المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌رد الأبهري على الرازي وتعليق ابن تيمية - درء تعارض العقل والنقل - جـ ١

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌القانون الكلي للتوفيق عند المبتدعة

- ‌طريقتا المبتدعة في نصوص الأنبياء. أولاً ـ طريقة التبديل: أهل التبديل نوعان. أهل الوهم والتخييل

- ‌أهل التحريف والتأويل

- ‌لفظ التأويل

- ‌ثانياً ـ طريقة التجهيل

- ‌خلاصة ما سبق

- ‌فصل هدف الكتاب بيان فساد قانونهم الفاسد

- ‌استطراد في الرد على سؤال وجه إلى ابن تيمية وهو في مصر. نص السؤال

- ‌الرد على المسألة الأولى

- ‌أصول الدين: مسائل ودلائل هذه المسائل، المسائل

- ‌دلائل المسائل

- ‌الأدلة علي المعاد في كتاب لله

- ‌تنزيه القرآن لله تعالي عن الشركاء

- ‌أصول المتكلمين ليس هي أصول الدين

- ‌جواز مخاطبة أهل الاصطلاح باصطلاحهم

- ‌الرد علي المسألة الثانية

- ‌المسائل التي نهي عنها الكتاب والسنة

- ‌الرد علي المسألة الثالثة

- ‌الرد على المسألة الرابعة

- ‌الرد علي المسألة الخامسة

- ‌تنازع النظار في الاستطاعة

- ‌تنازعهم في المأمور به الذي علم الله أنه لا يكون

- ‌الرد علي المسألة السادسة

- ‌عودة إلي مناقشة قانون التأويل

- ‌جواب إجمالي

- ‌الجواب التفصيلي من وجوه. الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث. نفي قاعدة أن العقل أصل النقل

- ‌اعتراض: نحن نقدم علي السمع المعقولات التي علمنا بها صحة السمع. الرد عليهم من وجوه. الأول

- ‌الثاني

- ‌الثالث

- ‌الرابع

- ‌الخامس

- ‌السادس

- ‌الأنبياء لم يدعوا إلي طريقة الأعراض

- ‌للمنازعين في هذا الكلام مقامان. للمنازعين فيه مقامان: المقام الأول

- ‌المقام الثاني

- ‌الجواب علي المسلك الأول من وجوه. الأول

- ‌الثاني

- ‌الثالث

- ‌نقض الاستدلال بقصة إبراهيم عليه السلام

- ‌لفظ أحد وواحد

- ‌لفظ الصمد

- ‌لفظ الكفء

- ‌الرابع

- ‌مناقشة قولهم: ما لا يسبق الحوادث فهو حادث

- ‌المعاني المختلفة لحدوث العالم عند النظار

- ‌المعني الأول

- ‌المعنى الثاني

- ‌المعنى الثالث

- ‌الخامس

- ‌الجواب لأهل المقام الثاني من وجوه. الأول

- ‌الثاني

- ‌الثالث

- ‌الرابع

- ‌الخامس

- ‌الوجه الرابع

- ‌الوجه الخامس

- ‌الوجه السادس

- ‌مهمة العقل

- ‌الوجه السابع

- ‌الوجه الثامن

- ‌الوجه التاسع

- ‌معارضة دليلهم بنظير ما قالوه. الوجه العاشر

- ‌تقديم النقل لا يستلزم فساد النقل في نفسه

- ‌اعتراض

- ‌الرد عليه. الجواب الأول

- ‌الجواب الثاني

- ‌اعتراض آخر

- ‌الرد عليه

- ‌المقصودون بالخطاب في هذا الكتاب

- ‌اعتراض: الشهادة بصحة السمع ما لم يعارض العقل

- ‌الرد عليه من وجوه: الأول

- ‌الثاني

- ‌الثالث

- ‌الرابع

- ‌الخامس

- ‌السادس

- ‌السابع

- ‌الوجه الحادي عشر. كثير مما يسمي دليلاً ليس بدليل

- ‌الوجه الثاني عشر. كل ما عارض الشرع من العقليات فالعقل يعلم فساده

- ‌الوجه الثالث عشر. الأمور السمعية التي يقال إن العقل عارضها معلومة من الدين بالضرورة

- ‌العلم بمقاصد الرسول علم ضروري يقيني. الوجه الرابع عشر

- ‌الدليل الشرعي لا يقابل بكونه عقلياً وإنما بكونه بدعياً. الوجه الخامس عشر

- ‌المعارضون ينتهون إلي التأويل أو التفويض وهما باطلان. الوجه السادس عشر

- ‌العقليات المبتدعة بنيت علي أقوال مشتبهة مجملة تشتمل علي حق وباطل. الوجه السابع عشر

- ‌المبتدعة يستعملون ألفاظ الكتاب والسنة واللغة ولكن يقصدون بها معاني أخر

- ‌معني لفظ التوحيد في الكتاب والسنة مخالف لما يقصده المبتدعة

- ‌إما أن نمتنع عن التكلم بالألفاظ المبتدعة. وإما نقبل ما وافق معناه الكتاب والسنة

- ‌الألفاظ نوعان. النوع الأول

- ‌النوع الثاني

- ‌مثال: الكلام على الرؤية

- ‌مثال آخر: كلمة جبر

- ‌مثال ثالث: اللفظ بالقرآن

- ‌معنى الاستواء على العرش

- ‌ما يعارضون به الأدلة الشرعية من العقليات فاسد متناقض. الوجه الثامن عشر

- ‌معنى المركب

- ‌مذهب النفاة في الصفات والرد عليه

- ‌الرد على نفاة الصفات من وجوه. الأول

- ‌الثاني

- ‌الثالث

- ‌وجود الله هل هو ماهيته أو زائد على ماهيته

- ‌رأي ابن تيمية

- ‌كيف نعرف الضلال ونتجنبه

- ‌حجة الأعراض عند المتكلمين

- ‌بطلان استدلال المتكلمين بقصة الخليل على رأيهم

- ‌الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌بطلان الاستدلال بحدوث الحركات والأعراض. الوجه التاسع عشر

