ، فَأَقْبَلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يَعْجَبُ، وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قَالَ لَهُ رَجُلٌ: فِي كِتَابِ الْحِيَلِ إذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ الْأَمَةَ فَأَرَادَ أَنْ يُقْنِعَ بِهَا يُعْتِقُهَا ثُمَّ يَتَزَوَّجُهَا، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: سُبْحَانَ اللَّهِ، مَا أَعْجَبَ هَذَا، أَبْطَلُوا كِتَابَ اللَّهِ وَالسُّنَّةَ، جَعَلَ اللَّهُ عَلَى الْحَرَائِرِ الْعِدَّةَ مِنْ أَجْلِ الْحَمْلِ، فَلَيْسَ مِنْ امْرَأَةٍ تَطْلُقُ أَوْ يَمُوتُ زَوْجُهَا إلَّا تَعْتَدُّ مِنْ أَجْلِ الْحَمْلِ، فَفَرْجٌ يُوطَأُ يَشْتَرِيه ثُمَّ يُعْتِقُهُ عَلَى الْمَكَانِ فَيَتَزَوَّجُهَا فَيَطَؤُهَا.

فَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا كَيْفَ يَصْنَعُ؟ يَطَؤُهَا رَجُلٌ الْيَوْمَ وَيَطَؤُهَا الْآخَرُ غَدًا؟ هَذَا نَقْضٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«لَا تُوطَأُ الْحَامِلُ حَتَّى تَضَعَ، وَلَا غَيْرُ الْحَامِلِ حَتَّى تَحِيضَ» وَلَا يَدْرِي [هَلْ] هِيَ حَامِلٌ أَمْ لَا] سُبْحَانَ اللَّهِ، مَا أَسْمَجَ هَذَا، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْهَيْثَمِ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَعْنِي أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ - يَحْكِي عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: شَهِدْت هِشَامًا وَهُوَ يُقْرِئُ كِتَابًا، فَانْتَهَى بِيَدِهِ إلَى مَسْأَلَةٍ فَجَازَهَا، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: دَعُوهُ، وَكَرِهَ مَكَانِي، فَتَطَلَّعْت فِي الْكِتَابِ، فَإِذَا فِيهِ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا لَفَّ عَلَى ذَكَرِهِ حَرِيرَةً فِي شَهْرِ رَمَضَانَ ثُمَّ جَامَعَ امْرَأَتَهُ نَهَارًا فَلَا قَضَاء عَلَيْهِ وَلَا كَفَّارَةَ.

فَصْلٌ

[مِنْ الْأَدِلَّةِ عَلَى تَحْرِيمِ الْحِيَلِ] : وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ الْحِيَلِ وَتَحْرِيمِهَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا أَوْجَبَ الْوَاجِبَاتِ وَحَرَّمَ الْمُحَرَّمَاتِ لِمَا تَتَضَمَّنُ مِنْ مَصَالِحِ عِبَادِهِ فِي مَعَاشِهِمْ وَمَعَادِهِمْ؛ فَالشَّرِيعَةُ لِقُلُوبِهِمْ بِمَنْزِلَةِ الْغِذَاءِ الَّذِي لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْهُ وَالدَّوَاءِ الَّذِي لَا يَنْدَفِعُ الدَّاءُ إلَّا بِهِ، فَإِذَا احْتَالَ الْعَبْدُ عَلَى تَحْلِيلِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَإِسْقَاطِ مَا فَرَضَ اللَّهُ وَتَعْطِيلِ مَا شَرَعَ اللَّهُ كَانَ سَاعِيًا فِي دِينِ اللَّهِ بِالْفَسَادِ مِنْ وُجُوهٍ:

ص: 142

أَحَدُهَا: إبْطَالُهَا مَا فِي الْأَمْرِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ مِنْ حِكْمَةِ الشَّارِعِ وَنَقْضِ حِكْمَتِهِ فِيهِ وَمُنَاقَضَتِهِ لَهُ.

وَالثَّانِي: أَنَّ الْأَمْرَ الْمُحْتَالَ بِهِ لَيْسَ لَهُ عِنْدَهُ حَقِيقَةً، وَلَا هُوَ مَقْصُودُهُ، بَلْ هُوَ ظَاهِرُ الْمَشْرُوعِ؛ فَالْمَشْرُوعُ لَيْسَ مَقْصُودًا لَهُ، وَالْمَقْصُودُ لَهُ هُوَ الْمُحَرَّمُ نَفْسُهُ، وَهَذَا ظَاهِرٌ كُلَّ الظُّهُورِ فِيمَا يَقْصِدُ الشَّارِعُ؛ فَإِنَّ الْمُرَابِيَ مَثَلًا مَقْصُودُهُ الرِّبَا الْمُحَرَّمُ، وَصُورَةُ الْبَيْعِ الْجَائِزِ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ لَهُ، وَكَذَلِكَ الْمُتَحَيِّلُ عَلَى إسْقَاطِ الْفَرَائِضِ بِتَمْلِيكِ مَالِهِ لِمَنْ لَا يَهَبُهُ دِرْهَمًا وَاحِدًا حَقِيقَةُ مَقْصُودِهِ إسْقَاطُ الْفَرْضِ، وَظَاهِرُ الْهِبَةِ الْمَشْرُوعَةِ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ لَهُ.

