الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إلَى الْأَحَدِ فَأَخَذُوهَا. وَكَذَلِكَ السِّلْسِلَةُ الَّتِي كَانَتْ تَأْخُذُ بِعُنُقِ الظَّالِمِ فَاحْتَالَ لَهَا صَاحِبُ الدُّرَّةِ إذْ صَيَّرَهَا فِي قَصَبَةٍ ثُمَّ دَفَعَ الْقَصَبَةَ إلَى خَصْمِهِ وَتَقَدَّمَ إلَى السِّلْسِلَةِ لِيَأْخُذَهَا فَرُفِعَتْ.
وَقَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ: فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مَزْجَرَةٌ عَظِيمَةٌ لِلْمُتَعَاطِينَ الْحِيَلَ عَلَى الْمَنَاهِي الشَّرْعِيَّةِ مِمَّنْ تَلَبَّسَ بِعِلْمِ الْفِقْهِ وَلَيْسَ بِفَقِيهٍ؛ إذْ الْفَقِيهُ مَنْ يَخْشَى اللَّهَ عز وجل فِي الرِّبَوِيَّاتِ، وَاسْتِعَارَةُ التَّيْسِ الْمَلْعُونِ لِتَحْلِيلِ الْمُطَلَّقَاتِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْعَظَائِمِ وَالْمَصَائِبِ الْفَاضِحَاتِ، الَّتِي لَوْ اعْتَمَدَهَا مَخْلُوقٌ مَعَ مَخْلُوقٍ لَكَانَ فِي نِهَايَةِ الْقُبْحِ، فَكَيْفَ بِمَنْ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى الَّذِي يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ؟
وَقَالَ: وَإِذَا وَازَنَ اللَّبِيبُ بَيْنَ حِيلَةِ أَصْحَابِ السَّبْتِ، وَالْحِيَلِ الَّتِي يَتَعَاطَاهَا أَرْبَابُ الْحِيَلِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَبْوَابِ ظَهَرَ لَهُ التَّفَاوُتُ وَمَرَاتِبُ الْمَفْسَدَةِ الَّتِي بَيْنَهَا وَبَيْنَ هَذِهِ الْحِيَلِ، فَإِذَا عَرَفَ قَدْرَ الشَّرْعِ، وَعَظَمَةَ الشَّارِعِ وَحِكْمَتَهُ وَمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ شَرْعُهُ مِنْ رِعَايَةِ مَصَالِحِ الْعِبَادِ تَبَيَّنَ لَهُ حَقِيقَةُ الْحَالِ، وَقَطَعَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَتَنَزَّهُ وَيَتَعَالَى أَنْ يُشَرِّعَ لِعِبَادِهِ نَقْضَ شَرْعِهِ وَحِكْمَتِهِ بِأَنْوَاعِ الْخِدَاعِ وَالِاحْتِيَالِ.
[فَصْلٌ الْجَوَابُ عَلَى شُبَهِ الَّذِينَ جَوَّزُوا الْحِيَلَ]
َ تَفْصِيلًا]
قَالُوا: وَنَحْنُ نَذْكُرُ مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِ فِي تَقْرِيرِ الْحِيَلِ وَالْعَمَلِ بِهَا، وَنُبَيِّنُ مَا فِيهِ، مُتَحَرِّينَ لِلْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ، مُنَزِّهِينَ لِشَرِيعَةِ اللَّهِ وَكِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَالْخِدَاعِ وَالِاحْتِيَالِ الْمُحَرَّمِ، وَنُبَيِّنُ انْقِسَامَ الْحِيَلِ وَالطُّرُقِ إلَى مَا هُوَ كُفْرٌ مَحْضٌ، وَفِسْقٌ ظَاهِرٌ، وَمَكْرُوهٌ، وَجَائِزٌ، وَمُسْتَحَبٌّ، وَوَاجِبٌ عَقْلًا أَوْ شَرْعًا، ثُمَّ نَذْكُرُ فَصْلًا نُبَيِّنُ فِيهِ التَّعْوِيضَ بِالطُّرُقِ الشَّرْعِيَّةِ عَنْ الْحِيَلِ الْبَاطِلَةِ، فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ وَهُوَ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ:[الْكَلَامُ عَلَى قِصَّةِ أَيُّوبَ]
أَمَّا قَوْله تَعَالَى لِنَبِيِّهِ أَيُّوبَ عليه السلام: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} [ص: 44] فَقَالَ شَيْخُنَا: الْجَوَابُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ؛ فَإِنَّ لِلْفُقَهَاءِ فِي مُوجِبِ هَذِهِ الْيَمِينِ فِي شَرْعِنَا قَوْلَيْنِ، يَعْنِي إذَا حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّ عَبْدَهُ أَوْ امْرَأَتَهُ مِائَةَ ضَرْبَةٍ، أَحَدُهُمَا: قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: مُوجِبُهَا الضَّرْبُ مَجْمُوعًا أَوْ مُفَرَّقًا، ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَشْتَرِطُ مَعَ الْجَمْعِ الْوُصُولَ إلَى الْمَضْرُوبِ؛ فَعَلَى هَذَا تَكُونُ هَذِهِ الْفُتْيَا مُوجِبَ هَذَا اللَّفْظِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، وَلَيْسَ هَذَا بِحِيلَةٍ، إنَّمَا الْحِيلَةُ أَنْ يَصْرِفَ اللَّفْظَ عَنْ مُوجِبِهِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ مُوجِبَهُ الضَّرْبُ
الْمَعْرُوفُ، وَإِذَا كَانَ هَذَا مُوجِبُهُ فِي شَرْعِنَا لَمْ يَصِحَّ الِاحْتِجَاجُ عَلَيْنَا بِمَا يُخَالِفُ شَرْعَنَا مِنْ شَرَائِعِ مَنْ قَبْلِنَا؛ لِأَنَّا إنْ قُلْنَا:" لَيْسَ شَرْعًا لَنَا مُطْلَقًا " فَظَاهِرٌ، وَإِنْ قُلْنَا:" هُوَ شَرْعٌ لَنَا " فَهُوَ مَشْرُوطٌ بِعَدَمِ مُخَالَفَتِهِ لِشَرْعِنَا، وَقَدْ انْتَفَى الشَّرْطُ.
وَأَيْضًا؛ فَمَنْ تَأَمَّلَ الْآيَةَ عَلِمَ أَنَّ هَذِهِ الْفُتْيَا خَاصَّةَ الْحُكْمِ؛ فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ عَامَّةَ الْحُكْمِ فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ لَمْ يَخْفَ عَلَى نَبِيٍّ كَرِيمٍ مُوجِبَ يَمِينِهِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي اقْتِصَاصِهَا عَلَيْنَا كَبِيرُ عِبْرَةٍ؛ فَإِنَّمَا يَقُصُّ مَا خَرَجَ عَنْ نَظَائِرِهِ لِنَعْتَبِرَ بِهِ وَنَسْتَدِلَّ بِهِ عَلَى حِكْمَةِ اللَّهِ فِيمَا قَصَّهُ عَلَيْنَا، أَمَّا مَا كَانَ هُوَ مُقْتَضَى الْعَادَةِ وَالْقِيَاسِ فَلَا يَقُصُّ، وَيَدُلُّ عَلَى الِاخْتِصَاصِ قَوْله تَعَالَى:{إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا} [ص: 44] .
وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ خَرَجَتْ مَخْرَجَ التَّعْلِيلِ كَمَا فِي نَظَائِرِهَا؛ فَعُلِمَ أَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى إنَّمَا أَفْتَاهُ بِهَذَا جَزَاءً لَهُ عَلَى صَبْرِهِ، وَتَخْفِيفًا عَنْ امْرَأَتِهِ، وَرَحْمَةً بِهَا، لَا أَنَّ هَذَا مُوجِبُ هَذِهِ الْيَمِينِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى إنَّمَا أَفْتَاهُ بِهَذِهِ الْفُتْيَا لِئَلَّا يَحْنَثَ، كَمَا أَخْبَرَ تَعَالَى.
فَصْلٌ [مَتَى شُرِعَتْ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ؟]
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَفَّارَةَ الْأَيْمَانِ لَمْ تَكُنْ مَشْرُوعَةً بِتِلْكَ الشَّرِيعَةِ، بَلْ لَيْسَ فِي الْيَمِينِ إلَّا الْبِرُّ وَالْحِنْثَ، كَمَا هُوَ ثَابِتُ فِي نَذْرِ التَّبَرُّرِ فِي شَرِيعَتِنَا؛ وَكَمَا كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: لَمْ يَكُنْ أَبُو بَكْرٍ يَحْنَثُ فِي يَمِينٍ، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ مَشْرُوعَةً فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ صَارَ كَأَنَّهُ قَدْ نَذَرَ ضَرْبَهَا، وَهُوَ نَذْرٌ لَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ عَلَيْهِ، وَلَا يُغْنِي عَنْهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ؛ لِأَنَّ تَكْفِيرَ النَّذْرِ فَرْعٌ عَنْ تَكْفِيرِ الْيَمِينِ، فَإِذَا لَمْ تَكُنْ كَفَّارَةُ النَّذْرِ إذْ ذَاكَ مَشْرُوعَةً فَكَفَّارَةُ الْيَمِينِ أَوْلَى، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ الْوَاجِبَ بِالنَّذْرِ يُحْتَذَى بِهِ حَذْوَ الْوَاجِبِ بِالشَّرْعِ، وَإِذَا كَانَ الضَّرْبُ الْوَاجِبُ بِالشَّرْعِ يَجِبُ تَفْرِيقُهُ إذَا كَانَ الْمَضْرُوبُ صَحِيحًا وَيَجُوزُ جَمْعُهُ إذَا كَانَ الْمَضْرُوبُ مَرِيضًا مَيْئُوسًا مِنْهُ عِنْدَ الْكُلِّ أَوْ مَرِيضًا عَلَى الْإِطْلَاقِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ، كَمَا ثَبَتَتْ بِذَلِكَ السُّنَّةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَازَ أَنْ يُقَامَ الْوَاجِبُ بِالنَّذْرِ مَقَامَ ذَلِكَ عِنْدَ الْعُذْرِ، وَقَدْ كَانَتْ امْرَأَةُ أَيُّوبَ عليه السلام ضَعِيفَةً عَنْ احْتِمَالِ مِائَةِ الضَّرْبَةِ الَّتِي حَلَفَ أَنْ يَضْرِبَهَا إيَّاهَا، وَكَانَتْ كَرِيمَةً عَلَى رَبِّهَا، فَخَفَّفَ عَنْهَا بِرَحْمَتِهِ الْوَاجِبَ بِالْيَمِينِ بِأَنْ أَفْتَاهُ بِجَمْعِ الضَّرَبَاتِ بِالضِّغْثِ كَمَا خَفَّفَ عَنْ الْمَرِيضِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ السُّنَّةَ قَدْ جَاءَتْ فِيمَنْ نَذَرَ الصَّدَقَةَ بِجَمِيعِ مَالِهِ أَنَّهُ يَجْزِيهِ الثُّلُثُ، فَأَقَامَ الثُّلُثَ فِي النَّذْرِ مَقَامَ الْجَمِيعِ رَحْمَةً بِالنَّاذِرِ وَتَخْفِيفًا عَنْهُ، كَمَا أُقِيمَ مَقَامَهُ فِي
الْوَصِيَّةِ رَحْمَةً بِالْوَارِثِ وَنَظَرًا لَهُ، وَجَاءَتْ السُّنَّةُ فِيمَنْ نَذَرَتْ الْحَجَّ مَاشِيَةً أَنْ تَرْكَبَ وَتُهْدِي، إقَامَةً لِتَرْكِ بَعْضِ الْوَاجِبِ بِالنَّذْرِ مَقَامَ تَرْكِ الْوَاجِبِ بِالشَّرْعِ فِي الْمَنَاسِكِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْهُ كَطَوَافِ الْوَدَاعِ عَنْ الْحَائِضِ.
وَأَفْتَى ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ مَنْ نَذَرَ ذَبْحَ ابْنِهِ بِشَاةٍ، إقَامَةَ لِذَبْحِ الشَّاةِ مَقَامَ ذَبْحِ الِابْنِ كَمَا شُرِعَ ذَلِكَ لِلْخَلِيلِ، وَأَفْتَى أَيْضًا مَنْ نَذَرَ أَنْ يَطُوفَ عَلَى أَرْبَعٍ بِأَنْ يَطُوفَ أُسْبُوعَيْنِ، إقَامَةً لِأَحَدِ الْأُسْبُوعَيْنِ مَقَامَ طَوَافِ الْيَدَيْنِ. وَأَفْتَى أَيْضًا هُوَ وَغَيْرُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم الْمَرِيضُ الْمَيْئُوسُ مِنْهُ وَالشَّيْخُ الْكَبِيرُ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ الصَّوْمَ بِأَنْ يُفْطِرَا وَيُطْعِمَا كُلَّ يَوْمٍ مِسْكِينًا، إقَامَةً لِلْإِطْعَامِ مَقَامَ الصِّيَامِ وَأَفْتَى أَيْضًا هُوَ وَغَيْرُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ: الْحَامِلُ وَالْمُرْضِعُ إذَا خَافَتَا عَلَى وَلَدَيْهِمَا أَنْ تُفْطِرَا وَتُطْعِمَا كُلَّ يَوْمٍ مِسْكَيْنَا، إقَامَةً لِلْإِطْعَامِ مَقَامَ الصِّيَامِ، وَهَذَا كَثِيرٌ جِدًّا، وَغَيْرُ مُسْتَنْكَرٍ فِي وَاجِبَاتِ الشَّرِيعَةِ أَنْ يُخَفِّفَ اللَّهُ تَعَالَى الشَّيْءَ مِنْهَا عِنْدَ الْمَشَقَّةِ بِفِعْلِ مَا يُشْبِهُهُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ كَمَا فِي الْأَبْدَالِ وَغَيْرِهَا
وَلَكِنْ مِثْلُ قِصَّةِ أَيُّوبَ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهَا فِي شَرْعِنَا؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ لَوْ حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّ أَمَتَهُ أَوْ امْرَأَتَهُ مِائَةَ ضَرْبَةٍ أَمْكَنَهُ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِهِ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إلَى حِيلَةٍ وَتَخْفِيفُ الضَّرْبِ بِجَمْعِهِ، وَلَوْ نَذَرَ ذَلِكَ فَهُوَ نَذْرُ مَعْصِيَةٍ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ عِنْدَ الطَّائِفَةِ، وَعِنْدَ طَائِفَةٍ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمُطْلَقَ مِنْ كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا فَسَّرَ بِهِ الْمُطْلَقُ مِنْ كَلَامِ الشَّارِعِ خُصُوصًا فِي الْأَيْمَانِ؛ فَإِنَّ الرُّجُوعَ فِيهَا إلَى عُرْفِ الْخِطَابِ شَرْعًا أَوْ عَادَةً أَوْلَى مِنْ الرُّجُوعِ إلَى مُوجَبِ اللَّفْظِ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى قَدْ قَالَ:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2]، وَقَالَ:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] .
وَفَهِمَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ ضَرَبَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ مُتَفَرِّقَةٌ لَا مَجْمُوعَةٌ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَضْرُوبُ مَعْذُورًا عُذْرًا لَا يُرْجَى زَوَالُهُ؛ فَإِنَّهُ يُضْرَبُ ضَرْبًا مَجْمُوعًا، وَإِنْ كَانَ يُرْجَى زَوَالُهُ فَهَلْ يُؤَخَّرُ إلَى الزَّوَالِ، أَوْ يُقَامُ عَلَيْهِ مَجْمُوعًا؟ فِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، فَكَيْفَ يُقَالُ: إنَّ الْحَالِفَ لَيَضْرِبَنَّ مُوجِبُ يَمِينِهِ هُوَ الضَّرْبُ الْمَجْمُوعُ مَعَ صِحَّةِ الْمَضْرُوبِ وَقُوَّتِهِ؟ فَهَذِهِ الْآيَةُ هِيَ أَقْوَى مَا يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ أَرْبَابُ الْحِيَلِ، وَعَلَيْهَا بَنَوْا حِيَلَهُمْ، وَقَدْ ظَهَرَ بِحَمْدِ اللَّهِ أَنَّهُ لَا مُتَمَسَّكَ لَهُمْ فِيهَا أَلْبَتَّةَ.
