الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بغيره، والمعنى أنه سيأتي بالعرش إلى سليمان قبل أن يقوم من مجلسه الذي يجلس فيه للحكومة بين الناس.
40
- ولما قال سليمان عليه السلام: أريد أسرع من هذا {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ} وهو آصف بن برخيا بن خالة سليمان، وكان وزيره وكاتبه ومؤدبه في حال صغره، وكان رجلًا صديقًا يقرأ الكتب الإلهية، ويعلم الاسم الأعظم الذي إذا دعي الله به أجاب، وقد خلقه الله لنصرة سليمان ونفاذ أمره.
فالمراد بالكتاب جنس الكتب المنزلة على موسى وإبراهيم وغيرهما، أو اللوح المحفوظ وأسراره المكنونة. قال ابن عطية: وقالت فرقة: هو سليمان نفسه، ويكون الخطاب على هذا للعفريت، كأن سليمان استبطأ ما قاله العفريت، فقال له تحقيرًا له:{أَنَا آتِيكَ بِهِ} ؛ أي: بعرشها {قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ} ويرجع {إِلَيْكَ طَرْفُكَ} ؛ أي: بصرك مما نظرت إليه يعني أنك ترسل طرفك إلى شيء فقبل أن ترده أبصرت العرش بين يديك.
والمعنى على هذا القول الأخير؛ أي (1): قال سليمان للعفريت محدثًا بنعمة الله وعظيم فضله عليه: أنا أفعل ما لا تستطيع أنت، أنا أحضره في أقصر ما يكون مدة، أنا أحضره قبل ارتداد طرفك إليك، وقد كان كما قال. وقال المعتزلة: هو جبريل؛ وذلك لأنهم لا يرون كرامة الأولياء، وقيل: الخضر، والأول أولى، وقيل: غير ذلك مما لا أصل له. والله أعلم.
ويروى (2): أن اصف قال لسليمان عليه السلام: مد عينيك حتى ينتهي طرفك، فمد عينيه، فنظر نحو اليمن، فدعا آصف فغار العرش في مكانه، ثم نبع عند مجلس سليمان بقدرة الله تعالى قبل أن يرتد طرفه. قيل: كان الدعاء الذي دعا به اصف يا ذا الجلال والإكرام. وقيل: يا حي يا قيوم، وروي ذلك عن عائشة، وروي عن الزهري قال: دعاء الذي عنده علم من الكتاب: يا إلهنا وإله كل شيء إلهًا واحدًا لا إله إلا أنت ائتني بعرشها. والمراد بالطرف تحريك
(1) المراغي.
(2)
النسفي.
الأجفان وفتحها للنظر، وارتداده انضمامها.
قال شيخ الإِسلام (1): القائل في قوله تعالى: {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ} هو كاتب سليمان واسمه آصف. فإن قلت: كيف قدر مع أنه غير نبي على ما لم يقدر عليه سليمان من إحضار عرش بلقيس في طرفة عين؟ قلت: يجوز أن يخص غير النبي بكرامة لا يشاركه فيها النبي، كما خصت مريم بأنها كانت ترزق من فاكهة الجنة، وزكريا لم يرزق منها، ولم يلزم من ذلك فضلها على زكريا، وقد نقل أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا أراد الخروج إلى الغزاة .. قال لفقراء المهاجرين والأنصار ادعو لنا بالنصرة، فإن الله سبحانه ينصرنا بدعائكم، ولم يكونوا أفضل منه مع أن كرامة التابع من جملة كرامة المتبوع.
ويحكى: أن العلم الذي كان عند آصف هو اسم الله الأعظم، فدعا به، فأجيب له في الحال، وهو عند أكثر العلماء كما قال البندنيجي اسم الله، وقيل: يا حي يا قيوم، وقيل: يا ذام الجلال والإكرام، وقيل: الله يا رحمن، وقيل: يا إلهنا وإله كل شيء إلهًا واحدًا لا إله إلا أنت. انتهى.
