الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من على الأرض مسلم يدعو بدعوة إلا آتاه الله إياها، أو صرف عنه من السوء مثلها، ما لم يدع بإثم، أو قطيعة رحم
…
)) الحديث (1)] [*]
هل يمكن للمستخير أن يعرف أنه وفق أم لا
؟
كثيرٌ من الناس يشْكون: إنهم استخاروا ولكن.!
وغفلوا عن أن التوفيق الأكبر، والنعمة العظمى هي: توفيق الله لعبده، بقيامه بهذه الاستخارة، التي فيها ما ذكرنا من الفوائد التعبدية، والرضا بقدر الله تعالى، والتسليم لقضائه، وبخاصة بعد الاستخارة، وعدم الاستكانة للتفكير والهم، وكثرة التردد، الذي يعطل قدرة العبد، ويسلمها للأوهام المهلكة، والعجز المقعد، وهذا من أعظم التوفيق، وأكبر من تحصيل العبد لمصلحة دنيوية، أو منفعة شخصية.
أما فيما يخص الأمر المستخار فيه نفسه: فحقيقة الأمر لا يمكن معرفتها.
وذلك لأن العبد قد يظن أنه لم يوفق، بناء على ظاهر الأمر، ولكن حقيقته قد تكون التوفيق كله، لأن نظر الإنسان غالبًا ما يكون قاصرًا على الأمور الظاهرة، غافلاً عن حقيقة الأمر وغيبه، قال تعالى {يعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا} [الروم 7].
فليس كل عطاء يكون ظاهره خيرًا يكون في باطنه كذلك، وليس كل حرمان هو شرًا في حقيقته.
قال ابن القيم في الفوائد (174):
((وكذلك الأب الشفيق على ولده العالم بمصلحته، إذا رأى مصلحته في إخراج الدم الفاسد عنه، بَضَعَ جلده (2) وقطع عروقه، وأذاقه الألم الشديد، وإن رأى شفاءه في قطع عضو من أعضائه أبانه عنه (3)، كلُّ
(1) سبق تخريجه ص (
…
).
(2)
بضع جلد: شقه.
(3)
أبانه عنه: قطعه.
[*] قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: هذا من زيادات النسخة الإلكترونية، وليس في المطبوع
ذلك رحمةً به وشفقة عليه، وإن رأى مصلحته في أن يمسك عنه العطاء لم يُعْطِهِ ولم يوسع عليه، لعلمِهِ أن ذلك أكبر الأسباب إلى فساده وهلاكه، وكذلك يمنعه كثيرًا من شهواته، حمية له، ومصلحة لا بخلاً عليه.
فأحكم الحاكمين وأرحم الراحمين وأعلم العالمين، الذي هو أرحم بعباده منهم بأنفسهم، ومن آبائهم وأمهاتهم، إذا أنزل بهم ما يكرهون كان خيرًا لهم من أن لا ينزله بهم، نظرًا منه لهم، وإحسانًا إليهم، ولطفًا بهم، ولو مكنوا من الاختيار لأنفسهم لَعَجزوا عن القيام بمصالحهم، علمًا وإرادة وعملاً، لكنه سبحانه تولى تدبير أمورهم، بموجب علمه وحكمته ورحمته، أحبوا أم كرهوا، فعرف ذلك الموقنون بأسمائه وصفاته، فلم يتهموه في شيء من أحكامه، وخفي ذلك على الجهال به وبأسمائه وصفاته، فنازعوه تدبيره، وقدحوا في حكمته، ولم ينقادوا لحكمه، وعارضوا حكمه بعقولهم الفاسدة، وآرائهم الباطلة، وسياساتهم الجائرة، فلا لربهم عرفوا، ولا لمصالحهم حَصَّلوا، والله الموفق.
ومتى ظفر العبدُ بهذه المعرفة، سكن في الدنيا قبل الآخرة في جنة لا يشبه نعيمها إلا نعيم جنة الآخرة، فإنه لا يزال راضيًا عن ربه، والرضا جنة الدنيا، ومستراح العارفين، فإنه طَيِّبُ النفس بما يجري عليها من المقادير، التي هي عين اختيار الله له، وطمأنينتها إلى أحكامه الدينية، وهذا هو الرضا بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد رسولاً صلى الله عليه وسلم، وما ذاق طعم الإيمان من لم يحصل له ذلك)).