- ‌آراء المتكلمين في إرادة الله تعالى

- ‌آراء الفلاسفة

- ‌اعتراض الأرموي على الرازي

- ‌رد ابن تيمة على الأرموي

- ‌المقصود مما تقدم

- ‌مثال في الإجابة على الفلاسفة. الرد على قولهم بقدم العالم. الكلام على امتناع التسلسل

- ‌ملخص الرد على حجة التأثير

- ‌عمدة الفلاسفة في قدم العالم على مقدمتين

- ‌جواز التسلسل

- ‌الترجيح بلا مرجح

- ‌كل ما يحتج به النفاة يدل على نقيض قولهم

- ‌إبطال الأبهري حجة الفلاسفة على قدم العالم

- ‌رد الأبهري على الرازي وتعليق ابن تيمية

الفصل: ‌رد الأبهري على الرازي وتعليق ابن تيمية

وإذا طلب الفرق بينهما قيل: أحواله من مقتضيات ذاته الواجبة الوجود بنفسه، التي لا يتوقف شيء من أحوالها على أمر مستغن عنها، ولا يحتاج إليه، وإذا كان واجباً بنفسه، فما كان من لوازمه كان أيضاً واجباً لا يمكن عدمه، بخلاف الممكن الذي ليس له من نفسه وجود.

فإنه إذا قيل: اختلف فعل الفاعل، وتأخر لاختلاف القابل وحدوثه.

قيل: فهو أيضاً الفاعل للقابل المختلف الحادث.

فكيف تصدر المختلفات الحادثات عن فاعل لا اختلاف في فعله، ولا حدوث لشيء من أفعاله؟.

‌رد الأبهري على الرازي وتعليق ابن تيمية

والأبهري قد أبطل حجة المعتزلة والأشعرية ونحوهم على حدوث الأجسام، وأراد أن يعتذر عن الفلاسفة، فقال:

(فصل - في ذكر الطرائق التي سلكها الإمام - يعني أبا عبد الله الرازي - في كتبه لتقرير مذاهب المتكلمين، وكيفية الاعتراض عليها.

أما الطريقة التي سلكها لحدوث العالم فمن وجهين:

أحدهما: أن العالم ممكن لذاته، وكل ممكن لذاته فهو حادث، لأن تأثير المؤثر فيه: إما أن يكون حال الوجود، أوحال العدم، أو لا حال الوجود ولا حال العدم.

والأول باطل، لأن التأثير حال الوجود يكون إيجاداً للموجود وتحصيلاً للحاصل، وهو محال.

والثاني محال، لأن التأثير حال العدم يكون جمعاً بين الوجود والعدم، وهو محال.

فيلزم أن يكون: لا حال الوجود ولا حال العدم، فيكون حال الحدوث، فكل ما له مؤثر فهو حادث.

الثاني: أن الأجسام لو كانت أزلية، فإما أن تكون متحركة في الأزل، أو ساكنة والقسمان باطلان.

أما الأول فلوجوه:

ص: 385

أحدها: أنها لو كانت متحركة في الأزل للزم المسبوقية بالغير وعدم المسبوقية في شيء واحد.

لأن الحركة تقتضي المسبوقية بالغير، والأزل يتقضي عدم المسبوقية بالغير، فيلزم الجمع ضرورة.

الثاني: أنه لو كانت متحركة في الأزل لكانت بحال لا تخلو عن الحوادث، وما يخلو عن الحوادث فهو حادث، وإلا لكان الحادث أزليا، هذا خلف.

الثالث: أنها لو كانت متحركة في الأزل لكانت الحركة اليومية موقوفة على انقضاء ما لا نهاية له، وهو محال، والموقوف على المحال محال.

الرابع: أنها لو كانت متحركة في الأزل لحصلت جملتان: إحداهما من الحركة اليومية إلى غير النهاية، والثانية من الحركة التي وقعت من الأمس إلى غير النهاية.

فالجملة الثانية، إن صدق عليها أنها لو أطبقت على الأولى انطبقت عليها، كان الزائد مثل الناقص، وإن لم تصدق كانت متناهية، فالجملة الاولى أيضا متناهية، وقد فرضت غير متناهية، هذا خلف.

وأما الثاني: فلأنها لو كانت ساكنة في الأزل امتنع عليها الحركة، لأن المؤثر في السكون إما أن يكون أزلياً أو حادثاً، لا جائز أن يكون حادثاً، وإلا لكان السكون حادثاً، وقد فرض أزلياً، هذه خلف، فتعين أن يكون أزلياً، فيلزم من دوامه دوام السكون، فتمتنع الحركة على الأجسام وأنها ممكنة عليها، لأن

ص: 386

الأجسام إما أن تكون بسيطة أو مركبة، فإن كانت بسيطة فيصح على أحد جوانبها ما يصح على الآخر، فيصح أن يصير يمينها يساراً ويسارها يميناً، فيصح عليها الحركة، وإن كانت مركبة كانت مجتمعة من البسائط، فكانت بسائطها قابلة للاجتماع والافتراق، وكانت قابلة للحركة، هذا خلف) .

قال الأبهري (الاعتراض: قوله: بأن التأثير في الممكن إما أن يكون حالة الوجود، أو حالة العدم، أو لا حالة الوجود ولا حاله العدم.

قلنا: لم لا يجوز أن يكون حال الوجود؟.

وقوله: التأثير حال الوجود إيجاد الموجود وتحصيل الحاصل.

قلنا: لا نسلم، وإنما يكون كذلك أن لو أعطى الفاعل وجوداً ثانياً، وليس كذلك، فإن التأثير عبارة عن كون الأثر موجوداً بوجود المؤثر.

وجاز أن يكون الأثر موجوداً دائماً لوجود المؤثر، والذي يدل على حصول التأثير حالة الوجود، أنه لو لم يكن كذلك لكان التأثير حالة العدم، لاستحالة الواسطة بين الوجود والعدم، والثاني كاذب، لأن التأثير حاله العدم يقتضي الجمع بين الوجود والعدم، وهو محال) .

