الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يعارضها شبه وخيالات، مبناها علي معان متشابهة وألفاظ مجملة، فمتي وقع الاستفسار والبيان ظهر أن ما عارضها شبه سوفسطائية، لا براهين عقليه.
ومما يوضح هذا:
الوجه التاسع
وهو أن يقال: القول بتقديم الإنسان لمعقوله علي النصوص النبوية قول لا ينضبط، وذلك لأن أهل الكلام والفلسفة الخائضين المتنازعين فيما يسمونه عقليات، كل منهم يقول: إنه يعلم بضرورة العقل أو بنظره ما يدعي الآخر أن المعلوم بضروة العقل أو بنظره نقيضه.
وهذا من حيث الجملة معلوم، فالمعتزلة ومن اتبعهم من الشيعة يقولون: إن أصلهم المتضمن نفي الصفات والتكذيب بالقدر ـ الذي يسمونه التوحيد والعدل ـ معلوم بالأدلة العقلية القطعية، ومخالفوهم من أهل الإثبات يقولون: إن نقيض ذلك معلوم بالأدلة القطعية العقلية.
بل الطائفتان ومن ضاهاهما يقولون: إن علم الكلام المحض هو ما أمكن علمه بالعقل المجرد بدون السمع، كمسألة الرؤية والكلام وخلق الأفعال، وهذا هو الذي يجعلونه قطعياً، ويؤثمون المخالف فيه.
وكل من طائفتي النفي والإثبات فيهم من الذكاء والعقل والمعرفة ما هم متميزون به علي كثير من الناس، وهذا يقول: إن العقل الصريح دل علي النفي، والآخر يقول: العقل الصريح دل علي الإثبات.
وهم متنازعون في المسائل التي دلت عليها النصوص، كمسائل الصفات والقدر، وأما المسائل المولدة كمسألة الجوهر الفرد وتماثل الأجسام وبقاء الأعراض وغير ذلك ففيها من النزاع بينهم ما يطول استقصاؤه، وكل منهم يدعي فيها القطع العقي.
ثم كل من كان عن السنة أبعد كان التنازع والاختلاف بينهم في معقولاتهم أعظم، فالمعتزلة أكثر اختلافاً من متكلمة أهل الإثبات، وبين البصريين والبغداديين منهم من النزاع ما يطول ذكره، والبصريون أقرب إلي السنة والإثبات من البغداديين، ولهذا كان البصريون يثبتون كون الباريء سميعاً بصيراً مع كونه حياً عليماً قديراً، ويثبتون له الإرادة، ولا يوجبون الأصلح في الدنيا، ويثبتون خبر الواحد والقياس، ولا يؤثمون المجتهدين، وغير ذلك.
ثم بين المشايخة والحسينية ـ أتباع أبي الحسن البصري ـ من التنازع ما هو معروف.
وأما الشيعة فأعظم تفرقاً واختلافاً من المعتزلة، لكونهم أبعد عن السنة منهم، حتى قيل: إنهم يبلغون اثنتين وسبعين فرقة.
وأما الفلاسفة فلا يجمعهم جامع، بل هم أعظم اختلافاً من جميع طوائف المسلمين واليهود والنصارى.
والفلسفة التي ذهب إليها الفارابي وابن سينا إنما هي فلسفة المشائين أتباع أر سطو صاحب التعاليم، وبينه وبين سلفه من النزاع والاختلاف ما يطول وصفة، ثم بين أتباعه من الخلاف ما يطول وصفه.
وأما سائر طوائف الفلاسفة، فلو حكي اختلافهم في علم الهيئة وحده لكان أعظم من اختلاف كل طائفة من طوائف أهل القبلة، والهيئة علم رياضي حسابي هو
من أصح علومهم، فإذا كان هذا اختلافهم فيه فكيف باختلافهم في الطبيعيات أو المنطق؟ فكيف بالإلهيات؟ .
واعتبر هذا بما ذكره أرباب المقالات عنهم في العلوم الرياضية والطبيعية، كما نقله الأشعر عنهم في كتابه في مقالات غير الإسلاميين وما ذكره القاضي أبو بكر عنهم في كتابه الدقائق فإن في ذلك من الخلاف عنهم أضعاف أضعاف ما ذكره الشهرستاني وأمثاله ممن يحكي مقالاتهم، فكلامهم في العلم الرياضي ـ الذي هو أصح علومهم العقلية ـ قد اختلفوا فيه اختلافاً لا يكاد يحصي، ونفس الكتاب الذي اتفق عليه جمهورهم ـ وهو كتاب المجسطي لبطليموس ـ فيه قضايا كثيرة لا يقوم عليها دليل صحيح، وفيه قضايا ينازعه غيره فيها، وفيه قضايا مبنية علي أرصاد منقولة عن غيره تقبل الغلط والكذب.
