الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قائم بنفسه فهو العاقل، فإذا كان يعقل نفسه أو غيره فليس عين عقله لنفسه أو غيره هو عين ذاته، وكذلك إذا سمى عاشقاً ومعشوقاً بلغتهم، أو قيل: محبوب ومحب بلغة المسلمين، فليس الحب والعشق هو نفس العاشق ولا المحب، ولا العشق ولا الحب هو المعشوق ولا المحبوب، بل التمييز بين مسمى المصدر ومسمى اسم الفاعل واسم المفعول، والتفريق بين الصفة والموصوف مستقر في فطر العقول ولغات الأمم، فمن جعل أحدهما هو الآخر كان قد أتى من السفسطة بما لا يخفى على من يتصور ما يقول: ولهذا كان منتهى هؤلاء السفسطة في العقليات والقرمطة في السمعيات.
الثالث
الوجه الثالث: أن يقال: الوجود المطلق بشرط الإطلاق، أو بشرط سلب الأمور الثبوتية، أو لا بشرط، مما يعلم بصريح العقل انتفاؤه في الخارج، وإنما يوجد في الذهن، وهذا مما قرروه في منطقهم اليوناني، وبينوا أن المطلق بشرط الإطلاق كإنسان مطلق بشرط الإطلاق، وحيوان مطلق بشرط الإطلاق جسم مطلق بشر الإطلاق، ووجود مطلق بشرط الإطلاق: لا يكون إلا في الأذهان دون الأعيان.
ولما اثبت قدماؤهم الكليات المجردة ع الأعيان التي يسمونها المثل الأفاطونية أنكر ذلك حذاقهم، وقالوا: هذه لا تكون إلا في الذهن، ثم الذين ادعوا ثبوت هذه الكليات في الخارج مجردة قالوا: إنها مجردة عن الأعيان المحسوسة ن ويمتنع عندهم أن تكون هذه هي المبدعة للأعيان، بل يمتنع أن تكون شرطاً في وجود الأعيان، فإنها إما أن تكون صفة للأعيان، أو جزءاً منها.
وصفة الشيء لا تكون خالقة للموصوف، وجزء الشيء لا يكون خالقاً للجملة، فلو قدر أن في الخارج وجوداً مطلقاً بشرط الإطلاق امتنع أن يكون مبدعاً لغيره من الموجودات، بل امتنع أن يكون شرطاً في وجود غيره، فإذن تكون المحدثات والممكنات المعلوم حدوثها وافتقارها إلى الخالق المبدع مستغنية عن هذا الوجود المطلق بشرط الإطلاق، إن قيل: إن له وجوداً في الخارج، فكيف إذا كان الذي قال هذا القول هو من أشد الناس إنكاراً على من جعل وجود هذه الكليات المطلقة المجردة عن الأعيان خارجاً عن الذهن.
وهم قد قرروا ا، العلم الأعلى والفلسفة الأولى هو العلم الناظر في الوجود ولواحقه، فجعلوا الوجود المطلق موضوع هذا العلم، لكن هذا هو المطلق الذي ينقسم إلى واجب وممكن، وعلة ومعلول، وقديم ومحدث.
ومورج التقسيم مشترك بين الأقسام.
فلم يمكن هؤلاء أن يجعلوا هذا الوجود المنقسم إلى واجب وممكن هو الوجود الواجب، فجعلوا الوجود الواجب هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق الذي ليس له حقيقة سوى الوجود المطلق، أو بشرط سلب الأمور الثبةتية، ويعبرون عن هذا بأن وجوده ليس عارضاً لشيء من الماهيات والحقائق.
وهذا التعبير مبني على أصلهم تالفاسد، وهو ا، الوجود يعرض للحقائق الثابتة في الخارج، بناء على أنه في الخارج وجود الشيء غير حقيقته، فيكون في الخارج حقيقة يعرض لها الوجود تارة، ويفارقها أخرى.
ومن هنا فرقوا في منطقهم بين الماهية والوجود، وهم لو فسروا الماهية بما يكون في الأذهان، والوجود بما يكون في الأعيان، لكان هذا صحيحاً لا ينازع فيه عاقلن وهذا هو الذي تخيلوه في الأصل، لكن توهموا أن تلك الماهية التي في الذهن هي بعينها الموجود الذي في الخارج، فظنوا أن في هذا الإنسان المعين جواهر عقلية قائمة بأنفسها مغيرة لهذا المعين، مثل كونه حيواناً ناطقاً وحساساً ومتحركاً بالإرادة ونحو ذلك.
والصواب أن هذه كلها أسماء لهذا المعين، كل اسم يتضمن صفة ليست هي الصفة التي يتضمنها الاسم الآخر، فالعين في الخارج هو هو، ليس هناك جوهران اثنان، حتى يكون أحدهم عارضاً للآخر أو معروضاً، بل هناك ذات وصفات، وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع.
والمقصود هنا أنه لم يمكن ابن سينا وأمثاله أن يجعلوه الوجود المنقسم إلى واجب وممكن، فجعلوه الوجود المطلق بشرط الإطلاق، أو بشرط سلب الأمور الثبوتية، كما بين ذلك في شفائه وغيره من كتبه.