{وعسىأن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئًا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون} [البقرة 216]
{ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض} [الشورى 27].
فقد يستخير المرء لتجارة، ثم يخسر فيها، فيظن أنه لم يوفق،
ولربما لو لم يستخر، لكان هناك مشكلات أكثر، ومصائب أعظم، فصرف الله عنه تلك التي لم يعلمها، وقدر له ما ظهر له من الخسارة.
وقد يستخير العبد لزواج، ثم يظهر له أنه لم يوفق فيه، بل ربما يطلق، أو تُطلَّق، رغم الاستخارة.
ولربما لولم يستخر، أو تستخر، لكان هناك من البلايا والرزايا ما دفعها الله عز وجل بفضله ورحمته، أن استجاب دعاء الاستخارة.
قال ابن الجوزي ((فإياك أن تسأل شيئاً إلا وتقرنه بسؤال الخيرة، فرب مطلوب من الدنيا كان حصوله سبباً للهلاك، وإذا كنت قد أمرت بالمشاروة في أمور الدنيا لجليسك، ليبين لك في بعض الآراء ما يعجز رأيك وترى أن ما وقع لك لا يصلح، فكيف لا تسأل الخير ربك وهو أعلم بالمصالح، والاستخارة من حسن المشاورة.)) (1)
ويحكى أن رجلا استخار في تجارة، فخسر ماله، فاستغرب ذلك، فقيل له: إن في مالك حرامًا أذهبه الله عنك باستخارتك له، عوضًا عن محاسبتك به يوم القيامة.
ويحكى أن رجلاً طلب الجهاد، فلم يوفق له، فحزن حزنًا شديدًا فقيل له: لو أنك جاهدت لأسرت، ولو أسرت لكفرت.
ويحكى أن امرأة استخارت في زواج، وبعد الزواج طُلقت، فاستنكرت ذلك، فقيل لها: لو لم تستخيري لتزوجت رجلاً كان سببًا في وقوعك في الفواحش، أو قتل نفسك.
قال ابن القيم في الفوائد (172):
((وكذلك يكره المرأة لوصف من أوصافها، وله في إمساكها خير كثير لا يعرفه، ويحب المرأة لوصف من أوصافها، وله في إمساكها شرٌّ كثير لا يعرفه، فالإنسان كما وصفه خالقه ظَلومٌ جهولٌ، فلا ينبغي أن يجعل المعيار على ما يضرّه وينفعه ميله وحبَّه ونَفْرته وبُغضه، بل المعيار على ذلك ما اختاره الله له بأمره ونهيه. فأنفعُ الأشياء له على الإطلاق طاعة ربه بظاهره وباطنه، وأضرُّ الأشياء عليه على الإطلاق معصيته بظاهره وباطنه)).
واحذر يا عبد الله من القنوط من رحمة الله، واليأس من استجابة
(1) صيد الخاطر (295).
الدعاء، وعدم الرضا بقضاء الله، فإنه ينافي كمال التوحيد، ويخدش تمام الإيمان.
وإياك أن تستبطئ الإجابة، فتقول: دعوت فلم يستجب لي، فلا يستجاب إذن لك، لأنه اعتراض على قدرة الله، وتقديم بين يديه سبحانه، وقد سبق الحديث ((يستجاب لأحدكم ما لم يعجل يقول: دعوت ربي فلم يستجب لي))
وربما كان له في ذلك تكفير لذنوبه، وتطهير لنفسه، وفي هذا من الخير مالا يعلمه إلا الله سبحانه.
خلاصة الأمر:
أن الأمر لا يعرف حقيقته إلا الله تعالى، وأن تدبير الخالق لخلقه خير لهم من تدبيرهم لأنفسهم، وتقديره خير لهم من ظنهم، وعلى العبد إحسان الظن بالله تعالى، وصدق اليقين به، والتسليم لأحكامه، وتوطين النفس على الصبر على قدره، والرضا بقضائه، وأنه سبحانه، لا يقدر لعبده المؤمن إلا الخير، فإن بلغ هذه الدرجة من الإيمان، كان أنفع له من كل غرض دنيوي، ومقصد مادي.
فعن صهيب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له)) (1).
(1) رواه أحمد في المسند (12181) عن أنس رضي الله عنه (صحيح الجامع).