وكذلك كلامهم في الطبيعيات في الجسم، وهل هو مركب من المادة والصورة، أو الأجزاء التي لا تنقسم، أو ليس بمركب لا من هذا ولا من هذا؟
وكثير من حذاق النظار حار في هذه المسائل، حتى أذكياء الطوائف كأبي الحسين البصري، وأبي المعالي الجو يني، وأبي عبد الله بن الخطيب ـ حاروا في مسألة الجوهر الفرد، فتوقفوا فيها تارة، وإن كانوا قد يجزمون بها أخري، فإن الواحد من هؤلاء تارة يجزم بالقولين المتناقضين في كتابين أو كتاب
واحد، وتارة يحار فيها، مع دعواهم أن القول الذي يقولونه قطعي برهاني عقلي لا يحتمل النقيض.
وهذا كثير في مسائل الهيئة ونحوها من الرياضيات، وفي أحكام الجسم وغيره من الطبيعيات، فما الظن بالعلم الإلهي؟ وأساطين الفلسفة يزعمون أنهم لا يصلون فيه إلي اليقين، وإنما يتكلمون فيه بالأولي والأحرى والأخلق.
وأكثر الفضلاء العارفين بالكلام والفلسفة، بل وبالتصوف، الذين لم يحققوا ما جاء به الرسول تجدهم فيه حيارى، كما أنشد الشهرستاني في أول كتابه لما قال: قد أشار إلي من إشارته غنم، وطاعته حتم، أن أجمع له من مشكلات الأصول، ما أشكل علي ذوي العقول، ولعله استسمن ذا ورم، ونفخ في غير ضرم، لعمري:
لقد طفت في تلك المعاهد كلها
…
وسيرت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعا كف حائر
…
على ذقن، أو قارعاً سن نادم
وأنشد أبو عبد الله الرازي في غير موضع من كتبه مثل كتاب أقسام اللذات لما ذكر أن هذا العلم أشرف العلوم، وأنه ثلاث مقامات العلم بالذات، والصفات، والأفعال، وعلي كل مقام عقدة، فعلم الذات عليه عقدة:
هل الوجود هو الماهية أو زائد في الماهية؟ وعلم الصفات عليه عقدة: هل الصفات زائدة علي الذات أم لا؟ وعلم الأفعال عليه عقدة: هل الفعل مقارن للذات أو متأخر عنها؟ ثم قال ومن الذي وصل إلي هذا الباب، أو ذاق من هذا الشراب؟ ثم أنشد:
نهاية إقدام العقول عقال
…
وأكثر سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا
…
وحاصل دنيانا أذي ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا
…
سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، اقرأ في الإثبات {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5] {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه} [فاطر: 10] واقرأ في النفي {ليس كمثله شيء} [الشورى: 11]{ولا يحيطون به علما} [طه: 110]، {هل تعلم له سميا} [مريم: 65] ، ومن جرب مثل تجربتي، عرف مثل معرفتي.
وكان ابن أبي الحديد البغدادي من فضلاء الشيعة المعتزلة المتفلسفة، وله أشعار في هذا الباب، كقوله:
فيك يا أغلوطة الفكر
…
حار أمري وانقضى عمري
سافرت فيك العقول، فما
…
ربحت إلا أذى السفر
فلحى الله الأولى زعموا
…
أنك المعروف بالنظر
كذبوا، إن الذي ذكروا
…
خارج عن قوة البشر
هذا مع إنشاده:
وحقك لو أدخلتني النار قلت
…
للذين بها: قد كنت ممن يحبه
وأفنيت عمري في علوم كثيرة
…
وما بغيتي إلا رضاه وقربه
أما قلتم: من كان فينا مجاهداً
…
سيكون مثواه ويعذب شربه
أما رد شك ابن الخطيب وزيغه
…
وتمويهه في الدين إذ جل خطبه
وآية حب الصب أن يعذب الأسى
…
إذا كان من يهوى عليه يصبه
وابن رشد الحفيد يقول في كتابه الذي صنفه رداً على أبي حامد في كتابه المسمى تهافت الفلاسفة فسماه تهافت التهافت ومن الذي قاله في الإلهيات ما يعتمد به، وأبو الحسن الأمدي في عامة كتبه هو واقف في المسائل الكبار يزيف حجج الطوائف ويبقي حائراً واقفاً.
والخونجي المصنف في أسرار المنطق الذي سمى كتابه كشف الأسراء يقول لما حضره الموت: أموت ولم اعرف شيئاً إلا أن الممكن يفتقر إلي الممتنع، ثم قال: الافتقار وصف سلبي، أموت ولم اعرف شيئاً ـ حكاه عنه التلمساني وذكر أنه سمعه منه وقت الموت.