قال: (أما قوله: الأجسام لو كانت أزلية: فإما أن تكون متحركة أو ساكنة في الأزل.

قلنا: لم لا يجوز أن تكون متحركة؟.

قوله: يلزم الجمع بين المسبوقية بالغير وعدم المسبوقية بالغير في شيء واحد.

قلنا: لا نسلم، وهذا لأن المسبوق بالغير هو الحركة، وغير المسبوق بالغير هو الجسم.

ص: 387

فإن قال: (إذا كانت الحركة أزلية كانت الحركة من حيث هي هي غير مسبوقة بالغير، لكن الحركة من حيث هي هي مسبوقة بغير، لأنها تغير وانتقال فتقتضي المسبوقية بالغير، فيلزم الجمع بين المسبوقية بالغير وعدم المسبوقية بالغير في الحركة.

قلنا: إذا ادعيتم ذلك فنقول: لا نسلم أن الجسم لو كان أزلياً لكانت الحركة من حيث هي هي حركة أزلية.

ولم لا يجوز أن يكون الجسم أزلياً، ويصدق عليه أنه متحرك دائماً بأن تتعاقب عليه الحركات المعنية، ولا يصدق على الحركات الموجودة في الأعيان أنها أزلية، ضرورة اتصاف كل واحد منها بكونها مسبوقة بالغير؟) .

قلت: هذا مضمونه ما نبه عليه في غير هذا الموضع: أن حدوث كل من الأعيان لا يستلزم حدوث النوع الذي لم يزل ولا يزال.

(وأما قوله: لو كانت الأجسام متحركة لكانت لا تخلو عن الحوادث.

قلنا: نعم: ولكن لم قلتم بأن ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث؟.

قوله: لو لم يكن كذلك لكان الحادث أزلياً.

قلنا: لا نسلم، وإنما يلزم ذلك لو كان شيء من الحركات بعينها لازماً للجسم، وليس كذلك، بل هو قبل كل حركة حركة، لا إلى أول إلى ما لا نهاية) .

قلت: هذه من نمط الذي قبله، فإن الأزلي هو نوع الحادث، لا عين الحادث.

ص: 388

قوله: لو كانت حادثة في الأزل لكان الحادث اليومي موقوفاً على انقضاء ما لا نهاية له.

قلنا: لا نسلم، بل يكون الحادث اليومي مسبوقاً بحوادث لا أول لها، ولم قلتم: إن ذلك غير جائز؟ .

قلت: مضمونة أنه يكون موقوفا على انقضاء ما لا ابتداء له، ولا أول له، وهو لا نهاية له من الطرف الأول، لكن له نهاية من الطرف الآخر.

قوله: لو كانت متحركة في الأزل لحصلت جملتان، أحدهما: من الحركة اليومية، والثانية: من الحركة التي وقعت في الأمس.

قلنا: لا نسلم، وإنما يلزم ذلك لو كانت الحركات مجتمعة في الوجود.

قلت: هذا مضمونه أن التطبيق لا يكون إلا بين موجودين، ولكن يقال التطبيق في الخارج لا يكون إلا بين موجودين، ولكن يمكن تقدير التطبيق بين معدومين، لا سيما إذا كانا قد دخلا جميعاً في الوجود، فالمطبق بينهما إما أن يكونا مقدرين في الأذهان، لا يوجدان في الأعيان بحال، كالأعداد المجردة عن المعدودات، أو معدومين منتظرين كالمستقبلات، أو معدومين ماضيين كالحوادث المتقدمة، أو موجودين كالمقادير الموجودة والمعدودات الموجودة.

ويجاب عن هذا بجواب ثان: وهو: أن الجملتين اللتين طبقت إحداهما على الأخرى، مع التفاوت في أحد الطرفين وعدم التناهي في الآخر، هما متفاضلتان

ص: 389

في الطرف الواحد، وتنطبق إحداهما على الآخرى في الطرف الآخر، فلا يصدق ثبوت مطابقة إحداهما للأخرى مطلقاً، ولا نفي المطابقة مطلقاً، بل يصدق ثبوت الانطباق من أحد الطرفين وانتفاؤه من الآخر، وحينئذ فلا يكون الزائد مثل الناقص: ولا يكونان متناهيين.

وإذا قال القائل: نحن نطبق بينهما من الطرف الذي يلينا، فإن استويا لزم أن يكون الزائد مثل الناقص، وأن يكون وجود الزيادة كعدمها، والشيء مع عدم غيره كهو مع وجوده، وإن تفاضلا لزم أن يكون ما لا يتناهى بعضه متفاضلاً.

قيل: التطبيق بينهما من الجهة المتناهية مع تفاضلهما فيها ممتنع، وفرض الممتنع قد يلزمه حكم ممتنع، فإن الحوادث الماضية من أمس إذا قدرت منطبقة على الحوادث الماضية في اليوم كان هذا التطبيق ممتنعاً، فإنه يمتنع أن يطابق هذا هذا، فإن الجملتين متفاضلتان: ومع التفاضل يمتنع التطبيق المستلزم للمعادلة والاستواء.

وإذا قال القائل: أنا أقدر المطابقة في الذهن وإن كانت ممتنعة في الخارج.

قيل له: فقد قدرت في الذهن شيئين مع جعلك أحدهما أزيد من الآخر من الطرف الواحد، ومساوياً له من الطرف الآخر.

ومعلوم أنك إذا قدرت لم يكن تفاضلهما ممتنعاً، بل كان الواجب هو التفاضل.

