الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لأن معرفة حقائق النتائج، لا يعلمها إلا الله تعالى.
فمهما ظن العبد مِن ظن، فليس كل أمر ظاهره خير، هو في حقيقته خير، وليس كل أمر ظاهره شر، هو في حقيقته شر.
فكم من أمر ظن صاحبه أن فيه خيرًا عظيمًا، فكان فيه هلاكه، وكم من أمر ظن صاحبه أن فيه شرًّا، فكان فيه نجاته، وحسبنا قول الله تعالى:
{وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خيرٌ لكم، وعسى أن تحبوا شيئًا وهو شر لَّكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون} [البقرة 216].
قال ابن القيم في ((الفوائد - 247)):
ومن أسرار هذه الآية أنها تقتضي من العبد التفويض إلى من يعلم عواقب الأمور، والرضا بما يختاره له ويقضيه له، لما يرجو فيه من حسن العاقبة.
ومنها: أنه لا يقترح على ربه ولا يختار عليه ولا يسأله ما ليس له به علم، فلعلَّ مضرَّته وهلاكه فيه وهو لا يعلم، فلا يختار على ربه شيئًا بل يسأله حسن الاختيار له، وأن يرضّيه بما يختاره فلا أنفع له من ذلك)).
ما هي الفائدة أو الحكمة أو الجدوى من الاستخارة
؟
للاستخارة فوائد عظيمة، ومنافع جمة، هي أعظم من استجابة دعائها، وتلبية طلب صاحبها.
أولى هذه الفوائد:
تحقيق معنى العبادة لله عز وجل، المتضمن الخضوع له، وإظهار الضعف والذل بين يديه، والحاجة واللجوء إليه، واستعطافه، وطلب الخيرة منه، ولو لم يكن فيها إلا هذا .. لكفى بها خيرًا عظيمًا.
وفي هذا تحقيق لتوحيد الألوهية، الذي هو ركن من أركان التوحيد، وشرط من شروط الإيمان.
{وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات 56].
فقد كان أهل الجاهلية، يستقسمون (أي يستخيرون) بالأزلام، فيقعون في الابتداع والشرك فكان هذا الدعاء رداً على المشركين، وتعويضاً للمؤمنين عن أفعال المشركين، بدعاء كله توحيد وعبودية وطلب ممن بيده المطلوب، وافتقار لمغنٍ رحيم .. وسؤال لمعطٍ كريم، بيده خزائن السماوات والأرض، فشتان بين استخارة المشركين بأعواد أو لأحجار، وبين استخارة القدير العليم المنان، فسبحان من أبدل بالشرك توحيداً، وبالابتداع اتباعاً، وبالعصيان طاعة، وبالتردد والقلق .. اطمئناناً وسكينة، ولا ينال هذا إلا المتبعون الصادقون.
الفائدة الثانية: تحقيق معنى الإيمان، بأن الله بيده مقاليد الأمور، ويعلم غيب السموات والأرض، ويحب لعبده الخير، ويختار له ما ينفعه، وفي هذا تحقيق لتوحيد الربوبية، والأسماء والصفات.
قال تعالى:
{وربك يخلق ما يشاء ويختار} [القصص 68].
وقال تعالى:
قال ابن القيم رحمه الله: ((فتضمن هذا الدعاء، الإقرار بوجوده سبحانه، والإقرار بربوبيته، وتفويض الأمر إليه والاستعانة به، والتوكل عليه، والخروج من عهدة نفسه، والتبري من الحول والقوة إلا به، واعتراف العبد بعجزه عن علمه بمصلحة نفسه، وقدرته عليها، وإرادته لها، وأن ذلك كله بيد وليه وفاطره، وإلهه الحق)) (1).
الفائدة الثالثة: الثقة بالله، والرضى بقضائه بعد الاستخارة وقبلها، والتوكل عليه، وتفويض الأمر إليه، بدل الحيرة والتردد، والقلق الذي يضعف النفس، وينهك البدن، ويولد الهموم،
(1) زاد المعاد (2/ 442).
[والاطمئنان للنتائج كيف ما كانت، الأمر الذي يقوي النفس، ويطرد الهم، فتنشرح النفوس ويطمئن القلب، وهو مطلب من المطالب العظيمة.][*]
قال ابن القيم في الفوائد (247):
((إذا فوّض [أمره] إلى ربه ورضي بما يختاره له، أمدَّه فيما يختاره له بالقوة عليه والعزيمة والصبر، وصرف عنه الآفات، التي هي عرضة اختيار العبد لنفسه، وأراه من حسن عواقب اختياره له ما لم يكن ليصل إلى بعضه، بما يختاره هو لنفسه.
ومنها: أنه يريحه من الأفكار المتعبة في أنواع الاختيارات، ويفرغ قلبه من التقديرات والتدبيرات التي يصعد منها في عقبة وينزل في أخرى، ومع هذا فلا خروج له عما قدر عليه، فلو رضي باختيار الله، أصابه القدر، وهو محمود مشكور ملطوف به فيه، وإلا جرى عليه القدر)).
ففي الاطمئنان والرضى بقضاء الله تعالى، تحقيق عظيم لركن من أركان الإيمان، وأجر عظيم عند الديان، عدا عن أن فيه جلاء للهموم، واطمئناناً للقلوب، وهدوءاً للنفوس.
ومن رزق الاطمئنان، والرضى بقضاء الله وقدره، فقد رزق خيراً كثيراً، وما يشعر بهذا إلا المؤمنون الموقنون.
ولما وثقت أم موسى بالله عز وجل، واطمأنت بقدره، ألقت فلذة كبدها، وسواد عينها في اليم، تتلاطمه الأمواج، ويسوقه الماء إلى أمر يظن الرائي أن لا رؤية له بعد هذا .. فهو أمر يفطّر الأكباد، ويمزق المهج، ويحرق النفوس .. أن تلقي أمٌّ ولدَها - فيما يظهر - إلى التهلكة، ولما أيقن إبراهيم وزوجه هاجر بالله، ورضيا بقضائه، تركها وابنهما وحدهما في الفلاة، لا طعام ولا ماء ولا شجر يستظلانه، وهذه أفعال تحرق النفوس، وتقطع القلوب .. لا يفعلها إلا من اطمأن قلبه بالإيمان ورضي بقضاء الرحمن، ووثق بالله العظيم، والتوكل عليه، ومن ذاق طعم الرضى بقضاء الله وقدره أيًا كان، وكيف كان، استأنس بالمصيبة وصبر عليها، واستوحش القلق والحيرة وأعرض عنهما.
الفائدة الرابعة: توفيق الله لعبده المستخير:
إذا ما قدر الله للعبد المستخير التوفيق، ففي ذلك نعمتان:
[*] قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: هذا من زيادات النسخة الإلكترونية، وليس في المطبوع