الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كما قدم على الأنعام إحياءً الأرض، فإنه سبب لحياتها وتعيّشها، فانظر يا أخي كيف رتب سبحانه ذكر ما هو رزق الإنسان ورزق رزقه، فإن الأنعام رزق الإنسان، والنبات رزق الأنعام، والمطر رزق النبات، فقدم ذكر المطر، ورتّب عليه ذكر حياة الأرض بالنبات، ورتّب عليه ذكر الأنعام.
وفي "المراح": قوله: {كَثِيرًا} إما راجع للـ {أناسي} ، وذلك لأن أكثر الناس يجتمعون في البلاد القريبة من الأنهار وينابيع الماء، فهم في غنية في شرب الماء عن المطر، وكثير منهم نازلون في البوادي، فلا يجدون المياه للشرب إلّا عند نزول المطر، وإما راجع إلى {نسقيه} ، وذلك لأن الحيوان يحتاج الماء حالًا بعد حال ما دام حيًا، وهو مخالف للنبات الذي يكفيه من الماء قدر معين، حتى لو زيد عليه بعض ذلك .. لكان أقرب إلى الضرر، اهـ. وقرأ يحيى بن الحارث الذماري وأبو مجلز والضحاك وأبو العالية وعاصم الجحدري (1):{وأناسِيْ} بتخفيف الياء، ورويت عن الكسائي.
50
- {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ} ؛ أي: وعزتي وجلالي لقد كرّرنا هذا القول الذي هو إنشاء السحاب، وإنزال المطر لما مرّ من الغايات الجليلة في القرآن وغيره من الكتب السماوية {بَيْنَهُمْ}؛ أي: بين الناس من المتقدمين والمتأخرين {لِيَذَّكَّرُوا} ؛ أي: ليتفكروا ويعرفوا كمال القدرة وحق النعمة في ذلك، ويقوموا بشكره حق القيام. وأصله:{ليتذكروا} من التذكر؛ وهو التفكر {فَأَبَى} وامتنع {أَكْثَرُ النَّاسِ} ممن سلف وخلف {إِلَّا كُفُورًا} ؛ أي: كفران النعمة وقلة المبالاة بشأنها، فإن حقها أن يتفكر فيها، ويستدل بها على وجود الصانع وقدرته وإحسانه، وكفر النعمة وكفرانها سترها بترك أداء شكرها، وأعظم الكفر جحود الوحدانية، أو النبوة، أو الشريعة.
وأكثر المفسرين (2): على أن الضمير في {صَرَّفْنَاهُ} راجع إلى نفس الماء
(1) البحر المحيط.
(2)
روح البيان.
الطهور الذي هو المطر، فالمعنى عليه؛ أي: وعزتي وجلالي {لَقَدْ صَرَّفْنَاهُ} ؛ أي: فرقنا المطر بينهم بإنزال له في بعض البلاد والأمكنة دون غيرها، أو في بعض الأوقات دون بعض، أو على صفة دون أخرى بجعله تارة وابلًا وهو المطر الشديد، وأخرى طلا وهو المطر الضعيف، ومرة ديمة وهو المطر الذي يدوم أيامًا {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ} إلّا جحودًا للنعمة، وكفرًا بالله تعالى بأن يقولوا: مطرنا بنوء كذا؛ أي: بسقوط كوكب كذا، كما يقول المنجمون، فجعلهم الله سبحانه بذلك كافرين، حيث لم يذكروا صنع الله تعالى ورحمته، بل أسندوا مثل هذه النعمة إلى الأفلاك والكواكب، فمن لا يرى الأمطار إلّا من الأنواء فهو كافر بالله بخلاف من يرى أن الكل بخلق الله تعالى.
والأنواء أمارات بجعل الله تعالى، والأنواء النجوم التي يسقط واحد منها في جانب المغرب وقت طلوع الفجر، ويطلع رقيبه في جانب المشرق من ساعته، والعرب كانت تضيف الأمطار والرياح والحر والبرد إلى الساقط منها، وقيل: إلى الطالع منها؛ لأنّه في سلطانه. وقيل: الضمير راجع إلى القرآن، والمعنى: ولقد كررنا هذا القرآن بإنزال آياته بين الناس ليذكروا به، ويعتبروا بما فيه، فأبى أكثرهم إلّا كفورًا به. وقيل: راجع إلى الريح. وقرأ عكرمة (1): {صَرَفناه} مخففًا، وقرأ الباقون بالتثقيل. وقرأ حمزة والكسائي {ليَذْكُروا} مخففة الذال من الذكر، وقرأ الباقون بالتثقيل من التذكر.
ومعنى الآية: وعزتي وجلالي لقد صرفنا المطر بين الناس على أوضاع شتى، فلا تمر ساعة في ليل ولا نهار إلَّا كان فيه دليل على آثار قدرتنا، فننزله على قوم ونحجبه عن آخرين، فنحن صرفناه بينهم، كما صرّفنا الليل والنهار، فالشمس تجري من عند قوم، وتذهب إلى الآخرين {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ}؛ أي: إلا أن الماء قد يكون جامدًا يشبه الحجر، وسائلا يشبه الزيت وسائر المائعات، وحينًا بخاريًا يشبه الهواء، وهو أيضًا غاد ورائح في الجو، وفي
(1) الشوكاني.