فَصْلٌ [الْكَلَامُ عَلَى قِصَّةِ يُوسُفَ وَجَعْلِهِ الصُّوَاعَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ]
وَأَمَّا إخْبَارَهُ سبحانه وتعالى عَنْ يُوسُفَ عليه السلام أَنَّهُ جَعَلَ صُوَاعَهُ فِي رَحْلِ أَخِيهِ لِيَتَوَصَّلَ بِذَلِكَ إلَى أَخْذِهِ وَكَيْدِ إخْوَتِهِ، فَنَقُولُ لِأَرْبَابِ الْحِيَلِ:
أَوَّلًا: هَلْ تُجَوِّزُونَ أَنْتُمْ مِثْلَ هَذَا حَتَّى يَكُونَ حُجَّةً لَكُمْ؟ وَإِلَّا فَكَيْفَ تَحْتَجُّونَ بِمَا لَا تُجَوِّزُونَ فِعْلَهُ؟ ، فَإِنْ قُلْتُمْ: فَقَدْ كَانَ جَائِزًا فِي شَرِيعَتِهِ، قُلْنَا: وَمَا يَنْفَعُكُمْ إذَا لَمْ يَكُنْ جَائِزًا فِي شَرْعِنَا؟
قَالَ شَيْخُنَا رضي الله عنه: مِمَّا قَدْ يُظَنُّ أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْحِيَلِ الَّتِي بَيَّنَّا تَحْرِيمَهَا وَلَيْسَ مِنْ جِنْسِهَا قِصَّةُ يُوسُفَ حِين كَادَ اللَّهُ لَهُ فِي أَخْذِ أَخِيهِ كَمَا قَصَّ ذَلِكَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ، فَإِنَّ فِيهِ ضُرُوبًا مِنْ الْحِيَلِ الْحَسَنَةِ: أَحَدُهَا: قَوْلُهُ لِفِتْيَانِهِ: {اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [يوسف: 62] فَإِنَّهُ تَسَبَّبَ بِذَلِكَ إلَى رُجُوعِهِمْ، وَقَدْ ذَكَرُوا فِي ذَلِكَ مَعَانِيَ:
مِنْهَا أَنَّهُ تَخَوَّفَ أَنْ لَا يَكُونَ عِنْدَهُمْ وَرِقٌ يَرْجِعُونَ بِهَا، وَمِنْهَا أَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يَضُرَّ أَخْذُ الثَّمَنِ بِهِمْ، وَمِنْهَا أَنَّهُ رَأَى لَوْ مَا أَخَذَ الثَّمَنَ مِنْهُمْ، وَمِنْهَا أَنَّهُ أَرَاهُمْ كَرَمَهُ فِي رَدِّ الْبِضَاعَةِ لِيَكُونَ أَدْعَى لَهُمْ إلَى الْعَوْدِ، وَمِنْهَا أَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ أَمَانَتَهُمْ تَحُوجُهُمْ إلَى الْعَوْدِ لِيَرُدُّوهَا إلَيْهِ؛ فَهَذَا الْمُحْتَالُ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ، وَالْمَقْصُودُ رُجُوعُهُمْ وَمَجِيءُ أَخِيهِ، وَذَلِكَ أَمْرٌ فِيهِ مَنْفَعَةٌ لَهُمْ وَلِأَبِيهِمْ وَلَهُ، وَهُوَ مَقْصُودٌ صَالِحٌ، وَإِنَّمَا لَمْ يُعَرِّفُهُمْ نَفْسَهُ لِأَسْبَابٍ أُخَرَ فِيهَا أَيْضًا مَنْفَعَةٌ لَهُمْ وَلَهُ وَلِأَبِيهِمْ وَتَمَامٌ لِمَا أَرَادَهُ اللَّهُ بِهِمْ مِنْ الْخَيْرِ فِي الْبَلَاءِ.
الضَّرْبُ الثَّانِي: أَنَّهُ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ لِمَا جَهَّزَهُمْ بِجِهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ، وَهَذَا الْقَدْرُ تَضَمَّنَ إيهَامَ أَنَّ أَخَاهُ سَارِقٌ، وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ هَذَا كَانَ بِمُوَاطَأَةٍ مِنْ أَخِيهِ وَرِضًا مِنْهُ بِذَلِكَ، وَالْحَقُّ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى:{وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [يوسف: 69] وَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَرَّفَهُ أَنَّهُ يُوسُفُ وَوَطَّنَهُ عَلَى عَدَمِ الِابْتِئَاسِ بِالْحِيلَةِ الَّتِي فَعَلَهَا فِي أَخْذِهِ مِنْهُمْ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ لَهُ بِأَنَّهُ يُوسُفُ، وَإِنَّمَا أَرَادَ إنِّي مَكَانَ أَخِيكَ الْمَفْقُودَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا يُعَامِلُكَ بِهِ إخْوَتُكَ مِنْ الْجَفَاءِ.
وَمَنْ قَالَ هَذَا قَالَ: إنَّهُ وَضَعَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ وَالْأَخُ لَا يَشْعُرُ، وَلَكِنْ هَذَا خِلَافُ الْمَفْهُومِ مِنْ الْقُرْآنِ وَخِلَافُ مَا عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ، وَفِيهِ تَرْوِيعٌ لِمَنْ لَمْ يَسْتَوْجِبْ التَّرْوِيعَ. وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَقَدْ قَالَ كَعْبٌ وَغَيْرُهُ: لَمَّا قَالَ لَهُ إنِّي أَنَا أَخُوكَ، قَالَ: فَأَنَا لَا أُفَارِقُكَ.
قَالَ يُوسُفُ: فَقَدْ عَلِمْتَ اغْتِمَامَ وَالِدِي بِي، فَإِذَا حَبَسْتُكَ ازْدَادَ غَمُّهُ، وَلَا يُمْكِنُنِي هَذَا إلَّا بَعْدَ أَنْ أُشْهِرُكَ بِأَمْرٍ فَظِيعٍ وَأَنْسُبَكَ إلَى مَا لَا يُحْتَمَلُ، قَالَ: لَا أُبَالِي. فَافْعَلْ مَا بَدَا لَكَ فَإِنِّي لَا
أُفَارِقُكَ، قَالَ: فَإِنِّي أَدُسُّ صُوَاعِي.
هَذَا فِي رَحْلِكَ، ثُمَّ أُنَادِي عَلَيْكَ بِالسَّرِقَةِ لِيَتَهَيَّأَ لِي رَدُّكَ، قَالَ: فَافْعَلْ؛ وَعَلَى هَذَا فَهَذَا التَّصَرُّفُ إنَّمَا كَانَ بِإِذْنِ الْأَخِ وَرِضَاهُ.
وَمِثْلُ هَذَا النَّوْعِ مَا ذَكَرَ أَهْلُ السِّيَرِ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ أَنَّهُ لَمَّا هَمَّ قَوْمُهُ بِالرِّدَّةِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَفَّهُمْ عَنْ ذَلِكَ، وَأَمَرَهُمْ بِالتَّرَبُّصِ، وَكَانَ يَأْمُرُ ابْنَهُ إذَا رَعَى إبِلَ الصَّدَقَةِ أَنْ يَبْعُدَ، فَإِذَا جَاءَ خَاصَمَهُ بَيْنَ يَدَيْ قَوْمِهِ وَهَمَّ بِضَرْبِهِ، فَيَقُومُونَ فَيَشْفَعُونَ إلَيْهِ فِيهِ؛ وَيَأْمُرَهُ كُلَّ لَيْلَةٍ أَنْ يَزْدَادَ بُعْدًا، فَلَمَّا كَانَ ذَاتَ لَيْلَةٍ أَمَرَهُ أَنْ يَبْعُدَ بِهَا جِدًّا، وَجَعَلَ يَنْتَظِرُهُ بَعْدَمَا دَخَلَ اللَّيْلُ وَهُوَ يَلُومُ قَوْمَهُ عَلَى شَفَاعَتِهِمْ وَمَنْعِهِمْ إيَّاهُ مِنْ ضَرْبِهِ، وَهُمْ يَعْتَذِرُونَ عَنْ ابْنِهِ، وَلَا يُنْكِرُونَ إبْطَاءَهُ، حَتَّى إذَا انْهَارَ اللَّيْلُ رَكِبَ فِي طَلَبِهِ فَلَحِقَهُ، وَاسْتَاقَ الْإِبِلَ حَتَّى قَدِمَ بِهَا عَلَى أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما؛ فَكَانَتْ صَدَقَاتُ طَيِّئٍ مِمَّا اسْتَعَانَ بِهَا أَبُو بَكْرٍ فِي قِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ.
وَكَذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ عَدِيًّا قَالَ لِعُمَرَ رضي الله عنه: أَمَا تَعْرِفُنِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: بَلَى، أَعْرِفُكَ، أَسْلَمْتَ إذْ كَفَرُوا، وَوَفَيْتَ إذْ غَدَرُوا، وَأَقْبَلْتَ إذْ أَدْبَرُوا، وَعَرَفْتَ إذْ أَنْكَرُوا.
وَمِثْلُ هَذَا مَا أَذِنَ فِيهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلْوَفْدِ الَّذِينَ أَرَادُوا قَتْلَ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ أَنْ يَقُولُوا، وَأَذِنَ لِلْحَجَّاجِ بْنِ عِلَاطٍ عَامَ خَيْبَرَ أَنْ يَقُولَ، وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ الِاحْتِيَالِ الْمُبَاحِ؛ لِكَوْنِ صَاحِبِ الْحَقِّ قَدْ أَذِنَ فِيهِ وَرَضِيَ بِهِ، وَالْأَمْرُ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ طَاعَةٌ لِلَّهِ وَأَمْرٌ مُبَاحٌ.
الضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ: {أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يوسف: 70]{قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ} [يوسف: 71]{قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] إلَى قَوْلِهِ: {فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ} [يوسف: 74]{قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ - فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [يوسف: 75 - 76] وَقَدْ ذَكَرُوا فِي تَسْمِيَتِهِمْ سَارِقِينَ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْمَعَارِيضِ وَأَنَّ يُوسُفَ نَوَى بِذَلِكَ أَنَّهُمْ سَرَقُوهُ مِنْ أَبِيهِ حَيْثُ غَيَّبُوهُ عَنْهُ بِالْحِيلَةِ الَّتِي احْتَالُوا عَلَيْهِ، وَخَانُوهُ فِيهِ، وَالْخَائِنُ يُسَمَّى سَارِقًا، وَهُوَ مِنْ الْكَلَامِ الْمَرْمُوزِ، وَلِهَذَا يُسَمَّى خَوَنَةُ الدَّوَاوِينِ لُصُوصًا. الثَّانِي: أَنَّ الْمُنَادِيَ هُوَ الَّذِي قَالَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَمْرِ يُوسُفَ.
قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَغَيْرُهُ: أَمَرَ يُوسُفُ بَعْضَ أَصْحَابِهِ أَنْ يَجْعَلَ الصُّوَاعَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ، ثُمَّ قَالَ بَعْضُ الْمُوَكَّلِينَ وَقَدْ فَقَدُوهُ وَلَمْ يَدْرِ مَنْ أَخَذَهُ:{أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يوسف: 70]
عَلَى ظَنٍّ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ كَذَلِكَ، مِنْ غَيْرِ أَمْرِ يُوسُفَ لَهُمْ بِذَلِكَ، أَوْ لَعَلَّ يُوسُفَ قَدْ قَالَ لِلْمُنَادِي: هَؤُلَاءِ سَرَقُوا، وَعَنَى أَنَّهُمْ سَرَقُوهُ مِنْ أَبِيهِ، وَالْمُنَادِي فَهِمَ سَرِقَةَ الصُّوَاعِ فَصَدَقَ يُوسُفَ فِي قَوْلِهِ، وَصَدَقَ الْمُنَادِي، وَتَأَمَّلْ حَذْفَ الْمَفْعُولِ فِي قَوْلِهِ:{إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يوسف: 70] لِيَصِحَّ أَنْ يُضَمِّنَ سَرِقَتَهُمْ لِيُوسُفَ فَيَتِمُّ التَّعْرِيضُ، وَيَكُونُ الْكَلَامُ صِدْقًا، وَذَكَرَ الْمَفْعُولَ فِي قَوْلِهِ:{نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ} [يوسف: 72] وَهُوَ صَادِقٌ فِي ذَلِكَ، فَصَدَقَ فِي الْجُمْلَتَيْنِ مَعًا تَعْرِيضًا وَتَصْرِيحًا، وَتَأَمَّلْ قَوْلَ يُوسُفَ:{مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ} [يوسف: 79] وَلَمْ يَقُلْ إلَّا مَنْ سَرَقَ، وَهُوَ أَخْصَرُ لَفْظًا، تَحَرِّيًا لِلصِّدْقِ، فَإِنَّ الْأَخَ لَمْ يَكُنْ سَارِقًا بِوَجْهٍ، وَكَانَ الْمَتَاعُ عِنْدَهُ حَقًّا؛ فَالْكَلَامُ مِنْ أَحْسَنِ الْمَعَارِيضِ وَأَصْدَقِهَا.
وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُ الْمَلَكَيْنِ لِدَاوُدَ عليه السلام: {خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} [ص: 22] إلَى قَوْلِهِ: {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} [ص: 23] أَيْ غَلَبَنِي فِي الْخِطَابِ، وَلَكِنَّ تَخْرِيجَ هَذَا الْكَلَامَ عَلَى الْمَعَارِيض لَا يَكَادُ يَتَأَتَّى، وَإِنَّمَا وَجْهُهُ أَنَّهُ كَلَامٌ خَرَجَ عَلَى ضَرْبِ الْمِثَالِ: أَيْ إذَا كَانَ كَذَلِكَ فَكَيْفَ الْحُكْمُ بَيْنَنَا.
وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُ الْمَلِكِ لِلثَّلَاثَةِ الَّذِينَ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ: " مِسْكِينٌ وَغَرِيبٌ وَعَابِرُ سَبِيلٍ، وَقَدْ تَقَطَّعَتْ بِي الْحِبَالُ، وَلَا بَلَاغَ لِي الْيَوْمَ إلَّا بِاَللَّهِ ثُمَّ بِكَ، فَأَسْأَلُكَ بِاَلَّذِي أَعْطَاكَ هَذَا الْمَالَ بَعِيرًا أَتَبَلَّغُ بِهِ فِي سَفَرِي هَذَا " وَهَذَا لَيْسَ بِتَعْرِيضٍ، وَإِنَّمَا هُوَ تَصْرِيحٌ عَلَى وَجْهِ ضَرْبِ الْمِثَالِ وَإِيهَامٌ أَنِّي أَنَا صَاحِبُ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ كَمَا أَوْهَمَ الْمَلَكَانِ دَاوُد أَنَّهُمَا صَاحِبَا الْقِصَّةِ لِيَتِمَّ الِامْتِحَانُ.
وَلِهَذَا قَالَ نَصْرُ بْنُ حَاجِبٍ: سُئِلَ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ الرَّجُلِ يَعْتَذِرُ إلَى أَخِيهِ مِنْ الشَّيْءِ الَّذِي قَدْ فَعَلَهُ، وَيُحَرِّفُ الْقَوْلَ فِيهِ لِيُرْضِيَهُ، لَمْ يَأْثَمْ فِي ذَلِكَ؟ فَقَالَ: أَلَمْ تَسْمَعْ قَوْلَهُ: «لَيْسَ بِكَاذِبٍ مَنْ أَصْلَحَ بَيْنَ النَّاسِ يَكْذِبُ فِيهِ» فَإِذَا أَصْلَحَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُصْلِحَ بَيْنَ النَّاسِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ، وَذَلِكَ إذَا أَرَادَ بِهِ مَرْضَاةَ اللَّهِ، وَكَرِهَ أَذَى الْمُؤْمِنِ، وَيَنْدَمُ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ، وَيَدْفَعُ شَرَّهُ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَا يُرِيدُ بِالْكَذِبِ اتِّخَاذَ الْمَنْزِلَةِ عِنْدَهُمْ وَلَا طَمَعًا فِي شَيْءٍ يُصِيبُ مِنْهُمْ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يُرَخَّصْ فِي ذَلِكَ، وَرَخَّصَ لَهُ إذَا كَرِهَ مَوْجِدَتَهُمْ وَخَافَ عَدَاوَتَهُمْ. قَالَ حُذَيْفَةُ: إنِّي أَشْتَرِي دِينِي بَعْضَهُ بِبَعْضٍ مَخَافَةَ أَنْ أُقْدِمَ عَلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ.
قَالَ سُفْيَانُ وَقَالَ الْمَلَكَانِ: {خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} [ص: 22] أَرَادَ مَعْنَى شَيْءٍ
وَلَمْ يَكُونَا خَصْمَيْنِ فَلَمْ يَصِيرَا بِذَلِكَ كَاذِبَيْنِ، وَقَالَ إبْرَاهِيمُ:{إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89] وَقَالَ: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63]، وَقَالَ يُوسُفُ:{إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يوسف: 70] فَبَيَّنَ سُفْيَانُ أَنَّ هَذَا مِنْ الْمَعَارِيضِ الْمُبَاحَةِ.
فَصْلٌ [اسْتِنْبَاطٌ مِنْ قِصَّةِ يُوسُفَ وَتَعْقِيبٌ عَلَيْهِ] .
وَقَدْ احْتَجَّ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِقِصَّةِ يُوسُفَ عَلَى أَنَّهُ جَائِزٌ لِلْإِنْسَانِ التَّوَصُّلُ إلَى أَخْذِ حَقِّهِ مِنْ الْغَيْرِ بِمَا يُمْكِنُهُ الْوُصُولُ إلَيْهِ بِغَيْرِ رِضَا مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ.
قَالَ شَيْخُنَا رضي الله عنه: وَهَذِهِ الْحُجَّةُ ضَعِيفَةٌ؛ فَإِنَّ يُوسُفَ لَمْ يَكُنْ يَمْلِكُ حَبْسَ أَخِيهِ عِنْدَهُ بِغَيْرِ رِضَاهُ، وَلَمْ يَكُنْ هَذَا الْأَخُ مِمَّنْ ظَلَمَ يُوسُفَ حَتَّى يُقَالُ إنَّهُ قَدْ اقْتَصَّ مِنْهُ، وَإِنَّمَا سَائِرُ الْإِخْوَةِ هُمْ الَّذِينَ كَانُوا قَدْ فَعَلُوا ذَلِكَ، نَعَمْ تَخَلُّفُهُ عِنْدَهُ كَانَ يُؤْذِيهِمْ مِنْ أَجْلِ تَأَذِّي أَبِيهِمْ وَالْمِيثَاقِ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ اسْتَثْنَى فِي الْمِيثَاقِ بِقَوْلِهِ:{إِلا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} [يوسف: 66] وَقَدْ أُحِيطَ بِهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ قَصْدُ يُوسُفَ بِاحْتِبَاسِ أَخِيهِ الِانْتِقَامَ مِنْ إخْوَتِهِ؛ فَإِنَّهُ كَانَ أَكْرَمَ مِنْ هَذَا، وَكَانَ فِي ذَلِكَ مِنْ الْإِيذَاءِ لِأَبِيهِ.