وهذا مما قد بين هو ـ ومما يعلم كل عاقل ـ أنه يمتنع وجوده في الخارج، ثم إذا جعل مطلقاً بشرط الإطلاق لم يجز أن ينعت بنعت يوجب امتيازه، فلا يقال:
هو واجب بنفسه، ولا ليس بواجب بنفسه، فلا يوصف بنفي ولا إثبات، لن هذا نوع من التمييز والتقييد.
وهذا حقيقة قول القرامطة الباطنية الذين يمتنعون عن وصفه بالنفي والإثبات، ومعلوم أن الخلو عن النقيضين ممتنع، كما أن الجمع بين النقيضين ممتنع.
وأما إذا قيد بسلب الأمور الثبوتية دون العدمية، فهو أسوأ جالاً من المقيد بسلب الأمور الثبوتية والعدمية، فإنه يشارك غيره في مسمى الوجود ويمتاز عنه بأمور وجودية، وهو يمتاز عنها بأمور عدمية، فيكون كل من الموجودات أكمل منه.
وأما إذا قيد بسلب الأمور الثبوتية والعدمية معا، كان أقرب إلى الوجود من أن يمتاز بسلب الوجود دون العدم، وإن كان هذا ممتنعاً فذاك ممتنع أيضاً، وهو أقرب إلى العدم، فلزمهم أن يكون الوجود الواجب الذي لا يقبل العد هو الممتنع الذي لا يتصور وجوده في الخارج، وإنما يقدره الذهن تقديراً، كما يقدر كون الشيء موجوداً معدوماً، أو لا موجوداً ولا معدوماً، فلزم الجمع بين النقيضين، والخلو عن النقيضين.
وهذا من أعظم الممتنعات بإتفاق العقلاء ن بل قد يقال: إن جميع الممتنعات ترجع إلى الجمع بين النقيضين، فلهذا كان ابن سينا وأمثاله من أهل دعوة القرامطة الباطنية من أتباع الحاكم الذي كان بمصر، وهؤلاء وأمثالهم من رؤوس الملاحدة الباطنيةن وقد ذكر ذلك عن نفسه، وأنه كان هو وأهل بيته من أهل دعوة هؤلاء
المصريين الذين يسميهم المسلمون الملاحدة، لإلحادهم في أسماء الله وآياته إلحاداً أعظم من إلحاد اليهود والنصاري.
وأما ملاحدة المتصوفة: كابن عربي الكائي، وصاحبه الصدر القونوي، وابن سبعين، وابن الفارض وأمثالهم، فقد يقولون: هو الوجود المطلق، كما قاله القونوي، وجعله هو الوجود من حيث هو هو، مع قطع النظر عن كونه واجباً وممكناً وواحداً وكثيراً، وهذا معنى قول ابن سبعين وأمثاله القائلين بالإحاطة.
ومعلوم أن المطلق لا بشرط ـ كالإنسان المطلق لا بشرط ـ يصدق على هذا الإنسان وهذا الإنسان، وعلى الذهني والخارجي، فالوجود المطلق لا بشرط يصدق على الواجب والممكن، والواحد والكثير، والذهني، والخارجي، وحينئذ فهذا الوجود المطلق ليس موجودا في الخارج مطلقاً بلا ريب.
ومن قال: إن الكلي الطبيعي موجود في الخارج فقد يريد به حقا ًوباطلاً، فإن أراد بذلك أن ما هو كلي في الذهن موجود في الخارج معيناً: أي تلك الصورة الذهنية مطابقة للأعيان الموجودة في الخارج، كما يطابق الاسم لمسماه، والمعني الذهني الموجود الخارجي، فهذا صحيح.
وإن أراد بذلك أن نفس الموجود
في الخارج كلي حين وجوده في الخارج، فهذا باطل، مخالف للحس والعقل، فإن الكلي هو الذي لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه.
وكل موجود في الخارج معين متميز بنفسه عن غيره يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه، أعني هذه الشركة التي يذكرونها في هذا الموضع، وهي اشتراك الأعيان في النوع، واشتراك الأنواع في الجنس، وهي اشتراك الكليات في الجزئيات.
والقسمة المقابلة لهذه الشركة، هي قسمة الكلي إلى جزئياته، كقسمة الجنس إلى أنواع، والنوع إلى أعيانه.
وأما الشركة التي يذكرها الفقهاء في كتاب الشركة، والقسمة المقابلة لها التي يذكرها الفقهاء في باب القسمة، وهي المذكورة في قوله تعالى {ونبئهم أن الماء قسمة بينهم} [القمر: 28] ، وقوله {لكل باب منهم جزء مقسوم} [الحجرات: 44] .
فتلك شركة في الأعيان الموجودة في الخارج، وقسمتها قسمة للكل إلى أجزاءه، كقسمة الكلام إلى الاسم والفعل والحرف، والأول كقسمة الكلمة الاصطلاحية إلى اسم وفعل وحرف.
وإذا عرف أن المقصود الشركة في الكليات، لا في الكل، فمعلوم أنه لا شركة في المعينات، فهذا الإنسان المعين ليس فيه شيء من هذا المعين، ولا في هذا شيء من هذا.
ومعلوم أن الكلي الذي يصلح لاشتراك الجزئيات فيه لا يكون هو جزءاً من الجزئي الذي يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه.
فمن قال: إن الإنسان الكلي جزء من هذا الإنسان المعين أو إن الإنسان المطلق جزء من هذا المعين بمعني أن هذا المعين فيه شيء مطلق، أو شيء كلي، فكلامه ظاهر الفساد.