الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولهذا تجد من تعود معارضة الشرع بالرأي لا يستقر في قلبه الإيمان، بل يكون كما قال الأئمة: إن علماء الكلام زنادقة، وقالوا: قل أحد نظر في الكلام إلا كان في قلبه غل علي أهل الإسلام، ومرادهم بأهل الكلام من تكلم في الله بما يخالف الكتاب والسنة.
ففي الجملة: لا يكون الرجل مؤمنا حتى يؤمن بالرسول إيماناً جازما، ليس مشروطاً بعدم معارض، فمتي قال: أؤمن بخبره إلا أن يظهر له معارض يدفع خبره لم يكن مؤمناً به، فهذا أصل عظيم تجب معرفته، فإن هذا الكلام هو ذريعة الإلحاد والنفاق.
الرابع
الرابع: أنهم قد سلموا أنه يعلم بالسمع أمور.
كما يذكرونه كلهم من أن العلوم ثلاثة أقسام: منها ما لا يعلم إلا بالعقل، ومنها ما لا يعلم إلا بالسمع، ومنها ما يعلم بالسمع والعقل.
وهذا التقسيم حق في الجملة، فإن من الأمور الغائبة عن حس الإنسان ما لا يمكن معرفته بالعقل، بل لا يعرف إلا بالخبر.
وطرق العلم ثلاثة: الحس، والعقل، والمركب منهما كالخبر.
فمن الأمور ما لا يمكن علمه إلا بالخبر، كما يعلمه كل شخص بأخبار الصادقين كالخبر المتواتر، وما يعلم بخبر الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين.
وهذا التقسيم يجب الإقرار به، وقد قامت الأدلة اليقينية علي نبوات الأنبياء، وأنهم قد يعلمون بالخبر ما لا يعلم إلا بالخبر، وكذلك يعلمون غيرهم بخبر هم.
ونفس النبوة تتضمن الخبر، فإن النبوة مشتقة من الإنباء وهو الإخبار بالمغيب، فالنبي يخبر بالمغيب ويخبرنا بالغيب، ويمتنع أن يقوم دليل صحيح علي أن كل ما أخبر به الأنبياء يمكن معرفته بدون الخبر، فلا يمكن أن يجزم بأن كل ما أخبرت به الأنبياء هو منتف.
فإنه يمتنع أن يقوم دليل علي هذا النفي العام، ويمتنع أن يقول القائل: كل ما أخبر به الأنبياء يمكن غيرهم أن يعرفه بدون خبرهم، ولهذا كان أكمل الأمم علماً المقرون بالطرق الحسية والعقلية والخبرية، فمن كذب بطريق منها فاته من العلوم بحسب ما كذب به من تلك الطرق.
والمتفلسفة الذين أثبتوا النبوات علي وجه يوافق أصولهم الفاسدة ـ كابن سينا وأمثاله ـ لم يقروا بأن الأنبياء يعلمون بخبر يأتيهم عن الله، لا بخبر ملك ولا غيره، بل زعموا أنهم يعلمونه بقوة عقلية، لكونهم أكمل من غيرهم في قوة الحدس، ويسمون ذلك القوة القدسية، فحصروا علوم الأنبياء في ذلك.
وكان حقيقة قولهم: أن الأنبياء من جنس غيرهم، وأنهم لم يعلموا شيئاً بالخبر، ولهذا صار هؤلاء لا يستفيدون شيئاً بخبر الأنبياء، بل يقولون: إنهم خاطبوا الناس بطريق التخييل لمنفعة الجمهور، وحقيقة قولهم: أنهم كذبوا
لمصلحة الجمهور، هؤلاء في الحقيقة يكذبون الرسل، فنتكلم معهم في تحقيق النبوة علي الوجه الحق، لا في معارضة العقل والشرع.
وهذا الذي ذكرته مما صرح به فضلاؤهم، يقولون: الرسل إنما ينتفع بخبرهم الجمهور في التخييل، لا ينتفع بخبرهم أحد من العامة والخاصة في معرفة الغيب، بل الخاصة عندهم تعلم ذلك بالعقل المناقض لأخبار الأنبياء، والعامة لا تعلم ذلك لا بعقل ولا خبر، والبنوة إنما فائدتها تخييل ما يخبرون به للجمهور، كما يصرح بذلك الفارابي وابن سيناء وأتباعهما.
ثم لا يخلو الشخص إما أن يكون مقراً بخبر نبوة الأنبياء، وإما أن يكون غير مقر، فإن كان غير مقر بذلك لم نتكلم منه في تعارض الدليل العقلي والشرعي، فإن تعارضهما إنما يكون بعد الإقرار بصحة كل منهما لو تجرد عن المعارض، فمن لم يقر بصحة دليل عقلي البتة لم يخاطب في معارضة الدليل العقلي والشرعي، وكذلك من لم يقر بدليل شرعي لم يخاطب في هذا التعارض.
ومن لم يقر بالأنبياء لم يستفد من خبرهم دليلاً شرعياً، فهذا يتكلم معه في تثبيت النبوات، فإذا ثبتت فحينئذ يثبت الدليل الشرعي، وحينئذ فيجب الإقرار بأن خبر
الأنبياء يوجب العلم بثبوت ما أخبروا به، ومن جوز أن يكون في نفس الأمر معارض ينفي ما دلت عليه أخبارهم أمتنع أن يعلم بخبرهم شيئاً، فإنه ما من خبر أخبروا به ولم يعلم هو ثبوته بعقله إلا وهو يجوز أن يكون في نفس الأمر دليل يناقضه، فلا يعلم شيئاً مما أخبروا به بخبرهم، فلا يكون مقراً بنبوتهم، ولا يكون عنده شيء يعلم بالسمع وحده، وهم قد أقروا بأن العلوم ثلاثة: منها ما يعلم بالسمع وحده، ومنها ما يعلم بالعقل وحده، ومنها ما يعلم بهما.