الثَّالِثُ: نِسْبَتُهُ ذَلِكَ إلَى الشَّارِعِ الْحَكِيمِ وَإِلَى شَرِيعَتِهِ الَّتِي هِيَ غِذَاءُ الْقُلُوبِ وَدَوَاؤُهَا وَشِفَاؤُهَا، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا تَحَيَّلَ حَتَّى قَلَبَ الْغِذَاءَ وَالدَّوَاءَ إلَى ضِدِّهِ، فَجَعَلَ الْغِذَاءَ دَوَاءً وَالدَّوَاءَ غِذَاءً، إمَّا بِتَغْيِيرِ اسْمِهِ أَوْ صُورَتِهِ مَعَ بَقَاءِ حَقِيقَتِهِ؛ لَأَهْلَكَ النَّاسَ، فَمَنْ عَمَدَ إلَى الْأَدْوِيَةِ الْمُسَهِّلَةِ فَغَيَّرَ صُورَتَهَا أَوْ أَسْمَاءَهَا وَجَعَلَهَا غِذَاءً لِلنَّاسِ، أَوْ عَمَدَ إلَى السَّمُومِ الْقَاتِلَةِ فَغَيَّرَ أَسْمَاءَهَا وَصُورَتَهَا وَجَعَلَهَا أَدْوِيَةً، أَوْ إلَى الْأَغْذِيَةِ الصَّالِحَةِ فَغَيَّرَ أَسْمَاءَهَا وَصُوَرَهَا؛ كَانَ سَاعِيًا بِالْفَسَادِ فِي الطَّبِيعَةِ، كَمَا أَنَّ هَذَا سَاعٍ بِالْفَسَادِ فِي الشَّرِيعَةِ؛ فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ لِلْقُلُوبِ بِمَنْزِلَةِ الْغِذَاءِ وَالدَّوَاءِ لِلْأَبْدَانِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ بِحَقَائِقِهَا لَا بِأَسْمَائِهَا وَصُوَرِهَا.

وَبَيَانُ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْإِشَارَةِ أَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى حَرَّمَ الرِّبَا وَالزِّنَا وَتَوَابِعَهُمَا وَوَسَائِلَهُمَا؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْفَسَادِ، وَأَبَاحَ الْبَيْعَ وَالنِّكَاحَ وَتَوَابِعَهُمَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ مَحْضَةٌ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ فَرْقٌ فِي الْحَقِيقَةِ، وَإِلَّا لَكَانَ الْبَيْعُ مِثْلَ الرِّبَا وَالنِّكَاحُ مِثْلَ الزِّنَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْفَرْقَ فِي الصُّورَةِ دُونَ الْحَقِيقَةِ مُلْغَى عِنْدَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي فِطْرِ عِبَادِهِ؛ فَإِنَّ الِاعْتِبَارَ بِالْمَقَاصِدِ وَالْمَعَانِي فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، فَإِنَّ الْأَلْفَاظَ إذَا اخْتَلَفَتْ وَمَعْنَاهَا وَاحِدٌ كَانَ حُكْمُهَا وَاحِدًا، فَإِذَا اتَّفَقَتْ الْأَلْفَاظُ وَاخْتَلَفَتْ الْمَعَانِي كَانَ حُكْمُهَا مُخْتَلِفًا، وَكَذَلِكَ الْأَعْمَالُ إذَا اخْتَلَفَتْ صُوَرُهَا وَاتَّفَقَتْ مَقَاصِدُهَا، وَعَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ يُبْنَى الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ، وَمَنْ تَأَمَّلَ الشَّرِيعَةَ عَلِمَ بِالِاضْطِرَارِ صِحَّةَ هَذَا؛ فَالْأَمْرُ الْمُحْتَالُ بِهِ عَلَى الْمُحَرَّمِ صُورَتُهُ صُورَةُ الْحَلَالِ، وَحَقِيقَتُهُ وَمَقْصُودُهُ حَقِيقَةُ الْحَرَامِ؛ فَلَا يَكُونُ حَلَالًا فَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْحَلَالِ فَيَقَعُ بَاطِلًا، وَالْأَمْرُ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ حَقِيقَتُهُ حَقِيقَةُ الْأَمْرِ الْحَرَامِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ صُورَتُهُ صُورَتَهُ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ حَرَامًا لِمُشَارَكَتِهِ لِلْحَرَامِ فِي الْحَقِيقَةِ.