أَعْظَمُ مِمَّا فِيهِ مِنْ إيذَاءِ إخْوَتِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ لِيَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَيَتِمَّ الْبَلَاءُ الَّذِي اسْتَحَقَّ بِهِ يَعْقُوبُ وَيُوسُفُ كَمَالَ الْجَزَاءِ، وَتَبْلُغُ حِكْمَةُ اللَّهِ الَّتِي قَضَاهَا لَهُمْ نِهَايَتُهَا.
وَلَوْ كَانَ يُوسُفُ قَصَدَ الْقِصَاصَ مِنْهُمْ بِذَلِكَ فَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعُ الْخِلَافِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ؛ فَإِنَّ الرَّجُلَ لَهُ أَنْ يُعَاقِبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ، وَإِنَّمَا مَوْضِعُ الْخِلَافِ: هَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْرِقَ أَوْ يَخُونَ مَنْ سَرَقَهُ أَوْ خَانَهُ مِثْلَ مَا سَرَقَ مِنْهُ أَوْ خَانَهُ إيَّاهُ؟ وَقِصَّةُ يُوسُفَ لَمْ تَكُنْ مِنْ هَذَا الضَّرْبِ. نَعَمْ، لَوْ كَانَ يُوسُفُ أَخَذَ أَخَاهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَكَانَ لِهَذَا الْمُحْتَجِّ شُبْهَةٌ، مَعَ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِي ذَلِكَ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ أَيْضًا؛ فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَجُوزُ فِي شَرْعِنَا بِالِاتِّفَاقِ، وَهُوَ أَنْ يُحْبَسَ رَجُلٌ بَرِيءٌ، وَيُعْتَقَلَ لِلِانْتِقَامِ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ جُرْمٌ، وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ مِنْ يُوسُفَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بِوَحْيٍ مِنْ اللَّهِ ابْتِلَاءً مِنْهُ لِذَلِكَ الْمُعْتَقَلِ، كَمَا ابْتَلَى إبْرَاهِيمَ بِذَبْحِ ابْنِهِ، فَيَكُونُ الْمُبِيحُ لَهُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ وَحْيًا خَاصًّا كَالْوَحْيِ الَّذِي جَاءَ إبْرَاهِيمُ بِذَبْحِ ابْنِهِ، وَتَكُونُ حِكْمَتُهُ فِي حَقِّ الْمُبْتَلَى امْتِحَانُهُ وَابْتِلَاؤُهُ لِيَنَالَ دَرَجَةَ الصَّبْرِ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ وَالرِّضَا بِقَضَائِهِ، وَتَكُونُ حَالُهُ فِي هَذَا كَحَالِ أَبِيهِ يَعْقُوبَ فِي احْتِبَاسِ يُوسُفَ عَنْهُ، وَهَذَا مَعْلُومٌ مِنْ فِقْهِ الْقِصَّةِ وَسِيَاقِهَا وَمِنْ حَالِ يُوسُفَ.
وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76]
فَنَسَبَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الْكَيْدَ إلَى نَفْسِهِ كَمَا نَسَبَهُ إلَى نَفْسِهِ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا} [الطارق: 15]{وَأَكِيدُ كَيْدًا} [الطارق: 16]، وَفِي قَوْلِهِ:{وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا} [النمل: 50]، وَفِي قَوْلِهِ:{وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30] .
وَقَدْ قِيلَ: إنَّ تَسْمِيَةَ ذَلِكَ مَكْرًا وَكَيْدًا وَاسْتِهْزَاءً وَخِدَاعًا مِنْ بَابِ الِاسْتِعَارَةِ وَمَجَازِ الْمُقَابَلَةِ نَحْوُ: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40]، وَنَحْوُ قَوْلِهِ:{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] وَقِيلَ وَهُوَ أَصْوَبُ: بَلْ تَسْمِيَتُهُ بِذَلِكَ حَقِيقَةً عَلَى بَابِهِ؛ فَإِنَّ الْمَكْرَ إيصَالُ الشَّيْءِ إلَى الْغَيْرِ بِطَرِيقٍ خَفِيٍّ، وَكَذَلِكَ الْكَيْدُ وَالْمُخَادَعَةُ، وَلَكِنَّهُ نَوْعَانِ: قَبِيحٌ وَهُوَ إيصَالُ ذَلِكَ لِمَنْ لَا يَسْتَحِقُّهُ، وَحَسَنٌ وَهُوَ إيصَالُهُ إلَى مُسْتَحِقِّهِ عُقُوبَةً لَهُ؛ فَالْأَوَّلُ مَذْمُومٌ وَالثَّانِي مَمْدُوحٌ، وَالرَّبُّ تَعَالَى إنَّمَا يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكَ مَا يُحْمَدُ عَلَيْهِ عَدْلًا مِنْهُ وَحِكْمَةً، وَهُوَ تَعَالَى يَأْخُذُ الظَّالِمَ وَالْفَاجِرَ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ لَا كَمَا يَفْعَلُ الظَّلَمَةُ بِعِبَادِهِ.
وَأَمَّا السَّيِّئَةُ فَهِيَ فَيْعَلَةٌ مِمَّا يَسُوءُ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْعُقُوبَةَ تَسُوءُ صَاحِبَهَا؛ فَهِيَ سَيِّئَةٌ لَهُ حَسَنَةٌ مِنْ الْحَكَمِ الْعَدْلِ، وَإِذَا عَرَفْتُ ذَلِكَ فَيُوسُفُ الصِّدِّيقُ كَانَ قَدْ كِيدَ غَيْرَ مَرَّةٍ: أَوَّلُهَا أَنَّ إخْوَتَهُ كَادُوا بِهِ كَيْدًا حَيْثُ احْتَالُوا بِهِ فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِيهِ، ثُمَّ إنَّ امْرَأَةَ الْعَزِيزِ كَادَتْهُ بِمَا أَظْهَرَتْ أَنَّهُ رَاوَدَهَا عَنْ نَفْسِهَا ثُمَّ أُودِعَ السِّجْنَ، ثُمَّ إنَّ النِّسْوَةَ كَادُوهُ حَتَّى اسْتَعَاذَ.
بِاَللَّهِ مِنْ كَيْدِهِنَّ فَصَرَفَهُ عَنْهُ، وَقَالَ لَهُ يَعْقُوبُ:{لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا} [يوسف: 5] وَقَالَ الشَّاهِدُ لِامْرَأَةِ الْعَزِيزِ: {إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف: 28] . وَقَالَ: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} [يوسف: 50] فَكَادَ اللَّهُ لَهُ أَحْسَنَ كَيْدٍ وَأَلْطَفَهُ وَأَعْدَلَهُ، بِأَنْ جَمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ، وَأَخْرَجَهُ مِنْ أَيْدِي إخْوَتِهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِمْ كَمَا أَخْرَجُوا يُوسُفَ مِنْ يَدِ أَبِيهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، وَكَادَ لَهُ عِوَضَ كَيْدِ الْمَرْأَةِ بِأَنْ أَخْرَجَهُ مِنْ ضِيقِ السِّجْنِ إلَى فَضَاءِ الْمُلْكِ، وَمَكَّنَهُ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ، وَكَانَ لَهُ فِي تَصْدِيقِ النِّسْوَةِ اللَّاتِي كَذَّبْنَهُ وَرَاوَدْنَهُ حَتَّى شَهِدْنَ بِبَرَاءَتِهِ وَعِفَّتِهِ، وَكَادَ لَهُ فِي تَكْذِيبِ امْرَأَةَ الْعَزِيزِ لِنَفْسِهَا وَاعْتِرَافِهَا بِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي رَاوَدَتْهُ وَأَنَّهُ مِنْ الصَّادِقِينَ؛ فَهَذِهِ عَاقِبَةُ مَنْ صَبَرَ عَلَى كَيْدِ الْكَائِدِ لَهُ بَغْيًا وَعُدْوَانًا.
فَصْلٌ
[مَكْرُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى ضَرْبَيْنِ]
وَكَيْدُ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَخْرُجُ عَنْ نَوْعَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا وَهُوَ الْأَغْلَبُ: أَنْ يَفْعَلَ تَعَالَى فِعْلًا خَارِجًا عَنْ قُدْرَةِ الْعَبْدِ الَّذِي كَادَ لَهُ؛ فَيَكُونُ الْكَيْدُ قَدْرًا [زَائِدًا] مَحْضًا لَيْسَ هُوَ مِنْ بَابٍ لَا يَسُوغُ، كَمَا كَادَ أَعْدَاءَ الرُّسُلِ بِانْتِقَامِهِ مِنْهُمْ بِأَنْوَاعِ الْعُقُوبَاتِ، وَكَذَلِكَ كَانَتْ قِصَّةُ يُوسُفَ؛ فَإِنَّ أَكْثَرَ مَا أَمْكَنَهُ أَنْ يَفْعَلَ أَنْ أَلْقَى الصُّوَاعَ، فِي رَحْلِ أَخِيهِ، وَأَنْ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بِسَرِقَتِهِمْ، فَلَمَّا أَنْكَرُوا قَالَ:{فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ} [يوسف: 74] أَيْ جَزَاءُ السَّارِقِ أَوْ جَزَاءُ السَّرَقِ: {قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} [يوسف: 75] أَيْ جَزَاؤُهُ نَفْسَ السَّارِقِ، يَسْتَعْبِدُهُ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ إمَّا مُطْلَقًا وَإِمَّا إلَى مُدَّةٍ، وَهَذِهِ كَانَتْ شَرِيعَةُ آلِ يَعْقُوبَ.
[إعْرَابُ جُمْلَةٍ فِي قِصَّةِ يُوسُفَ]
ثُمَّ فِي إعْرَابِ هَذَا الْكَلَامِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُ: {جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ} [يوسف: 75] جُمْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ قَائِمَةٌ مِنْ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ، وَقَوْلُهُ:{فَهُوَ جَزَاؤُهُ} [يوسف: 75] جُمْلَةٌ ثَانِيَةٌ كَذَلِكَ مُؤَكِّدَةٌ لِلْأُولَى مُقَرِّرَةٌ لَهَا، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ أَنَّ الْأُولَى إخْبَارٌ عَنْ اسْتِحْقَاقِ الْمَسْرُوقِ لِرَقَبَةِ السَّارِقِ، وَالثَّانِيَةَ إخْبَارٌ أَنَّ هَذَا جَزَاؤُهُ فِي شَرْعِنَا وَحُكْمِنَا؛ فَالْأُولَى إخْبَارٌ عَنْ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ، وَالثَّانِيَةُ إخْبَارٌ عَنْ الْحُكْمِ، وَإِنْ كَانَا مُتَلَازِمَيْنِ، وَإِنْ أَفَادَتْ الثَّانِيَةُ مَعْنَى الْحَصْرِ فَإِنَّهُ لَا جَزَاءَ لَهُ غَيْرُهُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ {جَزَاؤُهُ} [يوسف: 74] الْأَوَّلَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ الْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ، وَالْمَعْنَى جَزَاءُ السَّارِقِ أَنَّ مَنْ وُجِدَ الْمَسْرُوقُ فِي رَحْلِهِ كَانَ هُوَ الْجَزَاءُ، كَمَا تَقُولُ: جَزَاءُ السَّرِقَةِ مَنْ سَرَقَ قُطِعَتْ يَدُهُ
وَجَزَاءُ الْأَعْمَالِ مَنْ عَمِلَ حَسَنَةً فَبِعَشْرٍ أَوْ سَيِّئَةً فَبِوَاحِدَةٍ، وَنَظَائِرُهُ.
قَالَ شَيْخُنَا رضي الله عنه: وَإِنَّمَا احْتَمَلَ الْوَجْهَيْنِ ` لِأَنَّ الْجَزَاءَ قَدْ يُرَادُ بِهِ نَفْسُ الْحُكْمِ بِاسْتِحْقَاقِ الْعُقُوبَةِ، وَقَدْ يُرَادُ بِهِ نَفْسُ فِعْلِ الْعُقُوبَةِ، وَقَدْ يُرَادُ بِهِ نَفْسُ الْأَلَمِ الْوَاصِلِ إلَى الْمُعَاقَبِ؛ وَالْمَقْصُودُ أَنَّ إلْهَامَ اللَّهِ لَهُمْ هَذَا الْكَلَامَ كَيْدٌ كَادَهُ لِيُوسُفَ خَارِجٌ عَنْ قُدْرَتِهِ؛ إذْ قَدْ كَانَ يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَقُولُوا: لَا جَزَاءَ عَلَيْهِ حَتَّى يَثْبُتَ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي سَرَقَ؛ فَإِنَّ مُجَرَّدَ وُجُودِهِ فِي رَحْلِهِ لَا يُوجِبُ ثُبُوتَ السَّرِقَةِ، وَقَدْ كَانَ يُوسُفُ عَادِلًا لَا يَأْخُذُهُمْ بِغَيْرِ حُجَّةٍ، وَقَدْ كَانَ يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَقُولُوا: يُفْعَلُ بِهِ مَا يُفْعَلُ بِالسُّرَّاقِ فِي دِينِكُمْ، وَقَدْ كَانَ فِي دِينِ مَلِكِ مِصْرَ - كَمَا قَالَهُ أَهْلُ التَّفْسِيرِ - أَنْ يُضْرَبَ السَّارِقُ وَيُغَرَّمَ قِيمَةَ الْمَسْرُوقِ مَرَّتَيْنِ، وَلَوْ قَالُوا ذَلِكَ لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يُلْزِمَهُمْ بِمَا لَا يُلْزِمُ بِهِ غَيْرَهُمْ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى:{كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [يوسف: 76]
أَيْ مَا كَانَ يُمْكِنُهُ أَخْذُهُ فِي دِينِ مَلِكِ مِصْرَ؛ إذْ لَمْ يَكُنْ فِي دِينِهِ طَرِيقٌ لَهُ إلَى أَخْذِهِ، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ:{إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [يوسف: 76] اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، أَيْ لَكِنْ إنْ شَاءَ اللَّهُ أَخَذَهُ بِطَرِيقٍ آخَرَ، أَوْ يَكُونَ مُتَّصِلًا عَلَى بَابِهِ، أَيْ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ذَلِكَ فَيُهَيِّئُ لَهُ سَبَبًا يُؤْخَذُ بِهِ فِي دِينِ الْمَلِكِ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي كَانَ الرَّجُلُ يُعْتَقَلُ بِهَا، فَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ مِنْ الْكَيْدِ فِعْلًا مِنْ اللَّهِ - بِأَنْ يُيَسِّرَ لِعَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ الْمَظْلُومِ الْمُتَوَكِّلِ عَلَيْهِ أُمُورًا يَحْصُلُ بِهَا مَقْصُودُهُ مِنْ الِانْتِقَامِ مِنْ الظَّالِمِ - كَانَ هَذَا خَارِجًا عَنْ الْحِيَلِ الْفِقْهِيَّةِ؛ فَإِنَّ كَلَامَنَا فِي الْحِيَلِ الَّتِي يَفْعَلُهَا الْعَبْدُ، لَا فِيمَا يَفْعَلُهُ اللَّهُ تَعَالَى، بِمَا فِي قِصَّةِ يُوسُفَ.
تَنْبِيهٌ عَلَى بُطْلَانِ الْحِيَلِ وَأَنَّ مَنْ كَادَ كَيْدًا مُحَرَّمًا؛ فَإِنَّ اللَّهَ يَكِيدُهُ وَيُعَامِلُهُ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ وَبِمِثْلِ عَمَلِهِ، وَهَذِهِ سُنَّةُ اللَّهِ فِي أَرْبَابِ الْحِيَلِ الْمُحَرَّمَةِ أَنَّهُ لَا يُبَارِكُ لَهُمْ فِيمَا نَالُوهُ بِهَذِهِ الْحِيَلِ، وَيُهَيِّئُ لَهُمْ كَيْدًا عَلَى يَدِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ خَلْقِهِ يُجْزَوْنَ بِهِ مِنْ جِنْسِ كَيْدِهِمْ وَحِيَلِهِمْ.
[مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ قِصَّةُ يُوسُفَ]
وَفِيهَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ الْمُتَوَكِّلَ عَلَى اللَّهِ إذَا كَادَهُ الْخَلْقُ فَإِنَّ اللَّهَ يَكِيدُ لَهُ وَيَنْتَصِرُ لَهُ بِغَيْرِ حَوْلٍ مِنْهُ وَلَا قُوَّةٍ.
وَفِيهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ وُجُودَ الْمَسْرُوقِ بِيَدِ السَّارِقِ كَافٍ فِي إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ، بَلْ هُوَ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِهِ، وَهُوَ أَقْوَى مِنْ الْبَيِّنَةِ، وَغَايَةُ الْبَيِّنَةِ أَنْ يُسْتَفَادَ مِنْهَا ظَنٌّ، وَأَمَّا وُجُودُ الْمَسْرُوقِ بِيَدِ السَّارِقِ فَيُسْتَفَادُ مِنْهُ الْيَقِينُ وَبِهَذَا جَاءَتْ السُّنَّةُ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ بِالْحَبَلِ وَالرَّائِحَةِ فِي الْخَمْرِ كَمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ، وَالِاحْتِجَاجُ بِقِصَّةِ يُوسُفَ عَلَى هَذَا أَحْسَنُ وَأَوْضَحُ مِنْ الِاحْتِجَاجِ بِهَا عَلَى الْحِيَلِ.
وَفِيهَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ الْخَفِيَّ الَّذِي يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى الْمَقَاصِدِ الْحَسَنَةِ مِمَّا يَرْفَعُ اللَّهُ بِهِ دَرَجَاتِ الْعَبْدِ؛ لِقَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} [يوسف: 76] قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَغَيْرُهُ: بِالْعِلْمِ، وَقَدْ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ رَفْعِهِ دَرَجَاتِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ، أَحَدُهَا: قَوْلُهُ: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} [الأنعام: 83] فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ يَشَاءُ بِعِلْمِ الْحُجَّةِ. وَقَالَ فِي قِصَّةِ يُوسُفَ: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} [يوسف: 76] فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَرْفَعُ دَرَجَاتِ مَنْ يَشَاءُ بِالْعِلْمِ الْخَفِيِّ الَّذِي يَتَوَصَّلُ بِهِ صَاحِبُهُ إلَى الْمَقَاصِدِ الْمَحْمُودَةِ، وَقَالَ:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11] فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَرْفَعُ دَرَجَاتِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ.