وأيضاً، فقد قامت الأدلة العقلية اليقينية علي نبوة الأنبياء، وأنهم قد يعلمون ما يعلمونه بخبر الله وملائكته، تارة بكلام يسمعونه من الله كما سمع موسى بن عمران، وتارة بملائكة تخبرهم عن الله، وتارة بوحي يوحيه الله، كما قال تعالي {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء} [الشورى: 51] .
فتبين أن تجويزهم أن يكون في نفس الأمر دليل يناقض السمع يوجب أن لا يكون في نفس الأمر دليل سمعي يعلم به مخبره، وهذا مما تبين به تناقضهم ـ حيث أثبتوا الأدلة السمعية، ثم قالوا ما يوجب إبطالها، حيث أثبتوا الأدلة العقلية، ثم قالوا ما يوجب تناقضها، فإن العقل يعلم به صحة الأدلة السمعية، فمتي بطلت بطل العقل الدال علي صحة السمع، والدليل مستلزم للمدلول، ومتي
انتفي اللازم الذي هو المدلول انتفي ملزومه الذي هو الدليل، فيبطل العقل ـ وتناقضهم حيث أقروا بنبوات الأنبياء ثم قالوا ما يوجب بطلانها.
وأيضاً، فالأدلة العقلية توجب الإقرار بنبوة الأنبياء، فالقدح في نبوة الأنبياء قدح في الأدلة العقلية، ومع كون قولهم مستلزماً لتناقضهم فهو مستلزم لبطلان الأدلة العقلية والسمعية، وبطلان النبوات، وهذا من أعظم أنواع السفسطة، فتبين بعض ما في قولهم من أنواع السفسطة الدالة علي فساده، ومن أنواع التناقض الدالة علي جهلهم وتناقض مذاهبهم.
وإن قالوا: نحن لا نعلم شيئاً مما دل عليه الشرع من الخبريات، أو من الخبريات وغيرها، إلا أن نعلم بالاضطرار أن الرسول أخبر به.
قيل: فيقال لكم علي هذا التقدير: فكل ما لا يعلم شخص بالاضطرار أن الرسول أخبر به يجب أن ينفيه إذا قام عنده ما يظنه دليلاً عقلياً!.
فإن قالوا: نعم، لزم أنه يجوز لكل أحد أن يكذب بما لم يضطر إلي أن الرسول أخبر به، وإن كان غيره قد علم بالاضطرار أن الرسول أخبر به، وحينئذ فيلزم من ذلك تجويز تكذيب الرسول، ونفي الحقائق الثابتة في نفس الأمر، والقول بلا علم، والقطع بالباطل.
وإن قالوا: نحن إنما نجوز ذلك إذا قام دليل عقلي قاطع.
قيل: هذا باطل لوجهين:
أحدهما: أنه إذا لم يعلم بالاضطرار أنه أخبر به كان علي قولكم غير معلوم الثبوت، وحينئذ فإذا قام عنده دلالة ظنية ترجح النفي أخبر بموجبهما، وإن جوز أن يكون غيره يعلم باضطرار نقيضها.
الثاني: أن الأدلة العقلية القطعية ليست جنساً متميزاً عن غيره، ولا شيئاً اتفق عليه العقلاء، بل كل طائفة من النظار تدعي أن عندها دليلاً قطعياً علي ما تقوله، مع أن الطائفة الأخرى تقول: إن ذلك الدليل باطل، وإن بطلانه يعلم بالعقل، بل قد تقول: إنه قام عندها دليل قطعي علي نقيض قول تلك الطائفة، وإذا كانت العقليات ليست متميزة، ولا متفقاً عليها، وجوز أصحابها فيما لم يعلمه أحدهم بالاضطرار من أخبار الرسول أن يقدمها عليه ـ لزم من ذلك تكذيب كل من هؤلاء بما يعلم غيره بالاضطرار أن الرسول أخبر به.
ومعلوم أن العلوم الضرورية أصل للعلوم النظرية، فإذا جوز الإنسان أن يكون ما علمه غيره من العلوم الضرورية باطلاً جوز أن تكون العلوم الضرورية باطلة، وإذا بطلت بطلت النظرية، فصار قولهم مستلزماً لبطلان العلوم كلها، وهذا مع أنه مستلزم لعدم علمهم بما يقولونه، فهو متضمن لتناقضهم، ولغاية السفسطة.
وإن قالوا: ما علمنا بالاضطرار أن الرسول أراده أقررنا به ن ولم نجوز أن يكون في العقل ما يناقضه، وما علمه غيرنا لم نقر به، وجوزنا أن يكون في العقل
ما يناقضه ـ أمكن تلك الطائفة أن تعارضهم بمثل ذلك، فيقولون: بل نحن نقر علمنا الضروري، ونقدح في علمكم الضروري بنظرياتنا.
وأيضاً، فمن المعلوم أن من شافهه الرسول بالخطاب يعلم من مراده بالاضطرار ما لا يعلمه غيره، وأن من كان أعلم بالأدلة الدالة علي مراد المتكلم كان أعلم بمراده من غيره، وإن لم يكن نبياً فكيف بالأنبياء؟.
فإن النحاة أعمل بمراد الخليل وسبويه من الأطباء، والأطباء أعلم بمراد أبقراط وجالينوس من النحاة، والفقهاء أعلم بمراد الأئمة الأربعة وغيرهم من الأطباء