ص: 143

وَيَا لِلَّهِ الْعَجَبُ، أَيْنَ الْقِيَاسُ وَالنَّظَرُ فِي الْمَعَانِي الْمُؤَثِّرَةِ وَغَيْرِ الْمُؤَثِّرَةِ فَرْقًا وَجَمْعًا؟ وَالْكَلَامُ فِي الْمُنَاسَبَاتِ وَرِعَايَةِ الْمَصَالِحِ وَتَحْقِيقِ الْمَنَاطِ وَتَنْقِيحِهِ وَتَخْرِيجِهِ وَإِبْطَالِ قَوْلِ مَنْ عَلَّقَ الْأَحْكَامَ بِالْأَوْصَافِ الطَّرْدِيَّةِ الَّتِي لَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْحُكْمِ، فَكَيْفَ يُعَلِّقُهُ بِالْأَوْصَافِ الْمُنَاسِبَةِ لِضِدِّ الْحُكْمِ؟ وَكَيْفَ يُعَلِّقُ الْأَحْكَامَ عَلَى مُجَرَّدِ الْأَلْفَاظِ وَالصُّوَرِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي لَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهَا وَيَدَعُ الْمَعَانِيَ الْمُنَاسِبَةَ الْمُفْضِيَةَ لَهَا الَّتِي ارْتِبَاطُهَا بِهَا كَارْتِبَاطِ الْعِلَلِ الْعَقْلِيَّةِ بِمَعْلُولَاتِهَا؟ وَالْعَجَبُ مِنْهُ كَيْفَ يُنْكِرُ مَعَ ذَلِكَ عَلَى أَهْلِ الظَّاهِرِ الْمُتَمَسِّكِينَ بِظَوَاهِرِ كِتَابِ رَبِّهِمْ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِمْ حَيْثُ لَا يَقُومُ دَلِيلٌ يُخَالِفُ الظَّاهِرَ ثُمَّ يَتَمَسَّكُ بِظَوَاهِرِ أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ وَأَقْوَالِهِمْ حَيْثُ يَعْلَمُ أَنَّ الْبَاطِنَ وَالْقَصْدَ بِخِلَافِ ذَلِكَ؟ وَيَعْلَمُ لَوْ تَأَمَّلَ حَقَّ التَّأَمُّلِ أَنَّ مَقْصُودَ الشَّارِعِ غَيْرُ ذَلِكَ، كَمَا يَقْطَعُ بِأَنَّ مَقْصُودَهُ مِنْ إيجَابِ الزَّكَاةِ سَدُّ خَلَّةِ الْمَسَاكِينِ وَذَوِي الْحَاجَاتِ وَحُصُولُ الْمَصَالِحِ الَّتِي أَرَادَهَا بِتَخْصِيصِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ مِنْ حِمَايَةِ الْمُسْلِمِينَ وَالذَّبِّ عَنْ حَوْزَةِ الْإِسْلَامِ، فَإِذَا أَسْقَطَهَا بِالتَّحَيُّلِ فَقَدْ خَالَفَ مَقْصُودَ الشَّارِعِ وَحَصَلَ مَقْصُودُ الْمُتَحَيِّلِ، وَالْوَاجِبُ الَّذِي لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ أَنْ يَحْصُلَ مَقْصُودُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَيَبْطُلَ مَقَاصِدَ الْمُتَحَيِّلِينَ الْمُخَادِعِينَ، وَكَذَلِكَ يُعْلَمُ قَطْعًا أَنَّهُ

