الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الثالث في تعارض مقتضيات الألفاظ
يريد تعارض مقتضيات اللفظ الواحد إذا كانت من حيث المعنى اللغوي، سواء كان من الوضع أم من الفحوى ودليل هذا المراد ما ذكره من تقديم العموم على الخصوص والإطلاق على التقييد فإنه لو تعارض لفظان أحدهما عام والآخر خاص لحمل العام على خصوص الخاص وكذا المطلق والمقيد. أما هذا الباب فهو باب الحمل أي على أي الاحتمالات يجمل اللفظ الواحد وإنما جمع الألفاظ باعتبار أنواع الاحتمالات ولو أفراد اللفظ لكان أوضح في المراد. فليس صرف اللفظ عن معناه لتأويل أو دليل أو لغير ذلك مراداً هنا وإن ورد في بعض أمثلة المص على وجه التسامح أو السهو كما سنبينه (قوله يحمل اللفظ على الحقيقة دون المجاز الخ) أي متى تساويا في الاشتهار وفي المناسبة للمقام ولم تقم قرينة ولا عادة من الاستعمال فإذ ورد نحو قوله تعالى أو لامستم النساء حمل على الوطء مجازاً لأن عادة القرآن ترك التصريح بمثل هذا وبهذا يرجح كون المراد من النكاح العقد فقوله ولفظ النكاح يحمل الخ فيه أنه يثبت اشتراكه
من تتبع اللغة بل ثبت كونه أغلب في العقد والذي ألجأ المص إلى هذا هو حمل النكاح على ما بعد العقد في آية حتى تنكح زوجاً غيره لثبوت شرط المسيس في حديث زوجة رفاعة حين أرادت أن تراجعه بعد أن تزوجت بزوج معترض فالوجه أن السنة قيدت الإطلاق بدليل أن المرأة وهي عربية ظنت إباحة المراجعة بالعقد (قوله يقول الشافعي يقتلوا أن قتلوا الخ) فراراً من تفويض الأمر إلى الشاهية إذا حمل التخيير على ظاهرة وذهب سعيد ومجاهد وعطاء والتخعي إلى كونه موكولاً لاجتهاد الإمام. والجمهور على أنه إشارة إلى اختلاف أحوال الحرابة واختلفوا في بيان ذلك في سبعة أقوال منها قول الشافعي المذكور هنا. ومذهب مالك أنه تخيير ظاهري وهو كغيره موكولاً للاجتهاد بتنزيل العقاب على قدر الجرم وكثرة المقام على الفساد وإلى ذلك يشير قول المدونة في كتاب المحاربين "رب محارب لم يقتل هو أخوف وأعظم فساداً ممن قتل إلى أن قال وليس كل المحاربين سواء منهم من يخرج بعصى أو خشبة فيؤخذ على تلك الحالة ولم يخف السبيل فهذا لو أخذ فيه بأيسر الحكم لم أر به بأساً اهـ" ويؤيد مذهب مالك أشياء الأول أن الله تعالى ناط العقوبة بالحرابة حيث قال إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله فإن الموصول يومئ إلى التعليل فلو قلنا يقتل إن قتل كنا لم نؤاخذه لأجل الحرابة ولم نعد به إخوانه من القاتلين وليس هذا المراد من تنكيل شأن الحرابة وشق العصا. أما عدم جواز عقاب القاتل من المحاربين بالنفي الذي هو من جملة ما خير فيه فذلك لأن شرط العقوبة مساواتها للجريمة وتندرج الحرابة في القتل قال في المدونة "ولا يجتمع مع القتل قطع ولا ضرب اهـ". الثاني أن الله تعالى قال أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وليس السارق
كذلك لأنه إنما تقطع يده فقط إلا عند العودة فقد قيس حكمه فيها على المحارب في أصل جواز قطع الرجل ثم المحارب قد يجمع له بين الأمرين من أول مرة وليس جمع الضمير في قوله أيديهم لتوزيع أصناف المحاربين من أخذ في المرة الأولى أو الثانية إذ لو كان كذلك لأتى بأو عوضاً عن الواو. الثالث قوله إلا الذين تابعوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم ليس إعلاماً لنا بما سيصنع بهم في الآخرة لأن ذلك لا يهمنا وإنما هو حكم بان من جاء منهم تائهاً قبل القدرة عليه يعفى عنه إلا في حقوق الناس من دم أو مال وقد وقع الإجماع على هذا فلو كانت العقوبة منوعة على حسب ما أتاه لما صح العفو عنه في ذلك. الرابع ما ذكره المصنف من تقديم الاستقلال على الإضمار (قوله وقيل ليست