فَصْلٌ [النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ كَيْدِ اللَّهِ تَعَالَى لِعَبْدِهِ]
النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ كَيْدِهِ لِعَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ: هُوَ أَنْ يُلْهِمَهُ تَعَالَى أَمْرًا مُبَاحًا أَوْ مُسْتَحَبًّا أَوْ وَاجِبًا يُوَصِّلُهُ بِهِ إلَى الْمَقْصُودِ الْحَسَنِ؛ فَيَكُونُ عَلَى هَذَا إلْهَامُهُ لِيُوسُفَ أَنْ يَفْعَلَ مَا فَعَلَ هُوَ مِنْ كَيْدِهِ تَعَالَى أَيْضًا، وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ:{نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} [يوسف: 76] فَإِنَّ فِيهَا تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ الدَّقِيقَ الْمُوَصِّلَ إلَى الْمَقْصُودِ الشَّرْعِيِّ صِفَةُ مَدْحٍ، كَمَا أَنَّ الْعِلْمَ الَّذِي يَخْصِمُ بِهِ الْمُبْطِلَ صِفَةُ مَدْحٍ؛ وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ مِنْ الْكَيْدِ مَا هُوَ مَشْرُوعٌ، لَكِنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْكَيْدُ الَّذِي تُسْتَحَلُّ بِهِ الْمُحَرَّمَاتُ أَوْ تُسْقَطُ بِهِ الْوَاجِبَاتُ؛ فَإِنَّ هَذَا كَيْدٌ لِلَّهِ، وَاَللَّهُ هُوَ الَّذِي يَكِيدُ الْكَائِدَ، وَمُحَالٌ أَنْ يَشْرَعَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُكَادَ دِينُهُ، وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا الْكَيْدَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِفِعْلِ يُقْصَدُ بِهِ غَيْرَ مَقْصُودِهِ الشَّرْعِيِّ، وَمُحَالٌ أَنْ يَشْرَعَ اللَّهُ لِعَبْدِهِ أَنْ يَقْصِدَ بِفِعْلِهِ مَا لَمْ يَشْرَعْ اللَّهُ ذَلِكَ الْفِعْلَ لَهُ.
فَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ عَنْ احْتِجَاجِ الْمُتَحَيِّلِينَ بِقِصَّةِ يُوسُفَ عليه الصلاة والسلام، وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهَا مِنْ أَعْظَمِ الْحُجَجِ عَلَيْهِمْ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.
فَصْلٌ [الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ أَبُو هُرَيْرَةَ فِي تَمْرِ خَيْبَرَ مِنْ صُوَرِ النِّزَاعِ]
وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ: «بِعْ الْجَمِيعَ بِالدَّرَاهِمِ ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا» فَمَا أَصَحُّهُ مِنْ حَدِيثٍ، وَنَحْنُ نَتَلَقَّاهُ بِالْقَبُولِ وَالتَّسْلِيمِ، وَالْكَلَامُ مَعَكُمْ فِيهِ مِنْ مَقَامَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إبْطَالُ اسْتِدْلَالِكُمْ بِهِ عَلَى جَوَازِ الْحِيَلِ، وَثَانِيهِمَا: بَيَانُ دَلَالَتِهِ عَلَى نَقِيضِ مَطْلُوبِكُمْ؛ إذْ هَذَا شَأْنُ كُلِّ دَلِيلٍ صَحِيحٍ احْتَجَّ بِهِ مُحْتَجٌّ عَلَى بَاطِلٍ؛ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِهِ ظَاهِرًا أَوْ إيمَاءً، مَعَ عَدَمِ دَلَالَتِهِ عَلَى قَوْلِهِ.
[بَحْثٌ فِي دَلَالَةِ الْمُطْلَقِ وَالْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَامِّ]
فَأَمَّا الْمَقَامُ الْأَوَّلُ فَنَقُولُ: غَايَةُ مَا دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَيْهِ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُ أَنْ يَبِيعَ سِلْعَتَهُ الْأُولَى بِثَمَنٍ ثُمَّ يَبْتَاعُ بِثَمَنِهَا تَمْرًا آخَرَ» ، وَمَعْلُومٌ قَطْعًا أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَقْتَضِي الْبَيْعَ الصَّحِيحَ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَا يَأْذَنُ فِي الْعَقْدِ الْبَاطِلِ؛ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ الَّذِي أَذِنَ فِيهِ صَحِيحًا،
وَالشَّأْنُ كُلُّ الشَّأْنِ فِي الْعَقْدِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ؛ فَلَوْ سَلَّمَ لَكُمْ الْمُنَازِعُ صِحَّتَهُ لَاسْتَغْنَيْتُمْ عَنْ الِاسْتِدْلَالِ بِالْحَدِيثِ، وَلَا يُمْكِنُ الِاسْتِدْلَال بِالْحَدِيثِ عَلَى صِحَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعَامٍّ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ:" بِعْ " مُطْلَقٌ لَا عَامٌّ؛ فَهَذَا الْبَيْعُ لَوْ كَانَ صَحِيحًا مُتَّفَقًا عَلَى صِحَّتِهِ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ لَفْظٌ عَامٌّ يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى تَنَاوُلِهِ، فَكَيْفَ هَذَا الْبَيْعُ مِمَّا قَدْ دَلَّتْ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ وَأَقْوَالُ الصَّحَابَةِ وَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ عَلَى بُطْلَانِهِ كَمَا تَقَدَّمَ؟ وَلَوْ اخْتَلَفَ رَجُلَانِ فِي بَيْعٍ هَلْ هُوَ صَحِيحٌ أَوْ فَاسِدٌ، وَأَرَادَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إدْخَالَهُ فِي هَذَا اللَّفْظِ؛ لَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ حَتَّى يَثْبُتَ أَنَّهُ بَيْعٌ صَحِيحٌ، وَمَتَى أَثْبَتَ أَنَّهُ بَيْعٌ صَحِيحٌ لَمْ يَحْتَجْ إلَى الِاسْتِدْلَالِ بِهَذَا الْمُطْلَقِ؛ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا حُجَّةَ فِيهِ عَلَى صُورَةٍ مِنْ صُوَرِ النِّزَاعِ أَلْبَتَّةَ.
وَنُكْتَةُ الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ: الْأَمْرُ الْمُطْلَقُ بِالْبَيْعِ إنَّمَا يَقْتَضِي الْبَيْعَ الصَّحِيحَ، وَمَنْ سَلَّمَ لَكُمْ أَنَّ هَذِهِ الصُّورَةَ الَّتِي تَوَاطَأَ فِيهَا الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي عَلَى الرِّبَا وَجَعْلِ السِّلْعَةِ الدَّخِيلَةِ مُحَلِّلًا لَهُ غَيْرَ مَقْصُودَةٍ بِالْبَيْعِ بَيْعٌ صَحِيحٌ، وَإِذَا كَانَ الْحَدِيثُ لَيْسَ فِيهِ عُمُومٌ، وَإِنَّمَا هُوَ مُطْلَقٌ، وَالْأَمْرُ بِالْحَقِيقَةِ الْمُطْلَقِ لَيْسَ أَمْرًا بِشَيْءٍ مِنْ صُوَرِهَا؛ لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الْأَفْرَادِ، وَالْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ لَيْسَ هُوَ مِمَّا يُمَيِّزُ بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَفْرَادِ عَنْ الْآخَرِ، وَلَا هُوَ مُسْتَلْزِمًا لَهُ؛ فَلَا يَكُونُ الْأَمْرُ بِالْمُشْتَرَكِ أَمْرًا بِالْمُمَيِّزِ بِحَالٍ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَلْزِمًا لِبَعْضِ تِلْكَ الْقُيُودِ لَا بِعَيْنِهِ، فَيَكُونُ عَامًّا لَهَا عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ، لَكِنْ ذَلِكَ لَا يَقْتَضِي الْعُمُومَ لِلْأَفْرَادِ عَلَى سَبِيلِ الْجَمْعِ، وَهُوَ الْمُطْلَقُ فِي قَوْلِهِ:«بِعْ هَذَا الثَّوْبَ» لَا يَقْتَضِي الْأَمْرَ بِبَيْعِهِ مِنْ زَيْدٍ أَوْ عَمْرٍو، وَلَا بِكَذَا أَوْ كَذَا، وَلَا بِهَذِهِ السُّوقِ أَوْ هَذِهِ؛ فَإِنَّ اللَّفْظَ لَا دَلَالَةَ لَهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، إذَا أَتَى بِالْمُسَمَّى حَصَلَ مُمْتَثِلًا مِنْ جِهَةِ وُجُودِ تِلْكَ الْحَقِيقَةِ، لَا مِنْ جِهَةِ تِلْكَ الْقُيُودِ، وَهَذَا الْأَمْرُ لَا خِلَافَ فِيهِ، لَكِنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَعْتَقِدُ أَنَّ عَدَمَ الْأَمْرِ بِالْقُيُودِ يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ الْإِجْزَاءِ إذَا أَتَى بِهَا إلَّا بِقَرِينَةٍ وَهُوَ خَطَأٌ، وَالصَّوَابُ أَنَّ الْقُيُودَ لَا تُنَافِي الْأَمْرَ وَلَا تَسْتَلْزِمُهُ، وَإِنْ كَانَ لُزُومُ بَعْضِهَا لُزُومًا عَقْلِيًّا ضَرُورَةَ وُقُوعِ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ فِي ضِمْنِ قَيْدٍ مِنْ تِلْكَ الْقُيُودِ، وَإِذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ أَمْرُهُ أَنْ يَبِيعَ التَّمْرَ لِبَائِعِ النَّوْعِ الْآخَرِ وَلَا لِغَيْرِهِ وَلَا بِحُلُولٍ وَلَا تَأْجِيلٍ وَلَا بِنَقْدِ الْبَلَدِ وَلَا غَيْرِهِ وَلَا بِثَمَنِ الْمِثْلِ أَوْ غَيْرِهِ، وَكُلُّ هَذِهِ الْقُيُودِ خَارِجَةٌ عَنْ مَفْهُومِ اللَّفْظِ، وَلَوْ زَعَمَ زَاعِمٌ أَنَّ اللَّفْظَ يَعُمُّ هَذَا كُلَّهُ كَانَ مُبْطِلًا، لَكِنَّ اللَّفْظَ لَا يَمْنَعُ الْإِجْزَاءَ إذَا أَتَى بِهَا، وَإِنَّمَا اُسْتُفِيدَ عَدَمُ الِامْتِثَالِ إذَا بِيعَ بِدُونِ ثَمَنِ الْمِثْلِ أَوْ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ أَوْ بِغَيْرِ نَقْدِ الْبَلَدِ مِنْ الْعُرْفِ الَّذِي ثَبَتَ لِلْبَيْعِ الْمُطْلَقِ، وَكَذَلِكَ لَيْسَ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَبِيعُهُ مِنْ الْبَائِعِ بِعَيْنِهِ وَلَا غَيْرِهِ، كَمَا لَيْسَ فِيهِ مَا يَمْنَعُهُ، بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الطَّرَفَيْنِ يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ خَارِجٍ عَنْ اللَّفْظِ الْمُطْلَقِ؛ فَمَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى إبَاحَتِهِ أُبِيحَ فِعْلُهُ بِالدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى جَوَازِهِ لَا بِهَذَا اللَّفْظِ، وَمَا قَامَ دَلِيلٌ عَلَى الْمَنْعِ مِنْهُ لَمْ يُعَارَضْ دَلِيلُ الْمَنْعِ بِهَذَا
اللَّفْظِ الْمُطْلَقِ حَتَّى يُطْلَبَ التَّرْجِيحُ، بَلْ يَكُونُ دَلِيلُ الْمَنْعِ سَالِمًا عَنْ الْمُعَارَضَةِ بِهَذَا، فَإِنْ عُورِضَ بِلَفْظٍ عَامٍّ مُتَنَاوِلٍ لِإِبَاحَتِهِ بِوَضْعِ اللَّفْظِ لَهُ أَوْ بِدَلِيلِ خَاصٍّ صَحَّتْ الْمُعَارَضَةُ؛ فَتَأَمَّلْ هَذَا الْمَوْضِعَ الَّذِي كَثِيرًا مَا يَغْلَطُ فِيهِ النَّاظِرُ وَالْمُنَاظِرُ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.
وَقَدْ ظَهَرَ بِهَذَا جَوَابُ مَنْ قَالَ: " لَوْ كَانَ الِابْتِيَاعُ مِنْ الْمُشْتَرِي حَرَامًا لَنَهَى عَنْهُ " فَإِنَّ مَقْصُودَهُ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا كَانَ لِبَيَانِ الطَّرِيقِ الَّتِي بِهَا يَحْصُلُ اشْتِرَاءُ التَّمْرِ الْجَيِّدِ لِمَنْ عِنْدَهُ رَدِيءٌ، وَهُوَ أَنْ يَبِيعَ الرَّدِيءَ بِثَمَنٍ ثُمَّ يَبْتَاعَ بِالثَّمَنِ جَيِّدًا، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِشُرُوطِ الْبَيْعِ وَمَوَانِعِهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ ذِكْرُ الْحُكْمِ عَلَى وَجْهِ الْجُمْلَةِ، أَوْ لِأَنَّ الْمُخَاطَبَ أُحِيلَ عَلَى فَهْمِهِ وَعِلْمِهِ بِأَنَّهُ إنَّمَا أُذِنَ لَهُ فِي بَيْعٍ يَتَعَارَفُهُ النَّاسُ، وَهُوَ الْبَيْعُ الْمَقْصُودُ فِي نَفْسِهِ، وَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِي بَيْعٍ يَكُونُ وَسِيلَةً وَذَرِيعَةً ظَاهِرَةً إلَى مَا هُوَ رِبًا صَرِيحٌ، وَكَانَ الْقَوْمُ أَعْلَمُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَشَرِيعَتِهِ مِنْ أَنْ يَفْهَمُوا عَنْهُ أَنَّهُ أَذِنَ لَهُمْ فِي الْحِيَلِ الرِّبَوِيَّةِ الَّتِي ظَاهِرُهَا بَيْعٌ وَبَاطِنُهَا رِبًا، وَنَحْنُ نَشْهَدُ بِاَللَّهِ أَنَّهُ كَمَا لَمْ يَأْذَنْ فِيهَا بِوَجْهٍ لَمْ يَفْهَمْهَا عَنْهُ أَصْحَابُهُ بِخِطَابِهِ بِوَجْهٍ، وَمَا نَظِيرُ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ إلَّا اسْتِدْلَالَ بَعْضِهِمْ عَلَى جَوَازِ أَكْلِ ذِي النَّابِ وَالْمِخْلَبِ بِقَوْلِهِ:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ} [البقرة: 187] وَاسْتِدْلَالَ آخَرَ بِقَوْلِهِ: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] عَلَى جَوَازِ نِكَاحِ الزَّانِيَةِ الْمُصِرَّةِ عَلَى الزِّنَا، وَاسْتِدْلَالَ آخَرَ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ:{وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ} [النور: 32] ، وَاسْتِدْلَالَ غَيْرِهِ بِهِ عَلَى صِحَّةِ نِكَاحِ التَّحْلِيلِ بِذَلِكَ، وَعَلَى صِحَّةِ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ، وَاسْتِدْلَالَ آخَرَ عَلَى جَوَازِ نِكَاحِ الْمَخْلُوقَةِ مِنْ مَائِهِ إذَا كَانَ زَانِيًا، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا اسْتَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى جَوَازِ نِكَاحِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَمَّتِهَا وَخَالَتِهَا وَأَخَذَ يُعَارِضُ بِهِ السُّنَّةَ لَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ، بَلْ لَوْ اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى كُلِّ نِكَاحٍ حَرَّمَتْهُ السُّنَّةُ لَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ:«بِعْ الْجَمِيعَ» لَوْ اسْتَدَلَّ بِهِ مُسْتَدِلٌّ عَلَى بَيْعٍ مِنْ الْبُيُوعِ الْمُتَنَازَعِ فِيهَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ حُجَّةٌ، وَلَيْسَ بِالْغَالِبِ أَنَّ بَائِعَ التَّمْرِ بِدَرَاهِمَ يَبْتَاعُ بِهَا مِنْ الْمُشْتَرِي حَتَّى يُقَالَ: هَذِهِ الصُّورَةُ غَالِبَةٌ فَيُحْمَلُ اللَّفْظُ عَلَيْهَا، وَلَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ عُرْفًا وَشَرْعًا.
وَبِالْجُمْلَةِ فَإِرَادَةُ هَذِهِ الصُّورَةِ وَحْدَهَا مِنْ اللَّفْظِ مُمْتَنِعٌ، وَإِرَادَتُهَا مَعَ غَيْرِهَا فَرْعٌ عَلَى عُمُومِهِ، وَلَا عُمُومَ لَهُ، وَإِرَادَةُ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ أَفْرَادِ الْبَيْعِ إنَّمَا تَنْصَرِفُ إلَى الْبَيْعِ الْمَعْهُودِ عُرْفًا وَشَرْعًا، وَعَلَى التَّقْدِيرَاتِ كُلِّهَا لَا تَدْخُلُ هَذِهِ الصُّورَةُ.
