الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأخير في
ذكر من صحح الصلاة وضعّفها، وذكر شبهات المضعّفين
اختلف أهل العلم في ثبوت هذه الصلاة اختلافًا شديداً، والمذهب الحق عند الاختلاف، هو الرجوع إلى التحقيق العلمي النزيه لمعرفة الراجح من أقوالهم، فهو الفيصل في ذلك لا أشخاصهم وذواتهم، وإن ذُكرت أقوال الرجال في التصحيح والتضعيف، وذكرت اجتهاداتهم، فإنما يجب أن تذكر على سبيل التوضيح والاستشهاد، لاعلى أنها دليل بنفسها.
فأما الذين ضعفوها فهم:
الترمذي، والعقيلي، وابن الجوزي، وابن العربي، وابن تيمية، والشوكاني وغيرهم.
وأما الذين صححوها:
فمعظم أهل الحديث نذكر منهم:
ابن المبارك، وأحمد، وأبا داود، وابن منده، والآجري، والخطيب، والسمعاني، وأبا موسى المديني، والمنذري صاحب الترغيب والترهيب، وأبا الحسن المنذري، وابن الصلاح، والديلمي، والحاكم، والعلائي، والزركشي، والمحاملي، وأبا الحسن المقدسي، والجويني، وابنه، والبغوي، والرافعي، وابن حجر الهيتمي المكي، والسيوطي، واللكنوي، وابن عابدين، ومحدث العصر شيخنا الألباني وغيرهم.
واختلفت الرواية عن النووي، والعسقلاني، والراجح عندي تصحيحهم لها، وسيأتي هذا تفصيلاً.
قول الإمام أحمد:
أما الإمام أحمد، فكان يضعف سند الحديث من طريق عمرو بن مالك، ولا يخفى على الباحث أن ضعف السند لا يعني ضعف الحديث، لاحتمال ورود الحديث من طريق آخر بسند صحيح، أو بسند عاضد للسند الأول، أو له شاهد فيصير الحديث حسنًا أو صحيحًا لغيره.
وهذا ما كان مع الإمام أحمد فقد قال:
((إسنادها ضعيف؛ كل يروي عن عمرو بن مالك - يعني وفيه مقال -))
ففي عبارته هذه؛ دلالة على أنه يضعف أحد طرقها، لا أصل الصلاة.
ومع أن هذا لا يسلم للإمام أحمد في عمرو بن مالك لما أثبتناه من قبل.
وقد أجابه علي بن سعيد - وهو أحد تلاميذه - فقال:
((قلت له: قد رواه المستمر بن الريان عن أبي الجوزاء.
قال: من حدثك؟ قلت: مسلم (يعني ابن إبراهيم) فقال: المستمر: شيخ ثقة. فكأنه أعجبه)).
قال الحافظ:
((فكأن الإمام أحمد لم يبلغه إلا من طريق عمرو بن مالك - وهو النكري - فلما بلغه متابعة المستمر أعجبه)). نقلاً عن الآثار ((131))
أقوال الحافظ ابن حجر:
فقد قال في ((تلخيص الحبير)) (2/ 7)
((والحق أن طرقه - كلها - ضعيفة، وإن كان حديث ابن عباس يقرب من شرط الحسن، إلا أنه شاذ؛ لشدة الفردية فيه، وعدم المتابع والشاهد من وجه معتبر))
وقال في ((الخصال المكفرة)) بعد أن أورد حديث ابن عباس (1):
((رجاله إسناده لا بأس بهم
…
فهذا من شرط الحسن، فإن له شواهد
(1) نقلاً عن ((الآثار))
تقوّيه))
قلت: هذا كلام في ظاهره متناقض! وقد حاول بعض الإخوة أن يثبتوا: أن تحسينه للحديث كان أولاً، ثم كان تضعيفه؛ وذلك من ناحية زمن كتابة النصين.
والواقع: لا يسلم لهم هذا، وإن جهدوا في إثباته؛ لأن كثيراً من المؤلفين يكتب الكتاب ثم يعدّل فيه بعد عشرات السنين، كما هو حال من عاين ذلك.
من أمعن النظر في النصين، أدرك من الناحية العلمية، أن التضعيف كان أولاً، ثم كان منه التحسين، وذلك أن النص الأول تضمن:
أولاً: إقراراً بالتحسين ((يقرب من شرط الحسن))
ثانيًا: شذوذه لشدة الفردية فيه.
