الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والقائل بها مخالف للعقل والشرع من جنس أهل النار الذين قالوا {لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير} [الملك: 10] ، وهكذا شأن جميع البدع المخالفة لنصوص الأنبياء، فإنها مخالفة للسمع والعقل، فكيف ببدع الجهمية المعطلة التي هي الأصل من كلام المكذبين للرسل.
والكلام على إبطال هذه الوجوه على التفصيل، وأن الشرع لا يتم إلا بإبطالها، مبسوط في غير هذا الموضع، لكن نحن نشير إلى ذلك في تمام هذا الكلام، فنقول:
بطلان الاستدلال بحدوث الحركات والأعراض. الوجه التاسع عشر
بطلان الاستدلال بحدوث الحركات والأعراض.
الوجه التاسع عشر
أن هذه المعارضات مبنية على التركيب، وقد تقدمت الإشارة إلى بطلانه، وأما الاستدلال بحدوث الحركات والأعراض فنقول: قد أورد عليهم الفلاسفة سؤالهم المشهور، وجوابهم عنه على أصلهم مما يقول جمهور العقلاء إنه معلوم الفساد بالضرورة.
وذلك إما أن يكون صدر عنه بسبب حادث يقتضي الحدوث، وإما أن لا يكون، فإن لم يكن صدر عنه سبب حادث يقتضي الحدوث لزم ترجيح الممكن بلا مرجح، وهو ممتنع في البديهة، وإن حدث عنه سبب فالقول في حدوث ذلك السبب كالقول في حدوث غيره، ويلزم التسلسل الممتنع فإتفاق العقلاء بخلاف التسلسل المتنازع فيه،
مع أن كلا النوعين باطل عند هؤلاء المتكلمين، فهم مضطرون في هذا الدليل إلى الترجيح بلا مرجح تام، أو إلى القول بالتسلسل والدور، وكلاهما ممتنع عندهم.
ومما ينبغي أن يعرف أن التسلسل الممتنع في هذا المكان ليس هو التسلسل المتنازع في جوازه، بل هو مما اتفق العقلاء على امتناعه، فإنه إذا قيل: إنه قدر أنه لم يكن يحدث شيئاً قط ثم حدث حادث، فإما أن يحدث بسبب حادث أو بلا سبب حادث لزم الترجيح بلا مرجح، فالناس كلهم متفقون على أنه إذا قدر أنه صار فاعلا بعد أن لم يكن، لم يحدث إلا بسبب حادث، وأن القول في كل ما يحدث قول واحد.
وإذا قال القائل: فلم يحدث الحادث إلا بسبب حادث، ثم زعم أن الحادث الأول يحدث بغير سبب حادث فقد تناقض، فإن قوله: لا يحدث حادثقول عام، فإذا جوز أن يحدث حادث بلا بسبب فقد تناقض، ويسمى تسلسلاً.
ولفظ التسلسل يراد به التسلسل في العلل والفاعلين والمؤثرات: بأن يكون للفاعل فاعل، وللفاعل فاعل إلى ما لا نهاية له، وهذا متفق على امتناعه بين العقلاء.
والثاني: التسلسل في الآثار: بأن يكون الحدث الثاني موقوفا على حادث قبله، وذلك الحادث موقوف على حادث قبل ذلك، وهلم جراً، فهذا في جوازه قولان مشهوران للعقلاء، وأئمة السنة والحديث ـ مع كثير من النظار أهل الكلام والفلاسفة ـ يجوزون ذلك، وكثير من النظار وغيرهم يحيلون ذلك.
وأما إذا قيل: لا يحدث حادث قط حتى يحدث حادث فهذا ممتنع باتفاق العقلاء وصريح العقل، وقد يسمى هذا دوراً، فإنه إذا قيل: لا يحدث شيء حتى يحدث شيء كان هذا دوراً، فإن وجود جنس الحادث موقوف على وجود جنس الحادث، وكونه سبحانه لم يزل مؤثراً يراد به مؤثراً في كل شيء، وهذا لا يقوله عاقل، لكنه لازم حجة الفلاسفة، ويراد به لم يزل مؤثراً في شيء بعد شيء، وهو موجب الأدلة العقلية التي توافق الأدلة السمعية.
ولما أجاب بعضهم بأن المرجح هو القدرة أو الإرادة القديمة أو العلم القديم أو إمكان الحدوث ونحو ذلك، قالوا لهم في الجواب: هذه الأمور إن لم يحدث بسببها سبب حادث لزم الترجيح بلا مرجح، وإن حدث سبب حادث، فالكلام في حدوثه كالكلام في حدوث ما حدث به.
وعدل آخرون إلى الإلزام فقالوا: هذا يقتضي أن لا يحدث في العالم حادث والحس يكذبه، فقالوا لهم: إنما يلزم هذا إذا كان التسلسل باطلاً، وأنتم تقولون بإبطاله وأما نحن فلا نقول بإبطاله، وإذا كان الحدوث موقوفاً على حوادث متجددة زال هذا المحذور.
والتسلسل نوعان: تسلسل في العلل، وقد اتفق العلماء على إبطاله، وأما التسلسل في الشروط ففيه قولان مشهوران للعقلاء.