[إنَّمَا] حَرَّمَ الرِّبَا لِمَنْ فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ بِالْمَحَاوِيجِ، وَأَنَّ مَقْصُودَهُ إزَالَةُ هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ؛ فَإِذَا أُبِيحَ التَّحَيُّلُ عَلَى ذَلِكَ كَانَ سَعْيًا فِي إبْطَالِ مَقْصُودِ الشَّارِعِ وَتَحْصِيلًا لِمَقْصُودِ الْمُرَابِي، وَهَذِهِ سَبِيلُ جَمِيعِ الْحِيَلِ الْمُتَوَسَّلِ بِهَا إلَى تَحْلِيلِ الْحَرَامِ وَإِسْقَاطِ الْوَاجِبِ، وَبِهَذِهِ الطَّرِيقِ تَبْطُلُ جَمِيعًا، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُتَحَيِّلَ لِإِسْقَاطِ الِاسْتِبْرَاءِ مُبْطِلٌ لِمَقْصُودِ الشَّارِعِ مِنْ حِكْمَةِ الِاسْتِبْرَاءِ وَمَصْلَحَتِهِ؛ فَالْمُعِينُ [لَهُ] عَلَى ذَلِكَ مُفَوِّتٌ لِمَقْصُودِ الشَّارِعِ مُحَصِّلٌ لِمَقْصُودِ الْمُتَحَيِّلِ، وَكَذَلِكَ التَّحَيُّلُ عَلَى إبْطَالِ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي مَلَّكَهُمْ إيَّاهَا الشَّارِعُ وَجَعَلَهُمْ أَحَقَّ بِهَا مِنْ غَيْرِهِمْ إزَالَةً لِضَرَرِهِمْ وَتَحْصِيلًا لِمَصَالِحِهِمْ؛ فَلَوْ أَبَاحَ التَّحَيُّلَ لِإِسْقَاطِهَا لَكَانَ عَدَمُ إثْبَاتِهَا لِلْمُسْتَحِقِّينَ أَوْلَى وَأَقَلَّ ضَرَرًا مِنْ أَنْ يُثْبِتَهَا وَيُوصِيَ بِهَا وَيُبَالِغَ فِي تَحْصِيلِهَا ثُمَّ يُشَرِّعَ التَّحَيُّلَ لِإِبْطَالِهَا وَإِسْقَاطِهَا، وَهَلْ ذَلِكَ إلَّا بِمَنْزِلَةِ مَنْ بَنَى بِنَاءً مَشِيدًا وَبَالَغَ فِي إحْكَامِهِ وَإِتْقَانِهِ، ثُمَّ عَادَ فَنَقَضَهُ، وَبِمَنْزِلَةِ مَنْ أَمَرَ بِإِكْرَامِ رَجُلٍ وَالْمُبَالَغَةِ فِي بِرِّهِ وَالْإِحْسَانِ إلَيْهِ وَأَدَاءِ حُقُوقِهِ، ثُمَّ أَبَاحَ لِمَنْ أَمَرَهُ أَنْ يَتَحَيَّلَ بِأَنْوَاعِ الْحِيَلِ لِإِهَانَتِهِ وَتَرْكِ حُقُوقِهِ، وَلِهَذَا يُسِيءُ الْكُفَّارُ وَالْمُنَافِقُونَ وَمَنْ فِي قُلُوبِهِمْ الْمَرَضُ الظَّنَّ بِالْإِسْلَامِ وَالشَّرْعِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ حَيْثُ ظَنُّوا أَنَّ هَذِهِ الْحِيَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَعَلِمُوا مُنَاقَضَتَهَا لِلْمَصَالِحِ مُنَاقَضَةً ظَاهِرَةً وَمُنَافَاتَهَا لِحِكْمَةِ الرَّبِّ وَعَدْلِهِ وَرَحْمَتِهِ وَحِمَايَتِهِ وَصِيَانَتِهِ لِعِبَادِهِ؛ فَإِنَّهُ نَهَاهُمْ عَمَّا نَهَاهُمْ عَنْهُ حَمِيَّةً وَصِيَانَةً، فَكَيْف يُبِيحُ لَهُمْ الْحِيَلَ عَلَى مَا حَمَاهُمْ عَنْهُ؟ وَكَيْفَ يُبِيحُ لَهُمْ التَّحَيُّلَ عَلَى إسْقَاطِ مَا فَرَضَهُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى إضَاعَةِ الْحُقُوقِ الَّتِي أَحَقَّهَا

ص: 144

عَلَيْهِمْ لِبَعْضِهِمْ بَعْضًا لِقِيَامِ مَصَالِحِ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ الَّتِي لَا تَتِمُّ إلَّا بِمَا شَرَعَهُ؟