زائدة الخ) لا خلاف في كون المراد من الجملة على كلا الوجهين القسم فأما القسم على وجه الزيادة فظاهر. وأما على وجه النفي فاستعمال الجملة في القسم تمثيل لحال المقسم في تعظيمه أمر المقسم به بحال من يحب أن يحلف ويخشى الحنث الذي بكسر السين ليس بأمر هين عنده فيترك الحلف فكأنه يقول لا أقسم بهذا البلد وفي وقت حلولك فيه فالواو للحال لا للعطف وإنما أشير إلى كونه فيه حلالاً غير محرم لدفع توهم أن التعظيم لابسه من وصف الإحرام بل هو تعظيم ذاتي. والآية جاءت على أسلوب العرب تعظيماً للمقسم به بتعظيم ساكنه فكان شأنه تعالى وتقدس كشأن من يترك الحلف خشية الحنث وأما تقدير المص النفي على حقيقته وتقدير ليس محذوفه فتكلف لأن حذف النافي خاص بلا بشرطين والكل مفقود هنا على أن الآية مكية والنبي صلى الله عليه وسلم هناك فأي معنى للامتناع من القسم عند عدم
وجوده فيه (قوله والعرب لا تزيد فيه التأكيد على ثلاث الخ) فيكون ما وقع فيه السورة من التكرير وهو إعادة الجملة لغرض غير التحقيق من التهديد أو التوبيخ أو غيره فليس هو من التأكيد لاختلاف الغرضين فما جاء للتوبيخ ما في سورة الرحمان. ومنه للتهديد ما وقع في سورة المرسلات. ومما جاء للتهويل والتحميس قول الحرث بن عباد البكري لما قتلت تغلب ابن أخيه بجيرا بكليب في مبدأ حرب البسوس.
قربا مربط النعامة مني
…
أن بيع الكريم بالشسع غالي
فكررها نحواً من أربعين مرة (1) وقد يجيء لإلقاء التبعة وقطع المعذرة مثل تكرير جملة "ألا هل بلغت اللهم اشهد" في خطبة حجة الوداع (قوله فروع أربعة الخ) هذان الفرعان الأولان يتعلقان بحكم المشترك وقد بحث فيه المص بحثاً مجملاً فأردت أن أبين ما يكون عوناً على المباحث الآتية. والبحث في المشترك عن ثلاثة. أشياء وقوعه. واستعماله. والعمل فيه عند وروده. أما وقوعه فقد أثبته الجمهور وأنكره قليل من علماء اللغة والأصول وليس هو عبارة عن وضع الواضع اللفظ لمعنى ثم وضعه لمعنى آخر لأن ذلك ينافي الغرض من وضع اللغة الذي هو تمايز الأشياء لقصد التفاهم واحتمال نسيان الواضع لا يذكر هنا لأن كلا اللفظين مستعمل ولكن الاشتراك يعرض للغة بثلاثة أسباب أولها تعدد لغات قبائل العرب بعد تفرقهم في أطراف الجزيرة أثر سيل العرم فلما وقع التعارف بينهم من
(1) النعامة اسم فرسة وذلك أن جساس بن مرة من بكر ابن وائل قتل كليب بن ربيعة من تغلب على شأن ناقة لعجوز تدعى البسوس فلما اشتد ما بين القبليتين وخيف الحرب أرسل الحرث بن عباد بن بكر ابن أخيه بجيرا ليقتل قوداً بكليب فلما قتلته تغلب قالوا عند قتله بوبشسع نعل كليب.
بعد نقلت كل قبيلة لغتها للأخرى ويلحق بهذا المعرب. ثانيها شهرة المجاز ومنه استعمال الحرف في معنى حرف آخر. ثالثها التلطف للتفاؤل ونحوه كقولهم الجون للأبيض والأسود وللأعمى بصير وللملدوغ سليم والظاهر أن من أنكره غفل عن هذا فيوشك أن يكون الخلاف لفظياً فالاشتراك يعرض بعد الاستعمال لا من أصل الوضع ولما كان بحث الأصولي عن وقوعه في الاستعمال فلا حاجة به إلى الغوص في أعماق الوضع. وأما استعماله فلا شك أن استعمال كل لفظ يكون على حسب الوضع وإنما المراد أنه هل يصح أن يستعمل المتكلم مريداً به جميع مسمياته أو صبره منها وهل إذا صح ذلك وورد لفظ مشترك بدون قرينة مبينة يحمل على إرادة الجميع أم إرادة واحدة ونقل المصنف عن مالك رحمه الله أنه يقول بجواز ذلك فلعله مأخوذ من فروع مذهبه إذ لم يعهد من مثله التكلم في مسائل الجواز فإن كان في الكلام ما يعين المراد مثل التكرير بقدر الموضوع له صح ولا إجمال. ودون ذلك الإتيان بصيغة المثنى والجمع لأن الجمع خصوصاً يؤذن بإرادة جميع المعاني فإن انضمت القرينة فأجدر بالجواز مثل قول الحرير.