ودليلك مبني على تقدير التطبيق، فيلزم التفاضل فيما لا يتناهى، وكل من المقدمتين باطل، فإن قدرت تطبيقها صحيحاً عدلياً فهو باطل، وإن قدرته وإن كان ممتنعاً لم يكن التفاضل

ص: 390

في ذاك ممتنعاً، فدعواك أن التفاضل ممتنع فيما قدرته متفاضلاً ممنوع، بل مع تقدير التفاضل يجب التفاضل، لكن يجب التفاضل من جهة التفاضل، ولا يلزم التفاضل من الجهة الأخرى.

قال الأبهري: (وإن سلمنا أنه لا يجوز أن تكون متحركة في الأزل، ولكن لم لا يجوز أن تكون ساكنة؟

قوله: بأن المؤثر في السكون إما أن يكون حادثاً أو أزلياً.

قلنا: فلم قلتم بأنه لو كان أزلياً للزم دوام السكون؟ ولم لا يجوز أن يكون تأثيره فيه موقوفاً على شرط عجمي أزلي؟ والعدمي الأزلي جائز الزوال، فإذا زال الشرط زال السكون) .

قلت: لقائل أن يقول: العرض الأزلي إنما يزول بسبب حادث، والقول فيه كالقول في غيره، بل لا يزول إلا بسبب حادث، فيحتاج إلى حدوث سبب يحدث ليزول السكون، وهو يقول: المقتضي لزوال السكون كالمقتضي لحدوث العالم، وهو الإرادة المسبوقة بإرادة لا إلا أول، لكن هذا التقدير يصحح القول بحدوث العالم.

فيقال: إن كان الجسم أزلياً وأمكن حدوث الحركة فيه، كان المقتضي لحركته مجوزاً لحدوث العالم، لكن هذا يبطل حجة الفلاسفة، ولا يصحح حجية أن الجسم الأزلي يمتنع تحريكه فيما بعد.

ص: 391

وأيضاً فإنه ههنا بحثاً آخر، وهو أن السكون هل هو أمر ثبوتي مضاد للحركة، أو هو عدم الحركة عما من شأنه أن يتحرك؟ وفيه قولان معروفان، فإذا كان عدمياً لم يفتقر إلى سبب.

(قال: وأما الطريقة التي يسلكها في كون الباري فاعلاً بالاختيار فمن وجهين:

أحدهما: أنه لو كان موجباً بالذات وجب أن لا ينفك عنه العالم، فيلزم إما قدم العالم، وإما حدوث الباري تعالى.

الثاني: أنه لو كان موجباً بالذات لما حصل تغير في العالم، لأنه يلزم من دوامه دوام معلوله، وإلا كان ترجيحاً بلا مرجح، ويلزم من دوام معلوله دوام معلول معلوله، وهكذا إلى أن يلزم دوام جميع المعلولات) .

قال الأبهري: (الاعتراض: أما الوجه الأول فلا نسلم أن القدم منتف، وأما الحجة التي ذكرها فقد مر ضعفها.

وأما الثاني فلا نسلم أنه لو كان موجباً بالذات للزم دوام معلولاته، وإنما يلزم ذلك أن لو كان جميع معلولاته قابلة للدوام، وهذا لأن من جملة معلولاته الحركة، وهي غير قابلة للبقاء) .

ولقائل أن يقول: اعتراض الأبهري هنا ضعيف.

أما الأول فيقال: هب أن ما ذكره على انتفاء القدم ضعيف، لكن لا يلزم من ضعف الدليل المعين انتفاء المدلول، وأنت قد بينت ضعف دليل الفلاسفة على القدم، وإذا كان القول بالموجب بالذات يستلزم قدم العالم، ولا دليل لهم عليه، كان قولهم أيضاً لا دليل عليه.

ص: 392

والأبهري قد ذكر في غير هذه الموضع ما احتج به على حدوث العالم ببيان انتفاء لازم القدم، ولكن إن كان قصده بيان فساد ما ذكره الرازي فـ الرازي ذكر وجهين.

وهب أن الأول ضعيف، لكن الثاني قوي، وهو قوله:(لو كان موجباً بالذات ما حصل تغير في العالم) .

وتحرير ذلك أن يقال: الموجب بالذات يراد به العلة التامة التي تستلزم معلولها، ولو كانت شاعرة به، ويراد ما يفعل بغير إرادة ولا شعور، وإن كان فعله متراخياً.

ومن المعلوم أنه لم يقصد إفساد القسم الثاني، وإنما قصد إفساد القسم الأول.

فيقال: إذا كان الموجب علة تامة تستلزم معلولها كان معلولها لازماً لها، ومعلول معلولها لازماً، فيمتنع تأخر شيء من لوزمها ولوازم لوازمها، فلا يكون هناك شيء محدث، فلا يحصل في العالم تغير.

وأما قول المعترض: (إنما يلزم أن لو كان جميع معلولاته قابلة للقدم، والحركة لا تقبله) .

فيقال: هذا الاعتراض باطل لوجوه: أحدها: أنه إذا جاز أن تكون العلة التامة التي تستلزم معلولها لها معلول لا يقبل البقاء، وهو الحركة، والحوادث تحدث بسببه، جاز أن يكون ذلك المعلول حوادث يقوم بها، وتكون كل الأمور المباينة موقوفة على تعاقب تلك الحوادث، كما قد ذكره الأبهري نفسه في الإرادات المتعاقبة، وقال: (يجوز أن يكون للباري إرادات حادثة، وكل واحدة منها تستند إلى الأخرى، ثم تنتهي في جانب النزول إلى إرادة تقتضي حدوث العالم، فيلزم حدوثه، وإذا كان هذا جائزاً امتنع أن يكون موجباً بذاته، بمعنى أنه يسلتزم أن يكون موجباً بذاته، بمعنى أنه يستلزم

ص: 393

موجباته، بل يجوز مع هذا أن تتأخر عنه موجباته، وعلى هذا فلا يكون العالم قديماً، وليس هذا هو الموجب بذاته في هذا الاصطلاح الذي تكلم به الرازي، وأراد به إفساد قول الفلاسفة الدهرية، فإن الموجب بذاته في هذا الاصطلاح الذي بينه وبينهم هو العلة التامة التي تستلزم معلولها.

