الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ونحن ولله الحمد قد بينا الجواب عن جميع حجج الفلاسفة في غير هذا الموضع وبسطنا الكلام في ذلك، وبينا كيف يمكن فساد استدلالهم من وجوه كثيرة، وكيف تتمكن كل طائفة من المسلمين من قطعهم بجواب مركب من قولهم وقول طائفة أخرى من المسلمين، حتى إذا احتاجوا إلى موافقة الدهرية على قدم الأفلاك، وأن الله لم يخلق السماوات والأرض في ستة أيام، ونحو ذلك مما فيه تكذيب للرسول صلى الله عليه وسلم، أو إلى موافقة طائفة أخري من طوائف المسلمين على بعض أقوالهم التي ليس فيها تبليغ للرسول، بل ولا مخالفة لصريح العقل كان موافقتهم لطائفة من طوائف المسلمين على ما لا يكذبون به الرسول ولا يخالفون به المعقول، أولى بهم من موافقة الدهرية على ما فيه تكذيب للرسل ومخالفة لصريح العقل، وهذا مما تبين به أنه ليس في العقل الصريح ما يخالف النصوص الثابتة عن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وهو المقصود في هذا المقام.
مثال في الإجابة على الفلاسفة. الرد على قولهم بقدم العالم. الكلام على امتناع التسلسل
مثال في الإجابة على الفلاسفة.
الرد على قولهم بقدم العالم.
الكلام على امتناع التسلسل
مثال الأجوبة التي يجاب بها هؤلاء الفلاسفة، أن يقال: حجتكم الأولى على قدم العالم مبنية على مقدمتين: إحداهما: أن الممكن لا بد له من مرجح تام، وامتناع التسلسل، ولفظ التسلسل فيه إجمال قد تقدم الكلام عليه، فإن التسلسل هنا: هو توقف جنس الحادث على الحادث، وهذا متفق على امتناعه، والتسلسل في غير هذا الموضع يراد به التسلسل في الفاعلين وفي الآثار، والتسلسل في تمام الفاعلين هو من التسلسل في الفاعلين.
فيقال لكم: التسلسل الممتنع هو التسلسل في العلل، وفي تمامها.
أما تسلسل في الشروط أو الآثار: ففيه قولان للمسلمين.
وأنتم قائلون بجوازاه.
فنقول: إما أن يكون هذا التسلسل جائزاً أو ممتنعاً، فإن كان ممتنعاً امتنع تسلسل الحوادث، ولزم أن يكون لها أول، وبطل قولكم بحوادث لا أول لها، وأمتنع كون حركات الأفلاك أزلية، وهذا يبطل قولكم.
ثم نقول: العالم لو كان أزلياً، فإما أن يكون لا يزال مشتملاً على حوادث: سواء قيل، إنها حادثة في جسم أو عقل، أو يقال: بل كان في الأزل ليس فيه حادث، كما يقال: إنه كان جسما ساكناً، فإن كان الأول لزم تسلسل الحوادث، ونحن نتكلم على تقدير امتناع تسلسلها، فبطل هذا التقدير، وإن كانت الحوادث حدثت فيه بعد أن لم تكن، لزم جواز صدور الحوادث عن قديم لم يتغير، وهذا يبطل حجتكم، ويجوب جواز حدوث الحوادث بلا حدوث سبب.
وإن قلتم: إن التسلسل في الآثار جائز ـ وهو قولكم ـ بطل استدلالكم بهذه الحجة على قدم شيء من العالم، فإنها لا تدل على قدم شيء بعينه من العالم، وإنما تدل على وجود دوام كون الرب فاعلاً.
فيقال لكم حينئذ: لم لا يجوز أن تكون الأفلاك، أو كل ما يقدر موجوداً في العالم، أو كل ما يحدثه الله: موقوفاً على حادث بعد حادث، ويكون مجموع العالم الموجود الآن كالشخص الواحد من الأشخاص الحادثة؟
فتبين أن احتجاجكم على مطلوبكم باطل، سواء كان تسلسل الحوادث جائزاً أو لم يكن، بل إذا لم يكن جائزاً بطلت الحجة، وبطل المذهب المعروف عندكم،
وهو أن حركات الأفلاك أزلية، فإن هذا إنما يصح إذا كان تسلسل الحوادث جائزاً، فإذا كان تسلسلها ممتنعاً لزم أن يكون لحركة الفلك أول، وإن كان تسلسل الحوادث جائزاً، لم يكن في ذلك دلالة على قدم شيء من العالم، لجواز أن يكون حدوث الأفلاك موقوفاً على حوادث قبله، وهلم جراً.