جاد بالعين حين أعمى هواه
…
عينه فانثنى بلا عينين
لأن تقديم ذكر لفظ العين في معنيين دل على المراد من التثنية. وأما حكم حمله عند السامع فأما المشترك إذا ورد غير ظاهر المراد منه بأن كان مفرداً منكراً أو مثنى ومعانيه أكثر من اثنين وهي وإن كانت مبنية على مسألة جواز الاستعمال إلا أن معنى الحمل بيان مقدار ما أراده المستعمل من جميع المعاني أو بعضها فالحمل إذاً أخص من الاستعمال ولا يجوزان
تثبت صحة الاستعمال ويمنع الحمل إلا إذا أريد أنه يستعمل بقرينة فحمله كذلك يكون للقرينة ولهذا أخذ السبكي من منع القاضي حمل اللفظ على حقيقته ومجازه أنه يمنع استعماله فيهما وهو الصواب وما حاوله الزركشي من التفصيل من كلام القاضي وأنه أراد معنى حمله عليهما لا منع استعمال المتكلم ذلك بالقرينة محاولة لا طائل تحتها فإن منع الاستعمال منع حمله على متعدد وإن أجيز فلم ينقل المص عن مالك شيئاً وسنبين تحقيق مذهبه. وقال الشافعي: يحمل على جميع ما يصلح له كالعام للاحتياط وهو حقيقة لجواز استعماله في ذلك عنده فالاحتياط في مراد المتكلم لا ينافي جواز الاستعمال حقيقة فمن نقل عن الشافعي القول بحمله على الجميع للاحتياط مثل البيضاوي فقد صدق ومن نقل عنه العموم وهو الآمدي فقد صدق لأنه أراد أن حمله كحمل العام ولهذا تترجم هذه المسألة "بعموم المشترك" وتوقف المص في الثاني ناشئ عن توهم كون المراد جعله من العام وقال الباقلاني بمثل قول الشافعي فنقل عنه أن للاحتياط كالمجمل وأنه كحمل العام أي في جميع ما يصدق عليه والمئال أيضاً في النقلين واحد ولا يرد عليه استشكال الابياري لأنه وإن كان متوقفاً في صيغ العموم لكنه معترف بوجود عموم حتى فرض القول في صيغة وتوقف غير أنه لما رأى صيغ العموم قد تستعمل في غيره لم يجزم بتعيين صيغة خاصة بالعموم فقد شبه حمله بحمل العام ولم يجعله من صيغ العموم أو جعله مثل صيغ العموم في استعمال مرة لجميع ما يصلح له ومرة للبعض فلا إشكال في كلامه واختار الإمام أنه مجمل لا يحمل على شيء حتى يدل دليل على بعض المعاني أو الجميع وهو الذي نقله المص في الفرع الثاني تبعاً للمحصول ولم يتعقبه فهو يوافق القاضي في المبدأ وهو الإجمال ولا يوافقه في الغاية
وهي الحمل على الجميع كما أن القاضي وافق الشافعي في الغاية دون المبدأ لأنه عنده مجمل وعند الشافعي ظاهر. أما مذهب مالك فيه فهو الذي وفى بقضاء حق الاحتياط فالذي يؤخذ من مذهبه أنه يحمل المشترك على ما يقتضيه الاحتياط في مراد المتكلم فاللفظ المشترك إما أن تكون معانيه متداخلة أو متباينة أو متناقضة. فإن كان الأول حمل على المعنى الشامل لها للاحتياط فلذك قال في قول الرجل لزوجته أنت خلية وبرية وحبلك على غاربك انه يحمل على الثلاث في المدخول بها لأن اللفظ لما دار بين الرجعي والبائن حمل على البينونة وهي لا تحصل في المدخول بها إلا بالثلاث لأن البينونة حكم للطلاق لا لفظ من ألفاظه وينوي في غير المدخول بها لا مكان حصول البينونة بمطلق الطلاق فلم يبق إلا احتمال الثلاث. وإن كانت المعاني متباينة فالأمر سهل وهو الحمل على جميعها. وإن كانت متناقضة فهاهنا انقطع عنا سلك الحكاية عن الشافعي والقاضي إلا أن المص قال لا يجمعون بين المعاني عند امتناع الجمع فلنرجع بهما إلى قول مالك رحمه الله فإنه يحمله في كل مكان على ما يقضي حق الاحتياط فإنه حمل الإقراء على الاطهار في الخروج من العدة واحلل للتزوج وعلى الحيض في منع مراجعة الزوج الأول لها إلا بصداق وولي فدخولها في الحيضة الثالثة مانع من المراجعة والطهر الثالث هو الذي تحل به للأزواج هذا ملاك مسألة المشترك بحسب ما انتهى إليه العلم خصوصاً في فروع مذهب مالك وبه لا تعوزكم الفروع المتشابهة والأبحاث المتناثرة التي أتى بها المص في تضاعيف هاته الفروع الأربعة. هذا حكم حمل المشترك وأما استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه المشهور وقد عددناه في بحث وقوعه