وتنازع هؤلاء: هل الإلزام لهم صحيح أم لا؟ وبتقدير كون الإلزام صحيحاً ليس فيه حل للشبهة، وإذا لم تنحل كانت حجةً على الفريقين، وكان القول بموجبها لازماً، واعتبر ذلك بما ذكره أبو عبد الله الرازي في أشهر كتبه، وهو كتاب الأربعين وما اعترض عليه به صاحب لباب الأربعين أبو الثناء محمود الأرموي، وجوابه هو عنها، فإنه الرازي ذكرها، وذكر أجوبة الناس عنها وبين فسادها، ثم أجاب هو بالإلزام مع أنه في مواضع أخر بجيب عنها بالأجوبة التي بين فسادها الموضع.
قال حجتهم: جميع الممكنات مستندة إلى واجب الوجود، فكل ما لا بد منه في مؤثريته، إن لم يكن حاصلاً في الأزل، فحدوثه إن لم يتوقف على مؤثر وجد الممكن لا عن مؤثر، وإن توقف عاد الكلام فيه وتسلسل، وإن كان حاصلاً: فإن وجب حصول الأثر معه لزم دوامه لدوامه، وإن لم يجب أمكن حصول الأثر معه تارة وعدمه أخرى، فيرجح أحدهما على الآخر، وأن لم يتوقف على أمر وقع الممكن بلا مرجح، وإن توقف لزم خلاف الفرض.
ثم قال أجاب المتكلمون بوجه: الأول: أنه إنما أحدث العالم في ذلك الوقت لأن الإرادة لذاتها اقتضت التعلق بإيجاده في ذلك الوقت.
قلت: هذا جواب جمهور الصفاتية الكلامية كابن كلاب والأشعري وأصحابهما، ونه يجيب القاضي أبو بكر، وأبو المعالي، والتميميون من أصحاب أحمد، والقاضي أبو يعلي، وابن عقيل، وابن الزاغوني وأمثالهم، وبه أجاب الغزالي في تهافت الفلاسفة، وزريفه عليه ابن رشد الحفيد، وبه أجاب الأمدي، وبه أجاب الرازي في بعض الموضع.
قال: الجواب الثاني للمتكلمين: أنها اقتضت التعلق به في ذلك الوقت لتعلق العلم به.
قلت: هذا الجواب ذكره طائفة من الأشعرية، ومن الناس من يجعل المرجح مجموع العلم والإرادة والقدرة، كما ذكره الشهرستاني، ويمكن أن يجعل هذا جواباً آخر.
قال: الجواب الثالث: لعل هناك حكمة خفية لأجلها أحدث في ذلك الوقت.
قلت: هذا الجواب يجيب به من قد يعلل الأفعال، كما هو مذهب المعتزلة والكرامية وغيرهم، وقد يوافق المعتزلة ابن عقيل ونحوه، كما قد يوافق الكرامية في تعليلهم القاضي أبو حازم ابن القاضي أبي بعلي وغيره.
قال: الجواب الرابع: أن الأزلية مانعة من الإحداث لم سبق.
الجواب الخامس: أنه لم يكن ممكناً قبله، ثم صار ممكناً فيه.
قلت: هذان الجوابان أو تاحدهما ذكرهما غير واحد من أهل الكلام المعتزلة والأشعرية وغيرهم، كالشهرستاني وغيره، وهذا جواب الرازي في بعض المواضع.
قال: الجواب السادس: أن القادر يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح كالهارب من السبع إذا عرض له طريقتان متساويان، والعطشان إذا وجد قدحين متساويين.
قلت: هذا جواب أكثر الجهمية المعتزلة، وبه أجاب الرازي في نهاية العقول فإنه قال في كتابه المعروف بنهاية العقول ـوهو عنده أجل ما صنفه الكلام ـ قال: قوله في المعارضة الأولى جميع جهات مؤثرية الباري عز وجل لا بد وأن يكون حاصلاً في الأزل، ويلزم من ذلك امتناع تخلف العالم عن الباري عز وجل.
قلنا: هذا إنما يلزم إذا كان موجباً بالذات، أما إذا كان قادراً فلا.
قوله: القادر لما أمكنه أن يفعل في وقت، وأن يفعل قبله وبعده، توقفت فاعليته على مرجح.
قلنا: المعتمد في دفع ذلك ليس إلا أن يقال: القادر لا يتوقف في فعله لأحد مقدوريه دون الآخر على مرجح.
قوله: إذا جاز استغناء الممكن هنا عن المرجح فليجز في سائر المواضع ويلزم منه نفي الصانع.
قلنا: قد ذكرنا أن بديهة العقل فرقت في ذلك بين القادر وبين غيره، وما اقتضت البديهة الفرق بينهما لا يمكن دفعه.
قلت، وهذا الجواب هو جواب معروف عن المعتزلة، وهو وأمثاله دائماً في كتبهم يضعون هذا الجواب ويحتجون على المعتزلة في مسألة خلق الأفعال وغيرها بهذه الحجة، هو أنه لا يتصور ترجيح الممكن لا من قادر ولا من غيره، إلا بمرجح يجب عنده وجود الأثر.
فهؤلاء إذا ناطروا الفلاسفة في مسألة حدوث العالم لم يجيبوهم إلا بجواب المعتزلة، هم دائماً إذا ناظروا المعتزلة في مسائل القدر عليهم بهذه الحجة التي احتجت بها الفلاسفة، فإن كانت هذه الحجة صحيحة بطل احتجاجهم على المعتزلة، وإن كانت باطلة بطل جوابهم للفلاسفة.
وهذا غلب على المتفلسفة والمتكلمين المخالفين للكتاب والسنة تجدهم دائماً بتناقضون، فيحتجون بالمحجة التي يزعمون أنها برهان باهر، ثم في موضع آخر يقولون: إن بديهة العقل يعلم به فساد هذه الحجة.