فَهَذِهِ الشَّرِيعَةُ شَرَعَهَا الَّذِي عَلِمَ مَا فِي ضِمْنِهَا مِنْ الْمَصَالِحِ وَالْحِكَمِ وَالْغَايَاتِ الْمَحْمُودَةِ وَمَا فِي خِلَافِهَا مِنْ ضِدِّ ذَلِكَ، وَهَذَا أَمْرٌ ثَابِتٌ لَهَا لِذَاتِهَا وَبَائِنٌ مِنْ أَمْرِ الرَّبِّ تبارك وتعالى بِهَا وَنَهْيِهِ عَنْهَا، فَالْمَأْمُورُ بِهِ مَصْلَحَةٌ وَحَسَنٌ فِي نَفْسِهِ، وَاكْتَسَى بِأَمْرِ الرَّبِّ تَعَالَى مَصْلَحَةً وَحُسْنًا آخَرَ، فَازْدَادَ حُسْنًا بِالْأَمْرِ وَمَحَبَّةِ الرَّبِّ وَطَلَبِهِ لَهُ إلَى حُسْنِهِ فِي نَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ مَفْسَدَةٌ وَقَبِيحٌ فِي نَفْسِهِ، وَازْدَادَ بِنَهْيِ الرَّبِّ تَعَالَى عَنْهُ وَبُغْضِهِ لَهُ وَكَرَاهِيَتِهِ لَهُ قُبْحًا إلَى قُبْحِهِ، وَمَا كَانَ هَكَذَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْقَلِبَ حَسَنُهُ قُبْحًا بِتَغَيُّرِ الِاسْمِ وَالصُّورَةِ مَعَ بَقَاءِ الْمَاهِيَّةِ وَالْحَقِيقَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّارِعَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ حَرَّمَ بَيْعَ الثِّمَارِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا لِمَا فِيهِ مِنْ مَفْسَدَةِ التَّشَاحُنِ وَالتَّشَاجُرِ، وَلِمَا يُؤَدِّي إلَيْهِ - إنْ مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ - مِنْ أَكْلِ مَالِ أَخِيهِ بِغَيْرِ حَقٍّ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا، وَمَعْلُومٌ قَطْعًا أَنَّ هَذِهِ الْمَفْسَدَةَ لَا تَزُولُ بِالتَّحَيُّلِ عَلَى الْبَيْعِ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ؛ فَإِنَّ الْحِيلَةَ لَا تُؤَثِّرُ فِي زَوَالِ هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ، وَلَا فِي تَخْفِيفِهَا، وَلَا فِي زَوَالِ ذَرَّةٍ مِنْهَا؛ فَمَفْسَدَةُ هَذَا الْعَقْدِ أَمْرٌ ثَابِتٌ لَهُ لِنَفْسِهِ، فَالْحِيلَةُ إنْ لَمْ تَزِدْهُ فَسَادًا لَمْ تُزِلْ فَسَادًا، وَكَذَلِكَ شَرَعَ اللَّهُ تَعَالَى الِاسْتِبْرَاءَ لِإِزَالَةِ مَفْسَدَةِ اخْتِلَاطِ الْمِيَاهِ وَفَسَادِ الْأَنْسَابِ وَسَقْيِ الْإِنْسَانِ بِمَائِهِ زَرْعَ غَيْرِهِ، وَفِي ذَلِكَ مِنْ الْمَفَاسِدِ مَا تُوجِبُ الْعُقُولُ تَحْرِيمَهُ لَوْ لَمْ تَأْتِ بِهِ شَرِيعَةٌ، وَلِهَذَا فَطَرَ اللَّهُ النَّاسَ عَلَى اسْتِهْجَانِهِ وَاسْتِقْبَاحِهِ، وَيَرَوْنَ مِنْ أَعْظَمِ الْهُجَنِ أَنْ يَقُومَ هَذَا عَنْ الْمَرْأَةِ وَيُخْلِفَهُ الْآخَرُ عَلَيْهَا، وَلِهَذَا حُرِّمَ نِكَاحُ الزَّانِيَةِ وَأَوْجَبَ الْعِدَدَ وَالِاسْتِبْرَاءَ، وَمِنْ الْمَعْلُومِ قَطْعًا أَنَّ هَذِهِ الْمَفْسَدَةَ لَا تَزُولُ بِالْحِيلَةِ عَلَى إسْقَاطِ الِاسْتِبْرَاءِ، وَلَا تَخِفُّ، وَكَذَلِكَ شُرِعَ الْحَجُّ إلَى بَيْتِهِ لِأَنَّهُ قِوَامٌ لِلنَّاسِ فِي مَعَاشِهِمْ وَمَعَادِهِمْ، وَلَوْ عُطِّلَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ عَامًا وَاحِدًا عَنْ الْحَجِّ لَمَا أُمْهِلَ النَّاسُ، وَلَعُوجِلُوا بِالْعُقُوبَةِ، وَتَوَعَّدَ مَنْ مَلَكَ الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ وَلَمْ يَحُجَّ بِالْمَوْتِ عَلَى غَيْرِ الْإِسْلَامِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّحَيُّلَ لِإِسْقَاطِهِ لَا يُزِيلُ مَفْسَدَةَ التَّرْكِ، وَلَوْ أَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ تَحَيَّلُوا لِتَرْكِ الْحَجِّ وَالزَّكَاةِ لَبَطَلَتْ فَائِدَةُ هَذَيْنِ الْفَرْضَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ، وَارْتَفَعَ مِنْ الْأَرْضِ حُكْمُهُمَا بِالْكُلِّيَّةِ، وَقِيلَ لِلنَّاسِ: إنْ شِئْتُمْ كُلُّكُمْ أَنْ تَتَحَيَّلُوا لِإِسْقَاطِهِمَا فَافْعَلُوا، فَلْيَتَصَوَّرْ الْعَبْدُ مَا فِي إسْقَاطِهِمَا مِنْ الْفَسَادِ الْمُضَادِّ لِشَرْعِ اللَّهِ وَإِحْسَانِهِ وَحِكْمَتِهِ.