الوجه الثاني: أن يقال: إن أردتم بالموجب بالذات ما يستلزم معلوله، فالتغيرات التي في العالم تبطل كونه موجباً بهذا الاعتبار، وإن أردتم بالموجب بالذات ما قد تكون مفعولاته أمراً لا يلزمه، بل يحدث شيئاً بعد شيء، فحينئذ إذا وافقكم المنازعون على تسميته موجباً بالذات لم يكن في ذلك ما ينافي أن تكون مفعولاته تحدث شيئاً بعد شيء، ولا يمتنع أن تكون هذه الأفلاك من جملة الحوادث المتأخرة، فبطل قولكم.

الوجه الثالث: ذلك المعلول الذي لا يقبل الدوام كحركة الفلك: هل للباري موجب له بذاته بوسط أو بغير وسط، أو أيجابه له موقوف على حادث آخر؟

فإن قيل بالأول، لزم الحركات المتعاقبة، وأن تكون قابلة للدوام، وهو ممتنع.

وإن قيل بالثاني، قيل: فإيجابه لما تأخر من هذه الحركة: إما يكون موقوفا على شرط أو لا يكون، فإن يكن موقوفا على شرط، لزم تقدمه لتقدم الموجب الذي لا يقف تأثيره على شرط، وهو ممتنع.

ص: 394

وإن قيل: بل إيجابه للجزء الثاني مشروط بحدوث الجزء الأول، وهلم جرا: كان معناه أن إيجابه لكل جزء مشروط بوجود جزء آخر، وهو قبله: وهو علة تامة لشيء من تلك الأجزاء، فيجب أن لا يحصل شيء منها، لأن تلك الأجزاء متعاقبة أزلاً وأبداً، وما من وقت يفرض إلا وهو مشابه من الأوقات، فليس هو في شيء من الأوقات علة تامة لشيء من الحوادث، فيكون إحداثه لكل حادث مشروطاً بحادث لم يحدثه، والقول في ذلك الحادث الذي هو شرط كالقول في الحادث الذي هو مشروط، فإذا لم يكن محدثاً للأول فلا يكون محدثاً للثاني، فلا يكون محدثاً لشيء من الحوادث على قولهم (هو علة تامة) وهو المطلوب.

فإنه لو قال: (لو كان موجباً بذاته لما حصل في العالم شيء من التغير) وهذا يهدم قولهم، فإنهم بين أمرين: إما أن يقولوا ليس بعلة تامة لمعولاته، أو يقولوا: معلولاته مقارنة له، فأما جمعهم بين كونه علة تامة في الأزل، وبين كون المعلول يوجد شيئاً فشيئا، فجمع بين الضدين.

فإن العلة التامة: هي التي تستلزم معولولها، لا يتأخر عنها معلولها، ولا يقف اقتضاؤها على غيرها.

وهم يقولون: إنه في كل وقت ليس علة تامة لما يحدثه فيه، بل فعله مشروط بأمر متقدم، وليس هو علة تامة لذلك الشرط المتقدم، فلا يكون علة تامة، لا للمتقدم من الحوادث ولا للمتأخر، فلا بد للحوادث من مقتض آخر.

وهذا لا يرد على من يقول: (أحدث الحوادث بإرادات متعاقبة أو أفعال متعاقبة) فإنه لا يقول: هو موجب بنفسه للممكنات، ولا يقول: هو في الأزل علة تامة لها، بل بقوله: ليس بعلة أصلاً لشيء من مخلوقاته، بل فعلها بمشيئته

ص: 395

وقدرته، إذ الفعل الثاني منه مشروط بالأول، لأن الأفعال الحادثة لا تكون إلا متعاقبة، وليس هو موجباً بذاته لشيء من تلك الأفعال، ولا للمفعولات بها، ولا يلزم من ذلك لا قدم شيء من الأفعال بعينه، ولا قدم شيء من المفعولات بعينه: لا فلك ولا غيره، والحوادث جميعها التي في العالم والتغيرات يحدثها شيئاً بعد شيء، بأفعاله الحادثة شيئاً بعد شيء، فكل يوم هو في شأن.

بخلاف ما إذا قالوا: هو علة تامة مستلزمة لمعلولها، وجعلوا من المعلولات ما لا يكون إلا شيئاً فشيئاً، فإن هذا جميع بين المتنافيين، يمنزلة من قال: معلوله مقارن له، معلوله ليس مقارناً له.

وإذا قالوا: هو موجب بنفسه للفلك وأجزاء العالم الأصلية، وليس موجباً بنفسه للحوادث المتجددة، بل أيجابه لها مشروط بما يكون قبلها من الحوادث.

قيل: هذه حقيقة قولكم وحينئذ فلا يكون نفسه موجباً لشيء من الحوادث، لا الأول ولا الثاني، لا بوسط ولا بغير وسط، وهو المطلوب، فالقول بالموجب بالذات وحدوث المحدثات عنه بوسط وبغير وسط جمع بين النقيضين.

ثم هذا القول يبطل قولكم بكونه موجباً للعالم بذاته، لأنهم يقولون: إن العالم لا قيام له بدون الحركة، وإنها صورته التي لولا هي لبطل، فإذا كان إيجابه للعالم بدون الحركة ممتنعاً وإيجابه للحركة في الأزل ممتنعاً: لم يكن موجباً لا للعالم ولا للحركة، فإن المبدع المشروط بشرط يمتنع إبداعه بدون إبداع شرطه، وإبداع شرطه ممتنع على أصلهم، فإذن إبداعه ممتنع، وهذا لأنهم جعلوا الباري ليس له فعل

ص: 396

يقوم بذاته أصلاً، ولا يتجدد منه شيء، ولا فيه شيء أصلاً، وعندهم أن ما كان كذلك لا يحدث عنه شيء أصلاً.

ثم قالوا: الحوادث كلها صادرة عنه، لأن الحركة لم تزل ولا تزال صادرة عنه، وكيف تصدر حركات لم تزل ولا تزال في أمور ممكنة، عن شيء لا يحدث عنه ولا فيه شيء على أصلهم؟.