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الصُّورَةَ لَا تَدْخُلُ فِي أَمْرِ الرَّجُلِ لِعَبْدِهِ وَوَلَدِهِ وَوَكِيلِهِ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ كَذَا، فَلَوْ قَالَ:" بِعْ هَذِهِ الْحِنْطَةَ الْعَتِيقَةَ وَاشْتَرِ لَنَا جَدِيدَةً " لَمْ يَفْهَمْ السَّامِعُ إلَّا بَيْعًا مَقْصُودًا، أَوْ شِرَاءً مَقْصُودًا، فَثَبَتَ أَنَّ الْحَدِيثَ لَيْسَ فِيهِ إشْعَارٌ بِالْحِيلَةِ الرِّبَوِيَّةِ أَلْبَتَّةَ.
يُوَضِّحُهُ أَنَّ قَوْلَهُ: " بِعْ كَذَا، وَاشْتَرِ كَذَا " أَوْ " بِعْتُ، وَاشْتَرَيْتُ " لَا يُفْهَمُ مِنْهُ إلَّا الْبَيْعُ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ نَقْلُ مِلْكِ الْمَبِيعِ نَقْلًا مُسْتَقِرًّا؛ وَلِهَذَا لَا يُفْهَمُ مِنْهُ بَيْعُ الْهَازِلِ وَلَا الْمُكْرَهِ، وَلَا بَيْعُ الْحِيلَةِ، وَلَا بَيْعُ الْعِينَةِ، وَلَا يَعُدُّ النَّاسُ مَنْ اتَّخَذَ خَرَزَةً أَوْ عَرْضًا يُحَلِّلُ بِهِ الرِّبَا وَيَبِيعَهُ وَيَشْتَرِيَهُ صُورَةً خَالِيَةَ عَنْ حَقِيقَةِ الْبَيْعِ وَمَقْصُودِهِ تَاجِرًا، وَإِنَّمَا يُسَمُّونَهُ مُرَابِيًا وَمُتَحَيِّلًا، فَكَيْفَ يَدْخُلُ هَذَا تَحْتَ لَفْظِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ يَزِيدُهُ إيضَاحًا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَنْ بَاعَ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ فَلَهُ أَوَكْسُهُمَا أَوْ الرِّبَا» وَنَهَى عَنْ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمَا مَتَى تَوَاطَئَا عَلَى أَنْ يَبِيعَهُ بِالثَّمَنِ ثُمَّ يَبْتَاعُ بِهِ مِنْهُ فَهُوَ بَيْعَتَانِ فِي بَيْعَةٍ، فَلَا يَكُونُ مَا نَهَى عَنْهُ دَاخِلًا تَحْتَ مَا أَذِنَ فِيهِ.
يُوَضِّحُهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ، وَلَا شَرْطَانِ فِي بَيْعٍ» وَتَوَاطُؤُهُمَا عَلَى أَنْ يَبِيعَهُ السِّلْعَةَ بِثَمَنٍ ثُمَّ يَشْتَرِيَ مِنْهُ غَيْرَهَا بِذَلِكَ الثَّمَنِ مُنْطَبِقٌ عَلَى لَفْظِ الْحَدِيثِ؛ فَلَا يَدْخُلُ مَا أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ تَحْتَ مَا أَذِنَ فِيهِ.
يُوَضِّحُهُ أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «بِعْ الْجَمِيعَ بِالدَّرَاهِمِ ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا» وَهَذَا يَقْتَضِي بَيْعًا يُنْشِئُهُ وَيَبْتَدِئُهُ بَعْدَ انْقِضَائِهِ الْبَيْعَ الْأَوَّلَ، وَمَتَى وَاطَأَهُ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ عَلَى أَنْ أَبِيعَكَ وَأَبْتَاعَ مِنْكَ فَقَدْ اتَّفَقَا عَلَى الْعَقْدَيْنِ مَعًا؛ فَلَا يَكُونُ الثَّانِي عَقْدًا مُسْتَقِلًّا مُبْتَدَأً، بَلْ هُوَ مِنْ تَتِمَّةِ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ عِنْدَهُمَا وَفِي اتِّفَاقِهِمَا، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ أَمَرَ بِعَقْدَيْنِ مُسْتَقِلَّيْنِ لَا يَرْتَبِطُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ وَلَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ.
وَلَوْ نَزَلْنَا عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ وَسَلَّمْنَا أَنَّ الْحَدِيثَ عَامٌّ عُمُومًا لَفْظِيًّا يَدْخُلُ تَحْتَهُ صُورَةُ الْحِيلَةِ فَهُوَ لَا رَيْبَ مَخْصُوصٌ بِصُوَرٍ كَثِيرَةٍ؛ فَنَخُصُّ مِنْهُ هَذِهِ الصُّورَةَ الْمَذْكُورَةَ بِالْأَدِلَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَى بُطْلَانِ الْحِيَلِ وَأَضْعَافِهَا، وَالْعَامُّ يُخَصُّ بِدُونِ مِثْلِهَا بِكَثِيرٍ، فَكَمْ قَدْ خُصَّ الْعُمُومُ بِالْمَفْهُومِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَتَخْصِيصُهُ - لَوْ فُرِضَ عُمُومُهُ - بِالنُّصُوصِ وَالْأَقْيِسَةِ وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَى تَحْرِيمِ الْحِيَلِ أَوْلَى وَأَحْرَى، بَلْ وَاحِدٌ مِنْ تِلْكَ الْأَدِلَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عَلَى الْمَنْعِ مِنْ الْحِيَل وَتَحْرِيمِهَا كَافٍ فِي التَّخْصِيصِ، وَإِذَا كُنْتُمْ قَدْ خَصَّصْتُمْ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم:«لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» مَعَ أَنَّهُ عَامٌّ عُمُومًا لَفْظِيًّا فَخَصَصْتُمُوهُ بِصُورَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ مَا اشْتَرَطَا فِي صُلْبِ الْعَقْدِ أَنَّهُ إنَّمَا تَزَوَّجَهَا لِيَحِلَّهَا وَمَتَى أَحَلَّهَا فَهِيَ طَالِقٌ، مَعَ أَنَّ هَذِهِ الصُّورَةَ نَادِرَةٌ جِدًّا لَا يَفْعَلُهَا الْمُحَلِّلُ، وَالصُّوَرُ الْوَاقِعَةُ فِي التَّحْلِيلِ أَضْعَافُ هَذِهِ،
فَحَمَلْتُمْ اللَّفْظَ الْعَامَّ عُمُومًا لَفْظِيًّا وَمَعْنَوِيًّا عَلَى أَنْدَرِ صُورَةٍ تَكُونُ لَوْ قُدِّرَ وُقُوعُهَا، وَأَخْلَيْتُمُوهُ عَنْ الصُّوَرِ الْوَاقِعَةِ الْمُسْتَعْمَلَةِ بَيْنَ الْمُحَلِّلِينَ؛ فَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم:«بِعْ الْجَمِيعَ بِالدَّرَاهِمِ» أَوْلَى بِالتَّقْيِيدِ بِالنُّصُوصِ الْكَثِيرَةِ وَالْآثَارِ وَالْأَقْيِسَةِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي هِيَ فِي مَعْنَى الْأَصْلِ وَحَمْلُهُ عَلَى الْبَيْعِ الْمُتَعَارَفِ الْمَعْهُودِ عُرْفًا وَشَرْعًا، وَهَذَا بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى فِي غَايَةِ الْوُضُوحِ، وَلَا يَخْفَى عَلَى مُنْصِفٍ يُرِيدُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.
فَصْلٌ [حِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّةِ الْبَيْعِ تَمْنَعُ مِنْ صُورَةِ الْحِيلَةِ] : وَمِمَّا يُوَضِّحُ فَسَادَ حَمْلِ الْحَدِيثِ عَلَى صُورَةِ الْحِيلَةِ وَأَنَّ كَلَامَ الرَّسُولِ وَمَنْصِبَهُ الْعَالِي مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمَقْصُودَ الَّذِي شَرَعَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ الْبَيْعَ وَأَحَلَّهُ لِأَجْلِهِ هُوَ أَنْ يَحْصُلَ مِلْكُ الثَّمَنِ لِلْبَائِعِ وَيَحْصُلَ مِلْكُ الْمَبِيعِ لِلْمُشْتَرِي؛ فَيَكُونُ كُلٌّ مِنْهُمَا قَدْ حَصَلَ لَهُ مَقْصُودُهُ بِالْبَيْعِ، هَذَا يَنْتَفِعُ بِالثَّمَنِ وَهَذَا بِالسِّلْعَةِ، وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ إذَا قَصَدَ الْمُشْتَرِي نَفْسَ السِّلْعَةِ لِلِانْتِفَاعِ بِهَا أَوْ التِّجَارَةِ فِيهَا وَقَصَدَ الْبَائِعُ نَفْسَ الثَّمَنِ، وَلِهَذَا يَحْتَاطُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا يَصِيرُ إلَيْهِ مِنْ الْعَرْضِ هَذَا فِي وَزْنِ الثَّمَنِ وَنَقْدِهِ وَرَوَاجِهِ وَهَذَا فِي سَلَامَةِ السِّلْعَةِ مِنْ الْعَيْبِ وَأَنَّهَا تُسَاوِي الثَّمَنَ الَّذِي بَذَلَهُ فِيهَا، فَإِذَا كَانَ مَقْصُودُ كُلٍّ مِنْهُمَا ذَلِكَ فَقَدْ قَصَدَا بِالسَّبَبِ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ لَهُ، وَأَتَى بِالسَّبَبِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا، وَسَوَاءٌ حَصَلَ مَقْصُودُهُ بِعَقْدٍ أَوْ تَوَقَّفَ عَلَى عُقُودٍ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ بِيَدِهِ سِلْعَةٌ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَبْتَاعَ سِلْعَةً أُخْرَى لَا تُبَاعُ سِلْعَتُهُ [بِهَا] لِمَانِعٍ شَرْعِيٍّ أَوْ عُرْفِيٍّ أَوْ غَيْرِهِمَا فَيَبِيعُ سِلْعَتَهُ لِيَمْلِكَ ثَمَنَهَا وَهَذَا بَيْعٌ مَقْصُودٌ وَعِوَضُهُ مَقْصُودٌ ثُمَّ يَبْتَاعُ بِالثَّمَنِ سِلْعَةً أُخْرَى وَهَذِهِ قِصَّةُ بِلَالٍ فِي تَمْرِ خَيْبَرَ سَوَاءٌ، فَإِنَّهُ إذَا بَاعَ الْجَمِيعَ بِالدَّرَاهِمِ فَقَدْ أَرَادَ بِالْبَيْعِ مِلْكَ الثَّمَنِ، وَهَذَا مَقْصُودٌ مَشْرُوعٌ، ثُمَّ إذَا ابْتَاعَ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا فَقَدْ عَقَدَ عَقْدًا مَقْصُودًا مَشْرُوعًا؛ فَلَمَّا كَانَ بَائِعًا قَصَدَ تَمَلُّكَ الثَّمَنِ حَقِيقَةً، وَلَمَّا كَانَ مُبْتَاعًا قَصَدَ تَمَلُّكَ السِّلْعَةِ حَقِيقَةً، فَإِنْ ابْتَاعَ بِالثَّمَنِ مِنْ غَيْرِ الْمُشْتَرِي مِنْهُ فَهَذَا لَا مَحْذُورَ فِيهِ؛ إذْ كُلٌّ مِنْ الْعَقْدَيْنِ مَقْصُودٌ مَشْرُوعٌ، وَلِهَذَا يَسْتَوْفِيَانِ حُكْمَ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ مِنْ النَّقْدِ وَالْقَبْضِ وَغَيْرِهِمَا.
وَأَمَّا إذَا ابْتَاعَ بِالثَّمَنِ مِنْ مُبْتَاعِهِ مِنْ جِنْسِ مَا بَاعَهُ فَهَذَا يُخْشَى مِنْهُ أَنْ لَا يَكُونَ الْعَقْدُ الْأَوَّلُ مَقْصُودًا لَهُمَا، بَلْ قَصْدُهُمَا بَيْعُ السِّلْعَةِ الْأُولَى بِالثَّانِيَةِ فَيَكُونُ رِبًا بِعَيْنِهِ، وَيَظْهَرُ هَذَا الْقَصْدُ بِأَنَّهُمَا يَتَّفِقَانِ عَلَى صَاعٍ بِصَاعَيْنِ أَوَّلًا ثُمَّ يَتَوَصَّلَانِ إلَى ذَلِكَ بِبَيْعِ الصَّاعِ بِدِرْهَمٍ وَيَشْتَرِي بِهِ صَاعَيْنِ وَلَا يُبَالِي الْبَائِعُ بِنَقْدِ ذَلِكَ الثَّمَنِ وَلَا بِقَبْضِهِ وَلَا بِعَيْبٍ فِيهِ وَلَا بِعَدَمِ رَوَاجِهِ وَلَا يَحْتَاطُ لِنَفْسِهِ فِيهِ احْتِيَاطَ مَنْ قَصْدُهُ تَمَلُّكُ الثَّمَنِ؛ إذْ قَدْ عَلِمَ هُوَ وَالْآخَرُ أَنَّ الثَّمَنَ بِعَيْنِهِ خَارِجٌ مِنْهُ عَائِدٌ إلَيْهِ، فَنَقْدُهُ
وَقَبْضُهُ وَالِاحْتِيَاطُ فِيهِ يَكُونُ عَبَثًا، وَتَأَمَّلْ حَالَ بَاعَةَ الْحُلِيِّ عَنْهُ.
كَيْفَ يُخْرِجُ كُلَّ حَلْقَةٍ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ أَوْ قِطْعَةٍ مَا وَيَبِيعُكَ إيَّاهَا بِذَلِكَ الثَّمَنِ ثُمَّ يَبْتَاعُهَا مِنْكَ؟ فَكَيْفَ لَا تَسْأَلُ عَنْ قِيمَتِهَا وَلَا عَنْ وَزْنِهَا وَلَا مُسَاوَاتِهَا لِلثَّمَنِ؟ بَلْ قَدْ تُسَاوِي أَضْعَافَهُ وَقَدْ تُسَاوِي بَعْضَهُ؛ إذْ لَيْسَتْ هِيَ الْقَصْدُ، وَإِنَّمَا الْقَصْدُ أَمْرٌ وَرَاءَهَا وَجُعِلَتْ هِيَ مُحَلِّلًا لِذَلِكَ الْمَقْصُودِ، وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَهُوَ إنَّمَا عَقَدَ مَعَهُ الْعَقْدَ الْأَوَّلَ لِيُعِيدَ إلَيْهِ الثَّمَنَ بِعَيْنِهِ وَيَأْخُذَ الْعِوَضَ الْآخَرَ، وَهَذَا تَوَاطُؤٌ مِنْهُمَا حِينَ عَقَدَاهُ عَلَى فَسْخِهِ، وَالْعَقْدُ إذَا قُصِدَ بِهِ فَسْخُهُ لَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا كَانَ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ، وَكَانَ تَوَسُّطُهُ عَبَثًا.
وَمِمَّا يُوَضِّحُ الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا جَاءَهُ بِتَمْرٍ أَوْ زَبِيبٍ أَوْ حِنْطَةٍ لِيَبْتَاعَهُ بِهِ مِنْ جِنْسِهِ فَإِنَّهُمَا يَتَشَارَطَانِ وَيَتَرَاضَيَانِ عَلَى سِعْرِ أَحَدِهِمَا مِنْ الْآخَرِ، وَأَنَّهُ مُدٌّ بِمُدٍّ وَنِصْفٍ مَثَلًا، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَقُولُ: بِعْتُكَ هَذَا بِكَذَا وَكَذَا دِرْهَمًا، ثُمَّ يَقُولُ: بِعْنِي بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ كَذَا وَكَذَا صَاعًا مِنْ النَّوْعِ الْآخَرِ، وَكَذَلِكَ فِي الصَّرْفِ، وَلَيْسَ لِلْبَائِعِ وَلَا لِلْمُشْتَرِي غَرَضٌ فِي الدَّرَاهِمِ، وَالْغَرَضُ مَعْرُوفٌ، فَأَيْنَ مَنْ يَبِيعُهُ السِّلْعَةَ بِثَمَنٍ لِيَشْتَرِيَ بِهِ مِنْهُ مِنْ جِنْسِهَا إلَى مَنْ يَبِيعُهُ إيَّاهَا بِثَمَنٍ لَهُ غَرَضٌ فِي تَمَلُّكِهِ وَقَبْضِهِ؟ وَتَوَسُّطِ الثَّمَنِ فِي الْأَوَّلِ عَبَثٌ مَحْضٌ لَا فَائِدَةَ فِيهِ، فَكَيْفَ يَأْمُرُ بِهِ الشَّارِعُ الْحَكِيمُ مَعَ زِيَادَةِ التَّعَبِ وَالْكُلْفَةِ فِيهِ؟ وَلَوْ كَانَ هَذَا سَائِغًا لَمْ يَكُنْ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا حِكْمَةٌ سِوَى تَضْيِيعِ الزَّمَانِ وَإِتْعَابِ النُّفُوسِ بِلَا فَائِدَةٍ؛ فَإِنَّهُ لَا يَشَاءُ أَحَدٌ أَنْ يَبْتَاعَ رِبَوِيًّا بِأَكْثَرَ مِنْهُ مِنْ جِنْسِهِ الْأَوَّلِ إلَّا قَالَ: بِعْتُكَ هَذَا بِكَذَا، وَابْتَعْتُ مِنْكَ هَذَا بِهَذَا الثَّمَنِ؛ فَلَا يَعْجِزُ أَحَدٌ عَنْ اسْتِحْلَالِ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ قَطُّ بِأَدْنَى الْحِيَلِ.