وَكَذَلِكَ الْحُدُودُ جَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى زَوَاجِرَ لِلنُّفُوسِ وَعُقُوبَةً وَنَكَالًا وَتَطْهِيرًا، فَشَرْعُهَا مِنْ أَعْظَمِ مَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ، بَلْ لَا تَتِمُّ سِيَاسَةُ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الْأَرْضِ إلَّا بِزَوَاجِرَ وَعُقُوبَاتٍ لِأَرْبَابِ الْجَرَائِمِ، وَمَعْلُومٌ مَا فِي التَّحَيُّلِ لِإِسْقَاطِهَا مِنْ مُنَافَاةِ هَذَا الْغَرَضِ وَإِبْطَالِهِ وَتَسْلِيطِ النُّفُوسِ الشِّرِّيرَةِ عَلَى تِلْكَ الْجِنَايَاتِ إذَا عَلِمْت أَنَّ لَهَا طَرِيقًا إلَى إبْطَالِ عُقُوبَاتِهَا فِيهَا، وَأَنَّهَا تُسْقِطُ تِلْكَ الْعُقُوبَاتِ بِأَدْنَى الْحِيَلِ؛ فَإِنَّهُ لَا فَرْقَ عِنْدَهَا أَلْبَتَّةَ بَيْنَ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّهُ لَا عُقُوبَةَ عَلَيْهَا فِيهَا وَبَيْنَ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ

ص: 145

لَهَا عُقُوبَةً وَأَنَّ لَهَا إسْقَاطَهَا بِأَدْنَى الْحِيَلِ، وَلِهَذَا احْتَاجَ الْبَلَدُ الَّذِي تَظْهَرُ فِيهِ هَذِهِ الْحِيَلُ إلَى سِيَاسَةِ وَالٍ أَوْ أَمِيرٍ يَأْخُذُ عَلَى يَدِ الْجُنَاةِ وَيَكُفُّ شَرَّهُمْ عَنْ النَّاسِ إذَا لَمْ يُمَكَّنْ أَرْبَابُ الْحِيَلِ أَنْ يَقُومُوا بِذَلِكَ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ الَّتِي قَامَ النَّاسُ فِيهَا بِحَقَائِقِ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم؛ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَحْتَاجُوا مَعَهَا إلَى سِيَاسَةِ أَمِيرٍ وَلَا وَالٍ، كَمَا كَانَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُحَدُّونَ بِالرَّائِحَةِ وَبِالْقَيْءِ وَبِالْحَبَلِ وَبِظُهُورِ الْمَسْرُوقِ عِنْدَ السَّارِقِ، وَيَقْتُلُونَ فِي الْقَسَامَةِ، وَيُعَاقِبُونَ أَهْلَ التُّهَمِ، وَلَا يَقْبَلُونَ الدَّعْوَى الَّتِي تُكَذِّبُهَا الْعَادَةُ وَالْعُرْفُ، وَلَا يَرَوْنَ الْحِيَلَ فِي شَيْءٍ مِنْ الدِّينِ وَيُعَاقِبُونَ أَرْبَابَهَا، وَيَحْبِسُونَ فِي التُّهَمِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ حَالُ الْمُتَّهَمِ، فَإِنْ ظَهَرَتْ بَرَاءَتُهُ خَلَّوْا سَبِيلَهُ، وَإِنْ ظَهَرَ فُجُورُهُ قَرَّرُوهُ بِالْعُقُوبَةِ اقْتِدَاءً بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي عُقُوبَةِ الْمُتَّهَمِينَ وَحَبْسِهِمْ؛ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَبَسَ فِي تُهْمَةٍ وَعَاقَبَ فِي تُهْمَةٍ، كَمَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ ذِكْرِ ذَلِكَ عَنْهُ وَعَنْ أَصْحَابِهِ مَا فِيهِ شِفَاءٌ وَكِفَايَةٌ وَبَيَانٌ لِإِغْنَاءِ مَا جَاءَ بِهِ عَنْ كُلِّ وَالٍ وَسَائِسٍ، وَأَنَّ شَرِيعَتَهُ الَّتِي هِيَ شَرِيعَتُهُ لَا يُحْتَاجُ مَعَهَا إلَى غَيْرِهَا، وَإِنَّمَا يُحْتَاجُ إلَى غَيْرِهَا مَنْ لَمْ يُحِطْ بِهَا عِلْمًا أَوْ لَمْ يَقُمْ بِهِ عَمَلًا.