فإن قلتم: هذا يستلزم قيام الحوادث المتسلسلة بالقديم.
كان الجواب من وجوه: أحدها: أن هذا هو قولكم، ليس هذا ممتنعاً عندكم، فإن الفلك قديم أزلي عندكم، مع أنه جسم تقوم به الحوادث.
الثاني: أنه يجوز أن تكون تلك الحوادث ـ إذا امتنع قيامها بواجب الوجود ـ قائمة بمحدث بعد محدث، فإن كان صدور هذه الحوادث المتسلسلة عن الواجب القديم ممكناً بطلت حجتكم، وإن كان ممتنعاً بطل مذهبكم وحجتكم أيضاً، فإن قولكم: إن الحوادث الفلكية المتسلسلة صادرة عن قديم أزلي.
الثالث: أنا نتكلم على تقدير إمكان تسلسل الحوادث.
وعلى هذا التقدير فلا بد من التزام أحد أمرين: إما قيام الحوادث بالواجب وإما تسلسل الحوادث عنه بدون قيام حادث به.
الرابع أن يقال: قيام الحوادث بالقديم: إما أن يكون ممتنعاً، وإما أن يكون ممكناً، فإن كان ممتنعاً لزم حدوث الأفلاك، وهو المطلوب، وإن كان جائزاً بطلت هذه الحجة.
الخامس: أن من قال أهل الكلام بأن: القديم لا تحله الحوادث إنما قاله لأن تسلسل الحوادث في المحل يستلزم حدوثه عندهم، فإن كان قولهم هذا صحيحاً لزم حدوث الأفلاك والنفوس وكل ما يقوم به حوادث متسلسلة، وهو يستلزم بطلان حجتكم، لأنه حينئذ يمكن صدور العالم م تكن، أو ما زال يحدث شيء بعد شيء، والأول يستلزم حدوث الحادث بلا سبب حادث، وهذا باطل، كما ذكرتموه في الحجة، لأنه يستلزم الترجيح بلا مرجح.
والثاني: يمتنع أن يكون في الممكنات شيء قديم، وهو نقيض مذهبكم.
فإذا قالوا: نحن ما أحلنا قيام الحوادث بالواجب، لكون القديم لا تحله الحوادث ـ فإن ذلك جائز عندنا ـ بل لأنه لا تقوم به الصفات.
قيل لهم: فحينئذ سهلت القضية، فإن جماهير أهل الملل من المسلمين وغيرهم بل ـ وجمهور الفلاسفة ـ يخالفونكم في هذا الأصل، وقولكم في نفي الصفات أضعف بكثير من قول من قال: القديم لا تحله الحوادث.
ولهذا كان كثير من المسلمين ـ كالكلابية ومن وافقهم ـ يقولون بإثبات الصفات للواجب، دون قيام الحوادث به، فإذا لم يكن لكم حجة على نفي قيام الحوادث به إلا ما هو حجة لكم على نفي الصفات، كانت الأدلة على بطلان قولكم كثيرة جداً.
وتبين حينئذ فساد قولكم بنفي الصفات وجعل المعاني المتعددة شيئاً واحداً، وأن قولكم: إن العاشق والمعشوق والعشق، والعاقل والمعقول والعقل: شيء واحد، وإن العالم هو العلم، والقدرة هي الإرادة من أفسد الأقوال، كما قد بين فيما تقدم لما نبهنا على تلبيسكم على المسلمين، وتكلمنا على ما تسمونه تركيباً، وأنه ـ بتقدير موافقتكم على أصطلاحكم الفاسد ـ لا حجة لكم على نفيه، وهكذا تجابون على حجة التأثير.
وقولهم: إن كان التأثير قديماً لزم قدم الأثر، وأن كان محدثاً، فإن كان المحدث جنس التأثير ـ وقيل بجواز ذلك ـ كان للحوادث ابتداء، وبطل مذهبكم، وإن قيل بامتناعه ـ وهو أنه لا يحدث شيء ما حتى يحدث شيء ـ فهذا ممتنع باتفاق العقلاء، وقد يسمى تسلسلاً ودواراً، وإن كان المحدث التأثير في شيء معين بعد حدوث معين قبله، لزم التسلسل وقيام الحوادث بالقديم.
