الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإن قال: أنا أريد بذلك أن الإنسان من حيث هو هو مركب من ذلك.
قيل له: إن الإنسان من حيث هو هو لا وجود له في الخارج، بل هذا هو الإنسان المطلق، والمطلقات لا تكون مطلقة إلا في الأذهان، فقد جعلت المركب هو ما يتصوره الذهن، وما يتصوره الذهن هو مركب من الأمور التي يقدرها الذهن.
فإذا قدرت في النفس جسماً حساساً متحركاً بالإرادة ناطقاً كان هذا المتصور في الذهن مركباً من هذه الأمور، وإن قدرت في النفس حيواناً ناطقاً كان مركباً من هذا وهذا، وإن قدرت حيواناً صاهلاً كان مركباً من هذا وهذا.
وإن قلت: إن الحقائق الموجودة في الخارج مركبة من هذه الصور الذهنية كان هذا معلوم الفساد بالضرورة.
وإن قلت: إن هذه مطابقة لها وصادقة عليها فهذا يكون صحيحاً إذا كان ما في النفس علماً لا جهلاً.
وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع.
والمقصود هنا أن سوغ جعل الحقائق المتنوعة حقيقة واحدة بالعين كان كلامه مستلزماً أن يجعل وجود الحقائق المتنوعة وجوداً واحداً بالعين، بل هذا أولى، لأن الموجودات مشتركة في مسمى الوجود، فمن اشتبه عليه أن العلم هو القدرة وأنهما نفس الذات العالمة القادرة: كان أن يشتبه عليه أن الوجود واحد أولى وأحرى.
وهذه الحجة المبينة على التركيب هي أصل قول الجهمية نفاة الصفات والأفعال، وهم الجهمية من المتفلسفة ونحوهم، ويسمون ذلك التوحيد.
حجة الأعراض عند المتكلمين
وأما المعتزلة وأتباعهم فقد يحتجون بذلك، لكن عمدتهم الكبرى حجتهم التي زعموا أنهم أثبتوا بها حدوث العالم، وهي حجة الأعراض، فإنهم استدلوا على حدوث
العالم بحدوث الأجسام، واستدلوا على حدوث الأجسام بأنها مستلزمة للأعراض، كالحركة والسكون والاجتماع والافتراق، ثم قالوا: إن الأعراض أو بعض الأعراض حادث وما لا يخلو من الحوادث فهو حادث، فاحتاجوا في هذه الطريق إلى إثبات الأعراض أولا، ثم إثبات لزومها للجسم.
فادعى قوم أن الجسم يستلزم جميع أنواع الأعراض، وأن القابل للشيء لا يخلو منه ومن ضده، وادعوا أن كل جسم له طعم ولون وريح، وأن العرض لا يبقى زمانين، كما زعم ذلك من سلكه من أهل الكلام الصفاتية، نفاه الفعل الاختياري القائم بذاته، كالقاضي أبو بكر وأبي المعالي ونحوهما، ومن يوافقهم أحيانا كالقاضي أبي يعلى وغيره، ولما ادعوا أن الأعراض جميعها لا تبقى زمانين لزم أن تكون حادثة شيئا بعد شيء، والجسم لا يخلو منها، فيكون حادثا بناء على امتناع حوادث لا أول لها.
وعلى هذه الطريق اعتمد كثير منهم في حدوث العالم، ومن متأخريهم أبو الحسن الآمدي وغيره.
وأما جمهور العقلاء فأنكروا ذلك، وقالوا: من المعلوم أن الجسم يكون متحركا تارة، وساكنا أخرى.
وهل السكون أمر وجودي أو عدمي؟ على قولين.
وأما الاجتماع والافتراق فمبني على إثبات الجوهر الفرد.
فمن قال بإثباته قال: إن الجسم لا يخلو عن الأكوان الأربعة، وهي: الاجتماع، والافتراق، والحركة، والسكون، ومن لم يقل بإثباته لم يجعل الاجتماع من الأعراض الزائدة على ذات الجسم.
ونفاة الجوهر الفرد كثير من طوائف أهل الكلام وأهل الفلسفة، كالهشامية والنجارية، والضرارية، والكلابية، وكثير من الكرامية.