ومما يوضح هذا أن قدماء هؤلاء الفلاسفة كأرسطو وأتباعه كانوا يقولون: إن الأول محرك للعالم حركة الشوق، كتحريك المحبوب لمحبه، والإمام المقتدى به للمؤتم المقتدي به.

وبهذا أثبتوه، وجعلوه علة للعالم، حيث قالوا: إن الفلك لا يقوم إلا بالحركة الإرادية، والحركة الإرادية لا تتم إلا بالمراد المحبوب الذي يحرك المريد حركة اشتياق، فالباري عندهم علة بهذا الاعتبار، وهو بهذا الاعتبار لم يبدع الأفلاك ولا حركاتها، لكن هو شرط في حصول حركتها.

وعلى هذا القول فقد يقال: العالم قديم واجب بنفسه، بل هم يصرحون بذلك، والأول الذي هو المحبوب واجب قديم بنفسه، كما يقول آخرون منهم: بل العالم واجب قديم بنفسه، وليس هناك علة محبوبة محركة له بالشوق خارجة عن العالم.

وإذا كان كذلك كانت الحركات حادثة في واجب بنفسه، وإذ لزمهم كون الواجب بنفسه محلاً للحوادث والحركات، لم يكن معهم ما يبطلون به كون الأول كذلك، وحينئذ فلا يكون لهم حجة على كونه موجباً بالذات، وهم يعترفون بذلك،

ص: 397

وإنما نفوا عن الأول ذلك لكونه ليس جسماً عند أرسطو وأتباعه، ولا دليل لهم على ذلك إلا كون الجسم لا يمكن أن يكون فيه حركة غير متناهية، بناء على أن الجسم متناه، فيمتنع أن يتحرك حركة غير متناهية.

هذه الحجة عمدتهم، وهي مغلطية من أفسد الحجج، فإنه فرق بين ما لا يتناهى في الزمان، بل يحدث شيئاً بعد شيء، وبين ما لا يتناهى في المقدار، والنزاع إنما هو في حركة الجسم دائماً حركة لا تتناهى، ليس هو كونه في نفسه ذا قدر لا تتناهى، فأين هذا من هذا؟ وهذا مبسوط في موضع آخر.

ويقال لهم: حدوث الحوادث عن فاعل لا يحدث فيه شيء: إما أن يكون ممكناً، وإما أن يكون ممتنعاً، فإن كان ممكناً أمكن حدوث الحوادث جميعها عن الأول بدون حدوث شيء، كما يقوله من يقوله من أهل الكلام وغيرهم من المعتزلة والكلابية وغيرهم، وإن كان ممتنعاً بطل قولهم بحدوث الحوادث الدائمة عنه مع أنه لم يحدث فيه شيء، وهذا أفسد.

وإذا قالوا: أولئك خصصوا بعض الأوقات بالحدوث بدون سبب حادث من الفاعل.

قيل: وأنتم جعلتم جميع الحوادث تحصل بدون سبب حادث من الفاعل.

وإذا قلتم لهم: كيف يحدث بعد أن لم يكن محدثاً بدون حدوث قصد ولا علم ولا قدرة؟

قالوا لكم: فكيف تحدث الحوادث دائماً بدون حدوث قصد ولا علم ولا قدرة؟ بل بدون وجود ذلك؟ وأنتم تقولون: يحدث للفلك تصورات وإرادات،

ص: 398

وهي سبب الحركات المتعاقبة، فما السبب الموجب لحدوث تلك الحوادث، ولم يحدث شيء أصلاً يوجب حدوثها؟.

ولو قال قائل: الإنسان دائماً يتجدد له تصورات وإرادات وحركات بدون سبب حادث، ولا يحدثها محدث أصلاً، ألم يكن ذلك ممتنعاً؟.

فإن قيل: بإحداثه للأول استعان على إحداث الثاني.

قيل: فما الموجب لإحداثه الأول، وهو لم يزل في إحداث إذا قدر أزلياً لم يكن هناك أول، بل لم يزل في إحداث.

فإن قيل تلك الحوادث التي للإنسان صدرت عن العقل الفعال بدون سبب حادث.

قيل: فالعقل الفعال دائم الفيض عندهم، فلم خص هذه التصورات والإرادت والحركات بوقت دون وقت؟.

قالوا: لعدم استعداد القوابل، فإذا استعد الإنسان للفيض أفاض عليه واهب الصور.

فإذا قيل لهم: فما الموجب لحدوث الاستعداد؟

قالوا: ما يحدث من الحركات الفلكية والامتزاجات العنصرية، فلا يجعلون العقل الفعال هو الموجب لما يحدث من الاستعداد، بل يحيلون ذلك على تحركيات خارجة عنه وعن إفاضته.

فإن قالوا مثل هذا في الأول، لزم أن يكون المحدث لشروط الفيض غيره، وشبهوه بالفعال في كونه لا يفيض عنه إلا بعض الأشياء دون بعض، لكن الفعال

ص: 399

تحدث عنه الأشياء شيئا بعد شيء عندهم، أما الأول فلا يحدث عنه شيء، بل معلوله لازم له، فهو أنقص رتبة في الإحداث عندهم من الفعال.

وإن قالوا: بل هو المحدث للشروط شيئاً فشيئاً.

قيل: أنتم قلتم في الفعال: (إنه دائم الفيض، لا يخص من تلقاء نفسه وقتاً دون وقت بفيض) فالأول إذا خص وقتاً دون وقت من تلقاء نفسه بشيء لم يكن فياضاً بل كان الفياض أجود منه، وإن كان التخصيص من غير تلقاء نفسه كان ذلك لمشارك له في الفعل، كما في الفياض.

فهم بين أمرين: إما أن يجعلوه عاجزاً عن الانفراد بالإحداث كالفعال، بل أدنى منه، وإما أن يجعلوه بخيلاً لا فياضاً، فيكون الفعال أجود منه.