ثالثًا: إنعدام المتابع والشاهد من وجه معتبر.
فما دام أن الحافظ قد أقرّ بالتحسين فلنبحث مسألة الشذوذ والمتابع والشاهد.
أما الشذوذ فتعريفه: مخالفة الراوي الثقة لمن هو أوثق منه أو لمن هم أكثر عدداً.
وهذا منتف هاهنا تماماً، فإن حديث ابن عباس لم يخالَف في سنده ولا في متنه، وإلا فمن هم المخالفون .. ؟ ؟
وأما دعواه: شدة الفردية، وانعدام الشاهد والمتابع، فمردود بتلك الروايات المتوافرة وبشهادة أهل هذا الفن؛ بل بشهادة الحافظ نفسه في ((نتائج الأفكار)):((فإن له شواهد تقوّيه))
فهذا إثبات، والآخر نفي، والإثبات مقدم على النفي كما هو معلوم.
ثم إن قوله: ((لشدة الفردية فيه)) غريب! !
إذ كيف يكون هذا، وهناك أكثر من عشرة أسانيد
…
معظمها حسنة أو قريبة من الحسن، فأين الفردية؟
بل إن الحافظ نفسه قد أورد في ((أماليه)) المسماة بـ ((نتائج الأفكار)) أكثر من عشرين طريقًا، ما بين معتبر وغير معتبر .. فلتراجع، فإن مما قال فيها (نقلاً عن
الآثار ((127))):
((وردت صلاة التسبيح من حديث ابن عباس، وأخيه الفضل، وأبيهما، العباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو، وأبي رافع، وعلي بن أبي طالب، وأخيه جعفر، وابنه عبدالله بن جعفر، وأم سلمة، والأنصاري، وقيل: إنه جابر؛ وأما حديث ابن عباس - ثم خرجّه وذكر السند ثم قال - إسناد حسن .. ثم ذكر صدقة، وهو أحد الرواة في سند العباس، وقال: ضعيف من قبل حفظه، ووثقه جماعة فيصلح في المتابعات - ثم ذكر سند الأنصاري ثم قال - فسند الحديث لا ينحط عن درجة الحسن، فكيف إذا ضم إلى رواية أبي الجوزاء .. ))
ثم ذكر الذين صححوا الحديث ..
وقد ذكر في النكت الظراف (4/ 367) من تحفة الأشراف عدة متابعات مقبولة فلتراجع.
فهذا - كله - يدل على أن هذا هو كلامه الأخير، لأنه - كله - مثبت مبيّن، وما سبق نافٍ ومجمل.
فتبين أن الحافظ ممن ذهب إلى تحسينه من أكثر من طريق، فضلاً عن الشواهد والمتابعات التي ذكرها، وإقراره أنها جاءت من وجه معتبر.
وهب أننا سلمنا أن كلامه في ((التلخيص)) هو الأخير، فإن كلامه فيه إنما كان عن سند ابن عباس فقط، لا على بقية الأسانيد تفصيلاً.
وهذا كلام مفصل مبين في تحسين غير طريق ابن عباس، والله الهادي إلى سواء السبيل.
وقد يقول قائل: قد أطلتم في ترجيح قول الحافظ - وهو عالم من العلماء - ولم نتعبد بقول الحافظ، ولا بغيره، وإنما تعبدنا الله بما صح.
قلت: نعم .. كل هذا صحيح، وإنما أردنا الرد على من قال: إن الحافظ ضعّف الحديث، لا على أن قول الحافظ هو القول الفصل، والحجة الدامغة،
وإنما القول الفصل، والحجة الدامغة بالحق، والمبني على التحقيق العلمي، الذي يكون الرجال عليه شهودًا، ونوراً يستضاء بهم.
والحق في مثل هذه القضية الهامة - قضية الرجال والدليل - أن لا يكون الرجال بذواتهم حجة، وأن لا يستغنى عنهم في معرفة الطريق، وبيان الحق.
ولقد ضلّ الخوارج عندما استغنوا عن العلماء، وضلّ الصوفيون عندما تعلقوا بالعلماء، واستغنوا بهم عن النصوص وعن التحقيق العلمي
خلاصة هذا مبحث المصححين والمضعفين:
أولاً: إن التحقيق العلمي الحديثي يؤيد مذهب المثبتين لهذه الصلاة.
ثانياً: إن الذين صححوا، هم أعلى درجة في التخصص بهذا العلم الشريف، والفن العظيم من الذين ضعفوها.