يُوَضِّحُهُ أَنَّ الرِّبَا نَوْعَانِ: رِبَا الْفَضْلِ، وَرِبَا النَّسِيئَةِ، فَأَمَّا رِبَا الْفَضْلِ فَيُمْكِنُهُ فِي كُلِّ مَالٍ رِبَوِيٍّ أَنْ يَقُولَ: بِعْتُكَ هَذَا الْمَالَ بِكَذَا، وَيُسَمِّي مَا شَاءَ، ثُمَّ يَقُولُ: اشْتَرَيْتُ مِنْكَ هَذَا لِلَّذِي هُوَ مِنْ جِنْسِهِ - بِذَلِكَ الَّذِي سَمَّاهُ، وَلَا حَقِيقَةَ لَهُ مَقْصُودَةٌ، وَأَمَّا رِبَا النَّسِيئَةِ فَيُمْكِنُهُ أَنْ يَقُولَ: بِعْتُكَ هَذِهِ الْحَرِيرَةَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ أَوْ عِشْرِينَ صَاعًا إلَى سَنَةٍ، وَابْتَعْتُهَا مِنْكَ بِخَمْسِمِائَةٍ حَالَّةٍ أَوْ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا، وَيُمَكِّنَهُ رِبَا الْفَضْلِ، فَلَا يَشَاءُ مُرَابٍ إلَّا أَقْرَضَهُ ثُمَّ حَابَاهُ فِي بَيْعٍ أَوْ إجَارَةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، وَيَحْصُلُ مَقْصُودُهُ مِنْ الزِّيَادَةِ، فَيَا سُبْحَانَ اللَّهِ، أَيَعُودُ الرِّبَا - الَّذِي قَدْ عَظَّمَ اللَّهُ شَأْنَهُ فِي الْقُرْآنِ، وَأَوْجَبَ مُحَارَبَةَ مُسْتَحِلِّهِ، وَلَعَنَ آكِلَهُ وَمُوكِلَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَكَاتَبَهُ، وَجَاءَ فِيهِ مِنْ الْوَعِيدِ مَا لَمْ يَجِئْ فِي غَيْرِهِ - إلَى أَنْ يُسْتَحَلَّ نَوْعَاهُ بِأَدْنَى حِيلَةٍ لَا كُلْفَةَ فِيهَا أَصْلًا إلَّا بِصُورَةِ عَقْدٍ هِيَ عَبَثٌ وَلَعِبٌ يُضْحَكُ مِنْهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا؟ فَكَيْفَ يُسْتَحْسَنُ أَنْ يُنْسَبَ
إلَى نَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ فَضْلًا عَنْ سَيِّدِ الْأَنْبِيَاءِ، بَلْ أَنْ يُنْسَبَ رَبُّ الْعَالَمِينَ إلَى أَنْ يُحَرِّمَ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ الْعَظِيمَةِ وَيُوعِدَ عَلَيْهَا بِأَغْلَظِ الْعُقُوبَاتِ وَأَنْوَاعِ الْوَعِيدِ، ثُمَّ يُبِيحُهَا بِضَرْبٍ مِنْ الْحِيَلِ وَالْعَبَثِ وَالْخِدَاعِ الَّذِي لَيْسَ لَهُ حَقِيقَةٌ مَقْصُودَةٌ أَلْبَتَّةَ فِي نَفْسِهِ لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ؟ وَتَرَى كَثِيرًا مِنْ الْمُرَابِينَ - لَمَّا عَلِمَ أَنَّ هَذَا الْعَقْدَ لَيْسَ لَهُ حَقِيقَةٌ مَقْصُودَةٌ أَلْبَتَّةَ - قَدْ جَعَلَ عِنْدَهُ خَرَزَةَ ذَهَبٍ، فَكُلُّ مَنْ جَاءَهُ يُرِيدُ أَنْ يَبِيعَهُ جِنْسًا بِجِنْسِهِ أَكْثَرَ مِنْهُ أَوْ أَقَلَّ ابْتَاعَ مِنْهُ ذَلِكَ الْجِنْسَ بِتِلْكَ الْخَرَزَةِ، ثُمَّ ابْتَاعَ الْخَرَزَةَ بِالْجِنْسِ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يُعْطِيَهُ إيَّاهُ، أَفَيَسْتَجِيزُ عَاقِلٌ أَنْ يَقُولَ: إنَّ الَّذِي حَرَّمَ بَيْعَ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ مُتَفَاضِلًا أَحَلَّهَا بِهَذِهِ الْخَرَزَةِ؟
وَكَذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ الْفُجَّارِ قَدْ أَعَدَّ سِلْعَةً لِتَحْلِيلِ رِبَا النَّسَاءِ، فَإِذَا جَاءَهُ مَنْ يُرِيدُ أَلْفًا بِأَلْفٍ وَمِائَتَيْنِ أَدْخَلَ تِلْكَ السِّلْعَةِ مُحَلِّلًا، وَلِهَذَا كَانَتْ أَكْثَرُ حِيلَ الرِّبَا فِي بَابِهَا أَغْلَظَ مِنْ حِيَلِ التَّحْلِيلِ، وَلِهَذَا حَرَّمَهَا أَوْ بَعْضَهَا مَنْ لَمْ يُحَرِّمْ التَّحْلِيلَ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ فِي الْبَيْعِ مُعْتَبَرٌ فِي فِطَرِ النَّاسِ، وَلِأَنَّ الِاحْتِيَالَ فِي الرِّبَا غَالِبًا إنَّمَا يَتِمُّ بِالْمُوَاطَأَةِ اللَّفْظِيَّةِ أَوْ الْعُرْفِيَّةِ، وَلَا يَفْتَقِرُ إلَى شَهَادَةٍ، وَلَكِنْ يَتَعَاقَدَانِ ثُمَّ يَشْهَدَانِ أَنَّ لَهُ فِي ذِمَّتِهِ دَيْنًا، وَلِهَذَا إنَّمَا لَعَنَ شَاهِدَاهُ إذَا عَلِمَا بِهِ، وَالتَّحْلِيلُ لَا يُمْكِنُ إظْهَارُهُ وَقْتَ الْعَقْدِ؛ لِكَوْنِ الشَّهَادَةِ شَرْطًا فِيهِ، وَالشُّرُوطُ الْمُتَقَدِّمَةُ تُؤْثَرُ كَالْمُقَارِنَةِ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ؛ إذْ تَقْدِيمُ الشَّرْطِ وَمُقَارَنَتُهُ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ عَقْدَ تَحْلِيلٍ وَيُدْخِلُهُ فِي نِكَاحِ الرَّغْبَةِ، وَالْقُصُودُ مُعْتَبَرَةٌ فِي الْعُقُودِ.
فَصْلٌ
وَجِمَاعُ الْأَمْرِ أَنَّهُ إذَا بَاعَهُ رِبَوِيًّا بِثَمَنٍ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ بِثَمَنِهِ مِنْ جِنْسِهِ، فَإِمَّا أَنْ يُوَاطِئَهُ عَلَى الشِّرَاءِ مِنْهُ لَفْظًا، أَوْ يَكُونَ الْعُرْفُ بَيْنَهُمَا قَدْ جَرَى بِذَلِكَ، أَوْ لَا يَكُونَ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَهُوَ بَاطِلٌ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ؛ فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَقْصِدْ مِلْكَ الثَّمَنِ وَلَا قَصَدَ هَذَا تَمْلِيكَهُ، وَإِنَّمَا قَصَدَ تَمْلِيكَ الْمُثَمَّنِ بِالْمُثَمَّنِ، وَجَعَلَا تَسْمِيَةَ الثَّمَنِ تَلْبِيسًا وَخِدَاعًا وَوَسِيلَةً إلَى الرِّبَا؛ فَهُوَ فِي هَذَا الْعَقْدِ بِمَنْزِلَةِ التَّيْسِ الْمَلْعُونِ فِي عَقْدِ التَّحْلِيلِ، وَإِنْ لَمْ تَجْرِ بَيْنَهُمَا مُوَاطَأَةٌ لَكِنْ قَدْ عَلِمَ الْمُشْتَرِي أَنَّ الْبَائِعَ يُرِيدُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ رِبَوِيًّا بِرِبَوِيٍّ فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّ عِلْمَهُ بِذَلِكَ ضَرْبٌ مِنْ الْمُوَاطَأَةِ، وَهُوَ يَمْنَعُ قَصْدَ الثَّمَنِ الَّذِي يَخْرُجَانِ بِهِ عَنْ قَصْدِ الرِّبَا، وَإِنْ قَصَدَ الْبَائِعُ الشِّرَاءَ مِنْهُ بَعْدَ الْبَيْعِ وَلَمْ يَعْلَمْ الْمُشْتَرِي؛ فَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: هَاهُنَا لَوْ بَاعَ مِنْ رَجُلٍ دَنَانِيرَ بِدَرَاهِمَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْتَرِيَ بِالدَّرَاهِمِ مِنْهُ ذَهَبًا إلَّا أَنْ يَمْضِيَ وَيَبْتَاعَ بِالْوَرِقِ مِنْ غَيْرِهِ ذَهَبًا فَلَا يَسْتَقِيمُ، فَيَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى الَّذِي ابْتَاعَ مِنْهُ الدَّنَانِيرَ فَيَشْتَرِيَ مِنْهُ ذَهَبًا، وَكَذَلِكَ كَرِهَ مَالِكٌ أَنْ تَصْرِفَ دَرَاهِمَكَ مِنْ رَجُلٍ بِدَنَانِيرَ، ثُمَّ تَبْتَاعَ مِنْهُ بِتِلْكَ الدَّنَانِيرِ دَرَاهِمَ غَيْرَ دَرَاهِمِكَ فِي الْوَقْتِ أَوْ بَعْدَ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ.
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: فَإِنْ طَالَ الزَّمَانُ وَصَحَّ أَمْرُهُمَا فَلَا بَأْسَ بِهِ؛ فَوَجْهُ مَا مَنَعَهُ
الْإِمَامُ أَحْمَدَ رضي الله عنه أَنَّهُ مَتَى قَصَدَ الْمُشْتَرِي مِنْهُ تِلْكَ الدَّنَانِيرَ لَمْ يَقْصِدْ تَمَلُّكَ الثَّمَنِ، وَلِهَذَا لَا يَحْتَاطُ فِي النَّقْدِ وَالْوَزْنِ، وَلِهَذَا يَقُولُ: إنَّهُ مَتَى بَدَا لَهُ بَعْدَ الْقَبْضِ وَالْمُفَارَقَةِ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ - بِأَنْ يَطْلُبَ مِنْ غَيْرِهِ فَلَا يَجِدُ - لَمْ يَكُنْ فِي الْعَقْدِ الْأَوَّلِ خَلَلٌ، وَالْمُتَقَدِّمُونَ مِنْ أَصْحَابِهِ حَمَلُوا هَذَا الْمَنْعَ مِنْهُ عَلَى التَّحْرِيمِ.
وَقَالَ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُمَا: إذَا لَمْ يَكُنْ شَرْطٌ وَمُوَاطَأَةٌ بَيْنَهُمَا لَمْ يَحْرُمْ، وَقَدْ أَوْمَأَ إلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ؛ فَإِنَّهُ قَالَ؛ قُلْتُ لِأَحْمَدَ: أَشْتَرِي مِنْ رَجُلٍ ذَهَبًا ثُمَّ أَبْتَاعُهُ مِنْهُ، قَالَ: بَيْعُهُ مِنْ غَيْرِهِ أَحَبُّ إلَيَّ، وَذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ أَنَّ أَحْمَدَ لَمْ يَكْرَهْهُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى.
وَكَرِهَ ابْنُ سِيرِينَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَبْتَاعَ مِنْ الرَّجُلِ الدَّرَاهِمَ بِالدَّنَانِيرِ ثُمَّ يَشْتَرِيَ مِنْهُ بِالدَّرَاهِمِ دَنَانِيرَ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي رِبَا الْفَضْلِ كَمَسَائِلِ الْعِينَةِ فِي رِبَا النَّسَاءِ، وَلِهَذَا عَدَّهَا مِنْ الرِّبَا الْفُقَهَاءُ السَّبْعَةُ وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ كَمَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ، وَأَهْلِ الْحَدِيثِ كَأَحْمَدَ وَأَصْحَابِهِ، وَهُوَ مَأْثُورٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ؛ فَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَدْ عَادَ الثَّمَنُ إلَى الْمُشْتَرِي، وَحَصَلَا عَلَى رِبَا الْفَضْلِ أَوْ النَّسَاءِ، وَفِي الْعِينَةِ قَدْ عَادَ الْمَبِيعُ إلَى الْبَائِعِ وَأَفْضَى إلَى رِبَا الْفَضْلِ وَالنَّسَاءِ جَمِيعًا، ثُمَّ إنْ كَانَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لَمْ يَقْصِدْ الثَّمَنَ وَلَا الْمَبِيعَ، وَإِنَّمَا جَعَلَ وُصْلَةً إلَى الرِّبَا؛ فَهَذَا الَّذِي لَا رَيْبَ فِي تَحْرِيمِهِ، وَالْعَقْدُ الْأَوَّلُ هَاهُنَا بَاطِلٌ بِلَا تَوَقُّفٍ عِنْدَ مَنْ يُبْطِلُ الْحِيَلَ.
وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي فِي مَسْأَلَةِ الْعِينَةِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَحَكَى أَبُو الْخَطَّابِ فِي صِحَّتِهِ وَجْهَيْنِ:
قَالَ شَيْخُنَا: وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّوَابُ، وَإِنَّمَا تَرَدَّدَ مَنْ تَرَدَّدَ مِنْ الْأَصْحَابِ فِي الْعَقْدِ الْأَوَّلِ فِي مَسْأَلَةِ الْعِينَةِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ إنَّمَا يُنْسَبُ الْخِلَافُ فِيهَا فِي الْعَقْدِ الثَّانِي بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَوَّلَ صَحِيحٌ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَيْسَتْ مِنْ مَسَائِلِ الْحِيَلِ، وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ مَسَائِلِ الذَّرَائِعِ، وَلَهَا مَأْخَذٌ آخَرُ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ؛ فَإِنَّهُمْ لَا يُحَرِّمُونَ الْحِيَلَ وَيُحَرِّمُونَ مَسْأَلَةَ الْعِينَةِ، وَهُوَ أَنَّ الثَّمَنَ إذَا لَمْ يُسْتَوْفَ لَمْ يَتِمَّ الْعَقْدُ الْأَوَّلُ؛ فَيَصِيرُ الثَّانِي مَبْنِيًّا عَلَيْهِ، وَهَذَا تَعْلِيلٌ خَارِجٌ عَنْ قَاعِدَةِ الْحِيَلِ وَالذَّرَائِعِ، فَصَارَ لِلْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ مَآخِذَ، فَلَمَّا لَمْ يَتَمَحَّصْ تَحْرِيمُهَا عَلَى قَاعِدَةِ الْحِيَلِ تَوَقَّفَ فِي الْعَقْدِ الْأَوَّلِ مَنْ تَوَقَّفَ.
قَالَ شَيْخُنَا: وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهَا إذَا كَانَتْ مِنْ الْحِيَلِ أُعْطِيت حُكْمَ الْحِيَلِ، وَإِلَّا اُعْتُبِرَ فِيهَا الْمَأْخَذَانِ الْآخَرَانِ، هَذَا إذَا لَمْ يَقْصِدْ الْعَقْدَ الْأَوَّلَ، فَإِنْ قَصَدَ حَقِيقَتَهُ فَهُوَ صَحِيحٌ، لَكِنْ مَا دَامَ الثَّمَنُ فِي ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ الْمَبِيعَ بِأَقَلَّ مِنْهُ مِنْ جِنْسِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبْتَاعَ مِنْهُ الثَّمَنَ رِبَوِيًّا لَا يُبَاعُ بِالْأَوَّلِ نَسَاءً؛ لِأَنَّ أَحْكَامَ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ لَا تَتِمُّ إلَّا بِالتَّقَابُضِ؛ فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ كَانَ ذَرِيعَةً إلَى الرِّبَا، وَإِنْ تَقَابَضَا وَكَانَ الْعَقْدُ مَقْصُودًا فَلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ كَمَا يَشْتَرِيَ مِنْ غَيْرِهِ، وَإِذَا كَانَ الطَّرِيقُ إلَى الْحَلَالِ هِيَ الْعُقُودُ الْمَقْصُودَةُ الْمَشْرُوعَةُ الَّتِي لَا خِدَاعَ فِيهَا وَلَا تَحْرِيمَ
لَمْ يَصِحَّ أَنْ تُلْحَقَ بِهَا صُورَةُ عَقْدٍ لَمْ تُقْصَدْ حَقِيقَتُهُ، وَإِنَّمَا قُصِدَ التَّوَصُّلُ بِهِ إلَى اسْتِحْلَالِ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.
وَإِنَّمَا أَطَلْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذِهِ الْحُجَّةِ لِأَنَّهَا عُمْدَةُ أَرْبَابِ الْحِيَلِ مِنْ السُّنَّةِ، كَمَا [أَنَّ] عُمْدَتَهُمْ مِنْ الْكِتَابِ:{وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا} [ص: 44] .
فَصْلٌ [دَلَالَةُ حَدِيثِ أَبُو هُرَيْرَةَ عَلَى تَحْرِيمِ الْحِيَلِ] : فَهَذَا تَمَامُ الْكَلَامِ عَلَى الْمَقَامِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ عَدَمُ دَلَالَةِ الْحَدِيثِ عَلَى الْحِيَلِ الرِّبَوِيَّةِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ.