فإنه يقال لهم: إما أن يكون التأثير أمراً وجودياً، وإما أن لا يكون وجودياً، فإن لم يكن وجودياً بطلت الحجة وهو جواب الرازي، وهو جواب من يقول: الخلق نفس المخلوق.
وإن كان وجودياً، فإما أن يكون قائماً بذات المؤثر أو بغيره، فإن كان
قائماً بذاته، لزم جواز قيام الأمور الوجودية بواجب الوجود، وهذا قول مثبتة الصفات.
وعلى هذا التقدير فالتسلسل في الآثار والشروط، إن كان ممكناً بطلت هذه الحجة، وأمكن تسلسل التأثيرات القائمة بالقديم، وإن كان ممتنعاً لزم جواز حدوث الحوادث عن تأثر قديم ن فتبطل حجتكم.
وإن كان التأثير ـ أو تمامه ـ قائماً بغيره لزم جواز التسلسل في الشروط، وأن يكون ممكنا، وإذا كان ممكناً أمكن تسلسل التأثير، فبطلت الحجة.
وذلك لأن التقدير أن تمام التأثير قائم بغير المؤثر، وعلى هذا التقدير فإن لم يكن التسلسل ممكناً كان هناك تأثير قديم بغير ذات الله تعالى، وهذا باطل لم يقل له أحد، وإن قدر إمكانه أمكن حدوث الأفلاك عنه، وهو المطلوب.
ومما يجابون به عن حجة التأثير، أن يقال أيضاً: التسلسل في الآثار إن كان ممكناً بطلت الحجة، لإمكان حدوث الأفلاك عن تأثير مسبوق بتأثير آخر، وإن كان ممتنعاً لزم إما حدوث الحوادث عن تأثير قديم، أو كون التأثير عدمياً، وعلى التقديرين يبطل قولكم.
وذلك لأن الحوادث مشهودة لا بد لها من إحداث محدث، وذلك الإحداث هو التأثير، فإن كان عديماً بطلت الحجة، وإن كان موجوداً، فإن كان قديماً لزم حدوث الحوادث عن تأثير قديم، فتبطل الحجة، وإن كان التأثير محدثاً ـ والتقدير أن التسلسل ممتنع ـ فيلزم أن يكون حدث بتأثير محدث، فتبطل الحجة أيضاً.
وهو جواب لا مخلص لهم عنه، به ينقطع شغبهم.
وأما أن يجابوا بقول يخالف فيه أكثر العقلاء من المسلمين وغيرهم ويجعل خلق الله عز وجل للسماوات والأرض مبنياً على مثل هذا القول الذي هو جواب المعارضة: فهذا لا يرضى به عقل ولا ذو دين.
بل يحب أن يعلم أن الأمور المعلومة من دين المسلمين لا بد أن يكون الجواب عما يعارضها جواباً قاطعاً لا شبهة فيه، بخلاف ما يسلكه من يسلكه من أهل الكلام الذين يزعمون أنهم يبينون العلم واليقين بالأدلة والبراهين وإنما يستفيد الناظر في كلامهم كثرة الشكوك والشبهات، وهم في أنفسهم عندهم شك وشبهة فيما يقولون: إنه برهان قاطع، ولهذا يقول أحدهم في هذا الموضع: إنه برهان قاطع، وفي موضع آخر يفسد ذلك البرهان.
والذين يعارضون الثابت في الكتاب والسنة بما يزعمون أنه من العقليات القاطعة إنما يعارضونه يمثل هذه الحجج الداحضة.
فكل من لم يناظر أهل الإلحاد والبدع مناظرة تقطع دابرهم لم يكن أعطى الإسلام حقه، ولا وفي بموجب العلم والإيمان، ولا حصل بكلامه شفاء الصدور وطمأنينة النفوس، ولا أفاد كلامه العلم واليقين.
ولولا أنا قد بسطنا الكلام على هذه الأمور في غير هذا الموضع ـ وهذا موضع تنبيه وإشارة، لا موضع بسط ـ لكنا نبسط الكلام في ذلك، ولكن نبهنا على ذلك.