قال بعضهم (2): أراد سليمان أن يظهر كرامة أمته؛ ليعلم أن في أمم الأنبياء أهل الكرامات؛ لئلا ينكروا من كرامات الأولياء. وقال محمد بن المنكدر: إنما الذي عنده علم هو سليمان نفسه، قال له عالم من بني إسرائيل: أنت النبي ابن النبي، وليس أحد أوجه منك عند الله، فإن دعوت الله كان العرش عندك، فقال: صدقت، ففعل ذلك، فجيء بالعرش في الوقت.
قال الرازي: وهذا القول أقرب، والمخاطب العفريت الذي كلمه، وأراد سليمان عليه السلام إظهار المعجزة فطالبه أولًا، ثم بين أنه يتحصل له من سرعة الإتيان بالعرش ما لا يتهيأ للعفريت. قيل: خر سليمان ساجدًا ودعا باسم الله الأعظم، فغاب العرش تحت الأرض حتى ظهر عند كرسي سليمان. وإنما هذا
(1) فتح الرحمن.
(2)
المراح.
أقرب؛ لأن سليمان كان أعرف بالكتاب من غيره؛ لأنه نبي، وإن إحضار العرش في تلك الساعة اللطيفة درجة عالية، فلو حصلت لآصف .. لاقتضى ذلك تفضيله على سليمان، ولو افتقر إليه في ذلك .. لاقتضى ذلك نقص حال سليمان في اْعين الخلق، ولأن ظاهر قوله:{هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} يقتضي أن يكون إتيان العرش بدعاء سليمان. انتهى.
قوله: {فَلَمَّا رَآهُ} قبله حذف، تقديره: فأذن له سليمان، فدعا الله، فأتي به فلما رآه سليمان؛ أي: فلما رأى سليمان العرش {مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ} ؛ أي: حاضرًا لديه؛ أي: متحولًا إليه من مأرب إلى الشام في قدر ارتداد الطرف {قَالَ} سليمان شاكرًا لربه لما آتاه الله سبحانه من هذه الخوارق {هذا} ؛ أي: إتيان العرش في هذه المدة القصيرة {مِنْ فَضْلِ رَبِّي} ؛ أي: من إحسانه إلى من غير استحقاق له من قبلي أكرمني به {لِيَبْلُوَنِي} ؛ أي: لكي يختبرني {أَأَشْكُرُ} بذلك، واعترف بأنه من فضله من غير حول منى ولا قوة. {مْ أَكْفُرُ} بترك الشكر عليه، وعدم القيام به، أو بأن أثبت لنفسي تصرفًا في ذلك.
قال الأخفش: المعنى لينظر أأشكر أم أكفر. والابتلاء: الاختبار، وإذا قيل (1): ابتلي فلان بكذا وبلاه .. يتضمن أمرين:
أحدهما: تعرف حاله، والوقوف على ما يجهل من أمره.
والثاني: ظهور جودته ورداءته، وربما قصد به الأمران، وربما يقصد به أحدهما، فإذا قيل بلاه الله كذا، وابتلاه .. فليس المراد إلا ظهور جودته، أو رداءته دون التعرف لحاله، والوقوف على ما يجهل منه؛ إذ كان تعالى علام الغيوب.
{أَأَشْكُرُ} بأن أراني محض فضله تعالى من غير حول من جهتي ولا قوة، وأقوم بحقه {أَمْ أَكْفُرُ} بأن أجد لنفسي مدخلًا في البين، وأقصر في إقامة موجبه، و {أَمْ} هنا متصلة.
(1) روح البيان.
{وَمَنْ شَكَرَ} فضل الله سبحانه وإحسانه إليه {فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} ؛ لأنه غني عنه وعن شكره؛ أي: لغرض نفسه ونفعها، فإن نفع شكره يعود إليه؛ وهو أن يخرج عن علقة وجوب الشكر عليه، ويستوجب به تمام النعمة ودوامها؛ لأن (1) الشكر قيد النعمة الموجودة، وصيد النعمة المفقودة.