وَأَمَّا الْمَقَامُ الثَّانِي - وَهُوَ دَلَالَتُهُ عَلَى تَحْرِيمِهَا وَفَسَادِهَا - فَلِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم نَهَاهُ أَنْ يَشْتَرِيَ الصَّاعَ بِالصَّاعَيْنِ، وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الصِّفَةَ الَّتِي فِي الْحِيَلِ مَقْصُودَةٌ يَرْتَفِع سِعْرُهُ لِأَجْلِهَا، وَالْعَاقِلُ لَا يَخْرُجُ صَاعَيْنِ وَيَأْخُذُ صَاعًا إلَّا لِتَمَيُّزِ مَا يَأْخُذُهُ بِصِفَةٍ، أَوْ لِغَرَضٍ لَهُ فِي الْمَأْخُوذِ لَيْسَ فِي الْمَبْذُولِ، وَالشَّارِعُ حَكِيمٌ لَا يَمْنَعُ الْمُكَلَّفَ مِمَّا هُوَ
مَصْلَحَةٌ لَهُ
وَيَحْتَاجُ إلَيْهِ إلَّا لِتَضَمُّنِهِ أَوْ لِاسْتِلْزَامِهِ مَفْسَدَةً أَرْجَحَ مِنْ تِلْكَ الْمَصْلَحَةِ، وَقَدْ خَفِيَتْ هَذِهِ الْمَفْسَدَةُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاس حَتَّى قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: لَا يَتَبَيَّنُ لِي مَا وَجْهُ تَحْرِيمِ رِبَا الْفَضْلِ وَالْحِكْمَةِ فِيهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ حِكْمَةِ الشَّرِيعَةِ وَمُرَاعَاةِ مَصَالِحِ الْخَلْقِ، وَأَنَّ الرِّبَا نَوْعَانِ:
" رِبَا نَسِيئَةٍ، وَتَحْرِيمُهُ تَحْرِيمُ الْمَقَاصِدِ، وَرِبَا فَضْلٍ، وَتَحْرِيمُهُ تَحْرِيمُ الذَّرَائِعِ وَالْوَسَائِلِ، فَإِنَّ النُّفُوسَ مَتَى ذَاقَتْ الرِّبْحَ فِيهِ عَاجِلًا تَسَوَّرَتْ مِنْهُ إلَى الرِّبْحِ الْآجِلِ، فَسُدَّتْ عَلَيْهَا بِالذَّرِيعَةِ وَحُمِيَ جَانِبُ الْحِمَى، وَأَيُّ حِكْمَةٍ وَحُكْمٍ أَحْسَنُ مِنْ ذَلِكَ؟ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَنَعَ بِلَالًا مِنْ أَخْذِ مُدٍّ بِمُدَّيْنِ لِئَلَّا يَقَعَ فِي الرِّبَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ جَوَّزَ لَهُ ذَلِكَ بِحِيلَةٍ لَمْ يَكُنْ فِي مَنْعِهِ مِنْ بَيْعِ مُدَّيْنِ بِمُدٍّ فَائِدَةٌ أَصْلًا، بَلْ كَانَ بَيْعُهُ كَذَلِكَ أَسْهَلَ وَأَقَلَّ مَفْسَدَةً مِنْ تَوَسُّطِ الْحِيلَةِ الْبَارِدَةِ الَّتِي لَا تُغْنِي مِنْ الْمَفْسَدَةِ شَيْئًا، وَقَدْ نَبَّهَ عَلَى هَذَا بِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ:«لَا تَفْعَلْ أَوَّهْ عَيْنُ الرِّبَا» فَنَهَاهُ عَنْ الْفِعْلِ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي الْمَنْعَ بِحِيلَةٍ أَوْ غَيْرِ حِيلَةٍ؛ لِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ لَا بُدَّ أَنْ يَشْتَمِلَ عَلَى مَفْسَدَةٍ لِأَجْلِهَا يَنْهَى عَنْهُ، وَتِلْكَ الْمَفْسَدَةُ لَا تَزُولُ بِالتَّحَيُّلِ عَلَيْهَا، بَلْ تَزِيدُ، وَأَشَارَ إلَى الْمَنْعِ بِقَوْلِهِ:«أَوَّهْ عَيْنُ الرِّبَا» فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَنْعَ إنَّمَا كَانَ لِوُجُودِ حَقِيقَةِ الرِّبَا وَعَيْنِهِ، وَأَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِلصُّورَةِ الْمُجَرَّدَةِ مَعَ قِيَامِ الْحَقِيقَةِ؛ فَلَا يُهْمَلُ قَوْلُهُ:«عَيْنُ الرِّبَا» فَتَحْتَ هَذِهِ اللَّفْظَةِ مَا يُشِيرُ إلَى أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالْحَقَائِقِ، وَأَنَّهَا هِيَ الَّتِي عَلَيْهَا الْمُعَوَّلُ، وَهِيَ مَحَلُّ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى لَا يَنْظُرُ إلَى صُوَرِهَا وَعِبَارَاتِهَا الَّتِي يَكْسُوهَا إيَّاهَا الْعَبْدُ، وَإِنَّمَا يَنْظُرُ إلَى حَقَائِقِهَا وَذَوَاتِهَا، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.
فَصْلٌ [الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إنَّ الْحِيَلَ مَعَارِيضُ فِعْلِيَّةٌ] : وَأَمَّا تَمَسُّكُهُمْ بِجَوَازِ الْمَعَارِيضِ وَقَوْلِهِمْ: " إنَّ الْحِيَلَ مَعَارِيضُ فِعْلِيَّةٌ عَلَى وِزَانِ الْمَعَارِيضِ الْقَوْلِيَّةِ " فَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُقَالَ وَمَنْ سَلَّمَ لَكُمْ أَنَّ الْمَعَارِيضَ إذَا تَضَمَّنَتْ اسْتِبَاحَةَ الْحَرَامِ وَإِسْقَاطَ الْوَاجِبَاتِ وَإِبْطَالَ الْحُقُوقِ كَانَتْ جَائِزَةً؟ بَلْ هِيَ مِنْ الْحِيَلِ الْقَوْلِيَّةِ، وَإِنَّمَا تَجُوزُ الْمَعَارِيضُ إذَا كَانَ فِيهِ تَخَلُّصٌ مِنْ ظَالِمٍ، كَمَا عَرَّضَ الْخَلِيلُ بِقَوْلِهِ:" هَذِهِ أُخْتِي " فَإِذَا تَضَمَّنَتْ نَصْرَ حَقٍّ أَوْ إبْطَالَ بَاطِلٍ كَمَا عَرَّضَ الْخَلِيلُ بِقَوْلِهِ: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89]، وَقَوْلِهِ:{بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63] وَكَمَا عَرَّضَ الْمَلَكَانِ لِدَاوُدَ بِمَا ضَرَبَاهُ لَهُ مِنْ الْمِثَالِ الَّذِي نَسَبَاهُ إلَى أَنْفُسِهِمَا، وَكَمَا عَرَّضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ:«نَحْنُ مِنْ مَاءٍ» وَكَمَا كَانَ يُوَرِّي عَنْ الْغَزْوَةِ بِغَيْرِهَا لِمَصْلَحَةِ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ، إذَا لَمْ تَتَضَمَّنْ مَفْسَدَةً فِي دِينٍ وَلَا دُنْيَا، كَمَا عَرَّضَ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ:«إنَّا حَامِلُوكَ عَلَى وَلَدِ النَّاقَةِ» وَبِقَوْلِهِ: «إنَّ الْجَنَّةَ لَا تَدْخُلُهَا الْعُجُزُ» وَبِقَوْلِهِ: «مَنْ يَشْتَرِي مِنِّي هَذَا الْعَبْدَ» يُرِيدُ عَبْدَ اللَّهِ، وَبِقَوْلِهِ لِتِلْكَ الْمَرْأَةِ:«زَوْجُكِ الَّذِي فِي عَيْنَيْهِ بَيَاضٌ» وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْبَيَاضَ الَّذِي خَلَقَهُ اللَّهُ فِي عُيُونِ بَنِي آدَمَ، وَهَذِهِ الْمَعَارِيضُ وَنَحْوُهَا مِنْ أَصْدَقِ الْكَلَامِ، فَأَيْنَ فِي جَوَازِ هَذِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْحِيَلِ الْمَذْكُورَةِ؟ .
وَقَالَ شَيْخُنَا رضي الله عنه: وَاَلَّذِي قِيسَتْ عَلَيْهِ الْحِيَلُ الرِّبَوِيَّةُ وَلَيْسَتْ مِثْلُهُ نَوْعَانِ؛ أَحَدُهُمَا: الْمَعَارِيضُ، وَهِيَ: أَنْ يَتَكَلَّمَ الرَّجُلُ بِكَلَامٍ جَائِزٍ يَقْصِدُ بِهِ مَعْنًى صَحِيحًا، وَيُوهِمُ غَيْرَهُ أَنَّهُ يَقْصِدُ بِهِ مَعْنًى آخَرَ؛ فَيَكُونُ سَبَبُ ذَلِكَ الْوَهْمِ كَوْنُ اللَّفْظِ مُشْتَرَكًا بَيْن حَقِيقَتَيْنِ لُغَوِيَّتَيْنِ أَوْ عُرْفِيَّتَيْنِ أَوْ شَرْعِيَّتَيْنِ أَوْ لُغَوِيَّةٍ مَعَ إحْدَاهُمَا أَوْ عُرْفِيَّةٍ مَعَ إحْدَاهُمَا أَوْ شَرْعِيَّةٍ مَعَ إحْدَاهُمَا، فَيَعْنِي أَحَدَ مَعْنَيَيْهِ وَيُوهِمُ السَّامِعَ لَهُ أَنَّهُ إنَّمَا عَنَى الْآخَرَ: إمَّا لِكَوْنِهِ لَمْ يَعْرِفْ إلَّا ذَلِكَ، وَإِمَّا لِكَوْنِ دَلَالَةِ الْحَالِ تَقْتَضِيه، وَإِمَّا لِقَرِينَةٍ حَالِيَّةٍ أَوْ مَقَالِيَّةٍ يَضُمُّهَا إلَى اللَّفْظِ، أَوْ يَكُونُ سَبَبُ التَّوَهُّمِ كَوْنَ اللَّفْظِ ظَاهِرًا فِي مَعْنًى فَيَعْنِي بِهِ مَعْنًى يَحْتَمِلُهُ بَاطِنًا: بِأَنْ يَنْوِيَ مَجَازَ اللَّفْظِ دُونَ حَقِيقَتِهِ، أَوْ يَنْوِيَ بِالْعَامِّ الْخَاصَّ أَوْ بِالْمُطْلَقِ الْمُقَيَّدَ، أَوْ يَكُونُ سَبَبُ التَّوَهُّمِ كَوْنَ الْمُخَاطَبِ إنَّمَا يَفْهَمُ مِنْ اللَّفْظِ غَيْرَ حَقِيقَتِهِ لِعُرْفٍ خَاصٍّ بِهِ أَوْ غَفْلَةٍ مِنْهُ أَوْ جَهْلٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ، مَعَ كَوْنِ الْمُتَكَلِّمِ إنَّمَا قَصَدَ حَقِيقَتَهُ؛ فَهَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ بِهِ رَفْعَ ضَرَرٍ غَيْرَ مُسْتَحِقٍّ فَهُوَ جَائِزٌ، كَقَوْلِ الْخَلِيلِ:" هَذِهِ أُخْتِي " وَقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «نَحْنُ مِنْ مَاءٍ» وَقَوْلِ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه: " هَادٍ يَهْدِينِي السَّبِيلَ " وَمِنْهُ قَوْلُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ:
شَهِدْتُ بِأَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ
الْأَبْيَاتَ أَوْهَمَ امْرَأَتَهُ0 الْقُرْآنَ، وَقَدْ يَكُونُ وَاجِبًا إذَا تَضَمَّنَ دَفْعَ ضَرَرٍ يَجِبُ دَفْعُهُ وَلَا يَنْدَفِعُ إلَّا بِذَلِكَ.
وَهَذَا الضَّرْبُ وَإِنْ كَانَ نَوْعُ حِيلَةٍ فِي الْخِطَابِ لَكِنَّهُ يُفَارِقُ الْحِيَلَ الْمُحَرَّمَةَ مِنْ الْوَجْهِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ وَالْوَجْهِ الْمُحْتَالُ بِهِ؛ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِكَوْنِهِ دَفْعَ ضَرَرٍ غَيْرِ مُسْتَحَقٍّ، فَلَوْ تَضَمَّنَ كِتْمَانَ مَا يَجِبُ إظْهَارُهُ مِنْ شَهَادَةٍ أَوْ إقْرَارٍ أَوْ عِلْمٍ أَوْ نَصِيحَةِ مُسْلِمٍ أَوْ التَّعْرِيفَ بِصِفَةِ مَعْقُودٍ عَلَيْهِ فِي بَيْعٍ أَوْ نِكَاحٍ أَوْ إجَارَةٍ فَإِنَّهُ غِشٌّ مُحَرَّمٌ بِالنَّصِّ.
قَالَ مُثَنَّى الْأَنْبَارِيُّ: قُلْتُ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: كَيْفَ الْحَدِيثُ الَّذِي جَاءَ فِي الْمَعَارِيضِ؟ فَقَالَ: الْمَعَارِيضُ لَا تَكُونُ فِي الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ، تَكُونُ فِي الرَّجُلِ يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ أَوْ نَحْوِ هَذَا.
قَالَ شَيْخُنَا: وَالضَّابِطُ أَنَّ كُلَّ مَا وَجَبَ بَيَانُهُ فَالتَّعْرِيضُ فِيهِ حَرَامٌ؛ لِأَنَّهُ كِتْمَانٌ وَتَدْلِيسٌ، وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْإِقْرَارُ بِالْحَقِّ، وَالتَّعْرِيضُ فِي الْحَلِفِ عَلَيْهِ، وَالشَّهَادَةُ عَلَى الْعُقُودِ، وَوَصْفُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَالْفُتْيَا وَالْحَدِيثُ وَالْقَضَاءُ، وَكُلُّ مَا حَرُمَ بَيَانُهُ فَالتَّعْرِيضُ فِيهِ جَائِزٌ، بَلْ وَاجِبٌ إذَا أَمْكَنَ وَوَجَبَ الْخِطَابُ، كَالتَّعْرِيضِ لِسَائِلٍ عَنْ مَالٍ مَعْصُومٍ أَوْ نَفْسِهِ يُرِيدُ أَنْ يَعْتَدِيَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ بَيَانُهُ جَائِزًا أَوْ كِتْمَانُهُ جَائِزًا؛ فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ الْمَصْلَحَةُ فِي كِتْمَانِهِ أَوْ فِي إظْهَارِهِ أَوْ كِلَاهُمَا مُتَضَمِّنٌ لِلْمَصْلَحَةِ؛ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَالتَّعْرِيضُ مُسْتَحَبٌّ كَتَوْرِيَةِ الْغَازِي عَنْ الْوَجْهِ الَّذِي يُرِيدُهُ، وَتَوْرِيَةِ الْمُمْتَنِعِ عَنْ الْخُرُوجِ وَالِاجْتِمَاعِ بِمَنْ يَصُدُّهُ عَنْ طَاعَةٍ أَوْ مَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ كَتَوْرِيَةِ أَحْمَدَ عَنْ الْمَرْوَزِيِّ، وَتَوْرِيَةِ الْحَالِفِ لِظَالِمٍ لَهُ أَوْ لِمَنْ اسْتَحْلَفَهُ يَمِينًا لَا تَجِبُ عَلَيْهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ
وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَالتَّوْرِيَةُ فِيهِ مَكْرُوهَةٌ، وَالْإِظْهَارُ مُسْتَحَبٌّ، وَهَذَا فِي كُلِّ مَوْضِعٍ يَكُونُ الْبَيَانُ فِيهِ مُسْتَحَبًّا، وَإِنْ تَسَاوَى الْأَمْرَانِ وَكَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا طَرِيقًا إلَى الْمَقْصُودِ لِكَوْنِ ذَلِكَ الْمُخَاطَبِ التَّعْرِيضُ وَالتَّصْرِيحُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ سَوَاءٌ جَازَ الْأَمْرَانِ، كَمَا لَوْ كَانَ يَعْرِفُ بِعِدَّةِ أَلْسُنٍ وَخِطَابُهُ بِكُلِّ لِسَانٍ مِنْهَا يَحْصُلُ مَقْصُودُهُ، وَمِثْلُ هَذَا مَا لَوْ كَانَ لَهُ غَرَضٌ مُبَاحٌ فِي التَّعْرِيضِ وَلَا حَذَرَ عَلَيْهِ فِي التَّصْرِيحِ، وَالْمُخَاطَبُ لَا يَفْهَمُ مَقْصُودُهُ، وَفِي هَذَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ لِلْفُقَهَاءِ وَهِيَ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، أَحَدُهَا: لَهُ التَّعْرِيضُ؛ إذْ لَا يَتَضَمَّنُ كِتْمَانَ حَقٍّ وَلَا إضْرَارًا بِغَيْرِ مُسْتَحِقٍّ.
وَالثَّانِي: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ إيهَامٌ لِلْمُخَاطَبِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَيْهِ، وَذَلِكَ تَغْرِيرٌ، وَرُبَّمَا أَوْقَعَ السَّامِعَ فِي الْخَبَرِ الْكَاذِبِ، وَقَدْ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ ضَرَرٌ بِهِ.
وَالثَّالِثُ لَهُ التَّعْرِيضُ فِي غَيْرِ الْيَمِينِ.
وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ زِيَادٍ: سَأَلْتُ أَحْمَدَ عَنْ الرَّجُلِ يُعَارِضُ فِي كَلَامِهِ يَسْأَلُنِي عَنْ الشَّيْءِ أَكْرَهُ أَنْ أُخْبِرَهُ بِهِ، قَالَ: إذَا لَمْ يَكُنْ يَمِينًا فَلَا بَأْسَ، فِي الْمَعَارِيضِ مَنْدُوحَةٌ عَنْ الْكَذِبِ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَى الْجَوَابِ، فَأَمَّا الِابْتِدَاءُ فَالْمَنْعُ فِيهِ ظَاهِرٌ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ أُمِّ كُلْثُومٍ أَنَّهُ لَمْ يُرَخِّصْ فِيمَا يَقُولُ النَّاسُ إنَّهُ كَذِبٌ إلَّا فِي ثَلَاثٍ، وَكُلُّهَا مِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْمُتَكَلِّمُ، وَبِكُلِّ حَالٍ فَغَايَةُ هَذَا الْقِسْمِ تَجْهِيلُ السَّامِعِ بِأَنْ يُوقِعَهُ الْمُتَكَلِّمُ فِي اعْتِقَادِ مَا لَمْ يُرِدْهُ بِكَلَامِهِ، وَهَذَا التَّجْهِيلُ قَدْ تَكُونُ مَصْلَحَتُهُ أَرْجَحُ مِنْ مَفْسَدَتِهِ، وَقَدْ تَكُونُ مَفْسَدَتُهُ أَرْجَحُ مِنْ مَصْلَحَتِهِ، وَقَدْ يَتَعَارَضُ الْأَمْرَانِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ مَنْ كَانَ عِلْمُهُ بِالشَّيْءِ يَحْمِلُهُ عَلَى مَا يَكْرَهُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ كَانَ تَجْهِيلُهُ بِهِ وَكِتْمَانُهُ عَنْهُ أَصْلَحُ لَهُ وَلِلْمُتَكَلِّمِ، وَكَذَلِكَ مَا كَانَ فِي عِلْمِهِ مَضَرَّةٌ عَلَى الْقَائِلِ أَنْ تَفُوتَ عَلَيْهِ مَصْلَحَةٌ هِيَ أَرْجَحُ مِنْ مَصْلَحَةِ الْبَيَانِ فَلَهُ أَنْ يَكْتُمَهُ عَنْ السَّامِعِ؛ فَإِنْ أَبَى إلَّا اسْتِنْطَاقَهُ فَلَهُ أَنْ يُعَرِّضَ لَهُ.
فَالْمَقْصُودُ بِالْمَعَارِيضِ فِعْلٌ وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ أَوْ مُبَاحٌ أَبَاحَ الشَّارِعُ السَّعْيَ فِي حُصُولِهِ وَنَصَبَ لَهُ سَبَبًا يُفْضِي إلَيْهِ؛ فَلَا يُقَاسُ بِهَذِهِ الْحِيَلِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ سُقُوطَ مَا أَوْجَبَهُ الشَّارِعُ وَتَحْلِيلَ مَا حَرَّمَهُ، فَأَيْنَ أَحَدُ الْبَابَيْنِ مِنْ الْآخَرِ؟ وَهَلْ هَذَا إلَّا مِنْ أَفْسَدِ الْقِيَاسِ؟ وَهُوَ كَقِيَاسِ الرِّبَا عَلَى الْبَيْعِ وَالْمَيْتَةِ عَلَى الْمُذَكَّى.
فَصْلٌ فَهَذَا الْفَرْقُ مِنْ جِهَةِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْفَرْقُ مِنْ جِهَةِ الْمُحْتَالِ بِهِ فَإِنَّ الْمُعَرِّضَ إنَّمَا تَكَلَّمَ بِحَقٍّ، وَنَطَقَ بِصِدْقٍ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ، لَا سِيَّمَا إنْ لَمْ يَنْوِ بِاللَّفْظِ خِلَافَ ظَاهِرِهِ فِي نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ عَدَمُ الظُّهُورِ مِنْ ضَعْفِ فَهْمِ السَّامِعِ وَقُصُورِهِ فِي فَهْمِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ، وَمَعَارِيضُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمِزَاحُهُ كَانَتْ مِنْ هَذَا النَّوْعِ، كَقَوْلِهِ:«نَحْنُ مِنْ مَاءٍ» وَقَوْلِهِ: «إنَّا حَامِلُوكَ عَلَى وَلَدِ النَّاقَةِ» «وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ الْعُجُزُ» «وَزَوْجُكِ الَّذِي فِي عَيْنَيْهِ بَيَاضٌ» وَأَكْثَرُ مَعَارِيضِ السَّلَفِ كَانَتْ مِنْ هَذَا، وَمِنْ هَذَا الْبَابِ التَّدْلِيسُ فِي الْإِسْنَادِ، لَكِنَّ هَذَا مَكْرُوهٌ لِتَعَلُّقِهِ بِالدِّينِ وَكَوْنِ الْبَيَانِ فِي الْعِلْمِ وَاجِبًا، بِخِلَافِ مَا قُصِدَ بِهِ دَفْعُ ظَالِمٍ أَوْ دَفْعُ ضَرَرٍ عَنْ الْمُتَكَلِّمِ.
[الْمَعَارِيضُ عَلَى نَوْعَيْنِ]
وَالْمَعَارِيضُ نَوْعَانِ؛ أَحَدُهُمَا: أَنْ يُسْتَعْمَلَ اللَّفْظُ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَا وُضِعَ لَهُ فَلَا يَخْرُجُ بِهِ عَنْ ظَاهِرِهِ، وَيَقْصِدُ فَرْدًا مِنْ أَفْرَادِ حَقِيقَتِهِ، فَيَتَوَهَّمُ السَّامِعُ أَنَّهُ قَصَدَ غَيْرَهُ: إمَّا لِقُصُورِ فَهْمِهِ، وَإِمَّا لِظُهُورِ ذَلِكَ الْفَرْدِ عِنْدَهُ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ، وَإِمَّا لِشَاهِدِ الْحَالِ عِنْدَهُ، وَإِمَّا لِكَيْفِيَّةِ
الْمُخْبِرِ وَقْتَ التَّكَلُّمِ مِنْ ضَحِكٍ أَوْ غَضَبٍ أَوْ إشَارَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَإِذَا تَأَمَّلْتَ الْمَعَارِيضَ النَّبَوِيَّةَ وَالسَّلَفِيَّةَ وَجَدْتَ عَامَّتَهَا مِنْ هَذَا النَّوْعِ، وَالثَّانِي: أَنْ يُسْتَعْمَلَ الْعَامُّ فِي الْخَاصِّ وَالْمُطْلَقُ فِي الْمُقَيَّدِ، وَهُوَ الَّذِي يُسَمِّيهِ الْمُتَأَخِّرُونَ الْحَقِيقَةَ وَالْمَجَازَ، وَلَيْسَ يُفْهَمُ أَكْثَرُ مِنْ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ؛ فَإِنَّ لَفْظَ الْأَسَدِ وَالْبَحْرِ وَالشَّمْسِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ لَهُ مَعْنًى، وَعِنْدَ التَّقْيِيدِ لَهُ مَعْنًى يُسَمُّونَهُ الْمَجَازُ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ مُقَيَّدٍ وَمُقَيَّدٍ وَلَا بَيْنَ قَيْدٍ وَقَيْدٍ، فَإِنْ قَالُوا:" كُلُّ مُقَيَّدٍ مَجَازٌ " لَزِمَهُمْ أَنْ يَكُونَ كُلُّ كَلَامٍ مُرَكَّبٍ مَجَازًا؛ فَإِنَّ التَّرْكِيبَ يُقَيِّدُهُ بِقُيُودٍ زَائِدَةٍ عَلَى اللَّفْظِ الْمُطْلَقِ، وَإِنْ قَالُوا:" بَعْضُ الْقُيُودِ يَجْعَلُهُ مَجَازًا دُونَ بَعْضٍ " سُئِلُوا عَنْ الضَّابِطِ مَا هُوَ، وَلَنْ يَجِدُوا إلَيْهِ سَبِيلًا، وَإِنْ قَالُوا:" يُعْتَبَرُ اللَّفْظُ الْمُفْرَدُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُفْرَدٌ قَبْلَ التَّرْكِيبِ، وَهُنَاكَ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ ". قِيلَ لَهُمْ: هَذَا أَبْعَدُ وَأَشَدُّ فَسَادًا؛ فَإِنَّ اللَّفْظَ قَبْلَ الْعَقْدِ وَالتَّرْكِيبِ بِمَنْزِلَةِ الْأَصْوَاتِ الَّتِي يَنْعِقُ بِهَا وَلَا تُفِيدُ شَيْئًا، وَإِنَّمَا إفَادَتُهَا بَعْدَ تَرْكِيبِهَا، وَأَنْتُمْ قُلْتُمْ: الْحَقِيقَةُ هِيَ اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ، وَأَكْثَرُكُمْ يَقُولُ: اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِيمَا وُضِعَ لَهُ أَوَّلًا، وَالْمَجَازُ بِالْعَكْسِ؛ فَلَا بُدَّ فِي الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ مِنْ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِيمَا وُضِعَ لَهُ، وَهُوَ إنَّمَا يُسْتَعْمَلُ بَعْدَ تَرْكِيبِهِ، وَحِينَئِذٍ فَتَرْكِيبُهُ بَعْدَهُ بِقُيُودٍ يُفْهَمُ مِنْهَا مُرَادُ الْمُتَكَلِّمِ، فَمَا الَّذِي جَعَلَهُ مَعَ بَعْضِ تِلْكَ الْقُيُودِ حَقِيقَةً وَمَعَ بَعْضِهَا مَجَازًا؟
وَلَيْسَ الْغَرَضُ إبْطَالَ هَذَا التَّقْسِيمِ الْحَادِثِ الْمُبْتَدَعِ الْمُتَنَاقِضِ فَإِنَّهُ بَاطِلٌ مِنْ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ وَجْهًا، وَإِنَّمَا الْغَرَضُ التَّنْبِيهُ عَلَى نَوْعَيْ التَّعْرِيضِ، وَأَنَّهُ تَارَةً يَكُونُ مَعَ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي ظَاهِرِهِ وَتَارَةً يَكُونُ بِإِخْرَاجِهِ عَنْ ظَاهِرِهِ، وَلَا يَذْكُرُ الْمُعَرِّضُ قَرِينَةً تُبَيِّنُ مُرَادَهُ، وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ عَامَّةُ التَّعْرِيضِ فِي الْأَيْمَانِ وَالطَّلَاقِ، كَقَوْلِهِ:" كُلُّ امْرَأَةٍ لَهُ فَهِيَ طَالِقٌ " وَيَنْوِي فِي بَلَدِ كَذَا وَكَذَا، أَوْ يَنْوِي فُلَانَةَ، أَوْ قَوْلُهُ:" أَنْت طَالِقٌ " وَيَنْوِي مِنْ زَوْجٍ كَانَ قَبْلَهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ؛ فَهَذَا الْقَسَمُ شَيْءٌ وَاَلَّذِي قَبْلَهُ شَيْءٌ، فَأَيْنَ هَذَا مِنْ قَصْدِ الْمُحْتَالِ بِلَفْظِ الْعَقْدِ أَوْ صُورَتِهِ مَا.
لَمْ يَجْعَلْهُ الشَّارِعُ مُقْتَضِيًا لَهُ بِوَجْهٍ بَلْ جَعَلَهُ مُقْتَضِيًا لِضِدِّهِ؟ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ صَلَاحِيَةِ اللَّفْظِ لَهُ إخْبَارًا صَلَاحِيَتُهُ لَهُ إنْشَاءً؛ فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ: " تَزَوَّجْتُ " فِي الْمَعَارِيضِ وَعَنَى نِكَاحًا فَاسِدًا كَانَ صَادِقًا كَمَا لَوْ بَيَّنَهُ، وَلَوْ قَالَ:" تَزَوَّجْتُ " إنْشَاءً وَكَانَ فَاسِدًا لَمْ يَنْعَقِدْ، وَكَذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْحِيَلِ؛ فَإِنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَشْرَعْ الْقَرْضَ إلَّا لِمَنْ قَصَدَ أَنْ يَسْتَرْجِعَ مِثْلَ قَرْضِهِ، وَلَمْ يَشْرَعْهُ لِمَنْ قَصَدَ أَنْ يَأْخُذَ أَكْثَرَ مِنْهُ لَا بِحِيلَةٍ وَلَا بِغَيْرِهَا، وَكَذَلِكَ إنَّمَا شَرَعَ الْبَيْعَ لِمَنْ لَهُ غَرَضٌ فِي تَمْلِيكِ الثَّمَنِ وَتَمْلِيكِ السِّلْعَةِ، وَلَمْ يَشْرَعْهُ قَطُّ لِمَنْ قَصَدَ بِهِ رِبَا الْفَضْلِ أَوْ النَّسَاءِ وَلَا غَرَضَ لَهُ فِي الثَّمَنِ وَلَا فِي الْمُثَمَّنِ وَلَا فِي
السِّلْعَةِ، وَإِنَّمَا غَرَضُهُمَا الرِّبَا، وَكَذَلِكَ النِّكَاحُ لَمْ يَشْرَعْهُ إلَّا لِرَاغِبٍ فِي الْمَرْأَةِ، لَمْ يَشْرَعْهُ لِلْمُحَلِّلِ، وَكَذَلِكَ الْخُلْعُ لَمْ يَشْرَعْهُ إلَّا لِلْمُفْتَدِيَةِ نَفْسَهَا مِنْ الزَّوْجِ تَتَخَلَّصُ مِنْهُ مِنْ سُوءِ الْعِشْرَةِ، وَلَمْ يَشْرَعْهُ لِلتَّحَيُّلِ عَلَى الْحِنْثِ قَطُّ.
وَكَذَلِكَ التَّمْلِيكُ لَمْ يَشْرَعْهُ اللَّهُ سبحانه وتعالى إلَّا لِمَنْ قَصَدَ نَفْعَ الْغَيْرِ وَالْإِحْسَانَ إلَيْهِ بِتَمْلِيكِهِ سَوَاءٌ كَانَ مُحْتَاجًا أَوْ غَيْرَ مُحْتَاجٍ، وَلَمْ يَشْرَعْهُ لِإِسْقَاطِ فَرْضٍ مِنْ زَكَاةٍ أَوْ حَجٍّ أَوْ غَيْرِهِمَا قَطُّ، وَكَذَلِكَ الْمَعَارِيض لَمْ يَشْرَعْهَا إلَّا لِمُحْتَاجٍ إلَيْهَا أَوْ لِمَنْ لَا يُسْقِطُ بِهَا حَقًّا وَلَا يَضُرُّ بِهَا أَحَدًا، وَلَمْ يَشْرَعْهَا إذَا تَضَمَّنَتْ إسْقَاطَ حَقٍّ أَوْ إضْرَارًا لِغَيْرِ مُسْتَحِقٍّ.
[مَتَى تُبَاحُ الْمَعَارِيضُ] ؟ فَثَبَتَ أَنَّ التَّعْرِيضَ الْمُبَاحَ لَيْسَ مِنْ الْمُخَادَعَةِ لِلَّهِ فِي شَيْءٍ، وَغَايَتُهُ أَنَّهُ مُخَادَعَةٌ لِمَخْلُوقٍ أَبَاحَ الشَّارِعُ مُخَادَعَتَهُ لِظُلْمِهِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ جَوَازِ مُخَادِعَةِ الظَّالِمِ الْمُبْطِلِ جَوَازُ مُخَادَعَةِ الْمُحِقِّ؛ فَمَا كَانَ مِنْ التَّعْرِيضِ مُخَالِفًا لِظَاهِرِ اللَّفْظِ كَانَ قَبِيحًا إلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ وَمَا لَمْ يَكُنْ مِنْهَا مُخَالِفًا لِظَاهِرِ اللَّفْظِ كَانَ جَائِزًا إلَّا عِنْدَ تَضَمُّنِ مَفْسَدَةٍ.
وَالْمَعَارِيضُ كَمَا تَكُونُ بِالْقَوْلِ تَكُونُ بِالْفِعْلِ، وَتَكُونُ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ مَعًا، مِثَالُ ذَلِكَ أَنْ يُظْهِرَ الْمُحَارِبُ أَنَّهُ يُرِيدُ وَجْهًا مِنْ الْوُجُوهِ وَيُسَافِرَ إلَيْهِ لِيَحْسَبَ الْعَدُوُّ أَنَّهُ لَا يُرِيدُهُ ثُمَّ يَكِرُّ عَلَيْهِ وَهُوَ آمِنٌ مِنْ قَصْدِهِ، أَوْ يُسْتَطْرَدُ الْمُبَارِزُ بَيْنَ يَدَيْ خَصْمِهِ لِيَظُنَّ هَزِيمَتَهُ ثُمَّ يَعْطِفُ عَلَيْهِ، وَهَذَا مِنْ خِدَاعَاتِ الْحَرْبِ.
فَصْلٌ [النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ الْمَعَارِيضِ] : فَهَذَا أَحَدُ النَّوْعَيْنِ الَّذِي قِيسَتْ عَلَيْهِ الْحِيَلُ الْمُحَرَّمَةُ، وَالنَّوْعُ الثَّانِي: الْكَيْدُ الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ لِلْمَظْلُومِ أَنْ يَكِيدَ بِهِ ظَالِمَهُ وَيَخْدَعَهُ بِهِ، إمَّا لِلتَّوَصُّلِ إلَى أَخْذِ حَقِّهِ مِنْهُ، أَوْ عُقُوبَةً لَهُ، أَوْ لِكَفِّ شَرِّهِ وَعُدْوَانِهِ عَنْهُ، كَمَا رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ:«أَنَّ رَجُلًا شَكَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ جَارِهِ أَنَّهُ يُؤْذِيهِ، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَطْرَحَ مَتَاعَهُ فِي الطَّرِيقِ، فَفَعَلَ، فَجَعَلَ كُلُّ مَنْ مَرَّ عَلَيْهِ يَسْأَلُ عَنْ شَأْنِ الْمَتَاعِ، فَيُخْبَرُ بِأَنَّ جَارَ صَاحِبِهِ يُؤْذِيهِ، فَيَسُبُّهُ وَيَلْعَنُهُ، فَجَاءَ إلَيْهِ وَقَالَ: رُدَّ مَتَاعَكَ إلَى مَكَانِهِ فَوَاَللَّهِ لَا أُؤْذِيكَ بَعْدَ ذَلِكَ أَبَدًا» .
فَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ الْمَعَارِيضِ الْفِعْلِيَّةِ، وَأَلْطَفِ الْحِيَلِ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى دَفْعِ ظُلْمِ الظَّالِمِ.
وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ هَذَا الْجِنْسَ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي الْحِيَلِ عَلَى اسْتِحْلَالِ مَحَارِمِ اللَّهِ،