وَالْمَقْصُودُ أَنَّ مَا فِي ضِمْنِ الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ الْمَفَاسِدِ وَالْمَأْمُورَاتِ مِنْ الْمَصَالِحِ يَمْنَعُ أَنْ يُشْرَعَ إلَيْهَا التَّحَيُّلُ بِمَا يُبِيحُهَا وَيُسْقِطُهَا، وَأَنَّ ذَلِكَ مُنَاقَضَةٌ ظَاهِرَةٌ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ بَالَغَ فِي لَعْنِ الْمُحَلِّلِ لِلْمَفَاسِدِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ الَّتِي فِي التَّحْلِيلِ الَّتِي يَعْجِزُ الْبَشَرُ عَنْ الْإِحَاطَةِ بِتَفَاصِيلِهَا؛ فَالتَّحَيُّلُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا النِّكَاحِ بِتَقْدِيمِ اشْتِرَاطِ التَّحْلِيلِ عَلَيْهِ وَإِخْلَاءِ صُلْبِهِ عَنْهُ إنْ لَمْ يَزِدْ مَفْسَدَتَهُ فَإِنَّهُ لَا يُزِيلُهَا وَلَا يُخَفِّفُهَا، وَلَيْسَ تَحْرِيمُهُ وَالْمُبَالَغَةُ فِي لَعْنِ فَاعِلِهِ تَعَبُّدًا لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ، بَلْ هُوَ مَعْقُولُ الْمَعْنَى مِنْ مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ، بَلْ لَا يُمْكِنُ شَرِيعَةُ الْإِسْلَامِ وَلَا غَيْرُهَا مِنْ شَرَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ أَنْ تَأْتِيَ بِحِيلَةٍ؛ فَالتَّحَيُّلُ عَلَى وُقُوعِهِ وَصِحَّتِهِ إبْطَالٌ لِغَرَضِ الشَّارِعِ وَتَصْحِيحٌ لِغَرَضِ الْمُتَحَيِّلِ الْمُخَادِعِ.

وَكَذَلِكَ الشَّارِعُ حَرَّمَ الصَّيْدَ فِي الْإِحْرَامِ وَتَوَعَّدَ بِالِانْتِقَامِ عَلَى مَنْ عَادَ إلَيْهِ بَعْدَ التَّحْرِيمِ، لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَفْسَدَةِ الْمُوجِبَةِ لِتَحْرِيمِهِ وَانْتِقَامِ الرَّبِّ مِنْ فَاعِلِهِ، وَمَعْلُومٌ قَطْعًا أَنَّ هَذِهِ الْمَفْسَدَةَ لَا تَزُولُ بِنَصْبِ الشِّبَاكِ لَهُ قَبْلَ الْإِحْرَامِ بِلَحْظَةٍ، فَإِذَا وَقَعَ فِيهَا حَالَ الْإِحْرَامِ أَخَذَهُ بَعْدَ الْحِلِّ بِلَحْظَةٍ، فَإِبَاحَتُهُ لِمَنْ فَعَلَ هَذَا إبْطَالٌ لِغَرَضِ الشَّارِعِ الْحَكِيمِ وَتَصْحِيحٌ لِغَرَضِ الْمُخَادِعِ.

وَكَذَلِكَ إيجَابُ الشَّارِعِ الْكَفَّارَةَ عَلَى مَنْ وَطِئَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ فِيهِ مِنْ الْمَصْلَحَةِ جَبْرُ وَهْنِ الصَّوْمِ، وَزَجْرُ الْوَاطِئِ، وَتَكْفِيرُ جُرْمِهِ، وَاسْتِدْرَاكُ فَرْطِهِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْمَصَالِحِ

ص: 146

الَّتِي عَلِمَهَا مَنْ شَرَعَ الْكَفَّارَةَ وَأَحَبَّهَا وَرَضِيَهَا، فَإِبَاحَةُ التَّحَيُّلِ لِإِسْقَاطِهَا بِأَنْ يَتَعَدَّى قَبْلَ الْجِمَاعِ ثُمَّ يُجَامِعَ نَقْضٌ لِغَرَضِ الشَّارِعِ، وَإِبْطَالٌ لَهُ، وَإِعْمَالٌ لِغَرَضِ الْجَانِي الْمُتَحَيِّلِ وَتَصْحِيحٌ لَهُ، ثُمَّ إنَّ ذَلِكَ جِنَايَةٌ عَلَى حَقِّ اللَّهِ وَحَقِّ الْعَبِيدِ؛ فَهُوَ إضَاعَةٌ لِلْحَقَّيْنِ وَتَفْوِيتٌ لَهُمَا.

وَكَذَلِكَ الشَّارِعُ شَرَعَ حُدُودَ الْجَرَائِمِ الَّتِي تَتَقَاضَاهَا أَشَدَّ تَقَاضٍ لِمَا فِي إهْمَالِ عُقُوبَاتِهَا مِنْ مَفَاسِدِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ سِيَاسَةُ مَلِكٍ مَا مِنْ الْمُلُوكِ أَنْ يَخْلُوَ عَنْ عُقُوبَاتِهَا أَلْبَتَّةَ، وَلَا يَقُومُ مُلْكُهُ بِذَلِكَ، فَالْإِذْنُ فِي التَّحَيُّلِ لِإِسْقَاطِهَا بِصُورَةِ الْعَقْدِ وَغَيْرِهِ مَعَ وُجُودِ تِلْكَ الْمَفَاسِدِ بِعَيْنِهَا أَوْ أَعْظَمَ مِنْهَا نَقْضٌ وَإِبْطَالٌ لِمَقْصُودِ الشَّارِعِ، وَتَصْحِيحٌ لِمَقْصُودِ الْجَانِي، وَإِغْرَاءٌ بِالْمَفَاسِدِ، وَتَسْلِيطٌ لِلنُّفُوسِ عَلَى الشَّرِّ.