وأيضاً فإذا قالوا: إنه علة تامة وموجب تام لمعلوله وموجبه، وفاعل تام في الأزل لمفعوله، فجعلوا ما سواه معلوله ومفعوله وموجبه، وإن كان ذلك بوسط، كان هذا ممتنعاً في صرائح العقول، فإن الموجب التام والعلة التامة والتكوين التام إما أن يقول القائل: يجوز تراخي المكون عنه، كما يقوله من يقوله من أهل الكلام، وإما أن يقول: هو مستلزم به.

فإن قيل بالأول أمكن تراخي المفعولات كلها، وبطل قولهم بوجوب قدم شيء من العالم، بل يمتنع قدم شيء من العالم لامتناع مقارنة الكون للمكون.

وإن قيل بالثاني فلا يخلو: إما أن يقال: يجب اقتران مفعوله به في الزمان، بحيث يكون معه، لا يكون عقب تكوينه.

وإما أن يقال: بل كون الكائن إنما يكون عقب تكوين المكون.

ص: 400

فإن قالوا بالأول كما يدعونه لزمهم أن لا يحدث في العالم شيء، وهو خلاف الحس والمشاهدة.

وإن قالوا بالثاني، لزم أن يكون كل معلول له مسبوقاً بغيره زمانياً، فلا يكون شيء من العالم قديماً أزلياً معه، وهو المطلوب.

وإذ كان أقتران المفعول بفاعله في الزمان ممتنعاً على تقدير دعوى استلزامه له، فاقترانه به على تقدير عدم وجوب الاستلزام أولى.

فتبين أن يمتنع قدم شيء من العالم على كل تقدير.

وهذا بين لم تصوره تصوراً تاماً.

ولكن وقع اللبس والضلال في هذا الباب من الجهمية والمعتزلة، ومن وافقهم من أهل الكلام، لما ادعوا ما يمتنع في صريح العقل عند هؤلاء - من كون المؤثر التام يتأخر عنه أثره، والحوادث تحدث بسبب حادث - فر هؤلاء إلى أن جعلوا المؤثر يقترن به أثره، ولا يحدث حادث إلا بسبب حادث، ولم يحققوا واحداً من الأمرين، بل كان قولهم اشد فساداً وتناقضاً من قول أولئك المتكلمين.

فإن كون المؤثر يستلزم أثره يراد به شيئان:

أحدهما: أن يكون الأثر المكون المفعول المصنوع مقرناً للمؤثر ولتأثيره في الزمن، بحيث لا يتأخر عنه تأخراً زمانياً بوجه من الوجوه، وهذا مما يعرف جمهور العقلاء بصريح العقل أنه باطل في كل شيء، فليس معهم في العالم مؤثر تام يكون زمنه زمن أثره، ويكون زمن حصول الأثر المفعول زمن حصول التأثير، بل إنما يعقل التأثير أن يكون الأثر عقب المؤثر، وإن كان متصلاً به، كأجزاء الزمان والحركة الحادثة شيئاً بعد شيء، وإن كان ذلك متصلاً.

ص: 401

أما كون الجزء الثاني من الزمان والحركة مقارناً للجزء الأول في الزمن، فهذا مما يعلم فساده بصريح العقل.

وهذا معلوم في جميع المؤثرات الطبيعية والإرادية، وما صار مؤثراً بالشرع وغير الشرع.

فإذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق، ولعبده، أنت حر، فالطلاق والعتاق لا يقع مع التكلم بالتطليق والإعتاق، وإنما يقع عقب ذلك.

وإذا قال: إذا طلقت فلانة ففلانة طالق، لم تطلق الثانية إلا عقب طلاق الأولى، لا مع تطليق الأولى في الزمان، وهذا الذي عليه عامة العلماء قديماً وحديثاً، ولكن شرذمة من المتأخرين، الذين استزل هؤلاء عقولهم، ظنوا أن الطلاق يكون مع التكلم في الزمان، وهذا غلط عند عامة العلماء.

وكذلك إذا قال: إذا مت فأنت حر، فالمدبر يعتق عقب موت سيده، لا مع موت سيده.

وهكذا في الأمور الحسية، إذا قال:(كسرت الإناء فانكسر) ، و (قطعت الحبل فانقطع) ، فانكسار المنفعل وانقطاعه يحصل عقب كسر الكاسر وقطع القاطع، ولهذا إذا لم يكن المحل قابلا قيل:(قطعته فلم ينقطع، وكسرته فلم نكسر) كما يقال: علمته فلم يتعلم.

ولفظ (التعليم، والقطع، والكسر) ونحو ذلك يراد به الفعل التام الذي يستلزم أثره، فهذا كالعلة التامة التي تستلزم معلولها لا تقبل التخصيص، ويراد به المقتضي الموجب المتوقف اقتضاؤه على شروط، فهذا قد يتخلف عنه موجبه.

ص: 402

ومن هذا الباب قوله تعالى: {هدى للمتقين} [البقرة: 2]، وقوله:{إنما أنت منذر من يخشاها} [النازعات: 45]، وقوله:{إنما تنذر من اتبع الذكر} [يس: 11] ، فالمراد به الهدى التام المستلزم لحصول الاهتداء، وهو المطلوب في قوله:{اهدنا الصراط المستقيم} .

وكذلك الإنذار التام المستلزم خشية المنذر وحذره مما أنذر به من العذاب، وهذا بخلاف قوله:{وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى} (فصلت: 17) ، فالمراد به البيان والإرشاد المقتضى للاهتداء، وإن كان موقوفاً على شروط وله موانع.

وهكذا إذا قيل: هو موجب بذاته، أو علة بذاتة، ونحو ذلك،: إن أريد بذلك أنه موجب ما يوجبه من مفعولاته بمشيئته وقدرته، في الوقت الذي شاء كونه فيه، فهذا حق، لا منافاة بين كونه موجباً وفاعلاً بالاختيار على هذا التفسير.