وأما من قال: إن نفيه هو قول أهل الإلحاد، وإن القول بعدم تماثل الأجسام ونحو ذلك هو من أقوال أهل الإلحاد: فهذا من أقوال المتكلمين، كصاحب الإرشاد ونحوه ممن يظن أن هذا الدليل الذي سلكوه في إثبات العالم هو أصل الدين، فما يفضي إلى إبطال هذا الدليل لا يكون إلا من أقوال الملحدين.
ومن لم يقل بأن الجسم يستلزم جميع أنواع الأعراض قال: إنه يستلزم بعضها كالأكوان، أو الحركة والسكون، وإن ذلك حادث.
وهذه الطريقة هي التي يسلكها أكثر المعتزلة وغيرهم ممن قد يوافقهم أحيانا في بعض الأمور كـ أبي الوفاء بن عقيل وغيره.
ثم هؤلاء بعد أن أثبتوا لزوم الأعراض أو بعضها للجسم، وأثبتوا حدوث ما يلزم الجسم أو حدوث بعضه، احتاجوا إلى أن يقولوا: ما لم يسبق الحوادث فهو حادث، فمنهم من اكتفى بذلك ظنا منهم أن ذلك ظاهر، ومنهم من تفطن لكون ذلك مفتقرا إلى إبطال حوادث لا أول لها، إذ يمكن أن يقال: إن الحادث بعد أن لم يكن هو كل شخص شخص من أعيان الحوادث، وأما النوع فلم يزل، فتكلموا هنا في إبطال وجود ما لا نهاية له بطريق التطبيق والموازاة والمسامتة.
وملخص ذلك أن ما لا يتناهى إذا فرض فيه حد كزمن الطوفان، وفرض حد بعد ذلك كزمن الهجرة، وقدر امتداد هذين إلى ما لا نهاية له، فإن لزم كون الزائد مثل الناقص، وإن تفاضلا لزم وقوع التفاضل فيما لا يتناهى.
وهذه نكتة الدليل، فإن منازعيهم جوزوا مثل هذا التفاضل إذا كان ما لا يتناهى ليس هو موجودا له أول وآخر، وألزموهم بالأبد، وذلك إذا أخذ ما لا يتناهى في أحد الطرفين قدر متناهيا من الطرف الآخر، كما إذا قدرت الحوادث المتناهية إلى زمن الطوفان، وقدرت إلى زمن الهجرة، فإنها كانت لا تتناهى من الطرف المتقدم، فإنها متناهية من الطرف الذي يلينا.
فإذا قال القائل: إذا طبقنا بين هذه وهذه، فإن تساويا لزم أن يكون الزائد كالناقص، أو أن يكون وجود الزيادة كعدمها، وإن تفاضلا لزم وجود التفاضل فيما لا يتناهى.
كان لهم عنه جوابان:
أحدهما: أنا لا نسلم إمكان التطبيق مع التفاضل، وإنما يمكن التطبيق بين المتماثلين لا بين المتفاضلين.
والجواب الثاني: أن هذا يستلزم التفاضل بين الجانب التناهي، لا بين الجانب الذي لا يتناهى، وهذا لا محذور فيه.
ولبعض الناس جواب ثالث، وهو أن التطبيق إنما يمكن في الموجود لا في المعدوم.
وقد وافق هؤلاء على إمكان وجود ما لا يتناهى في الماضي والمستقبل طوائف كثيرة ممن يقول بحدوث الأفلاك من المعتزلة والأشعرية والفلاسفة وأهل الحديث وغيرهم، فإن هؤلاء جوزوا حوادث لا أول لها، مع قولهم بأن الله أحدث السماوات
والأرض بعد أن لم يكونا، وألزموهم بالأبد، ونشأ عن هذا البحث كلامهم في الحوادث المستقبلة، فطرد إماما هذا الطريق الجهم بن صفوان، إمام الجهمية الجبرية، وأبو الهذيل العلاف، إمام المعتزلة القدرية، فنفيا ثبوت ما لا يتناهى في المستقبل، فقال الجهم بفناء الجنة والنار، وأبو الهذيل اقتصر على القول بفناء حركات أهل الجنة والنار.
وعن ذلك قال أبو المعالي بمسألة الاسترسال: وهو أن علم الرب تعالى يتناول الأجسام بأعيانها، ويتناول أنواع الأعراض بأعيانها، وأما آحاد الأعراض فيسترسل العلم عليها، لامتناع ما لا يتناهى علما وعينا.