وَيَا لِلَّهِ الْعَجَبُ، كَيْفَ يَجْتَمِعُ فِي الشَّرِيعَةِ تَحْرِيمُ الزِّنَا وَالْمُبَالَغَةُ فِي الْمَنْعِ مِنْهُ وَقَتْلُ فَاعِلِهِ شَرَّ الْقِتْلَاتِ وَأَقْبَحَهَا وَأَشْنَعَهَا وَأَشْهَرَهَا ثُمَّ يَسْقُطُ بِالتَّحَيُّلِ عَلَيْهِ بِأَنْ يَسْتَأْجِرَهَا لِذَلِكَ أَوْ لِغَيْرِهِ ثُمَّ يَقْضِيَ غَرَضَهُ مِنْهَا؟ وَهَلْ يَعْجَزُ عَنْ ذَلِكَ زَانٍ أَبَدًا؟ وَهَلْ فِي طِبَاعِ وُلَاةِ الْأَمْرِ أَنْ يَقْبَلُوا قَوْلَ الزَّانِي: أَنَا اسْتَأْجَرْتهَا لِلزِّنَا، أَوْ اسْتَأْجَرْتهَا لِتَطْوِيَ ثِيَابِي ثُمَّ قَضَيْت غَرَضِي مِنْهَا، فَلَا يَحِلُّ لَك أَنْ تُقِيمَ عَلَيَّ الْحَدَّ؟ وَهَلْ رَكَّبَ اللَّهُ فِي فِطَرِ النَّاسِ سُقُوطَ الْحَدِّ عَنْ هَذِهِ الْجَرِيمَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَعْظَمِ الْجَرَائِمِ إفْسَادًا لِلْفِرَاشِ وَالْأَنْسَابِ بِمِثْلِ هَذَا؟ وَهَلْ يُسْقِطُ الشَّارِعُ الْحَكِيمُ الْحَدَّ عَمَّنْ أَرَادَ أَنْ يَنْكِحَ أُمَّهُ أَوْ بِنْتَه أَوْ أُخْتَهُ بِأَنْ يَعْقِدَ عَلَيْهَا الْعَقْدَ ثُمَّ يَطَأَهَا بَعْدَ ذَلِكَ؟ وَهَلْ زَادَهُ صُورَةُ الْعَقْدِ الْمُحَرَّمِ إلَّا فُجُورًا وَإِثْمًا وَاسْتِهْزَاءً بِدِينِ اللَّهِ وَشَرْعِهِ وَلَعِبًا بِآيَاتِهِ؟ فَهَلْ يَلِيقُ بِهِ مَعَ ذَلِكَ رَفْعُ هَذِهِ الْعُقُوبَةِ عَنْهُ وَإِسْقَاطُهَا بِالْحِيلَةِ الَّتِي فَعَلَهَا مَضْمُومَةً إلَى فِعْلِ الْفَاحِشَةِ بِأُمِّهِ وَابْنَتِهِ؟ فَأَيْنَ الْقِيَاسُ وَذِكْرُ الْمُنَاسِبَاتِ وَالْعِلَلِ الْمُؤَثِّرَةِ وَالْإِنْكَارِ عَلَى الظَّاهِرِيَّةِ؟ فَهَلْ بَلَغُوا بِالتَّمَسُّكِ بِالظَّاهِرِ عُشْرَ مِعْشَارِ هَذَا؟ وَاَلَّذِي يَقْضِي مِنْهُ الْعَجَبُ أَنْ يُقَالَ: لَا يَعْتَدُّ بِخِلَافِ الْمُتَمَسِّكِينَ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَيَعْتَدُّ بِخِلَافِ هَؤُلَاءِ، وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ مُنَزَّهٌ عَنْ هَذَا الْحُكْمِ.

وَيَا لِلَّهِ الْعَجَبُ، كَيْفَ يَسْقُطُ الْقَطْعُ عَمَّنْ اعْتَادَ سَرِقَةَ أَمْوَالِ النَّاسِ وَكُلَّمَا أُمْسِكَ مَعَهُ الْمَالُ الْمَسْرُوقُ قَالَ: هَذَا مِلْكِي، وَالدَّارُ الَّتِي دَخَلْتهَا دَارِي، وَالرَّجُلُ الَّذِي دَخَلْت دَارِهِ عَبْدِي؟ قَالَ أَرْبَابُ الْحِيَلِ: فَيَسْقُطُ عَنْهُ الْحَدُّ بِدَعْوَى ذَلِكَ، فَهَلْ تَأْتِي بِهَذَا سِيَاسَةٌ قَطُّ جَائِرَةٌ أَوْ عَادِلَةٌ، فَضْلًا عَنْ شَرِيعَةِ نَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ، فَضْلًا عَنْ الشَّرِيعَةِ الَّتِي هِيَ أَكْمَلُ شَرِيعَةٍ طَرَقَتْ الْعَالَمَ؟ .

ص: 147