ولهذا تجد أبا حامد ـ مع فرط ذكائه وتألهه، ومعرفته بالكلام والفلسفة، وسلوكه طريق الزهد والرياضة والتصوف ـ ينتهي في هذه المسائل إلي الوقف، ويحيل في آخر أمره علي طريقة أهل الكشف، وإن كان بعد ذلك رجع إلي طريقة أهل الحديث، ومات وهو يشتغل في صحيح البخاري.
والحذاق يعلمون أن تلك الطريقة التي يحيل عليها لا توصل إلي المطلوب، ولهذا لما بني قول النفاة من سلك هذه الطريق، كابن عربي وأبن سبعين وأبن الفارض وصاحب خلع النعلين والتلمساني وأمثالهم ـ وصلوا إلي ما يعلم فساده بالعقل والدين، مع دعواهم أنهم أئمة المحققين.
ولهذا تجد أبا حامد في مناظرته للفلاسفة إنما يبطل طرقهم ولا يثبت طريقة معينة، بل هو كما قال: نناظرهم ـ يعني مع كلام الأشعري ـ تارة بكلام المعتزلة، وتارة بكلام الكرامية، وتارة بطريق الواقفة، وهذه الطريق هي الغالب عليه في منتهى كلامه.
وأما الطريقة النبوية السنية السلفية المحمدية الشرعية فإنما يناظرهم بها من كان خبيراً بها بأقواله التي تناقضها، فيعلم حينئذ فساد أقوالهم بالمعقول الصريح المطابق للمنقول الصحيح.
وهكذا كل من أمعن في معرفة هذه الكلاميات والفلسفيات التي تعارض بها النصوص من غير معرفة تامة بالنصوص ولوازمها وكمال المعرفة بما فيها وبالأقوال التي تنافيها، فإنه لا يصل إلي يقين يطمئن إليه، وإنما تفيده الشك والحيرة.
بل هؤلاء الفضلاء الحذاق الذي يدعون أن النصوص عارضها من معقولاتهم ما يجب تقديمه تجدهم حيارى في أصول مسائل الإلهيات، حتى مسألة وجود الرب تعالي وحقيقته حاروا فيها حيرة أوجبت أن يتناقض هذا، كتناقض الرازي، وأن يتوقف هذا، كتوقف الآمدي، ويذكرون عدة أقوال يزعمون أن الحق ينحصر فيها، وهي كلها باطلة.
وقد حكي عن طائفة من رؤوس أهل الكلام أنهم كانوا يقولون بتكافؤ الأدلة، وأن الأدلة قد تكافأت من الجانبين، حتى لا يعرف الحق من الباطل، ومعلوم أن هذا إنما قالوه فيما سلكوه هم من الأدلة.
وقد حكي لي أن بعض الأذكياء ـ وكان قد قرأ علي شخص هو إمام بلده ومن أفضل أهل زمانه في الكلام والفلسفة، وهو ابن واصل الحموي ـ أنه قال: أضطجع علي فراشي، وأضع الملحفة علي وجهي، وأقابل بين أدلة هؤلاء وأدله هؤلاء حتى يطلع الفجر، ولم يترجح عندي شيء، ولهذا انتهي أمره إلي كثرة النظر في الهيئة، لكونه تبين له فيه من العلم ما لم يتبين له في العلوم الإلهية.
ولهذا تجد كثيراً من هؤلاء لما لم يتبين له الهدي في طريقة نكص علي عقبيه، فاشتغل باتباع شهوات الغي في بطنه وفرجه أو رياسته وماله ونحو ذلك، لعدم العلم واليقين الذي يطمئن إليه قلبه، وينشرح له صدره.
وفي الحديث المأثور عن النبي صلي الله عليه وسلم «إن أخوف ما أخاف عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم، ومضلات الفتن» وهؤلاء المعرضون عن
الطريقة النبوية السلفية يجتمع فيهم هذا وهذا: اتباع شهوات الغي، ومضلات الفتن، فيكون فيهم من الضلال والغي بقدر ما خرجوا عن الطريق الذي بعث الله به رسوله.
ولهذا أمرنا الله أن نقول في كل صلاة {اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} وقد صح «عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال: اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالون» .
وكان السلف يقولون: احذروا فتنة العالم الفاجر والعابد الجاهل، فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون فكيف إذا اجتمع في الرجل الضلال والفجور؟
ولو جمعت ما بلغني في هذا الباب عن أعيان هؤلاء، كفلان وفلان ن لكان شيئاً كثيراً، وما لم يبلغني من حيرتهم وشكهم أكثر وأكثر.
