الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ}.
وفي "الفتوحات المكية"(1): لما كان الحق تعالى هو السلطان الأعظم، ولا بد للسلطان من مكان يكون فيه، حتى يقصد بالحاجات مع أنه تعالى لا يقبل المكان اقتضت المرتبة أن يخلق عرشًا، ثم ذكر أنه استوى عليه حتى يقصد بالدعاء وطلب الحوائج منه، كل ذلك رحمة للعباد، وتنزلًا لعقولهم، ولولا ذلك لبقي العبد حائرًا، لا يدري أين يتوجه بقلبه، وقد خلق الله تعالى القلب ذا جهة فلا يقبل إلا ما كان له جهة، وقد نسب الحق تعالى لنفسه الفوقية من سماء وعرش، وإحاطة بالجهات كلها بقوله:{فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} وبقوله عليه السلام: "ينزل ربنا إلى سماء الدنيا"، وبقوله:"إن الله في قبلة أحدكم".
وحاصله: أن الله تعالى خلق الأمور كلها للمراتب، لا للأعيان انتهى.
60
- {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ} ؛ أي: لهؤلاء المشركين؛ أي: إذا قال لهم محمد صلى الله عليه وسلم {اسْجُدُوا} ؛ أي: صلوا، وعبر عن الصلاة بالسجدة؛ لأنها من أعظم أركانها {لِلرَّحْمَنِ} الذي برحمته أوجد الموجودات {قَالُوا}؛ أي: قال المشركون لمحمد صلى الله عليه وسلم: {وَمَا الرَّحْمَنُ} ؛ أي: (2) أي شيء هو، أو من هو؟؛ لأن وضع {ما} أعم، وهو سؤال عن المسمى بهذا الاسم؛ لأنهم ما كانوا يطلقونه على الله، ولا يعرفون كونه تعالى مسمى بهذا الاسم، وإن كان مذكورًا في الكتب المتقدمة أنه من أسمائه تعالى، أو لأنهم كانوا يعرفون كونه تعالى مسمى بهذا الاسم، إلا أنهم يزعمون أنه قد يراد به غيره تعالى؛ وهو مسيلمة الكذاب باليمامة، فإنه يقال له: رحمان اليمامة، وكان المشركون يكذّبونه، ولذلك غالطوا بذلك وقالوا: إن محمدًا يأمرنا بعبادة رحمان اليمامة.
أي: وما نعرف الرحمان إلا مسيلمة الكذاب؛ أي: فإنهم اعترفوا بالله لكنهم جهلوا أن هذا الاسم من أسماء الله تعالى؛ أي: وإذا قيل لهؤلاء الذين
(1) روح البيان.
(2)
روح البيان.
يعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم: اجعلوا خضوعكم وتعظيمكم للرحمن خالصًا دون الآلهة والأوثان .. قالوا على طريق التجال: وما الرحمن؟ أي: نحن لا نعرف الرحمن فنسجد له، ونحو هذا قول فرعون:{وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} حين قال له موسى عليه السلام: {إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، وهو قد كان عليمًا به كما يؤذن بذلك قول موسى له:{لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ} .
ثم عجبوا أن يأمرهم بذلك، وأنكروه عليه بقوله:{أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا} ؛ أي: أنسجد للذي تأمرنا بالسجود له من غير أن نعرف أن المسجود له ماذا هو، وهو استفهام إنكاري؛ أي: لا نسجد للرحمن الذي تأمرنا بسجودنا له. وقرأ (1) ابن مسعود والأسود بن يزيد وحمزة والكسائي {يأمرنا} بالياء من تحت؛ أي: يأمرنا محمد بالسجود له، وقرأ باقي السبعة بالتاء، خطابًا للرسول صلى الله عليه وسلم.
ثم بين أنه كلما أمرهم بعبادته ازدادوا عنادًا واستكبارًا، فقال:{وَزَادَهُمْ} ؛ أي: وزاد أولئك المشركين هذا الأمر بالسجود للرحمن {نُفُورًا} وبعدًا مما دعوا إليه من الإيمان، وقد كان من حقه أن يكون باعثًا لهم على القبول ثم الفعل. روى الضحاك أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سجدوا، فلما رآهم المشركون يسجدون تباعدوا في ناحية المسجد مستهزئين.
فمن (2) جهل وجود الرحمن أو علم وجوده، وفعل فعلًا، أو قال قولًا لا يصدر إلا من كافر فكافر بالاتفاق، كما في "فتح الرحمن"، وذلك كما إذا سجد للصنم، أو ألقى المصحف في المزابل، أو تكلم بالكفر يكفر بلا خلاف لكونه علامة التكذيب.
فصل
وهذه السجدة من عزائم السجدات، فيسن للقارىء والمستمع أن يسجد عند
(1) البحر المحيط.
(2)
روح البيان.