{وَمَنْ كَفَرَ} ؛ أي: ترك شكر الله سبحانه على فضله وإحسانه إليه بأن لم يعرف النعمة، ولم يؤد حقها، فإن مضرة كفره ووباله عليه، لا يضر الله سبحانه كفرانه. {فَإِنَّ رَبِّي}؛ أي: لأن ربي سبحانه {غَنِيٌّ} عن شكره، لا يضره ذلك الكفران {كَرِيمٌ} بالإفضال عليه، لا يقطع نعمه عنه بسبب إعراضه عن الشكر وكفران النعمة. قال الواسطي: ما كان منا من الشكر فهو لنا، وما كان منه من النعمة فهو إلينا، وله المنة والفضل علينا.
قال في "المفردات": المنحة والمحنة جميعًا بلاء، فالمحنة مقتضية للصبر، والمنحة مقتضية للشكر. والقيام بحقوق الصبر أيسر من القيام بحقوق الشكر، فصارت المنحة أعظم البلاءين، وبهذا النظر قال عمر رضي الله عنه: بلينا بالضراء فصبرنا، وبلينا بالسراء فلم نصبر، ولهذا قال أمير المؤمنين رضي الله عنه: من وسع عليه دنياه فلم يعلم أنه قد مكر به فهو مخدوع عن عقله. وقال الواسطي أيضًا في الشكر: إبطال رؤية الفضل كيف يوزاي شكر الشاكرين فضله، وفضله قديم وشكرهم محدث. اهـ.
قال في "الأسئلة المقحمة": في الآية دليل على إثبات الكرامات من وجهين:
أحدهما: أن العفريت من الجن لما ادعى إحضاره قبل أن يقوم سليمان من مقامه .. لم ينكر عليه سليمان، بل قال: أريد أعجل من ذلك، فإذا جاز أن يكون مقدورًا لعفريت من الجن .. فكيف لا يكون مقدورًا لبعض أولياء الله تعالى.
(1) الخازن.
والثاني: أن الذي عنده علم من الكتاب؛ وهو آصف وزير سليمان لم يكن نبيًا، وقد أحضره قبل أن يرتد طرفه إليه، كما نطق به القرآن، فدل على جواز إثبات الكرامات الخارقة للعادات للأولياء خلافًا للقدرية حيث أنكروا ذلك.
فصل
والكرامة (1): ظهور أمر خارق للعادة من قبل شخص صالح غير مقرون بدعوى النبوة والرسالة، فما لا يكون مقرونًا بالإيمان والعمل الصالح يسمى استدراجًا، وما يكون مقرونًا بدعوى النبوة يسمى معجزة. قال بعضهم: لا ريب عند أولي التحقيق أن كل كرامة نتيجة فضيلة من علم أو عمل أو خلق حسن، فلا يعول على خرق العادة بغير علم صحيح، أو عمل صالح، فطي الأرض إنما هو نتيجة عن طي العبد أرض جسمه بالمجاهدات، وأصناف العبادات، وإقامته على طوال الليالي بالمناجاة، والمشي على الماء لمن أطعم الطعام وكسا العراة؛ إما من ماله، أو بالسعي عليهم، أو علم جاهلًا، أو أرشد ضالًا؛ لأن هاتين الصفتين سر الحياتين، الحسية والعلمية، وبينهما وبين الماء مناسبة بينة.
وترك الظهور بالكرامات الحسية والعلمية أليق للعارف؛ لأنه محل الآفات، وللعارف استخدام الجن أو الملك في غذائه من طعامه وشرابه وفي لباسه. قال في "كشف الأسرار": قد تحصل الكرامة باختيار الولي ودعائه، وقد تكون بغيره، وفي الحديث:"كم من أشعث أغبر ذي طمرين - إزار ورداء باليين - لا يؤبه - يبالي - له لو أقسم على الله لأبره".
وكرامات الأولياء ملحقة بمعجزات الأنبياء؛ إذ لو لم يكن النبي صادقًا في معجزته ونبوته .. لم تكن الكرامة تظهر على من يصدقه، ويكون من جملة أمته، ولا ينكر كرامات الأولياء إلا أهل الحرمان سواء أنكروها مطلقًا، أو أنكروا كرامات أولياء زمانهم، وصدقوا كرامات الأولياء الذين ليسوا في زمانهم
(1) روح البيان.