وذلك لأن الهدى هو فيما بعث الله به رسله ن فمن أعرض عنه لم يكن مهتدياً، فكيف بمن عارضه بما يناقضه وقدم مناقضه عليه؟
قال الله تعالي لما أهبط آدم {قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى * ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى * قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا * قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى} [طه: 123-126] .
قال ابن عباس رضي الله عنهما: تكفل الله لمن قرأ القرآن وعلم بما فيه أن لا يضل في الدنيا، ولا يشقي في الآخرة ثم قرأ هذه الآية.
وقوله تعالى {ومن أعرض عن ذكري} يتناول الذكر الذي أنزله، وهو الهدي الذي جاءت به الرسل، كما قال تعالي في آخر الكلام {كذلك أتتك آياتنا فنسيتها} أي تركت اتباعها والعمل بما فيها، فمن طلب الهدي بغير القرآن ضل، ومن اعتز بغير الله ذل، وقد قال تعالى {اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء} [الأعراف: 3] ، وقال تعالى:{وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} [الأنعام: 153] .
وفي حديث علي رضي الله عنه الذي رواه الترمذي، ورواه أبو نعيم من عدة طرق، «عن علي، عن النبي صلي الله عليه وسلم لما قال إنها ستكون فتنة.
قلت: فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدي في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسن، ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، ولا تشبع منه العلماء، من قال به
صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلي صراط مستقيم» ، وهذا مبسوط في غير هذا الموضع.
والمقصود هنا التنبيه علي أنه لو سوغ للناظرين أن يعرضوا عن كتاب الله تعالي ويعارضوه بآرائهم ومعقولاتهم، لم يكن هناك أمر مضبوط يحصل لهم به علم ولا هدي ن فإن الذين سلكوا هذه السبيل كلهم يخبر عن نفسه بما يوجب حيرته وشكه، والمسلمون يشهدون عليه بذلك، فثبت بشهادته وإقراره علي نفسه وشهادة المسلمين، الذين هم شهداء الله في الأرض، أنه لم يظفر من أعرض عن الكتاب، وعارضه بما يناقضه، بيقين يطمئن إليه، ولا معرفة يسكن بها قلبه.
والذين ادعوا في بعض المسائل أن لهم معقولاً صريحاً يناقض الكتاب قابلهم آخرون من ذوي المعقولات، فقالوا: إن قول هؤلاء معلوم بطلانه بصريح المعقول، فصار ما يدعي معارضته للكتاب من المعقول ليس فيه ما يجزم بأنه معقول صحيح: إما بشهادة أصحابه عليه وشهادة الأمة، وإما بظهور تناقضهم ظهوراً لا ارتياب فيه، وإما بمعارضة آخرين من أهل هذه المعقولات لهم، بل من تدبر ما يعارضون به الشرع من العقليات وجد ذلك مما يعلم بالعقل الصريح بطلانه.
والناس إذا تنازعوا في المعقول لم يكن قول طائفة لها مذهب حجة علي أخرى، بل يرجع في ذلك إلي الفطر السليمة التي لم تتغير باعتقاد يغير فطرتها ولا هوي، فامتنع حينئذ أن يعتمد علي ما يعارض الكتاب من الأقوال التي يسمونها معوقلات،
وإن كان ذلك قد قالته طائفة كبيرة، لمخالفة طائفة كبيرة لها، ولم يبق إلا أن يقال: إن كل إنسان له عقل فيعتمد علي عقل نفسه، وما وجده معرضاً لأقوال الرسول صلي الله عليه وسلم من رأيه خالفه، وقدم رأيه علي نصوص الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، ومعلوم أن هذا أكثر ضلالاً واضطراباً.
فإذا كان فحول النظر واساطين الفلسفة الذين بلغوا في الذكاء والنظر إلي الغاية، وهم ليلهم ونهارهم يكدحون في معرفة هذه العقليات، ثم لم يصلوا فيها إلي معقول صريح يناقض الكتاب بل إما إلي حيرة وارتياب، وإما إلي اختلاف بين الأحزاب، فكيف غير هؤلاء ممن لم يبلغ مبلغهم في الذهن والذكاء ومعرفة ما سلكوه من العقليات؟
فهذا وأمثاله مما يبين أن من أعرض عن الكتاب وعارضه بما يناقضه، لم يعارضه إلا بما هو جهل بسيط أو جهل مركب فالأول {كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب} [النور: 39] والثاني {كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور} [النور: 40] وأصحاب القرآن والإيمان في نور علي نور، قال تعالي {وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم * صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور} [الشوري: 52-53] وقال تعالي {الله نور السماوات والأرض مثل نوره} ـ إلي آخر الآية،