وأنكر الناس ذلك عليه، وقالوا فيه أقوالا غليظة، حتى يقال: إن أبا القاسم القشيري هجره لأجل ذلك.
وصار طوائف المسلمين في جواز حوادث لا تتناهى على ثلاثة أقوال:
قيل: لا يجوز في الماضي ولا في المستقبل.
وقيل: يجوز فيهما.
وقيل: يجوز في المستقبل دون الماضي.
ثم إن المعتزلة والجهمية نفت أن يقوم بالله تعالى صفات وأفعال، بناء على هذه الحجة.
قولوا: لأن الصفات والأفعال لا تقوم إلا بجسم، وبذلك استدلوا على حدوث الجسم.
فجاء ابن كلاب ومن اتبعه فوافقوهم على إنتفاء قيام الأفعال به، وخالفوهم في قيام الصفات، فأثبتوا قيام الصفات به، وقالوا: لا نسميها أعراضا لأنها باقية، والأعراض لا تبقى.
وأما ابن كرام وأتباعه: فلم يمتنعوا من تسمية صفات الله أعراضا، كما لم يمتنعوا من تسميته جسما.
وعن هذا الحجة ونحوها نشأ القول بأن القرآن مخلوق، وأن الله تعالى لا يرى في الآخرة، وأنه ليس فوق العرش، ونحو ذلك من مقالات الجهمية النفاة، لأن القرآن كلام، وهو صفة من الصفات، والصفات عندهم لا تقوم به.
وأيضا فالكلام يستلزم فعل المتكلم، وعندهم لا يجوز قيام فعل به، ولأن الرؤية تقتضي مقابلة ومعاينة، والعلو يقتضي مباينة ومسامته، وذلك من صفات الأجسام.
وبالجملة فقد صاروا ينفون ما ينفونه من صفات الله تعالى، لأن إثبات ذلك يقتضي أن يكون الموصوف جسما، وذلك ممتنع، لأن الدليل على إثبات الصانع إنما هو حدوث الأجسام، فلو كان جسما لبطل دليل إثبات الصانع.
ومن هنا قال هؤلاء: إن القول بما دل عليه السمع من إثبات الصفات والأفعال يقدح في أصل الدليل الذي به علمنا صدق الرسول.
وقالوا إنه لا يمكن تصديق الرسول لو قدر أنه يخبر بذلك، لأن صدقه لا يعلم بعد أن يثبت العلم بالصانع، ولا طريق إلى إثبات العلم بالصانع إلا القول بحودث الأجسام.
قالوا: وإثبات الصفات له يقتضي أنه جسم قديم، فلا يكون كل جسم حادثا، فيبطل دليل إثبات العلم به.
وقالت المعتزلة، كـ أبي الحسين وغيره: إن صدق الرسول معلوم بالمعجزة، والمعجزة معلومة بكون الله تعالى لا يظهرها على يد كاذب، وذلك معلوم بكون إظهارها على يد الكذاب قبيحا، والله منزه عن فعل القبيح، وتنزيهه عن فعل القبيح معلوم بأنه غني عنه عالم بقبحه، والغني عن الشيء العالم بقبحه لا يفعله، وغناه معلوم بكونه ليس بجسم، وكونه ليس بجسم معلوم بنفي الصفات، فلو قامت به الصفات لكان جسما، ولو كان جسما لم يكن غنيا، وإذا لم يكن غنيا لم يمتنع عليه فعل القبيح، فلا يؤمن أن يظهر المعجزة على يد كذاب، فلا يبقى لنا طريق إلى العلم بصدق الرسول.
فهذا الكلام ونحوه أصل دين المعتزلة ومن وافقهم من الشيعة.
وكذلك أبو عبد الله بن الخطيب وأمثاله: أثبتوا وجود الصانع بأربع طرق، منها ثلاثة مبنية على أصلين، وربما قالوا بست طرق، منها خمسة مبنية على الأصلين المتقدمين في توحيد الفلاسفة وتوحيد المعتزلة.
فإنه قال: الاستدلال على الصانع إما أن يكون: بالإمكان، أو الحدوث.
وكلاهما: إما في الذات، وإما في الصفات، وربما قالوا: وإما فيهما.
فالأول: إثبات إمكان الجسم بناء على حجة التركيب التي هي أصل الفلاسفة.