ثالثاً: إن الذين صححوا، إنما صححوا بناءً على تحقيق علمي، واستقصاء للطرق، واستقراء للأسانيد.
ومعظم الذين صححوها جعلوا لها مؤلفًا خاصاً، أو بحثًا مستفيضًا، ثم صححوها بناءً على دراسة وتمحيص، ونتيجة لتحقيق.
ـ فقد ألف فيها الحافظ السمعاني كتابًا سماه ((فضائل صلاة التسبيح)) وصححها. (1)
ـ وألف الحافظ محمد بن عمر المديني كتابًا سماه ((تصحيح صلاة التسبيح)) وصححها. (2)
ـ وألف الحافظ ابن ناصر الدين الدمشقي كتاباً سماه ((الترجيح لصلاة التسبيح)) (3) وأثبتها.
ـ وألف الحافظ السيوطي كتابًا سماه ((تصحيح حديث صلاة التسبيح)) (4) وأثبتها.
(1) هو الحافظ أبو سعيد بن عبد الكريم بن محمد بن منصور السمعاني صاحب كتاب الأنساب (562) هـ ((طبقات الشافعية)) (7 - 183)
(2)
هو الحافظ أبو موسى محمد بن عمر بن أحمد المديني الأصبهاني صاحب التصانيف (501 - 581) هـ ((سير أعلام النبلاء)) (21 - 152)
(3)
هو العلامة الحافظ المحدث أبو عبد الله محمد بن عبد الله المعروف بابن ناصر الدين الدمشقي (842 هـ)
(4)
هو الحافظ أبو الفضل جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، المعروف بكثرة التصانيف، ترجم له السخاوي قبل موته في ((الضوء اللامع))، وله ترجمة وافية في مقدمة كتابه ((تدريب الراوي)).
ـ وألف الحافظ عبد الوهاب السبكي كتابًا سماه ((الترشيح لصلاة التسبيح)) وصححها (1)
ـ وألف محمد بن طولون كتاباً سماه ((ثمرة الترشيح لصلاة التسبيح)) وصححها. (2)
ـ وفصّل ابن علان الصديقي القول فيها تفصيلاً جيداً في كتابه ((الفتوحات الربانية على الأذكار النووية)) وصححها.
ـ وفصل اللكنوي القول فيها، وتتبع طرقها في كتابة (الآثار المرفوعة) وصححها.
وغير هؤلاء من السابقين واللاحقين ممن ألف فيها أو بحث عنها، كلهم ذهب إلى تصحيحها، والرد على من ضعفها.
رابعًا: الذين ضعفوا، ليس لديهم دراسة مستفيضة، وغاية ما عندهم إطلاقات عامة، وشبه واهية، ولم يبحث أحد منهم المسألة من كل أطرافها، ولم يستقص ذيولها، ويجمع طرقها، ولم يؤلف أحدُ منهم كتابًا خاصاً فيها.
ثم إنهم لم يذكروا أمرًا يمكن مناقشته سوى إطلاق التضعيف .. !
سوى ابن الجوزي
مناقشة ابن الجوزي:
ابن الجوزي من أكثر المضعفين تفصيلاً لهذه الصلاة، وأشدهم تضعيفًا، فقد أورد الحديث في موضوعاته - وكم من حديث صحيح أورده في موضوعاته - وقد انتقده الأئمة على تضعيفه لها، وإيرادها في الموضوعات، وليس ها هنا مجال
(1) هو الحافظ تاج الدين أبو نصر عبد الوهاب بن علي السبكي. توفي (771) هـ ((طبقات الشافعية)) (7 - 183).
(2)
هو العلامة محمد بن طولون الدمشقي المتوفي (953) هـ ذكر كتابه العلامة ابن عابدين في ((حاشيته على الدر المختار)) (2 - 28).
للاستقصاء والتتبع، ومن أراد الوقوف على شيء من هذا فليرجع إلى ((اللآلئ المصنوعة)) للسيوطي.
وقد حكم على طريق ابن عباس بالوضع، وليس فيها حتى ولا ضعيف ضعفًا مطلقًا، أو شديداً.
وكل رواتها مشهود لهم بالصدق، وغاية ما فيها: راو واحد عنده بعض الأوهام، التي تنجبر وتزول بمجيء الرواية من طرق أخرى.