وإن أريد به أنه موجب بذات عرية عن الصفات، أو موجب تام لمعلول مقارن له - وهذا قول هؤلاء - وكل من الأمرين باطل.

فقد قامت الدلائل القينية على اتصافه بصفات الإثبات، وقامت الدلائل اليقينية على امتناع كون الأثر مقارناً للمؤثر وتأثيره في الزمان، ولو كان فاعلاً بدون مشيئته وقدرته كالمؤثرات الطبيعية، فكيف في الفاعل بمشيئته وقدرته؟ فإن هذا مما يظهر للعقلاء امتناع أن يكون شيء من مقدوراته قديماً أزلياً لم يزل ولا يزال.

فمن تصور هذه الأمور تصوراً تاماً، علم بالاضطرار أنه يمتنع أن يكون في العالم شيئ قديم، وهو المطلوب.

ص: 403

فإن قال قائل: المنازعون لنا الذين يقولون: لم يزل متكلماً إذا شاء، أو لم يزل فاعلاً إذا شاء، أو لم تزل الإرادات والكلمات تقوم بذاته شيئاً بعد شيء، ونحو ذلك، وهم يقولون بحدوث الحوادث في ذاته شيئاً بعد شيء، فنحن نقول بحدوث الحوادث المنفصلة عنه شيئاً بعد شيء: إما حدوث تصورات وإرادات في النفس الفلكية، وإما حصول حركات الفلك المتعاقبة، فلم كان قولنا ممتنعاً وقولهم ممكناً؟.

قيل لهم: أنتم قلتم: إنه مؤثر تام، أو علة تامة في الأزل، فلزمكم أن لا يتأخروا عنه شيء من آثاره، سواء كانت صادرة بوسط أو بغير وسط.

فإذا قلتم: صدر عنه عقل - مثلا - والعقل أوجب نفساً فلكية وفلكاً، أو ما قلتم.

قيل لكم: المعلول الأول إن كان تاماً من كل وجه لا يمكن أن يحدث فيه شيء - فهو أزلي - كان معلوله العقل معه أزلياً، فإن العقل حينئذ يكون علة تامة في الأزل، فيلزم أن يكون معلوله معه أزلياً، وهكذا معلول المعلول، هلم جراً.

وإذا قلتم: الحركة لا تقبل البقاء.

قيل لكم: فيمتنع أن يكون لها موجب تام في الأزل، بل يكون الموجب لها غير تام في الأزل، بل صار موجباً، وحدوثه كونه موجباً يمتنع أن يتوقف على أثر غيره، إذ ليس هناك موجب غيره.

ويمتنع أن يحدث تمام

ص: 404

إيجابه منه، لأنه علة تامة يجب اقتران معلولها بها في الأزل، فذلك التمام: إن كان قديماً لزم كون معلول المعلول قديماً، وهلم جراً، وإن كان حادثاً حدث عن العلة التامة الأزلية حادث بدون سبب حادث، وهذا ينقض قولهم بامتناع حادث بلا سبب.

فأنتم بين أمرين، أيهما قلتموه بطل قولكم: إن قلتم (أنه علة تامة في الأزل) ، لزم أن لا يتأخر عنه معلوله.

وإن قلتم (ليس بعلة تامة) لزم أن يحدث تمام كونه علة بدون سبب حادث، فيلزمكم جواز حدوث الحوادث بلا سبب.

وأيهما كان بطل قولكم، فإنه إذا بطل كونه علة تامة في الأزل امتنع قدم شيء من العالم، وإن جاز حدوث الحوادث بلا سبب حادث بطلت حجتكم، وجاز حدوث كل ما سواه.

وإذا قلتم: هو علة تامة للفلك دون حركاته.

قيل لكم: هو علة للفلك ولحركاته المتعاقبة شيئاً بعد شيء، فهل كان علة تامة لهذه الحركات في الأزل، أم حدث تمام كونه علة لها شيئاً بعد شيء؟.

فإن قلتم: هو علة تامة في الأزل، لزمكم إما مقارنتها كلها له في الأزل، وإما تخلف المعلول عن علته التامة، وكلاهما يبطل قولكم.

وإن قلتم: حدث تمام كونه علة لحركة حركةً منها.

قيل لكم: فحدوث التمام قد حدث عندكم بدون سبب حادث، وذلك يستلزم حدوث الحوادث بلا سبب، وهذا أمر بين لمن تصوره تصوراً تاماً، ليس لهم حيلة في دفعه.

ص: 405

وأما الذين يقولون: (إنه لم يزل متكلماً إذا شاء، أو فاعلاً بمشيئته، وإنه يقوم به إرادة أو كلمات متعاقبة شيئاً بعد شيء) فهؤلاء لا يجعلونه في الأزل قط علة تامة، ولا موجباً تاماً، ولا يقولون: إن فاعلية شيء من المفعولات يتم في الأزل.

بل عندهم كون الشيء مفعولاً ومصنوعاً مع كونه أزلياً جمع بين النقيضين، وإذا امتنع كون المفعول الذي هو أثر المكون أزلياً، امتنع كون تأثيره وتكوينه المستلزم له قديماً أزلياً، فأمتنع أن يكون علة تامة في الأزل لشيء من الأشياء.

ولكن ذاته تستلزم بما يقوم بها من الأفعال شيئاً بعد شيء، وكلما تم فاعلية مفعول وجد ذلك المفعول وجد ذلك المفعول، كما قال تعالى:{إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون} (يس: 82) ، فكلما كون الشيء كونه فحصل المكون عقب تكوينه، وهكذا الأمر دائماً، فكل ما سواه مخلوق حادث بعد أن لم يكن، وتمام تكوينه وتخليقه لم يكن موجوداً في الأزل، بل إنما تم تخليقه وتكوينه بعدئذ، وعند تمام التكوين والتخليق حصل المكون المخلوق عقب التكوين والتخليق، لا مع ذلك في الزمان، فأين هذا القول من قولكم؟ !.

ص: 406