الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[بين يدي الصلاة]
لما كان العبد ضعيف الإرادة .. ((وخلق الإنسان ضعيفاً))، كثير الغفلة .. تنتابه شرور الشياطين .. ويتصف أحيانًا بأخلاق الملائكة المطهرين .. تارة يكبو حتى تراه كأنه شيطان، لا يعرف حرامًا ولاحلالا .. يهيم على وجهه في الظلمات .. ينطلق مستجيبًا لغرائزه .. عابداً لشهواته .. ينقض على المعصية انقضاض الوحش الكاسر على فريسته، لا يرعى حرمة ولا عرضًا، ولا خلقًا ولا شرفًا، كأن لا رب يراقبه، ولا خالق سيحاسبه، ولا عذاب أمامه، قد أمن مكر الله وعقابه.
{أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون} [الأعراف 99].
فما أجهل هذا الإنسان وما أغفله؟ {وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً} [الأحزاب 72].
وتارة يصحو .. حتى يخيل إليك أنه من الملائكة المقربين، يحافظ على صلاته، يداوم على طاعة ربه، يفرق بين حلاله وحرامه، يحسب ألف حساب، {ليوم تشخص فيه الأبصار، مهطعين مقنعي رؤوسهم لايرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء} [إبراهيم 43].
كيف لا يحسب لهذا اليوم ألف حساب، ولا يرتعد من هوله عند ذكره .. ففيه يقرّن المجرمون بالأصفاد
…
وثيابهم قد قطعت من نار، وفصلت من قطران، وتغطيهم النار من كل مكان.
ولما كان الله سبحانه رحيمًا بعباده، رؤوفًا بخلقه، مطلعًا على أفعالهم، عالمًا بضعفهم، وزلات أنفسهم {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير} [الملك 14] يحب لهم الاستقامة والرشاد، ويكره لهم العوج والفساد.
{يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم} الآية [النساء 26].
لذلك شرع لهم طريق الإنابة إذا ما اعْوجُّوا .. وفتح لهم باب التوبة،
إذا ما أذنبوا، يغسلون بها خطاياهم .. وينظفون بها آثامهم، فيكفر الله بها ذنوبهم .. ويمحوا بها سيئاتهم.
فما أرحمه من رب .. وما أكرمه من خالق.
{يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحًا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم
…
} الآية [التحريم 2]
فسارع - يا عبد الله - إلى التوبة، وبادر إلى الإنابة.
فالبقاء على المعصية مهلكة .. والإصرار عليها بريد الفجور، وجهل عظيم بالله سبحانه .. واستهانة بأوامره.
{والذين إذا فعلوا فاحشة أوظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله، ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون} [آل عمران 135].
ومن أدرك عظمة الله تعالى، واستحقاقه للطاعة حق الإدراك، وكان إيمانه كاملاً ما عصاه أبدًا، {وهو القاهر فوق عباده} الآية [الأنعام 18].
{وما قدروا الله حق قدره، والأرض جميعًا قبضته يوم القيامة، والسموات مطويات بيمينه} الآية [الزمر الآية 67].
ومن استشعر قدرة الله النافذة، وبصره المطلع على كل شيء، وسمعه الذي يسمع كل شيء، وعلمه الذي أحاط بكل شيء، ما عصى عبد ربه أبدًا.
وما أحسن ما قال الشاعر:
يا من يرى مد البعوض جناحها
…
في ظلمة الليل البهيم الأليل
ويرى مناط عروقها في نحرها
…
والمخ في تلك العظام النُّحَّل
ويرى ذنوب عباده في ظلمة
…
من فوق عرش المليك الأول
أمنن علي بتوبة تمحو بها
…
ما كان مني في الزمان الأول
ولو أدرك العبد ما أعد الله عز وجل للعصاة من العذاب الأليم، والشقاء المستديم، ما أذنب عبد أبدًا.
قال تعالى: {يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مسّ سقر} [القمر 48].
وقال سبحانه:
{يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثًا} [النساء 42].
وقال: {وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد سرابيلهم من قطران، وتغشى وجوههم النار، ليجزي الله كل نفس ما كسبت إن الله سريع الحساب} [إبراهيم 49].
فمن ذا الذي يقوى على تحمل هذه النار التلظى (1).
وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((ناركم هذه التي توقد بنو آدم، جزء من سبعين جزءًا من نار جهنم)) (2).
فسارع يا عبد الله إلى التوبة .. قبل أن لا تنفعك توبتك، أو تفاجئك منيتك، فتعض أصابع الندامة، ولا تنفع وقتئذ ندامة.
قال تعالى: {إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليمًا حكيمًا} [النساء: 17]
فأدرك نفسك قبل أن يحضرك الموت فتقول: {رب ارجعون لعلي أعمل صالحًا فيما تركت}
فيقال: {كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون} [المؤمنون 99 - 100].
{أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين. أو تقول: لو أن الله هداني لكنت من المتقين.
(1) إدخال الألف واللام على الفعل جائز، على أنه اسم موصول بمعنى الذي أو التي لا بمعنى التعريف، ومنه قول الشاعر:
ما أنت بالحكم الترضى حكومته
…
ولا الأريب ولا ذو الرأي والجدل.
(2)
رواه البخاري (3092)، ومسلم (2843) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين. بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين. ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة أليس في جهنم مثوى للمتكبرين. وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولاهم يحزنون} [الزمر 56 - 60].
فهيا يا عبد الله: شمر عن ساعد التوبة، وترفع عن الذنب، فما هي إلا أيام .. وإذا بك بين يدي مولاك.
{قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين، قالوا لبثنا يومًا أو بعض يوم فاسأل العادين} [المؤمنون 112، 113].
بل هي والله ساعات، وإذا بك بين يدي جبار الأرض والسموات.
{كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها} [النازعات 46].
وإن من أعظم الأمور التي تحول دون توبة العبد وإنابته إلى ربه، ما يخيل للعبد، من أن الله عز وجل لا يقبل توبته، ولا يغفر زلته، لكثرة ما تاب وانتكس، ولعظم ما أذنب وارتكس، وهذا وسوسة من وساوس الشيطان، ليصد به المؤمن عن التوبة، ولو علم التائب الصادق في توبته، عظم مغفرة ربه، وشدة فرحه بتوبة عبده، لسارع المذنب إلى التوبة، ولو بلغت ذنوبه عنان السماء، قال تعالى:
{قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم} [الزمر 53].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم سقط على بعيره وقد أضله (1) في أرض فلاة)) متفق عليه (2) وفي رواية لمسلم (3):
((لله أشد فرحًا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم، كان على راحلته
(1) وجد بعيره بعد أن فقده.
(2)
البخاري (5950) ومسلم (2675) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
(3)
(2747)