وأكبر دليل على وهم ابن الجوزي، ما قاله في حق موسى بن عبد العزيز:
قال:
((موسى بن عبد العزيز مجهول عندنا))
والحقيقة: أني مازلت متعجباً من صنيع ابن الجوزي هذا، ولا أدري كيف قال هذا، وقد أطبق الأئمة على معرفته كما مر معك، كابن معين، والنسائي، وابن المديني، والذهبي، وابن حجر.
فهل يعقل أن تترك أقوال هؤلاء الأئمة، وشهاداتهم لكلام ابن الجوزي منفردًا، فضلاً عن أنه نافٍ وهم مثبتون، والمثبت مقدم على النافي، كما هو معلوم ومشهور، ثم هم أقدم منه وأعرف بالرجل، وقد ردّ العلماء على ابن الجوزي، وشنعوا عليه لإيراده هذا الحديث في الموضوعات، غفر الله له.
قال ابن حجر الهيتمي المكي:
((ذكرها ابن الجوزي في ((موضوعاته))، وشنع عليه الحفاظ في ذلك تشنيعًا بليغاً، والحاصل أن أحاديثها حسنة، إن لم تكن صحيحة؛ لكثرة الطرق، وانتفاء القوادح التي ذكرها ابن الجوزي تساهلاً منه، ومن ضعف نظر إلى كثرة الطرق من غير انضمام بعضها إلى بعض.
ومن صحّح أو حسّن نظر إلى كثرة الطرق، واطلع بعضها على مقتضى الصحيح، فكان المعتمد أن حديثها حسن أو صحيح وأنها سنة كما ذكرها مع كيفيتها أئمتنا في كتبهم))
قال الحافظ:
(أساء ابن الجوزي بذكر هذا الحديث في ((الموضوعات)))
وقال في ((نتائج الأفكار))
(وأفرط ابن الجوزي فذكر الحديث في الموضوعات)
وقال السيوطي:
(أفرط ابن الجوزي فأورد هذا الحديث في كتاب الموضوعات)
وقال الزركشي في تخريج أحاديث ((الشرح الكبير)):
(غلط ابن الجوزي بلا شك في إخراج حديث صلاة التسبيح في الموضوعات)(1)
قول شيخ الإسلام ابن تيمية:
قال رحمه الله: ((فإن فيها قولين لهم، وأظهر القولين أنها كذب .. ))
ثم ذكر بعض من أخذ بها وبعض من لم يأخذ بها ((منهاج السنة (7/ 434))).
وهذا كلام عام في معرض تفصيل، ونفيٌ مطلق في مورد إثبات، لا يثبت أمام التحقيق العلمي، ولم يذكر شبهة حتى ترد، ولا علة حتى تُبين، غاية ما قال، هو حكاية ما عليه الناس في هذه الصلاة، وأن الراجح لديه عدم ثبوتها ..
لكن؛ ما جوابه عن تلك الأسانيد الحسان، والشواهد والمتابعات، التي تؤكد صحة هذه الصلاة وثبوتها؟ سوى ما ذكره من النفي عن الأئمة لمعارضة ما أثبته غيره عن الأئمة، مثل ثبوتها عن عبد الله بن المبارك وغيره، كما سبق نقله عن الحاكم وغيره.
والحقيقة: أن كلام شيخ الإسلام فيها مستغرب، وهو مجمل، وكلام المصححين مفسر ومفصل، وقد جاءوا بزيادة علم ينبغي قبولها، والمصير إليها - بخاصة -
(1) ذكر كل هذه الأقوال اللكنوي في ((الآثار)) (125 - 137).
وأن شيخ الإسلام لم يتعرض لنقدها، ولا لشيء منها، بله لم يحقق المسألة، ولم يتتبع ما ورد فيها! ! كما هو ظاهر من كلامه هذا.
مناقشة قول الترمذي:
(وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم غير حديث في صلاة التسابيح، ولا يصح منه كبير شيء)[رقم 481]
قلت: هذا نفي، والآخرون مثبتون، وحسب قواعد مصطلح هذا العلم الشريف، وبشهادة أئمة حفاظ قد ذكرنا شهاداتهم، يرد هذا القول ولا يقبل، فقد اطلع أولئك الحفاظ على طرق أخرى، وأسانيد لم يقف عليها الترمذي، وهي زيادة علم ينبغي المصير إليها ((وفوق كل ذي علم عليم))
وهكذا معظم أقوال المضعفين لحديث هذه الصلاة، النافين لها، أطلقوا عبارات التَضعيف ولم يجيبوا عن الأسانيد التي حسنها بعض الأئمة.