والثاني: بيان حدوثه بناء على حجة حدوث الحركات والأعراض التي هي أصل المعتزلة.
والثالث: إمكان الصفات بناء على تماثل الأجسام.
والرابع: إمكانهما جميعا.
والخامس: حدوث الصفات، وهذا هو الطريق المذكور في القرآن.
والسادس: حدوث الأجسام وصفاتها، وهو مبني على ما تقدم.
وهذه الطرق الست كلها مبنية على الجسم، إلا الطريق الذي سماه حدوث الصفات يعني بذلك ما يحدثه الله في العالم من الحيوان والنبات والمعدن والسحاب
والمطر وغير ذلك، وهو إنما سمى ذلك حدوث الصفات متابعة لغيره ممن يثبت الجوهر الفرد، ويقول بتماثل الأجسام، وإن ما يحدثه الله تعالى من الحوادث إنما هو تحويل الجواهر التي هي أجسام من صفة إلى صفة مع بقاء أعيانها، وهؤلاء ينكرون الاستحالة.
وجمهور العقلاء وأهل العلم من الفقهاء وغيرهم متفقون على بطلان قولهم، وأن الله تعالى يحدث الأعيان ويبدعها، وإن كان يحيل الجسم الأول إلى جسم آخر، فلا يقولون: إن جرم النطفة باق في بدن الإنسان، ولا جرم النواة باق في النخلة.
والكلام على هذه الأمور مبسوط في غير هذا الموضع، فإن هذه الجمل هي من جوامع الكلام المحدث الذي كان السلف والأئمة يذمونه، وينكرون على أهله.
والمقصود هنا أن هذه هي أعظم القواطع العقلية التي يعارضون بها الكتب الإلهية، والنصوص النبوية، وما كان عليه سلف الأمة وأئمتها.
فيقال لهم: أنتم وكل مسلم عالم تعلمون بالاضطرار أن إيمان السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان لم يكن مبنيا على هذه الحجج المبنية على الجسم، ولا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أحدا أن يستدل بذلك على إثبات الصانع، ولا ذكر الله تعالى في كتابه وفي آياته الدالة عليه وعلى وحدانيته شيئا من هذه الحجج المبنية على الجسم والعرض، وتركيب الجسم وحدوثه وما يتبع ذلك.
فمن قال: إن الإيمان بالله ورسوله لا يحصل إلا بهذه الطريق كان قوله معلوم الفساد بالاضطرار من دين الإسلام.
ومن قال: إن سلوك هذه الطريق واجب
في معرفة الصانع تعالى كان قوله من البدع الباطلة المخالفة لما علم بالاضطرار من دين الإسلام.
ولهذا كان عامة أهل العلم يعترفون بهذا: وبأن سلوك هذه الطريق ليس بواجب، بل قد ذكر أبو الحسن الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر أن سلوك هذه الطريق بدعة محرمة في دين الرسل، لم يدع إليها أحد من الأنبياء ولا من أتباعهم.
ثم القائلون بان هذه الطريق ليست واجبة قد يقولون: إنها في نفسها صحيحة، بل ينهى عن سلوكها لما فيها من الأخطار، كما يذكر ذلك طائفة: منهم الأشعري والخطابي وغيرهما.
وأما السلف والأئمة فينكرون صحتها في نفسها، ويعيبونها لاشتمالها على كلام باطل، ولهذا تكلموا في ذم هذا الكلام لأنه باطل في نفسه، لا يوصل إلى الحق، بل إلى باطل، كقول من قال: الكلام الباطل لا يدل إلا على باطل، وقول من قال: لو أوصى بكتب العلم لم يدخل فيها كتب علم الكلام، وقول من قال: من طلب الدين بالكلام تزندق، ونحو ذلك.
ونحن الآن في هذا المقام نذكر ما لا يمكن مسلما أن ينازع فيه، وهو أنا نعلم بالضرورة أن هذه الطريق لم يذكرها الله تعالى في كتابه، ولا أمر بها رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا جعل إيمان المتبعين له موقوفا عليها، فلو كان الإيمان بالله لا يحصل إلا بها لكان بيان ذلك من أهم مهمات الدين، بل كان ذلك أصل أصول الدين، لا سيما وكان يكون فيها أصلان عظيمان: إثبات الصانع، وتنزيهه